قال: ولما كانت الأَشياءُ الأَعسر وجودا في نفسها والأَقل وجودا يظن بها أنها أفضل، كانت الأَشياءُ الكثيرة الوجود في نفسها والسهلة الوجود قد ترى عظيمة، إِذا وجدت في المواضع التي يقل فيها وجودها، أو في الأَزمنة التي يقل وجودها فيها أيضا، أو في الأَسنان من الناس التي يقل وجودها فيها، مثل وجود الإِنسان خطيبا في سن الصبا، أو في المدد التي ليس من شأنها أن يوجد فيها، مثل مَنْ يفعل ما شأنه أن يفعل في زمان طويل في زمان قصير، أو تكون صادرة عن القوى التي يقل صدورها عنها، مثل أن يفعل الضعيف فعل القوى والمريض فعل الصحيح. وكل هذه وأشباهها مما يصيّر الأَمر الذي ليس بعظيم عظيما ومستغربا. وأيضا فإِن الجزء العظيم من الشيءِ هو من الأَشياءِ التي هي أعظم مثل القلب من الحيوان والدماغ، أو الربيع من السنة والشباب من المدينة. وأيضا فإِن النافع فيما الحاجة إِليه أشد هو أعظم نفعا والضار فيه أكثر ضررا، مثل الصحة في الشيخوخة والمرض فيها، فإِن الصحة فيها آثر من الصحة في الصبا والمرض فيها أضر. وأيضا ما كان من الأَمرين أقرب إِلى الغاية فهو أفضل. وأيضا ما كان في آخر العمر فهو أفضل. فإِن الأَشياءَ التي سبيلها أن تكون للناس في آخر أعمارهم هي أفضل، مثل الحكمة والحلم وغير ذلك من الفضائل التي تكمل مع طول العمر.
وأَيضا الأَشياءُ التي إِذا فعلت أَو قبلت كان فعلُها حقيقتها أَعظم من التي إِذا فعلت لم يكن فعلُها حقيقةَ تمامها. وأَرسطو يسمى التي إِذا فعلت، كان فعلها حقيقتَها: " التي يتعمّد بها الحقيقة "، ويسمى الأُخر: " التي يتعمد بها المدح "، أَعني التي ليس فعلُها حقيقتَها.
قال: وحد الأَشياء التي يعتمد بها المدح: أَنها التي إِذا فعلت بجهل أَو بغلط لم تمدح أَصلا؛ والتي يتعمد بها الحقيقة: هي الأَشياءُ التي كيف ما فعلت فقد حصلت على التمام.
قال: ولذلك كان حسن قبول الشيء الجميل آثر من فعل الشيء الجميل؛ لأَن فعل الجميل، إِذا فعل عن غلط أَو جهل لم يقبل ولا مدح فاعله. وأَما حسن الانفعال والقبول فكيف ما حصل فقد استفاد الخير منه القابل له.
وأَيضا ما أُوثر فعله لنفسه، وإِن لم يعلم به أَحد، آثر مما لا يختار إِلا من جهة ما يعلم، كالحال في الصحة والجمال. فإِن الصحة مؤثرة بذاتها، والجمال مؤثر للغير وأَيضا فإِن النافعة في أَشياء كثيرة فهي أَنفع، كالنافعة في طول العمر وفي حسن العيش، أَعني العيش الرغد، وفي اللذات، وفي اصطناع الخيرات. ولذلك ما يظن بالصحة واليسار أَنهما عظيمان، لأَنهما يجمعان الخلو من الحزن والفعل بلذة، أَعني أَن الصحة هي سبب الفعل بلذة، واليسار سبب الخلو من الأَحزان. وكل واحد من هذين على الانفراد فاضل ومختار بنفسه، أَعني الخلو من الأَحزان والأَفعال اللذيذة. فإِذا اجتمعا لامرئ جعلاه أَعظم من كل شيء، سواء علم ذلك منْ عِلمه أَو جهله مَنْ جهله. لأَن هذه خيرات مستفادة بالحقيقة، لا من الخيرات التي يتعمد بها المدح. ولكون اليسار سببا لدفع الأَحزان ظَن به أَنه السعادة قومٌ، وآخرون رأَوا أَن السعادة هي أَن يقترن به شيء آخر. وذلك واجب من قِبَل أَنه أَحرى أَن تكون السعادة ثابتة ومأْمونة الزوال. فإِنه ليس الضرر اللاحق لمن له عينان ففقد إِحداهما كمن له عين واحدة ففقدها، لأَن الذي له عين واحدة سلب أَحب مما سلب مَنْ له عينان. وكذلك إِن كانت السعادة في المال وفي شيء آخر، لم يكن الضرر اللاحق عن سلب المال كالضرر اللاحق عن سلبه إِن كان هو السعادة وحده.
قال: والكلام في هذه الأَشياء كلها هاهنا ليس هو على جهة التصحيح، وإِنما الكلام فيها بالقدر الذي يحتاج إِليه الخطيب من ذلك. ويجب للخطيب أَبدًا متى أَتى بالنتائج من أَمثال هذه المقدمات أَن يرفدها بالمثالات المأْخوذة من الناس الذين فعلوا تلك الأَفاعيل، فلحقهم النفع أَو الضرر. فلذلك ما يجب للخطيب أَن يكون حافظا للقصص والأَخبار.
قال: فهذه هي الأَشياءُ التي يثبت بها أَن الشيءَ أَنفع أَو أَضر. وأَما الأَشياءُ التي يكون بها الإِذن والمنع، فقد قيل فيها قبل هذا بما فيه كفاية.
1 / 27