قال: فإِن ثلاثة أَفلس هي شيء يسير من طريق الجور في المال، وأَخذها من طريق ما هي من المال المقدس للصناع المقربين شر عظيم، وذلك أَن لك يدل على قوة الشر الذي في أَخها إِذ كان قد هتك حرمة بيت الله وحرمة ماله، ولذلك فاعل هذا ليس يرى أَحدٌ أَنه اتقى من الظلم شيئا، بل بلغ فيه الغاية. وأَما إِذا اعتبر مقدار المضرة في أَخذ الأَفلس الثلاثة، فليس هنالك ظلم يعتد به. وأَمثال هذه المظالم، أَعني التي تقع ببيوت الله وأَوليائه، ليس فيها صفح ولا حلم ولا احتمال، لأَن الصفح فيها والحلم ليس تقتضيه مصلحة، بل يجب أَن يكون الحاكم في أَمثال هذه ينفذ العقوبة ولا بد، إِما لمكان الانتقام من الجاني فقط، وإِما لما في ذلك من المصلحة العامة ولمكان هذا، قال الفقهاءُ عندنا إِن من قال في صاحب الشريعة ﵇ إِن زره وسخ قتل. ومن الظلم العظيم أَن يجمع على الإِنسان أَخذ ماله وتعذيبه. ومن الظلم العظيم أَيا أَن يكون العادلون والصالحون، وبالجملة ذوو الفضائل يعذبون على فضائلهم. ولذلك يكون الظلم الواقع بهؤلاءِ فخرا لهم وكرامة ليست يسيرة. ولذلك ترى كثيرًا من ملوك الجور يقصدون إِهانة العلماءُ بالضرب وغير ذلك من الشر، فيكون ذلك فخرا لهم في الحياة وبعد الممات، كما عرض لمالك وغيره من الفقهاءِ. وكذلك المقتولون من هؤلاءِ يعرض لهم من ذلك بعد الموت كرامة عظيمة، مثل ما نال أَصحاب عيسى ﵇ بعد موتهم من الكرامة من التابعين لهم. وبالجملة كل من أُوذي على شيءِ يكرم عليه الإِنسان فهو يستفيد بتلك الأَذية كرامة عظيمة. ومن الظلم العظيم أَن يكون نوعا من الظلم مبتدعا لم يفعله أَحد غيره لا قبله ولا بعده. ومما يعظم به الظلم أَن يكون هو أَول من فعله، فاقتدى به كل من أَتى بعده ففعل ذلك الفعل، كما قيل في هابيل وقابيل ومن الظلم العظيم إِلحاق الغرامة والخسران على الذين يتولون إِيصال الخيرات إِلى الناس مثل الظلم الذي يقع على واضعي السنن. ومن الظلم العظيم الذي يوجب العقوبات العظيمة في الشرائع المكتوبة مثل الإِلقاء إِلى السباع عند بعض الأُمم. ومن الظلم العظيم الظلمُ الذي يقع من المرءِ بقرابته وخاصته لأَن ذلك يكون لبغضهم والنفور عنهم. وأَذية القرابة وبغضهم إِنما يحمل عليه إِفراط الشرارة. ومن الظلم العظيم الغدر بالأَمانات والفجور في الأَيمان ونقض العهود وما أَشبه ذلك من الأٌمور التي تقتص في الأَخبار المكتوبة ولذلك كانت عقوبة هؤلاءِ ليست كعقوبة سائر الظالمين، بل يفضحون مع العقوبة على رءُوس الأَشهاد مثل عقاب شهداءِ الزور، فإِنه ليس يقتصر على عقابهم دون أَن يفضحوا في مجالس الحكام وتسخم وجوههم. ولذلك زيد في عقاب الفرية عندنا التفسيق ورد الشهادة. وأَقبح ما تكون الخيانة والغدر لمن تقدم منه إِحسان للغادر والخائن. والذي يرائي بأَفعال الخير، وقصده الشر، هو من هذا النوع. والظلم في السنن الغير المكتوبة، أَعني تعديها، أَعظم من الظلم في السنن المكتوبة؛ وذلك أَن السنن الغير المكتوبة كأَنها شيء يضطر إِليها الإِنسان، إِذ كانت كل الأَمر الطبيعي له، مثل بر الوالدين وشكر المنعم. وأَما السنن المكتوبة فليس هي باضطرار للإِنسان. وإِن تعدى السنة المكتوبة فظلم ظلما مستبشعا فهو ظلم عظيم مثل قتل الأَطفال والنساءِ. والغرامة في الأَشياءِ التي ليس فيها غرامة في السنة المكتوبة من الظلم العظيم. ولذلك كان أَقوى الأَسباب في فساد الرياسات.
قال: فقد تبين من هذا القول الظلم العظيم والصغير، إِذ الصغير ضد العظيم، والشيءُ يعرف بمعرفة ضده.
وقد ينبغي أَن نقول في التصديقات التي تسمى غير صناعية، أَعني التي ليس تكون عن قياس خطبي أَصلا، فإِن أَليق المواضع بذكرها هو هذا الموضع، إِذ كانت أَخص بالمشاجرية منها بالإِثنين الباقيين من أَجناس الأَشياءِ الخطبية، أَعني المشاورية والمنافرية.
وهذه التصديقات الغير الصناعية هي خمسة في العدد: أَحدها السنن، والثاني الشهود، والثالث العقود، والرابع العذاب، والخامس الأَيمان.
والكلام فيها هاهنا إِنما هو كيف يستعمل واحد واحد منها في الشكاية والاعتذار.
1 / 49