قال: وما اختاره أيضا كثير من الناس آثر مما يختاره القليل من الناس. فإِن الخير كما قيل هو الذي يشتاق إِليه الكل. وما اختاره أيضا الحكام الأَول، أعني اللذين لا يأْخذون الأَحكام من غيرهم، وهم الشرَّاع، أفضل مما لم يختاروه. وما اختاره أيضا الذين يتلقون الأَحكام من هؤلاءِ أفضل مما ليس يختاروه هؤلاءِ. واللذين يتلقون الأَحكام من الحكام الأَول، وهم الذين تؤخذ عنهم أصول الأَحكام، صنفان: إِما سامع فقط مبلغ، وإِما سامع عالم، أي قادر على أن يستنبط من تلك الأُصول أحكام ما لم يصرح به الحكام الأُول. وهؤلاءِ صنفان: إِما مسلطون من قبل الحكام الأُول وهم القضاة وما أشبههم، وإِما غير مسلطين وهم الفقهاءُ. ومن هذه الأَشياءِ ما لجميع أصناف المتلقين من الحكام الأُول أن يقولوا فيها وهو ما سمعوه أو ما شاهدوه من الحاكم الأَول، ومنها ما يختص بذوي العلم منهم وهو القول في الأَشياءِ التي تستنبط عن الأَحكام الأُول التي صرح بها الحاكم الأَول. وليس للسامعين دون علم أن يقولوا في هذه الأَشياءِ. وأما الذي يخص الحكام الأُول القول فيه فهي الأُصول التي تتنزل منزلة المبادئ لسائر ما يحكم به السامعون ذوو العلم، أعني المسلطين والفقهاء وهي التي يسميها أرسطو الأُمور العظمى. والفضلاءُ الأَبرار الذين جرت العادة أن يأخذ عنهم الجميع أو الأَكثر فحكمهم أفضل. فإِن عدم الأَخذ قد يخيل هوانا ونقصا في المرءِالفاضل البر وقلة قبول لقوله. وقد يخيل الأَمر بعكس هذا، وذلك أنه ربما كان هؤلاءِ الأَبرار الفاضلون مقبولي القول مع أنه لم يأخذ أحد من الجمهور عنهم أصلا شيئا، أو إِنما أخذ عنهم قليل، وذلك أن أقاويل هؤلاءِ قد يظن بها أنها مقبولة بجهة أخرى، وذلك أنه قد يكون المرضىّ عند الجمهور من ليس مرضيا في نفسه. والأَقل من الجمهور هم ذوو التمييز. وأيضا فإِن الفاضلين الذين كتموا فضائلهم عن الجمهور هم ممدوحون أكثر وهم أقل وجودا وأعز، لأَنهم إِنما كتموا فضائلهم عن الجمهور لما خافوا أن يلحقهم من الكرامات والرياسات التي يخاف إِذا لحقت المرء أن تكون سببا لأَن تكون هذه الأَشياءُ اللاحقة للفضائل هي المقصودة عنده بالفضائل. فمن هاهنا صارت أقوال هذا الصنف مقبولة، كما صارت أقوال الصنف الأَول المضاد لهذا مقبولة، وهم الذين أخذ عنهم الجمهور.
قال: ومن الصنف المقبول القول من الناس جدا جدا الصنف الذين كراماتهم أعظم، لأَن الكرامة لما كانت مكافأة الفضيلة كان المرءُ كلما عظمت كرامته ظن به أنه قد عظمت فضيلته.
والصنف من الناس الذين نالتهم المضرة العظيمة والشقاءُ الكثير لمكان الفضائل هم أيضا مقبولو الأَقوال جدا جدا بمنزلة سقراط وغيره. والصنف من الناس الذين يَرى فيه هذان الصنفان من الناس - أعني الذين كرامتهم أعظم والذين نالهم الضرر الكبير من قبل الفضائل - أنهم فاضلون ويعترفون لهم بالفضل، هم أيضا أفضل وأعظم. فهؤلاءِ هم أصناف الناس الذين إِذا اختاروا شيئا، واختار غيرهم سواه، كان ما يختاره هؤلاءِ أفضل وآثر.
قال: وقسمة الشيءِ إِلى جزئياته تخيل في الشيءِ أنه أعظم. ولذلك لما أراد أوميروش الشاعر أن يعظم الشر الذي لحق المدينة أخذ بدله جزئياته، فذكر قتل الأَولاد والنوح عليهم وحرق المدينة بالنار وغير ذلك من أصناف الشرور اللاحقة لها.
قال: وكذلك التركيب قد يخيل في الشيءِ أنه أعظم، وهو عكس هذا، أعني أن يؤخذ بدل الجزئيات الكلي الذي يعمها. والسبب في الإِقناع في هذين الصنفين هو التغيير والإِبدال.
1 / 26