قال: والإِساءة: هي ما لم تكن عن جهل ولا عن شرارة؛ وأَما الظلم فهو ما كان من شرارة، لا من جهل.
والمقدمات التي بها يخاطِب من يَسئل الصفح عن الذنب الذي أَوجبت العقوبةَ فيه الشريعةُ المكتوبة على فاعله، أَعني التي ذكرها أَرسطو في هذا الكتاب: إِحداها أَن يقول الجاني: إِنه، أَيها المعاقب، يجب أَلا تقتدي بهذه السنة نفسها في ما أَوجبته علىّ من العقوبة، لكن بخلق الواضع لها في الصفح والرحمة.
والمقدمة الثانية أَن يقول: إِنه ليس يجب أَن ننظر إِلى ظاهر لفظ الشارع في هذه العقوبة التي وضعها، لكن إِلى مقصوده، وذلك في الموضع الذي يكون المفهوم من اللفظ ضد ما يقتضي ظاهره من العقوبة. والثالثة أَن يقول إِنه ليس يجب أَن نتنزل العقوبة على حسب الفعل الظاهر مني، لكن على حسب النية والاختيار، وذلك حيث يظن أَن ذلك الفعل لم يكن عن اختيار منه. والرابعة أَن يقول: إِنه ليس ينبغي أَن يعاقب على ما كان في الفرط ونادرا، لكن على ما كان متكررا من الجاني، وذلك إِذا لم يتقدم منه ذلك الفعل. والخامسة أَن يقول: إِن الإِنسان ليس ينبغي أَن يعاقب على حسب حاله الحاضرة حتى ينظر إِلى أَحواله المتقدمة وأَحواله المستقبلة، وذلك عندما تكون هذه الأَحوال شافعة له. والسادسة أَن يذكره بالخيرات التي وصلت من الجاني إِلى المجني عليه. والسابعة أَن يذكره بالخيرات التي وصلت إِلى الجاني من المجني عليه، فإِن ذلك يحركه إِلى أَن يعدو العفو عنه من جملة تلك الخيرات. والثامنة أَن يحرضه على التأَني عند الظلم بأَن يقول له: إِنه ليس ينبغي أَن يعجل الإِنسان إِذا ناله جور من إِنسان، فيكافئه بالعجلة، لكن يتوقف، فعسى أَن يكون في عاقبة ذلك خير يناله. والتاسعة أَن يقول: إِنه ينبغي للإِنسان أَن يكون مع الناس مسامحا يقنع بالقول الجميل دون الفعل، وأَلا يكون شديد الاستقصاءِ. والعاشرة أَن يقول: إِنه ينبغي لللإِنسان أَن يكون متنزها عن الخصومات والعقوبات. والحادية عشرة أَن يقول: إِن الاحتمال والصفح من الخلق الفاضل؛ والمتهورون وذوو الخَرَق يقرون بهذا إِذ يتشبهون بالحلماءِ فضلا عن غيرهم.
فقد تبين من هذا القول: ماهو التفضل والحلم والصفح، وما الحالم والصافح، ومن أَي من المتقدمات يستدعى الحلم والصفح. ولأَن المجني عليه يعظم الظلم الواقع به والجاني يصغره، فقد ينبغي هاهنا أَن يقال في أَنواع الظلم العظيم والظلم اليسير.
ومن الظلم العظيم ما يكون من الإِنسان القوي للضعيف، وما يكون من الغني للفقير. ولذلك ما قد يكون الظلم في الأُمور اليسيرة عظيما: إِما من عظم الشر نفسه الموجود في ذلك الشر اليسير، وإِما من عظم الضرر. أَما عظم الضرر في الشيءِ فمثل من يسلب الإِنسان قوته إِذا كان يسيرا وليس ملك غيره. وأَما الشر الذي هو عظم في نفسه، وإِن كان الفعل يسيرا، فمثل ما حكي أرسطو أَن رجلا خان الصناع الذين كانوا يدعون عندهم بالمقربن، وهم المختصون عندهم بصناعة محاريب البيوت المختصة بعبادة الله في ثلاثة أَفلس من مقدسة من المال المختص ببيوت العبادة.
1 / 48