فالذي يشير بالعدة يحتاج إِن يعرف ثلاثة أمور: احدها إِن يعرف غلات المدينة ما هي، أعني هل هي نبات أو حيوان أو معدن أو جميع هذا أو اثنان، كيما إِن نقص من الفاضل منها للعدة شيء أشار بالزيادة. والثاني إِن يعرف مع ذلك نفقات أهل المدينة كلها. والثالث إِن يعرف أصناف الناس الذين في المدينة. فإن كان فيها إنسان بطال وهو الذي لا فضيلة عنده، أو عاطل وهو الذي لا صناعة له، أشار بتنحيته من البلد. وإِن كان هنالك عظيم النفقات في غير الجميل أو غير الضروري أشار بأخذ ذلك الفضل من المال منه. فإِنه ليس يكون الغنى بالزيادة في المال، بل وبالنقصان من النفقة. ولذلك قيل: قلة العيال أحد اليسارين.
قال: ومن الضرورة الداعية إلى هذه الأَشياء ومقدار الحاجة إليها يقف الخطيب على ما يحتاج إِن يشير به في واحد واحد من هذه الأَشياء. وليس يحتاج عند الإِشارة بالزيادة في النبات إِن يكون فلاحا، ولا في الحيوان إِن يكون راعيا، لكن يكفيه في ذلك معرفته بمقدار الحاجة إليها. لكن يحتاج مع هذا إِن يكون عالما بالسير المتقدمة في هذه الأَشياءِ وما عند الناس فيها.
وأما المشير بالحرب أو السلم فإِنه يحتاج إِن يعرف قوة من يحارب ومقدار الأَمر الذي ينال بالمحاربة هل هو يسير أو عظيم، وحال المدينة في وثاقتها وحصانتها، وضعف أهلها وقوتهم، وفي صغر المدينة وعظمها، أعني هل مقدارهم مقدار من يستطيع المحاربة أم ليس مقدارهم ذلك المقدار، وهل هم بصفة من تمكنهم المحاربة أم ليس هم، وأن يعرف مع ذلك شيئا من الحروب المتقدمة ليصف لهم كيف يحاربون إِن أشار عليهم بالحرب ويهون عليهم أمر الحرب، أو يعرفهم بما في الحرب من مكروه إِن أشار عليهم بترك الحرب. وقد يحتاج إِن يعرف ليس حال أهل مدينته فقط، بل وحال من في تخومه وثغره، أعني كيف حالهم في هذه الأَشياءِ وحالهم مع عدوهم في الظفر به أو العجز عنه. فإِنه يأخذ من هاهنا مقدمات نافعة في الإِشارة عليهم بالحرب أو السلم. ويحتاج مع هذا إِن يعلم الحروب الجميلة من الحروب الجائرة وأن يعلم حال الأَجناد هل هم متشابهون في القوة والشجاعة والرأْى وإِجادة ما فوض إِلى صنف صنف منهم من القيام بجزء جزء من أَجزاءِ الحرب، أعني إِن يكونوا في ذلك متشابهين، فإِنه ربما كثروا وتناسلوا حتى يكون فيهم من لا يصلح للحرب أو للجزءِ من الحرب الذي فوض إِليه القيام به. وقد ينبغي مع هذا إِن يكون ناظرا ليس فيما أفضت إِليه محاربتهم بل وفيما أفضت إِليه حروب سائر الناس من المتقدمين المشابهين لهم، فإِن الشبيه يحكم منه على الشبيه، أعني أنه إِن كان أفضت الحروب الشبيهة بحربهم إلى مكروه إِن يشير بالسلم، وإِن كانت أفضت إِلى الظفر إِن يشير بالحرب.
وأما حفظ البلاد فإِنه يحتاج المشير بالحفظ، إِن يعرف، كيف تحفظ البلاد، ومامقدار الحفظ المحتاج إِليه في طارئ، وكم أنواع الحفظ ويعرف مع هذا المواضعَ التي يكون حفظها بالرجال وهي التي تسمى المسالح. فإِن كان الحفظة لتلك المواضع قليلا، زاد فيهم. وإِن كان فيهم من لا يصلح للحفظ، نحاه، ممن ليس يقصد قصد المحاماة عن المدينة، بل يقصد قصد نفسه. وينبغي له إِن يحفظ أكثر ذلك المواضع الخفية، أعني التي المنفعة بحفظها أكثر. فمن عرف هذا فقد يمكنه إِن يشير بالحفظ وأن يكون خبيرا بالبلاد التي يشير بحفظها.
وأما الإِشارة بالقوت وسائر الأَشياءِ الضرورية التي تحتاجها المدينة فإِنه يحتاج المشير فيه إِن يعرف مقدارها، وكم يكفي المدينة منها، وكم الحاضر الموجود في المدينة من ذلك وهل أدخل الكافي من ذلك في المدينة وأحرز أم لم يدخل، وما الأَشياءُ التي ينبغي إِن تخرج من المدينة وهو الفاضل عن أهل المدينة. وما الأَشياءِ التي ينبغي إِن تدخل وهو ما قصر عن الضروري، لتكون مشورته وما يعهد به على حسب ذلك. فإِنه قد يحتاج المرءُ إِن يحفظ أهل مدينته لأَمرين: أحدهما لمكان ذوي الفضائل، والثاني لمكان ذوي المال اللذين هم من أجل ذوي الفضائل. والحافظ للمدن يحتاج بالجملة إِلى إِن يكون عارفا بجميع هذه الأَنواع الخمسة عند حفظه لها.
1 / 15