التألیف الطاهر در شیمهی پادشاه ظاهر که به دفاع از حق برخاست، ابوسعید جقمق
التأليف الطاهر في شيم الملك الظاهر القائم بنصرة الحقق أبي سعيد جقمق
ژانرها
1و
التأليف الطاهر في شيم الملك الظاهر القائم بنصرة الحق أبي سعيد جقمق لسيدنا ومولانا الشيخ الأوحد والمفرج الأمجد أحمد بن محمد بن عربشاه رحمه الله
1ظ
بسم الله الرحمن الرحيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب • وبشر المؤمنين يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصارا لله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين • الحمد لله ملك الملوك • ومالك المالك والمملوك • ذي الملك السديد • والبطش الشديد • والسلطان الذي لا يفنى ولا يبيد • والمعبود الذي ليس بظلام للعبيد • قسم الخلائق بين حاكم ومحكوم • وظالم ومظلوم • وغني وفقير • وسلطان ووزير ومأمور وأمير • وكافر ومؤمن والله بما يعملون بصير • مالك الملك يؤتي الملك من يشاء • وينزع الملك ممن يشاء • ويعز من يشاء • ويذل من يشاء بيده الخير إنه على كل شيء قدير • احمده حمدا يليق بسلطانه • وأشكره شكرا يسبل علينا ذيل نعمه وإحسانه • وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ملك يتنزه عن تصرف الحدثان • وآمر نفذ أمره في الزمان والمكان • وسلطان جرت أوامره على مقتضى الحكمة فكل يوم هو في شأن وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ملك الرسل وسلطانها والدرة التي بها ازدان تيجانها • والهادي الذي به انضح برهانها • بدر الظلم • ونبي السيف والقلم • المبعوث بالرسالة إلى سائر العرب والعجم والمخرج الأمة من نار الحرب إلى جنة السلم • صلى الله عليه صلاة تؤرخ في بطون الكتب • وتخلد على مر الأزمان والحقب • وعلى آله وأصحابه • وأزواجه وأحبابه • الذين اقتفوا أثاره • وأناروا بإحياء سنته للدين منارة وحفظوا بعده شعار الإسلام ودثاره • وتابعيهم وتابعي التابعين
2و
ومن سلك سنن سننهم من الملوك والسلاطين • وسلم تسليما كثيرا دائما أبدا أما بعد فإن الله تعالى بجميل صنعه • ورحيم رأفته وجسيم فضله • وعميم نعمته جعل الإنسان أشرف الموجودات • وألطف المخلوقات • وواسطة عقد الكائنات • ودرة صدف الفطرة • ومركز دائرة الحكمة • وثمرة شجرة الوجود • والمقصود لعبادة المعبود • قال سبحانه وتعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون • وجاء في حديث قدسي يا بن آدم خلقت الأشياء كلها من أجلك وخلقتك من أجلي • وللإنسان صورة وسيرة وظاهر وسريرة • أما صورته وظاهره فكما قال الله تعالى لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم • وقال تعالى وصوركم فأحسن صوركم • فهو أحسن الحيوانات شكلا • وأزهى قدا • وأعجب منظرا • وأعدل قامة • وأصبح وجها • وأفصح نطقا • وأطرب نغمة • وألين ملمسا • وأرشق حركة • وهو مركب من لطيف الجواهر وكثيفها • ففيه من كثيف الأرض • ولطيف الهواء • ورفين النار • وصافي الماء • ولذلك صار معتدلا • وسمي العالم الأصغر • المحصور في العالم الأكبر • بيانه أن رأسه كهيئة الفلك في شكله واستدارته • قال الشاعر أفضل الأشكال شكل المستدير • أحسن الألوان لون المستنير • واجتماع الأجرام النيرة فيه كالسمع • والبصر • والشم • والذوق • والنطق فعيناه كالشمس والقمر • واذناه كالمشرق والمغرب • وأنفه كمهب الرياح وأمامه كالنهار • ووراءه كالليل • وحركته كسير النجوم • وسكونه كوقوفها • ورجوعه القهقري كهبوطها • وموته كاحتراقها • وأعضاؤه الباطنة سبعة كالكواكب السيارة • وأعظم رأسه سبعة كعدد أيام الأسبوع
2ظ
وفقار ظهره أربعة وعشرون كساعات اليوم والليلة • ومفاصلة ثمانية وعشرون كمنازل القمر • وحروف الهجاء وأمعاؤه كعدد أيام الأهلة • وعروقه الضوارب ثلثمائة وستون عرقا كعدد أيام السنة • والسواكن كذلك كعدد لياليها وطبائعه أربعة كالفصول الأربعة جسده كالتراب • ودمه كالبحار • وعروقه كالنهار • وعظامه كالجبال • وشعره كالنبات • وهذه نكتة من بدائع صوره وعجيب تركيبه • ولو ارخيت عنان القول في هذا المقام لفات المقصود • فإن الكلام على كيفية أسنانه • وأنيابه • والأضراس • والطواحين • فقط وحدها وبيان الحكمة في هيئاتها وأشكالها مثلا أو على العين • وذكر طبقاتها • وشرح عضلاتها • يفتقر إلى كلام طويل يخرج عن المرام • فضلا عن سائر أعضائه وتركيب أوصاله على صورها وهيئاتها • وإنما يعلم ذلك من التشريح في كتب الطب وزيادة بيان ذلك وكشف سره وحكمته في كتاب أحياء علوم الدين والتفسير الكبير • والكتب المطولة • وهذا خارج عن قواه وحواسه الباطنة • وأما سيرته وسريرته فعلى ضربين • ضرب محمود وهو العلم • والحكمة • والبذل •والجود • والحلم • والاغضاء • والعفو • والعدل • والشجاعة • والثبات • والصبر • والاحتمال • والصدق • وحسن الخلق والرفق • واللين • والتواضع • والشفقة على الخلق • وحسن سياستهم ومعرفة ما يراد منه من رضي خالقه • واتباع أوامره • والانتهاء عن زواجره • والإخلاص في عبادته • والتوكل عليه • وتفويض الأمر إلى ارادته ومشيئته إلى غير ذلك من الصفات الملكية • وضرب مذموم وهو الجهل والتكبر • والعجب • والحسد • والبخل • والبذاءة • والغضب • وطلب الانتقام • والظلم • والجبن • وسوء الخلق • وقلة الصبر على المكروه • وطلب
3و
العلو • وحب الرئاسة • والمكر • والخديعة • والكذب • والإغراء • والافتتان • والقهر والتجبر • والاستطالة • والحرص • والطمع • والشهوة • وجميع الصفات الشيطانية • والسبعية • والبهيمية • عن آخرها • • قال الشاعر • • وما هذه الأخلاق إلا طبائع • فمنهن محمود ومنهن مذموم • فصورة الإنسان وظاهره من عالم الملك المسمى بعالم الشهادة • وعالم الخلق • وسيرته • وسريرته من عالم الملكوت المسمى بعالم الغيب وعالم الأمر فإذن الإنسان مجمع عالمي الملك والملكوت ولكنه جاهل بنفسه مضيع لها غير باعثها على ما فيه نجاتها وخلاصها إلا من عصم الله تعالى وعرفه نفسه • ولهذا قال صلى الله عليه وسلم من عرف نفسه فقد عرف ربه • قال • • بو نعمت وراه ذو جهاتي جه كنم قدر حود نمى داني ترحمته • • فقلت • • أنت أعلى من الوجود وأغلى • قيمة أن تسام بالأرواح • • بعت في سكرة لأنفس نفس • بهوان الهوى أفق يا صاح • ومع ذلك فالإنسان مختلف في جنسه متفاوت في عقله وحسه • قال الله تعالى ما لكم لا ترجون لله وقارا • وقد خلقكم أطوارا • وكل حيوان سواه • فهو على خلق واحد وطريقة واحدة لا تتفاوت إلا قليلا • ولا يفضل بعضه على بعض إلا شيئا يسيرا • بخلاف جنس الإنسان • قال الله تعالى وهو الذي جعلكم خلائق الأرض • ورفع بعضكم فوق بعض درجات • وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس معادن كمعادن الذهب والفضة • قال الشيخ علاء الدين البخاري
صفحه نامشخص
3ظ
رحمه الله تعالى وقد خلق الناس اشتاتا متفاوتين كمعادن الذهب والفضة وسائر الجواهر فانظر إلى معادنها وتباعد ما بينها بكون • ولون • وخاصية • وبقاء فكذلك القلوب معادن لجواهر المعارف • فبعضها معدن النبوة • والولاية • والعلم • ومعرفة الله تعالى على تفاوت درجاتهم • وبعضها معدن الشهوات البهيمية • والأخلاق الشيطانية • ذكره في الملحمة • والرد على المجسمة • فمن الناس من يترقى في درجات الكمال ويتصعد في شريف ما ذكرنا من جميل الخصال • حتى يفضل على خواص الملائكة كخواص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام • فإن مذهب أهل السنة والجماعة أن خواص البشر وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أفضل من خواص الملائكة • وخواص الملائكة عليهم السلام أفضل من عوام البشر • ومنهم من يتنزل في مذموم هذه الأوصاف التي ذكرناها حتى يركد في أسف سافل ويصير أذل من الحشرات • وأقل من الجمادات قال الله تعالى ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ولو كان شيء أقل من التراب وأذل من الأرض التي تطاؤها الأقدام لتمنى الكافر أن يكون ذلك • كما قيل • شعر • • فكم بين شخص بالملائك ملحق • وبين شخيص ملحق بالبهائم • وإلى صورة الإنسان وسيرته أشار قوله تعالى ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين • ثم جعلناه نطفة في قرار مكين • ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة • فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما • ثم أنشأناه خلفا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين • وكل من القرآن العظيم • وحديث النبي صلى الله عليه وسلم الكريم مشحون بذكر هذه القدرة البديعة • والحكمة الرفيعة • فكلما ترقى الإنسان في الصفاء المحمود والمقام الأرفع كان إلى حضرة الله سبحانه وتعالى أقرب • ولجناب رب الأرباب أوصل • وبصفات أفعال الله تعالى
4و
ونعوت ذاته أعرف • وذلك مقام الأولياء والصديقين • والأنبياء والمرسلين • والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا • وكلما نصوب في الصفات الذميمة إلى الدرك • الأسفل كان إلى الشيطان وحزبه أقرب • وفي قعر الهاوية والسعير أنزل • وبصفات خالقه ورازقه وبمقدار نفسه أجهل • قال الله تعالى حكاي عن كلا الفريقين كلأ إن كتاب الأبرار لفي عليين • كلا إن كتاب الفجار لفي سجين • والتفاوت الذي بين كل من الفريقين لا يحيط بكنهه إلا عالم الغيب والشهادة الذي خلقه فسواه فعدله • في أي صورة ما شاء ركبه • تعالى وتقدس • ربما ترى شخصين متصاحبين أحدهما سره جائل في عالم الملكوت • في حظيرة القدس • منعما في حدائق الأنس • والآخر في دركات أسفل سافلين • معذور بقوله أم لهم قلوب لا يفقهون بها • وأعين لا يبصرون بها • ولهم آذان لا يسمعون بها • أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون • وقد بينا بعلم له لا عبرة بالصورة • وأما القول عليه بالباطن والسريرة قال فكم بين شخص الخ • حكاية توجه السلطان الملك الأشرف أبو النصر برسباي رحمه الله تعالى إلى طرف ديار بكر وذلك في شهور سنة ست وثلاثين وثمانمائة ثم لما قفل في أواخر السنة المذكورة حضر إلى زيارة شيخنا المرحوم العامل الرباني • والعالم الصمداني • قطب الأقطاب • وولي الملك الوهاب • الكامل المكمل الشيخ علاء الملة والدين • محمد بن محمد البخاري • سقي الله تعالى مرقده • شآبيب الغفران • وكساه بفضله خلع الرضوان • وكان إذ ذاك ساكنا في الشبلية من صالحية دمشق • فلما دخل عليه • وجثا بين يديه كان فيما نصحه به أن قال له يا برسباي اعلم أنه ملك الدنيا قبلك من هو أعظم منك دولة وأكبر صولة وأكثر جولة • منهم داود • وسليمان • عليهما الصلاة والسلام وذو القرنين والخلفاء الراشدون • ومن سلك طريقهم • ومنهم فرعون • ونمرود •
4ظ
وشداد • وبخت نصر • ومن تبعهم في نهجهم • ثم إن الكل تركوها ومضوا لسبيلهم • ولم يتبعهم منها مقدار ذرة • وقدموا على ما قدموا • ولاقوا ما عملوا • والآن قد ملكت أنت وصارت لك حصة ما كان لأولئك • وقد لاح لك طريق كلا الفريقين • واتضح لك سبيل الأخيار منهم والأشرار • فأنت بالخيار من سلوك أي طريق شئت • واتباع أي فريق منهم أردت فما تم طريق ثالث إلا طريق داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام فتحشر معهم وهذا القدر من الكلام يكفيك • وخير الكلام المختصر المفيد • عودا إلى ما كنا فيه فأذن أعلى جنس الإنسان الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم لاختصاصهم بالسمو إلى أعلى ذري هذه الصفات والترقي في الخصال المحمودة إلى غاية الغايات • قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وهذه الصفات الحميدة هي من شرائط النبوة ولوازمها كما تقرر في علم الكلام ولذلك اختارهم الله تعالى لسياسة عباده • واصطفاهم لدعوتهم الخلق إلى توحيده وهدايتهم إلى سواء الطريق والوصول إلى جنانه • وتحصيل ثوابه ورضوانه • ثم من بعدهم أعلى جنس الإنسان وأشرفه من تمهدت به شرائعهم • وتقوت بصولته ودولته ملتهم • وسلك سننهم • وإحياء سننهم • من الملوك والسلاطين • وولاة أمور الدين • قال الله سبحانه وتعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم • فلم يكن أقرب إلى نبي مرسل من ملك شيد شريعته على قواعد العلم وأركان العدل والإمام العادل ببركة عدله يظله الله تعالى يوم القيامة تحت ظله • ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين • لم ينتظم بعده أمر الدين • إلا بخلافة الخلفاء الراشدين • ثم من بعدهم بالسلاطين العادلين • والملوك الفاضلين • وكل حاكم أحيى سنتهم • وولي أمر قوى طريقتهم • ووجود السلطان في الأرض من حكم الله تعالى • البالغة ومننه السابغة • لأن الله تعالى جبل الإنسان على حب الانتصاف
5و
لنفسه وعدم الإنصاف لغيره فمثل الإنسان بلا سلطان كمثل السمك يبتلع الكبير منها الصغير قال شعر • • لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم • ولا سراة إذا جهالهم ساروا • ولولا السلطان القاهر الذي يدبر معايش الناس ومصالحهم لم يتهيأ لهم أمر ولا استقام لهم معاش • وإذا لم يصلح لهم معاش فلا يصلح لهم معاد • فإن صلاح المعاد مترتب على صلاح المعاش • قال بعض القدماء لو رفع السلطان من الأرض ما كان فيه في أهل الأرض من حاجة • والسلطان للعالم بمنزلة الروح للجسد • والرأس للبدن • والشمس للدنيا • ومثل الناس بلا سلطان كمثل بيت بلا سراج يدب فيه الحشرات المؤذية • ويسرح فيه كل شرير • ويضيع فيه حال المحسن فإذا أوقد فيه السراج ارتدع كل مؤذ • وانتفع كل مصلح • وقيل للسلطنة سر من أسرار الربوبية يحفظ بها عباد الله وبلاده • شرفها جسيم • وقدرها عظيم • ونفعها عميم • وثمرتها حراسة النفوس والأهوال • وإحراز الأرزاق • وإقامة المعايش • ونشر العلم • وإظهار الدين وقمع الظالمين • وردع الباغين • وأمن السبل • وتعرف الدواعي على مصالح الدنيا والدين • ولا مرتبة أعلى منها • ولا غنى لمصالح الدنيا والآخرة عنها • إذ بإقامتها يتمكن نهض الخاشع من عبادته • والفلاح بقيام كفور زراعته • ويقدم التاجر على تنفيق بضاعته • ويقطع المسافر المفاوز لبلوغ حاجته • ومن الجملة لا يقدر أحد بدونها على إصلاح شيء من أمور دنياه وآخرته • هذا وقد من الله تعالى في هذا العصر • وجبر هذه الأمة الضعيفة بعد الكسر • برحمة شاملة • ونعمة كاملة ودولة عادلة • وأيام سحائب خيرها بالأمن والأمان هاطلة • وهي الأيام السعيدة • والدولة الشريفة الحميدة • أيام مولانا وسيدنا • ومالك رقابنا • السلطان الأعظم • المالك الملك الأكرم الأفخم • سيد سلاطين
5ظ
العرب والعجم • والترك والديلم • خادم الحرمين • ومخدوم الثقلين • حامي العباد • ماحي العناد • المؤيد بالنصر المسدد بالفخر • الملهم سير العدل • الثبت من الله تعالى بالفضل والفصل • حافظ حوزة الدين • ظل الله في الارضين • خلاصة الماء والطين • ناشر رايات الخير على الإسلام والمسلمين • ماد سرداق الويل على الكفرة والملحدين • رافع الوية الحق • ناصب ابنية الصدق • كاسر أرباب النفاق • جازم أصحاب الشقاق • مظهر كلمة الله العلية مخفي آثار الشرك والرياء • منصف المظلومين من الظالمين • مشيد مسند سيد المرسلين • ملاذ الملوك ملجأ السلاطين • غوث الملهوفين والضعفاء • مربي العلم والعلماء • الملحوظ بالعناية الأزلية • المحفوظ بالولاية السرمدية • مولانا السلطان المالك الملك الظاهر أبي سعيد جقمق • شعر • • من كان عند الله أيامه • مخبؤه للزمن الآخر • جعل الله تعالى ملوك الدنيا خدامه • وسلاطين الآفاق تمشي خلفه وقدامه ونصر أولياءه • وكسر أعداءه مليك لما نشر به الأمان جناحه • وشهر الزمان نجاحه • ورفع الحق رأسه بعد ما كان انتكس • وتبسم كل من الملك والدين ضاحكا بعد أن وقع في النازعات وعبس • وفد عليه من الأطراف • كل وافد • وقصد للاكتحال بنور طلعته الشريفة كل صادر ووارد • فاحل كل واحد محله • ورفع العلم والفضائل وأهله • وتشرفت بتقبيل الأرض بين يديه الملوك • ورأت الدخول في شريعة طاعته • وطريقة أوامره في الحقيقة من أعظم السلوك • فعمت هباته وطمت صدقاته • ووسع حلمه كل مجرم • وحمل عفوه كل مبرم • وكنت قبل هذا التأليف السعيد صنفت تاريخا وسميته بعجائب المقدور • في نوائب تيمور • ذكرت فيه بعض أحوال تيمور الأعرج
صفحه نامشخص
6و
الذي لم يوجد أعبر منه في العتو ولا اخرج • ولم أقصد بذلك إلا الاعتبار • وذكر ما جرى على العباد والبلاد من ذلك المتكبر الجبار ليعتبر • به ولاة الدين • وملوك الإسلام والمسلمين • إذ سيره كلها عبر وكل عبرة منها فيها سير • مع أنه لا يخلو من دقائق أدبية • ولطائف عربية • وبدائع انشائية • وإنشاءات بديعية • إلى غير ذلك ثم إني لما رأيت هذه الدولة العادلة • والأيام الزاهرة الفاضلة • وما من الله سبحانه به على الإسلام والمسلمين • وكيف التقى التوأمان بعد افتراقهما الملك والدين • أخذت على نفسي بالعتاب • على ما فرطت في تصنيف ذلك الكتاب • وما رأيت لمحو تلك السيئات • وتلافي هاتيك الهفوات • إلا كتابة كتاب يتضمن آثار هذه الدولة السعيدة • واثبات بعض أوصافها الحميدة السديدة • وذكر نبذة ما منح الله سبحانه وتعالى مولانا السلطان خلد الله اعلامه • ورفع على فرق الفرقدين أعلامه • من حسن النية • وخلوص الطوية • والشفقة على الرعية وما خصه الله تعالى من هذه الأوصاف المحمودة التي مر ذكرها وكيف امتاز بها دون غيره من الملوك والسلاطين فمن دونهم • وكيف تأبى نفسه الشريفة التلبس بخلافها • والقصد في ذلك أن يعلم الناظر فيه أن مولانا السلطان من أشرف جنس الإنسان ظاهرا وباطنا • وأن يعرف المتأمل قدر هذه النعمة فيجدد الشكر لله تعالى دائما عليها • ويدعوا بدوامها وطول بقائها • وشتان ما بين التأليفين • وهيهات ما بين التصنيفين • فإن تيمور الخارجي استقل بالتحكم في الدنيا نحوا من أربعين سنة فإنه قتل السلطان حسين متولي بلاد بلخ وممالك ما وراء النهر في شعبان سنة إحدى وسبعين وسبعمائة كذا أخبرني شيخي علاء الدين البخاري تغمده الله تعالى برحمته • توفي تيمور في شعبان سنة سبع وثماني مائة وقد جاوز السبعين • ولقد أهلك الحرث والنسل في هذه المدة واستولى على غالب الممالك الإسلامية فدمرها وكان إذا دخل
6ظ
كعبة المشؤوم بمكان يحل فيه ثلاثة أشياء القحط • والخراب والوباء • وكان هو يتبجح بهذا ويذكره في مراسلاته • ويهدده به مخالفيه • وقد استوفيت ذكر هذه الأمور في تاريخه حكاية حضرت عند الملك جلال الدين خان • بن الملك توقناميش خان رحمهما الله تعالى في سراي من ممالك الدشت سنة أربع عشرة وثماني مائة وذكرت له أني من بلاد الشام • وإن تيمور قتل أكابرنا وأجلانا عن أوطاننا • فقال سبحان الله أن تيمور لم يكن له غرض إلا في إهلاك العالم • وإفناء جنس بني آدم • وخراب البلاد • وافساد العباد • فإنه استأصل أولا إقليمنا أي إقليم الترك وبلاد التتار ونواحي الشمال • ذوي الفطرة السليمة • والأديان القويمة • والقلوب المستقيمة • ثم أهلك إقليم العراق مأوى الكيلة والظرافة • والرئاسة واللطافة • ثم دمر إقليم الهند معقل التجار • ومعدن الجواهر والبهار • ثم أباد إقليم الشام مهاجر الأنبياء عليهم السلام • ومقام الأبدال والأولياء• ثم أباد ممالك الروم ثغر الإسلام والمسلمين • ومجمع الغزاة والمجاهدين • فقال له مدرس تلك البلاد مولانا حسن السغنافي رحمه الله يا مولانا الخان • وأخرب أيضا ديار خراسان وسائر بلاد العجم وفارس محط رحال العلماء • ومنيع الأفاضل والأذكياء • فقال الملك جلال الدين أن ممالك العجم وإقليم فارس وخراسان كانت قد صارت تحت قبضته وفي يده كالمائدة يتناول منها ما يشاء كيف اختار • ولكن مولانا السلطان خلد الله أيامه • ورفع على قمم المخالف أعلامه • قد عمر الدنيا والآخرة في اقل • من مدة سنتين من مبتدأ أمره كما يأتي بيان ذلك وتفضيله إن شاء الله تعالى نكتة كانت مدة السلطان الملك العادل نور الدين الشهيد محمود بن زنك بن آق سنقر نور الله تعالى مرقده • ثم من بعده مدة السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب عطر الله مشهده • نحوا من أربعين سنة
7و
ولقد كانت أيامهما غرة في جبهة الدهر • وشامة في وجنة العصر • فنشر في أيام دولتهما الخير والعدل • والغزو والفتوحات والفضل • وعمرت المساجد والمدارس • وانتعش كل خير وعلم دارس • وبزغت بدور العلم من أفلاك صدور العلماء • ونصب غراس الدين والعبادة من رياض افئدة الصلحاء • وهذا أمر مشهور • وسجل على طين الزمان منشور • ثم أن مدة تيمور الخارجي كانت نحوا من هاتين المدتين • وقريبا من أيام كلا السلطانين غير أنها ملأت الدنيا قهرا وقسرا • شرا وكسرا • وخرابا وأسرا • والآن فقد منح الله تعالى الإسلام والمسلمين • ومن بولاية مولانا السلطان على أهل الدنيا والدين • وأرجو من الله تعالى ان تستوعب أيامه الشريفة هذه المدد كلها وتتضاعف أعوامه السعيدة كما تضاعفت المدة التي قبلها • بحيث يجمع في أيامه الشريفة ما جمع في المدن التي قبلها • أما الخير والعدل • والكرم والبذل • والعلم والفضل فللإسلام والمسلمين • وأما القهر والكسر والخراب والأسر • فللكفرة والفجرة أعداء الدين • وها قد ظهرت علامات ما ذكرته • ومنها أن المراسيم الشريفة برزت بتمهيد درب الحجاز الشريف • وتحصيل الأمن لوفد الله تعالى الحجاج • ومنها تولية المناصب أهلها • وتنزيل الوظائف والمدارس والمباشرات • محلها ونشر جناح الشفقة على عامة الخلق • ومد سرادق الجود والكرم • والحلم والرفق • وإقامة شرائع الدين • وإحياء سنة سيد المرسلين • وهذا كله بشائر الخير والعدل • والإحسان والفضل • وتقدمت الآراء الشريفة إلى تهيئة الأغزية والمراكب والأخذ في أسباب الغزاة • والجهاد في سبيل الله وتعاطي اعلاء كلمة الله • والتقلد بطوق قوله تعالى واعدوا لهم ما استعطتم من قوة ومن رباط الخيل • والتوجه إلى قهر أعداء الله تعالى وكسرهم • وخراب ديارهم وأسرهم • وهذه الأفعال السعيدة هي غمارة الأعداء • وسبب لعمارة الدار
7ظ
الآخرة • وهذا دليل الشهامة • والتصلب في الدين والصرامة • وإظهار سر قوله تعالى فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين • أعزة على الكافرين • يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم • وسر معنى قوله تعالى محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار رحماء بينهم • وهذه بعينها هي مكارم الأخلاق الشاملة لطرفي اللين والشدة • الرابطة لعقدي الترغيب والترهيب • والطريقة التي كان عليها الأنبياء عليهم السلام ومن بعدهم الخلفاء الراشدون ومن تبعهم وهذه اللطيفة الخفية التي لا يكاد يهتدي إليها • ولا يضع شيئا منها في محله إلا من وفقه الله تعالى وأطلعه على خبايا اسرارها • وهي مرتبة الكمال والمنقبة الجامعة لشريف الخصال • وها أنا أذكر في هذا الكتاب من الأخلاق الطاهرة والأوصاف الملكية الظاهرية الظاهرة • ما يسحب على ذكر جميع من قضى من الملوك العادلة • والسلاطين الفاضلة • بحسن سيرتها • وبهجة سريرتها • ذيل النسيان • وينشر لها لسان الثناء • ويفتح أفواه الدعاء بطول الدوام والبقاء • ويعقد عليها أفئدة المحبة والولاء • ما تعاقب الملوان • واذكر ما منحها الله تعالى وسهل لمولانا السلطان في المدة اليسيرة من مبادئ أمره • من الطافه الخفية • وعناياته الحفية • من قهر الأعداء وكسرهم • واستئصال الباغين المخالفين وأسرهم • وقطع دابرهم عن آخرهم مع كثرتهم • وقوة شوكتهم • ووفور عددهم وعددهم • واطفاء نائرتهم • ونصر الأولياء • وتيسير الأمور الصعبة • التي كانت قد بلغت في الشدة غايتها • وجاوزت نهايتها • وأخذت مليها حدها • وأخطأت رشدها • إلى أن انقلبت العبا وظهر البطن • وتخبطت الممالك الإسلامية • من أبواب الروم • وإلى آخر ممالك الصعيد • وطاشت الحلوم • وتبلدت الفهوم • ومولانا السلطان نصر الله رايته • وبلغه مما يروم غايته • في ذلك ثابت الجنان • مفوض •
8و
امره إلى الرحيم الرحمن • وسيأتي تفصيل ذلك وبيانه في موضعه إن شاء الله تعالى • فكشف الله سبحانه تلك الكربة عن الإسلام والمسلمين بأدنى لطيفة ربانية في أقل مدة حتى كأنها لم تكن • وقبض على جميع البغاة والأعداء بحيث أنهم لم يفلت منهم أحد يوبه له أو يلتفت إليه بخلاف من تقدم من الملوك والسلاطين كالملك الظاهر برقوق وولده الملك الناصر فرج • والملك المؤيد شيخ • والملك الأشرف برسباي وغيرهم ففي الحال تمهدت البلاد • واطمأنت العباد • وابتهجت الخلائق كبيرا وصغيرا • واستقرت افئدة الرعية غنيا وفقيرا • ونظير هذه النعمة الشاملة • والرحمة الكاملة • ما لم يعهد لسلطان قلبه • وما ذاك إلا لاطلاع الله تعالى على حسن نيته • وطهارة طويته • ولما جبله الله تعالى عليه من طاهر الشيم الآتي ذكرها التي لا يحصل بعضها لخواص الأولياء • فصل في ذكر مبدأ أحوال مولانا السلطان خلد الله تعالى ملكه وكيف نشأ في إبان شبابه في عبادة الله إلى أن صار إماما عادلا وحاز الأوصاف المذكورة في الحديث الشريف النبوي عليه أفضل الصلاة والسلام • أو غالبها • • وهو قوله عليه الصلاة والسلام سبعة يظلهم الله يوم القيامة في ظله يوم • لا ظل إلا ظله إمام عادل • وشاب نشأ في عبادة الله • ورجل ذكر الله في خلاء • ففاضت عيناه • ورجل قلبه معلق بالمساجد • ورجلان تحابا في الله • ورجل • دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها فقال إن أخاف الله • ورجل • تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله • ما صنعت يمينه • أخبرني • من يوثق بكلامه هو قاضي القضاء برهان الدين بن ميلق الشافعي رحمه الله
صفحه نامشخص
8ظ
من خواص مولانا السلطان خلد الله تعالى سلطانه • وأوضح على العالمين برهانه • إن مولانا السلطان كان في أوان شبابه من أحسن الفتيان صورة • وأزكاهم سيرة • وإنه من حدود سنة خمس أو سنة ست وتسعين وسبعمائة كان يسكن عند جامع الماس بالقاهرة • وكان قد حبب إليه الرمي بالسهام • واللعب بالرمح • والصراع • والثقاف • وجميع ما يتعلق بالغزاة والجهاد في سبيل الله تعالى من ركوب الخيل • والفروسية • وإعداد ما استطاع للكفار من قوة • ومن رباط الخيل • وتعاطى أسباب ما يرهب به عدو الله وعدوه • وهو مع ذلك مواظب على أفعال الخير وإقامة الصلوات في أحسن أوقاتها بصفة الكمال مداوم على الطهارة • والوضوء • وتلاوة القرآن العظيم • ليلا ونهارا بالقراءات السبع • محب للفراء والعلماء • مصاحب للفضلاء والأذكياء • كثير الميل إلى معاشرة أرباب القلوب والأولياء • يؤانسهم ويوادهم • ويوثرهم على نفسه بأنواع المبار والإحسان • قد جعلهم ذريعة بينه وبين الله تعالى عامل بما قيل من استقامة النية اختيار صحبة البرار بكرمهم ويستجلب دعاهم وخواطرهم بكل ما تصل إليه يده • شفوق على الضعيف • والفقير • والأرملة • واليتيم • محسن إلى • الغريب والقريب • يغتنم دعاء الصالحين كثير الصدقة • والبر • والمعروف • ولم يزل يترقى به الأحوال السعيدة • باطنا وظاهرا • حتى صار له منزلة • وانتظم في سلك أخوه المقر الموالف جركس المصارع • ولقد بلغني أن الملك الناصر فرج بن الملك الظاهر برقوق رحمهما الله تعالى لما استولى بعد وفاة والده واستقل بعدما تقلبت به الأحوال جرى بينه وبين الأمراء من عساكره ما جرى من الفتك والقتل وسائر ما هو مشهور عنهم ما وقع بينهم فاتفق أنه قبض على طائفة من الأمراء وحبسهم • وكان مولانا السلطان إذ ذاك من جملتهم
9و
والمعدودين في أعيانهم • ثم بعد ذلك شرع بقتلهم واحدا بعد واحد فلقد أخبرني من لا يشك في صدقه أن الملك الناصر كان قد أضمر أنه يتعرض لمولانا السلطان بأذى على جاري عادته فنام ليلة كان قد عزم على ذلك في صباحها فرأى في منامه كأن شخصا مهابا في يده شيء إما سيف مصلت وإما غيره وقد قصده به وهم أن يضربه به وهو يقول له يا فاعل يا تارك والله لين تعرضت للأمير جقمق باذي أو سلطت عليه من يؤذيه أو قصدته بسوء لندقن عنقك ولنقتلنك شر قتلة ففر وهو مرعوب واستيقظ وهو مذعور واقلع عما كان قد عزم عليه فانظر إلى هذه العناية الربانية • واللطيفة السابقة الصمدانية • وهل هي إلا معنى قوله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب • ومن يتوكل على الله فهو حسبه • وإذا كان الله تعالى حسب إنسان من هو الذي يقدر على إيصال مكروه إليه • ولولا أن أساس يقين مولانا السلطان عامله الله بالإلطاف • ووقاه شر ما يخاف • بالله تعالى وحسن توكله عليه في غاية من الأحكام • وجعل معاملاته وإخلاصه في طاعته بلغ نهاية الإبرام • لما تلافاه بلطفه في حدقة هذه الأهوال • ولا ادخره رحمة لعباده في هذا العصر الذي قحط فيه الرجال • حكي الإمام أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى قال أمر رجل هرون الرشيد بالمعروف فغضب عليه فأمر أن يربط مع بغلة سيئة الخلق لتقتله فلم تضره ولم تؤذه فأمر أن يلقى في بيت ويطين بابه عليه ففعلوا به ذلك فرأوه ماشيا يتبختر في بستان فأحضروه عند هرون والبيت مطين بحاله فقال له من أخرجك من البيت فقال الذي أدخلني البستان قال ومن أدخلك البستان قال الذي أخرجني من البيت فأمر هرون أن يركبوه دابة ويطوفوا به المدينة وينادوا ألا إن هرون أراد أن يذل عبدا أعزه الله تعالى فلم يقدر • ثم إن مولانا السلطان خلد
9ظ
الله تعالى سلطانه • وأوضح على العالمين برهانه • لم يزل يعلوا برهانه مقداره • ويرتفع به للدين منارة • ويزدان بطلعته الشريفة من كل منصب يليه شعاره ودثاره حتى تقدم في الإمرة وفاق أقرانه • في النباهة والشهرة • وصار حاجب الحجاب بمصر المحروسة • ثم ولي الولايات المعتبرة • وكان كلما زاده الله نعمة جدد لها شكرا • وكلما قلده منة ادخرها في رقاب عباده لداره الأخرى • واستمر يصطنع المعروف حيثما ولي • ويبقي المآثر الجميلة أن ما حل ركابه الشريف في أيام الملك المؤيد شيخ • والملك الظاهر تتر والملك الأشرف برسباي تغمدهم الله برحمته وولي وظيفة الخزندارية من زمان الملك المؤيد • وهو مع ذلك مقبول القول ميمون النقيبة • مبارك الطلعة منجح الفأل • سعيد الرأي • يتأمن بطلعته الشريفة الكبير والصغير • ويبتهج برؤيا وجهه الكريم القريب والغريب • ولما توجه الملك الأشرف برسباي إلى آمة ووصلت العساكر المنصورة إلى الشام كان مولانا السلطان إذ ذاك أمير أخور فنزلوا ببرزة فتوجه غالب أهل الخير والعلم والصلاح إليه ليقبلوا الأرض بين يديه وذلك لما اشتهر ثناؤه العاطر • وانتشر عطاؤه الوافر • وبره الجزيل • ولقاؤه الجميل • ومعاملته بالبشر والطلاقة • والخير والسماحة • لكل من يتمثل بين يديه فتوجهت فيمن توجه لتقبيل الأرض بين يديه وكنا إذ ذاك نتردد إلى شيخنا المرحوم الشيخ علاء الدين البخاري تغمده الله تعالى رضوانه • وأسكنه بحبوحة جنانه • وكان شيخنا المشار إليه كثيرا ما يثني على مولانا السلطان وما كان بوجه وجه الثناء والدعاء لأحد من أكابر الزمان إلا إليه • نبذة من صفات شيخنا المرحوم المشار وما قصدت بذكر الشيخ رحمه الله تعالى في الكتاب إلا التبرك لأن عند ذكر الصالحين تترك الرحمة • كان شيخنا الشيخ علاء الدين البخاري المشار
10و
إليه أفاض الله سجال الرضوان عليه من أفراد الأولياء • وخواص عمال العلماء • وكان من يجاريه من علماء العرب والعجم في شيء من العلوم أي علم كان يقول ليس على وجه الأرض أعلم منه وكأنه في كل علم مصنفه وفي تقرير كل كتاب مؤلف • وأما عمله واجتهاده فكان مراقبا لأحواله محافظا على رعاية أقواله وأفعاله • وكان كرجل حفر قبره وتدلت رجلاه فيه وهو على آخر رمق ينتظر خروج بقية ما في نفسه ليسقط فيه • وكان من رأى تقريره العلوم يرجح علمه على عمله ومن اطلع على مجاهدته نفسه يفضل عمله على علمه • وكان قد اشتغل على حاله الشيخ عبد الرحمن القشلاني البخاري ثم أخذ الفقه عن مشايخ الأعصون ومنهم الشيخ نعمان الخوارزمي المعتزلي الذي كان يقال مائي الفقه النعمان الثاني وهو أبو عبد الجبار المعتزلي الذي كان مع تمرلنك يدور معه البلاد ثم أن الشيخ علاء الدين المشار إليه أخذ العلوم الأدبية عن الشيخ سعد الدين التفتازاني • وكان له دنيا عريضة يتعانى المتاجر وأقام بالهند مدة وقد برع في العلوم ثم قدم إلى مصر في زمان الملك المؤيد وجرى له مع غلمائها أمور ثم حج منها ورجع مع الشامي إلى دمشق في أوائل سنة اثنين وثلاثين وثمان مائة واشتغل بالإفادة ولم يزل يتقلل من الدنيا حتى خرج منها فقرأ صورة التاريخ الآتي ذكره فيه • وأخبرني الشيخ الإمام علاء الدين أبو الحسن علي القابوني الحنفي شيخ علوم العربية بدمشق أيدها الله تعالى ونحن أخوان نتردد إلى الشيخ في شهر سنة أربع وثلاثين وثمانمائة • قال رأيت في المنام كان هاتف ينادي إلا أن الشيخ علاء الدين البخاري صار في هذه الليلة قطبا • ومن صفاته الجميلة أنه ما كان يجازف بالكلام وإنما يتكلم بما هو واقع من المغيبات وكان ينظر بنور الله تعالى فيتكلم مكاشفة فإذا دخل عليه أحد وفي خاطره شيء يريد يعرضه على الشيخ ويستشيره فيه أو يسأله عنه فيجلس ساكتا منتظرا ما يقوله
10ظ
الشيخ فإنه كان مهابا وقورا لا يبتدئ أحد عنده بكلام حتى يكون هو المبتدئ فإذا تكلم الشيخ بشي افتتح بكلام يكون جوابا لذلك السائل • ومفصحا عما في ضمير ذلك المستشير وارشادا له إلى ما يفعل سابقا لكلامه • وجوابا لسؤاله • ولقد قال لي خادمه الشيخ خضر الكردي رحمه الله قال لي الشيخ رضي الله عنه ذات يوم يا شيخ خضر إن لم يدخل على أحد قط إلا أظهرني الله تعالى على ما في نفسه • وأطلعني على ما في ضميره • فعلمت ما في خاطره • قال ثم كان الشيخ أفاق من هذا الكلام فقال يا شيخ خضر لا تلتفت إلى هذا الكلام ولا تغتر به فإن هذا أدنى مقامات أرباب الكشف والشيخ رضي الله عنه كان أعلى مقاما من أن يوصف بهذا • وهذا بعينه ما قاله الجنيد رضي الله عنه وقد سئل عن العارف فقال العارف من نطق عن سرك وأنت ساكت • وحكي الجناب الكريم القاضي الشرفي سيدي يحيى بن العطار حفظ الله تعالى مجده • وأدام سعادته ومجده • لما قدم الشام أواخر سنة ثلث وأربعين وثمانمائة بخانقاة الباسطية • قال كان الشيخ رحمه الله في سنة أربع وعشرين وثمانمائة بمصر وكنا إذ ذاك نتردد إليه ونقرأ عليه وكان تغمده الله برحمته يغار على أصحابه من الدنيا والغرور بها ويرجوا لهم كل خير • وكان مولانا السلطان خلد الله دولته إذ ذاك خزندار فأرسل إلي مع الجناب القضاي الفرسي السخاوي أن إلى نيابة الأنظار الجارية تحت تكلمه الشريف وتصرفه مع مباشرة وظيفة الدوادارية له فامتنعت متعللا بأني قد تركت هذه الأشياء • ونأيت عن المباشرات فألح علي وحاباني فذكرت أني مغتنم صحبة الشيخ علاء الدين البخاري والقراءة عليه والملازمة لخدمته ولا أؤثر على ذلك شيئا فاتفق لنا اجتماع بحضرته الكريمة وذكر هذا الكلام فقال الشيخ رضي الله عنه أما تمنعك عن قبول هذه الأشياء فهو أنفع لك وأعود عليك في الدنيا والآخرة
صفحه نامشخص
11و
وإن كان في نفسك ميل إلى شيء من ذلك أو تختشي عواقب الأمور فأنت بالخيار فإن الأمر ربما يؤول إلى الأمير جقمق ويلي أمور المسلمين ويصير سلطانا أو كما قال • ثم قال الجناب الشرفي في المشار إليه أن الشيخ رحمه الله قال هذا الكلام لمخدومنا المقر الأشرف الكمال عظم الله تعالى شأنه ولغيره مرارا • وذلك من شهور سنة أربع وعشرين وثمانمائة • وذلك قبل أن يلي مولانا السلطان أمور المسلمين بنحو عشرين سنة ومن جملة أحوال الشيخ رحمه الله ما حكى الشيخ عبد الله البلخشاني خادمه قال خدمت الشيخ رضي الله عنه نحوا من ثلاثين سنة فكنت أدخل عليه ليلا ونهارا وفي خلواته فلم أره في هذه المدة الطويلة يوما جالسا متربعا ولا مادا رجله ولا متكيا • وقدم الشيخ رضي الله عنه سنة اثنين وثلاثين وثمانمائة فكنا نتردد إليه وإلى حين توفى إلى رحمة الله تعالى يوم الخميس ضحوة نهار ثاني شهر رمضان سنة أحد وأربعين وثمانمائة • ودفن من يومه بالمرة رحمه الله تعالى فكان يجلس جاثيا على ركبتيه متوجها إلى القبلة من الضحى وهو وقت دخولنا عليه وإلى صلوة العصر يقرر العلوم • فكانت الجماعة تسأم من الجلوس وتتعب وتتقلب وهو لا يتحرك ولا يتغير عن جلسته تلك رحمه الله وأحواله ومعاملاته مع الله تعالى ومراعاة أوقاته وحكاياته لا تكاد تحصر والاشتغال ببسط ذلك يخرج عن المقصود • وكان ثناء الشيخ رضي الله عنه ودعاؤه لمولانا السلطان رحمه الله تعالى من أقوى الدواعي والبواعث على المثول بين أياديه الشريفة واغتنام النظر إلى وجهه الكريم والدعاء له فحصل بحمد الله تعالى لنا من صدقاته البر التام والإنعام العام • ولما حل الركاب السلطاني الملكي الأشرفي بالقاهرة ترقى مولانا السلطان إلى أن صار أتابك العساكر المنصورة الإسلامية إلى أن اندرج الملك الأشرف إلى رحمة الله تعالى في أواخر سنة أحد وأربعين وثمان مائة وهو مع ذلك
11ظ
فأسند وصيته إليه • وعول في أمر ولده الملك العزيز يوسف عليه • لما كان تحققه منه من الدين • وحسن المعاملة مع الخالق والمخلوقين • والحنو والشفقة على اليتيم والفقير والكبير والصغير • وكأنه في شأنه الشريف قيل شعر • • وهب الوري أيامهم لك وارتضوا • بالموت في أيامك الغراء • • علما بأنك بعدهم لبنيهم • خير من الآباء للأبناء • فقام بموجب ذلك كما ينبغي إلى أن ابتهج الدين والدنيا بولايته • وأضاء الزمان والمكان بسلطنته • كل ذلك بفضل الله تعالى وكرمه • وشمول رحمته ووفور نعمه • وسيأتي بيان ذلك وتفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى • فصل في ذكر الأوصاف المحمودة التي ذكرناها في اول الكتاب.
وهي التي اختصر الله تعالي به الإنسان وميزه بها عن سائر مخلوقاته • وبواسطته عبر بقوله تعالي ولقد كرمنا بني آدم وذكر معانيها • وتفصيل جملها وبيان فضائلها بالآيات الشريفة • والأحاديث المنيفة • واقوال العلماء والأولياء فيها وإن من حازها هو الإنسان الكامل • ومن حاز شيئا منها فهو إنسان بقدر ما حاز منها وقسم الله تعالي له منها • ثم في بيان كيف جمعت لمولانا السلطان خلد الله تعالي سلطانه بحيث صارت في ذاته الشريفة ملكه واشتهرت فيه ديدنا وعادة وسر ذلك واثباته في مولانا السلطان بالدلائل الحسية المشاهدة وتدنيك كل خصلة بما يتعلق بها من اخبار السادات وسيد الملوك • وحكايات اهل السعادات • ولم اقصد بذلك مجر التاريخ ولكن عموم الفائدة ولطائف ونكت زائدة • منها التبرك بذكر الآيات الشريفة وتفسيرها • والأحاديث المنيفة وشرحها • وربما يتطرق من ذلك الي ذكر مسئيلة1 توحيدية • او فائدة
12و
فقهية • او دقة ادبية • او حكة معمولية • او نكتة عجيبة • او حكاية عربيه • او غير ذلك فتعم حينئذ الفائدة • ولكن المقصود الأصل في ذلك كله تذكير كل من يطالع هذا الكتاب بشكر ما انعم الله تعالي عليه من ولاية مولانا السلطان والدعاء له بطول البقاء • وخلود هذه الدولة السعيدة • فان الله سبحانه وتعالي إذا أراد بقوم خيرا ولي عليهم خيارهم • وإذا أسند الأمر الي غير أهله فانتظر الساعة • وليعلم المعاصر لتلك الدولة السعيدة ان الله تعالي له الحمد والشكر قد أراد بهذه الامة الأخيرة خيرا ولولا أن فيهم الخيار والابرار لما من عليهم بمولانا السلطان فإنه قيل اعمالكم عمالكم • وقال عليه الصلاة والسلام كما تكونون يؤل عليكم • وقال مالك ابن دينار رضي الله عنه وجدت في بعض الكتب يقول الله تعالي إني انا الله ملك الملوك قلوب الملوك بيدي فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمه • ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة • فلا تشغلوا أنفسكم بسبب الملوك ولكن توبوا الي اعطفهم عليكم • وقال قتاده رحمه الله قالت بنوا اسرايل2 الهنا أنت في السماء ونحن في الأرض فكيف نعرف رضاك من غضبك فأوحى الله تعالي الي بعض أنبيائهم إذا استعملت عليكم خياركم فقد رضيت عنكم وإذا استعملت عليكم أشراركم فقد سخطت عليكم • ومع هذا فالناس على دين ملوكهم وبصلاح السلطان تصلح الرعية ولولا ان نية مولانا السلطان مستقيمة مع الله تعالي لما استقامت الرعية • قيل في زمن الحجاج كان كلام الناس قتل فلان • صلب فلان • جلد فلان • قطع فلان • وفي زمن الوليد المغرم بالعمائر كان كلام الناس في البنيان • والعمائر • والمصانع • وشق الأنهار • وغرس الأشجار • وما يتعلق بذلك • وفي زمن سليمان بن عبد الملك المغرب بالانكحة وأنواع الملاذ والملاهي • والأطعمة • كان كلام الناس في التأنق في المآكل والمشارب والمناكح مثل قولهم تزوج فلان فلانه • صنع فلان وليمة كذا • أشباه ذلك •
12ظ
وفي زمان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان كلام الناس في حفظ القرآن • والقيام به في صلاة الليل وذكر الطاعات • والصيام وأنواع العبادات • قال الشاعر • شعر • • بلغ الأمان على حياض محمد • ثولاء محرفة وذئب أطلس • • لا ذي تخاف ولا لهذا جراء • تهدي الرعية ما استقام الرئيس • قال عبيدة السلمان قلت لعلي كرم الله ما بال الناس انطاعوا لابي بكر وعمر رضي الله عنهما والدنيا عليهم اضيق من شبر فاتسعت عليهما ووليت انت وعثمان فصارت عليكما أضيق من شبر بعدما كانت متسعة ولم تنطع الناس لكما كما انطاعت لهما فقال لأن رعية العهدين كانت مثلي ومثل عثمان رضي الله عنهما ورعيتي ورعية عثمان مثلك ومشبهك • حكي في جامع الحكايات عن رجل من أصحاب الحجاج قال، قال لي الحجاج يوما اذهب بهذا الدينار الي سوق الصيارف وزنه عند كل واحد منهم ثم سلهم عن سيرة الحجاج ثم أخبرني بوزنه وبما يقولون فيه قال فذهبت الي سوق الصيارف ووزنت الدينار عند كل واحد منهم فلم يختلف واحد منهم ان وزنه مثقالان إلا قيراطا واتفقت كلهم على ذلك وسألهم عن الحجاج فكل منهم دعا عليه وذكره بسوء فرجعت الي الحجاج وأخبرته بذلك فقال اذهب الي المكان الفلاني فان هناك صيرفيا منعزلا عن الناس ولا يفتح من حانوته إلا مقدار النصف فزنه عنده ثم سله عن الحجاج وعن سيرته عنده قال فذهبت بالدينار الي عند ذلك الصيرفي ووزنته عنده فإذا هو مثقالان من غير نقص ثم إني سألته عن سيرة الحجاج فإنني عليه خيرا وقال لم ار منه الا خيرا واحسانا فرجعت الي الحجاج واخبرته فقال انظر هل هذا الا مصداق قوله عليه الصلاة والسلام كما تكونون يؤل عليكم ثم تأمل انا الظالم ام هؤلاء اللصوص الخونة فيجب
13و
صفحه نامشخص
على كل أحد شكر الله تعالي على هذه الأيام السعيدة • وأيضا قصدت تذكر الخواطر الشريفة السلطانية زاد الله عدلها • وأدام فضلها • بأداء شكر ما انعم الله تعالي عليها من هذه الأوصاف السعيدة • والأخلاق الحميدة • الجامعة لسعادتي الدنيا والآخرة • التي قلما تجمع في هذا العصر في شخص واحد • وان كان مولانا السلطان خلد الله أيامه لم ينس حق الله تعالي فيها • ولكن قال الله تعالي وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين • ولو لم يكن ذكرها أمرا عظيما وهي نعمة جسيمة ما ذكر الله تعالي بها نبيه صلي الله عليه وسلم حيث قال وإنك لعلى خلق عظيم • وأيضا جعلت هذا التأليف السعيدا نموذجا دستورا لمن يطالعه من الملوك والسلاطين ليتأدبوا بآدابه ويدخل كل منهم الي ما وليه من بابه • فيقتفوا أثاره • وينظروا كيف رفع على أمر الشريعة منارة • وجعل لباس الحق شعاره ودثاره • ونصر الله ورسوله فجعل الله أعداء أنصاره • ولنذكر أولا النفس وماهيتها ثم نسرد أوصافها إذا لا بد من معرفة الموصوف أولا ثم بيان صفاته ثانيا لان الحكم علي الشي فرع تصوره ورسمت هذا التأليف الشريف • بالتأليف الطاهر في شيم الملك الظاهر القائم بنصرة الحق • ابي سعيد جقمق • ورتبته على فصول ليكون مقاصده للمطالع أقرب الي الحصول • والله الموفق المعين • اياه اعبد واياه استعين •
الفصل الأول في ذكر النفس وماهيتها وما ذكره حكماء الإسلام وغيرهم فيها قال الله تعالي يأيتها النفس المطمئنة ارجعي الي ربك راضية مرضيه فادخلي في عبادي وادخلي جنتي • وقال تعالي ونفس ما سواها فألهمها فجورها وتقواها وقال تعالي وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا
13ظ
تبصرون • وقال تعلي سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم • وقال تعلي ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم الي غير ذلك من الآيات الشريفة • وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم أعدي عدوك نفسك التي بين جنبيك • وقال عليه الصلاة والسلام من عرف نفسه فقد عرف ربه • قد أكثر الناس من حكماء الإسلام والفلاسفة الكلام على حقيقة النفس وانواعها وفي انها جسم او جسماني او مجرد او مركب وهذا لا يهمنا وليس الغرض في هذا الكتاب تطويل الكلام ولكن اذكر القول مختصرا مفيدا مبينا إن شاء الله تعالي • اعلم ان حقيقة نفس الإنسان لطيفة روحانية ربانية لها تعلق بقلبه وقالبه الجسماني وهي المدركة العالمة العارفة بها يتكلم الإنسان وتبصر العين • وتسمع الأذن • وتبطش اليد • وتمشي الرجل • إلى غير ذلك • وهي المخاطبة والعاتبة • والمسابة والعاقبة • والمطلوبة والمطالبة • ويطلق عليها لفظ القلب تارة ولفظ الروح أخرى ولفظ العقل أيضا • وبن آدم هو المخصوص بهذه النفس دون سائر الحيوانات وان كان يطلق على الجميع ان لها نفس لكن هذه النفس يقال لها الناطقة أي المدركة • واختلف أيضا بل تحيرت الألباب في كيفية تعلقها بالبدن وما يعلم وجه تلك العلاقة الا بالكشف • وهذه النفس لما كثرت صفاتها • وتضادت نعوتها • تخالفت أوصافها حتى أن بعض حكماء الإسلام • وقدماء الفلاسفة نوعوها • قال أفلاطون أنواع النفس ثلاثة ناطقة • وشهوانية وغضبية فالناطقة مسكنها الدماغ • والشهوانية مسكنها الكبد • والغضبية مسكنها القلب • فأية نفس منها غلبت أختيها ردتهما إلى صفاتها كالعناصر الأربعة وقال بعض حكماء الإسلام هما روح ونفس فطبع النفس طبع النار في جوهرها وإليها ينسب كل طبع لئيم كالجهل • والغضب • والحدة • واللؤم •
14و
والسفة • والملال • والترف • والطيش • والحمية • والشهوة • واللجاج • والمرآة • والجفاء • الحسد والكبر • والحقد • والبخل • والحرص • والكذب • والخيانة • والجبن • وسائر الأخلاق الذميمة كالنار في إحراقها • واستشاطتها • وحدتها • وشهوتها • وجفوتها • ودخانها • ولهيبها • وشررها • واغلائها • وحرارتها • وإهلاكها • وإعدامها • وأكلها ما تجده • والحركة • وطلب العلو إلى غير ذلك وطبع الروح طبع الماء في جوهره وإليه ينسب كل خلق كريم من الحياة • والحلم • والعلم • والصبر • والتؤدة والاحتمال • والتربية • والرواء • والسكون • والجود والبذل والرضا • والعفة • والشكر • واللين كالماء في سلاسته وسهولته ورقته • ولينه • وانقياده • والميل إلى الجانب الوطيء إلى غير ذلك فأيتهما قويت وغلبت انقادت لها الأخرى حتى تصير على طبعها كالروح والبدن فان الروح من عالم ظلماني كثيف أرضي فأيهما غلب على صاحبه جذبه إلى أفقه ومركزه • قال الله تعالى لعيسى عليه الصلاة والسلام إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وقال تعالى في حق ادريس عليه الصلاة والسلام ورفعناه مكانا عليا وقال تعالى في حق بلعم بن باعورا ولو شئنا لدفعناه بها ولكنه اخلد إلى الأرض واتبع هواه • الأنبياء عليهم الصلاة والسلام صارت أجسادهم أرواحا والكفار صارت أرواحهم أجسادا • وقال سهل رحمه الله الأنفس ثلاثة لوامة وهي العقل • وأمارة وهي الشهوة • ومطمئنة وهي الإيمان • وقال بعضهم الأنفس أربعة أمارة وهي نفس الكافر • ولوامة وهي نفس العصاة وملهمة وهي نفس المخلصين • ومطمئنة وهي نفس الأنبياء والأولياء والمؤمنين فعلى قول أفلاطون وسهل ومن بينهما تجمع الأنفس في شخص واحد وعلى القول الرابع لا • والحق ما ذكر لولا من إن النفس واحدة وبحسب تكثر صفاتها
14ظ
كثرت اسماؤها • وبحسب تنوع صفاتها نوعوها تنزيلا للتنويع في الصفات • منزلة التنويع في الذات • قال الله تعالى ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه • والدليل على أنها واحدة فقط وإنما تتعدد باعتبار تخالف صفاته أنك تقول هذا نفسه كريمة • وهذا نفسه لئيمة • ونفس هذا مطمئنة • ونفس هذا أمارة • ونفس شريفة • ونفس دنية إلى غير ذلك • أي يوصف نفسه تارة بالشرف وتارة بالدناءة قال الله تعالى ونفس وما سواها • فألهمها فجورها وتقواها • قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها • أي قد ربح وانجح من أرشدها إلى الحق • وزينها بالأوصاف المحمودة • وقد خسر من أضلها بإيقاعها في مخاليب3 الوصاف المذمومة • وقد علم من هذا أن الإنسان هو عبارة عن هذه النفس التي ذكرناها • وإنه من ذكي نفسه فقد أفلح • ومن دنسها فقد خاب • وتزكية النفس معرفتها • وبمعرفتها يعرف الإنسان ربه • وكيفية معرفة النفس في الظاهر • أن يعرف أنها كانت عدما فوجدت • فيعرف موجدها ويعرفها بالمخلوقية • فيعرف ربه بالخالقية • ويعرفها بالمرزوقية • فيعرف ربه بالرازقية • ويعرفها بالعابدية • فيعرف ربه بالمعبودية ويعرفها بالعجز فيعرف ربه بالقدرة • ويعرفها بصفات النقص • فيعرف ربه بصفات الكمال • وهلم جرا في صفات العبد وصفات الرب • ومن جهل قدر نفسه فهو لقدر غيره أجهل • وإذا تحقق الإنسان من صفات نفسه • وصفات ربه ما ذكرنا فقد اطمأنت نفسه • وإذا اطمأنت النفس زكت وبالعكس • وكثيرا ما كان يدعوا صلى الله عليه وسلم اللهم اجعل نفسي مطمئنة تؤمن بلقائك وتقنع بعطائك • وترضى بقضائك • وهذا هو أصل الدين • ولا شك أن مولانا السلطان نور الله بصيرته • وطيب سره وسريرته • من أعلى من عرف نفسه وزكاها • أو هو ملتبس بهذه الأوصاف السعيدة كلها وكل الخلق
15و
تشاهد هذا فلا يحتاج إلى دليل لأنه في الظاهر محسوس • ومن الدليل أيضا على معرفة مولانا السلطان بنفسه الشريفة ما أخبر به عنه الأخص من خواصه وعقد واسطتهم سيدنا ومولانا العبد الفقير إلى الله تعالى • ذخر المنقطعين والغرباء • مربي العلماء • والفضلاء • الخير المحض • والبر البحت • مولانا شمس الملة والدين الكاتب • عظم الله تعالى شأنه قال، قال لي مولانا السلطان خلد الله تعالى أيامه كنت أقرأ القرآن العظيم ليلة من الليالي فبلغت إلى قوله تعالى حكاية عن نوح عليه الصلاة والسلام ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك فقال أي مولانا السلطان فلما انتهيت إلى هذه الآية فتفكرت في معنى هذه الآية الكريمة وتأملت ثم رجعت إلى نفسي وقلت هذا نوح عليه الصلاة والسلام وولده من صلبه على قول لم تنفعه أبوته ولا نبوته وقد نفاه الله تعالى عنه وأبعده عن أن يكون من أهله وبين ذلك بقوله عز وجل أنه عمل غير صالح هذا معنى قوله عز وجل فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسألون ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام من ابطأ به عمله لم يسرع به نسبه ومعنى قول الشاعر • • لعمرك ما الإنسان إلا بن دينه • فلا تترك التقوى اتكالا على النسب • • فقد رفع الإسلام سلمان فارس • وقد وضع الشرك الدني أبا لهب • انظر كيف وافق فكره الشريف كلام الله عز وجل وكلام رسوله عليه السلام وكلام الشاهد الحكيم • وأنا اخرجني الله تعالى من صلب كافر وقد سبقت فواصل نعمه في أزل الأزال4 أن نقلني من بلاد الشرك إلى ديار الإسلام • وكساني خلع التوحيد • وتوجني بتاج الإيمان • وعصمني من غالب العاصي • ورزقني جانبا من العلم • وحفظ كتابه الكريم • ثم لم يتركني بهذا فقط بل خولني في أنواع النعم التي لا يمكنني حصرها ولا إحصاء
صفحه نامشخص
15ظ
أدناها • وحكمني في أول أمري في رقاب الناس وأموالهم • وبلغ بي أن ولاني سلطنة الإسلام والمسلمين • ورفعني إلى منزلة لا يمكن في الدنيا أعلا منها • وجعلني سلطان ملوك مشارق الأرض ومغاربها • فصرت أخاطب نفسي بيا فلان ترى كيف تطيق أن تؤدي شكر أدنى أوفى نعمة من هذا النعم التي من الله تعالى عليك بها • أيا فلان احذر أن تقصر فيما تطول إليه يدك من إقامة حقوق الله تعالى وإجراء حدوده • وامتثال أوامره • والنهي عن زواجره • وإحياء سنة نبيه صلى الله عليه وسلم • وإقامة شعائر شرائعه • والحنو على عباده • والشفقة على خلقه • وأمة رسوله صلى الله عليه وسلم مهما • امكنك واعلم أن الله تعالى مسائلك عن هذا الخلائق كلهم كبيرهم وصغيرهم • غنيهم وفقيرهم • شقيهم وسعيدهم • قريبهم وبعيدهم • قال ثم أين أخذت في البكاء والتضرع • والابتهال إلى الله تعالى وسألته أن يودعني أن اشكر نعمه التي نعمها علي • وهذا بعينه عند الأولياء رضي الله عنهم هو مقام المراقبة والمحاسبة الذي هو أعلى مقامات الأولياء • قال أوشهنج هو معرب هوشنك وهو من قدماء سلاطين الفرس من عرف الابتداء شك • ومن عرف الانتهاء خلص • ومن عرف التوفيق خضع • ومن عرف الانفعال أناب للاستسلام • وهذه الحكاية كانت والدنيا قد انقلبت ظهرا لبطن وقد عصي بكري رئيس في حلب • واينال الحكمي في الشام وقد هرب الملك العزيز في القاهرة • واختفي اينال الاشرف • وتوجه طوغان الزردكاش فارا إلى من توجه إلى عرب الصعيد من الأشرفية صحبة المعز الأشرف السنقر يشبك المشد وخبط أمرهم وذلك في شهور سنة اثنين وأربعين وثمانمائة وقد يحكي عنه غالب الجند والعسكر واختلفت بواطنهم وطابت أخلاقهم وتخالفت آراؤهم • فانظر أيها المتأمل كيف كان حال مولانا السلطان • زاد الله تعالى ملكه ثباتا • ورياض أفكاره بالله تعالى من أنهار انسه ومعرفته
16و
نباتا • في تفاقم تلك الأحوال • وتراكم هاتيك الأحوال • التي يطيش فيها الحليم • ويسفه فيها الوقور • مشغولا بمراقبة أحواله • مشغوفا بمراعاة ما به ومآله • عاملا بما قال له بن عباس رضي الله عنهما أفضل العدة • الصبر على الشدة • مطرحا الدنيا وأهلها • مكفأ على مناجاة مولاه • معاتبا نفسه هل تقوم بشكره أولاه • غير مبال بما سواه • متشبثا بأذيال قوله تعالى قال الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون • وهذه الحالة تدل على شدة منبره وثبات فؤاده • وصحة عزيمته • وقوة جفانه • وحسن توكله على الله تعالى • وتفويضه أموره اليه • وكمال ثقته بنصرته • وكأنه في هذه الحالة • كان مطالعا مغني قوله تعالى وأصب لحكم ربك فإنك بأعيننا • أذكرتني هذه الحالة بيت عنترة حيث يقول • شعر• ولقد ذكرتك والرماح نواهل • مني وبيض الهند تسفك في دمي • فوددت تقبيل السيوف لأنه • دقت كعارض ثغرك المتبسم • وهل معرفة النفس والرب وتزكيتها غير هذه الأحوال الشريفة • والأوصاف الكريمة والاستغراق في مشاهدة ما يفعله الله سبحانه الحكيم الذي يصرف أمور عباده على مقتضى حكمته وإرادته • وموجب مشيئته واختياره • واستسهال ما يرد من المحبوب بمزيد المحبة والرضا • وهذه الحركات السعيدة تدل على أعلى درجات العقل • وكمال الفضل • كما حكي أن قس بن ساعدة كان يغد على قيصر فيكرمه فقال له يوما يا قس ما أفضل العقل قال معرفة الرجل بنفسه • لا جرم ان الله تعالى المطلع على خفيات الضمائر • ومكنونات السرائر • دفع عنه ما يكره بأدنى لطيفة • وبلغه ما يرجوه من المقاصد الشريفة • حكى الإمام القشيري رضي الله عنه قال سئل بعض الصالحين عن سبب توبته وانقطاعه إلى الله تعالى فقال كنت رجلا ذراعا فاجتمع لي شغلان في ليلة واحدة سقي الزرع والذهاب إلى الطاحون لطحن الحنطة
16ظ
فحملت الحمار الحنطة وسقته فضل عن الطريق فبقيت متحيرا أن طلبت الحمار فاتني سقي الزرع وإن سقيت الزرع ضاع الحمار والحنطة وكانت ليلة الجمعة وبيني وبين البلد مسافة ليلة فتركت جميع الأشغال يفعل الله فيها ما يشاء وقلت امضي إلى صلوة الجمعة فلما رجعت من الصلوة فمررت بالزرع فإذا هو مسقي فسألت من سقاه فقيل لي جارك سقى زرعه فسلط عليه النوم فانخرق السك ودخل الماء إلى زرعك فجئت البيت فإذا الحمار والطحين في البيت فسألت من فعل ذلك فقيل ذهب الحمار إلى الطاحون فعرفه الطحان فطحن الحنطة وردها مع الحمار إلى البيت فقلت ما أصدق ما قيل من كان لله كان الله له وتفكرت في قوله تعالى قل الله ثم ذرهم فتوجهت إلى عبادته فكفأني بكرمه كل مؤنة والله الموفق والمعين • فصل في أهل هذه الصفات الحميدة • ومنبع هذه الخصال السعيدة اعلم أن جميع صفات الإنسان الحميدة هي نتيجة العقل الذي به يثيب الله تعالى وبه يعاقب • وبه يأخذ • به يعطي • فكل ما كان عقل الإنسان أتم كانت محاسن أخلاقه أعم • وكلما كان رأيه أصوب • كان في اقتناء مكارم الشيم أرغب • فلا بد من ذكر العقل وبيانه إذ هو الأصل ثم ذكر نتيجته وهو حسن الخلق محملا ثم بيان ما يتولد من حسن الخلق من الخصال المحمودة مفصلا • فنقول وبالله التوفيق العقل قسمان غريزي أي خلقي هو مناط التكليف يحدثه الله تعالى عند بلوغ الإنسان أما بألسن أو بالاحتلام فيجري عليه إذ ذاك قلم التكليف • ويدخل في حيز المخاطبين بالأحكام • ويترتب على الثواب والعقاب • والعقل الشافي بجري يكتسب بالتجربة وبواسطته يقال إن الشيوخ أكمل عقلا من الشبان • قيل من بيضت الحوادث لمته • وأخلقت التجارب لباس حدته • وارضعه الدهر من
17و
وقائع الأيام أخلاق درته • أراه الله تعالى لكثرة ممارسته • تصاريف أقداره وأقضيته • كان جديرا برزانة العقل ورجاحته • فهو في قومه بمنزلة النبي في أمته قال بعض الحكماء كفى بالتجارب تأدبا • وبتغلب الأيام عظة • وقالوا التجربة مرآة العقل • وقال الشاعر• • ألم تران العقل زين لأهله • ولكن تمام العقل طول التجارب • لكن قد يمن الله تعالى على من يشاء من أطفال عباده وشبابهم بعقل يبصرون به من المغيبات • ما لا يراه كثير من الشيوخ في المشاهدات • قال الله تعالى حكاية عن خليله عليه الصلاة والسلام ولقد أتينا إبراهيم رشده من قبل أي من قبل بلوغه أي صغيرا وهو هدا بيته إلى التفكير في الكواكب • واراءته ملكوت السموات5 والأرض وقال حكاية عن يحيى عليه الصلاة والصلام وأنبيناه الحكم صبيا • وقال تعالى وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نقشت في غنم القوم وكنا بحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان • قيل لحاكم إلى داود عليه الصلاة والسلام اثنان فقال أحدهما دخل غنم هذا إلى زرعي فأكله ولم يبق شيئا فأمر داود عليه السلام بالغنم لرب الزرع عوضا عن زرعه فخرجا من عنده فلقيهما سليمان عليه الصلاة والسلام فسألهما عن حالهما فأخبراه بذلك فقال عندي ما هو أوفق لهما من ذلك وهو أن يدفع صاحب الغنم لرب الزرع ينتفع بما فيها من در وصوف ونسل وغير ذلك ويتسلم رب الغنم الأرض فيزرعها ويربيها حتى تصير كما كانت فيدفعها لربها ويأخذ غنمه فأجرى الحكم على ذلك وكان سنه عليه الصلاة والسلام إذ ذاك إحدى عشرة سنة وناهيك بسيد المرسلين • وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم • الذي ربي يتيما • ونشأ غريبا • كيف رجح على أمته حين كان طفل • ونشأ وقد بغض إليه اللهو واللعب • وخفة ما كان عليه الجاهلية وذلك بعصمة أزلية وحفظ
17ظ
أزلي قال التوحيدي رحمه الله عليه شعر • كفاك بالعلم في الأمي معجزة • في الجاهلية والتأديب في اليتم • وحاصل الأمر أن من يهدي الله فهو المهتدي من صغره إلى كبره فيكون إذ ذاك الشاب أفضل من الشيخ وليس ذلك مخصوصا بالأنبياء عليهم السلام • ذكر في جامع الحكايات أن الهادي كان جالسا على السماط وحواليه أولاده وأحفاده وأولاد الأمراء والوزراء وكان على المائدة سكرجة فيها خردل لا يقدر أحد أن يشمه فضلا عن تناوله فقال الهادي لأولئك الصغار على سبيل المداعبة والمزح من لعق من هذا الخردل أعطيته خمسة آلاف درهم فلم يجسر أحد منهم أن يمد يده إليه وكان هرون الرشيد بينهم وسنه إذ ذاك خمس سنين فمد يده إلى السكرجة فأكل ما فيها عن أخره فتعجب الحاضرون منه وأمر الهادي بإحضار خمسة آلاف درهم فأعطاها لخادم الرشيد فلما انقضى المجلس أخذ الرشيد المال وذهب بأولاد الأمراء والوزراء إلى مكان خال وقال بايعوني على الخلافة حتى أفرق عليكم هذا المال فبايعوه بالخلافة ففرق المال عليهم وولي كل واحد منهم وظيفة من الوظائف • وولاية من الولايات والممالك • كل ذلك وخادم من خدام الهادي يشاهد هذه الأحوال من حيث لا يرونه ثم جاء إلى الهادي وقال له يا أمير المؤمنين إن ابنك هرون تولى الخلافة وبويع بها وفرق الولايات والوظائف وأخبره بما كان من الأمر فدعاه الهادي فحص عن أمره ثم قبله وقال ستبلغ هذا المقام إن شاء الله تعالى وكان كما قال • ولما ولي هرون الخلافة ولي كل من ولاه في ذلك السن ولاية ما ولاه • ووفى بما وعده • فانظر هل هذا بطول بخسه • أو كبر سن • أو ممارسة أحوال • أو مرور أيام • وإنما هذه الأمور عطايا ومواهب • من ذي الجلال والإكرام • ونقل أيضا عن الرشيد أنه في سنه ذلك أدعى رجل النبوة فضربه الهادي على رؤوس الأشهاد فجعل يصيح فقال له الرشيد اصبر
صفحه نامشخص
18و
كما صبر أولوا العزم من الرسل فعجب الحاضرون من حسن خطابه واستحضاره هذه الآية في ذلك المحل • وكثير من شباب هذه الأمة كان أفضل من الشيوخ • كعبد الله بن عباس رضي الله عنهما الذي تقدمه عمر رضي الله عنه على مشايخ الصحابة كعتاب بن أسد وأطفال الصحابة • والتابعين • وأياس بن معوية • وتحدث لكم وغيرهم مما لا يحصى • لكن لما كان الغلب على الشيوخ التجارب والاطلاع على أحوال الدنيا بمرور الأيام وعلى الشباب زيادة الشهوة وغرور الصبا • وحدة النفس • مع قلة الممارسة والتفكر في عواقب الأمور • كما قيل روائح الجنة في الشباب • وقيل الشباب شعبة من الجنون • لا سيما إذا ساعد ذلك فراغ بال • وانتظام حال ووفور مال • كما قال أبو العتاهية • شعر • • إن الشباب والفراغ والجدة • مفسدة للمرء أي مفسدة • كان الجهل غالبا عليهم الأمن عصم الله تعالى • وحكم الناس في ذلك بالأغلب الكثير الوقوع • ولذلك حضر صلى الله عليه وسلم الشاب بالذكر لمزيد القيام بأمره فقال وشاب نشأ في عبادة الله • ولم يقل ورجل نشأ كما قال في غيره من السبعة فإذا وجد شاب مشغول بعبادة الله فذلك دليل على غزارة عقله وصحة فكره ووفور فهمه • وكمال فطنته • وإن كان كل من اعتكف على طاعة الله تعالى وعبادته صحيح الفعل • مستقيم الفكر لكن الشباب أعلى درجة وأرفع منزلة إذ يدل ذلك على أنه أكمل عقلا وأرجح لبا لدفعه من الصوارف عن ذلك • والدواعي إلى ارتكاب الشهوات • ما ليس مع الشيوخ • قال الأصمعي رحمه الله قلت لغلام حدث السن من أولاد العرب وقد حادثني فأعجبني وأمتعني بفصاحته وكياسته وكان فقيرا جدا أيسرك أن يكون لك مائة ألف درهم وأنك أحمق قال لا والله قلت ولم قال أخاف أن يجني علي حمقي جناية يذهب فيها مالي ويبقى علي حمقي فعجبت من
18ظ
كلامه وعقله وذكائه وذكر لي شيئا لم يجل في خاطري • لكن يسدل علي عقل الرجل ماشيا منها ميله إلى محاسن السئم • ومكارم الأخلاق • والتلبس بالخصائل الحميدة • ونفوره عن سفساف الأمور • وقال بعض الحكماء يعرف عقل الرجل بقلة سقطه من كلامه وأفعاله فقيل له فإن كان غائبا فقال بثلاثة أشياء برسوله • وكتابه وهديته فرسوله قائم مقام نفسه • وقد قيل • تخير إذا ما كنت في الأمر مرسلا • فمبلغ أراء الرجال رسولها • وكتابه يصف نطق لسانه • واللسان دليل على الفؤاد وقد قيل • إن الكلام لفي الفؤاد دائما • جعل اللسان على الفؤاد دليلا • وهديته عنوان تيمنه • وقد قيل • إن الهدايا على مقدار مهديها • فكمال هذه الأشياء يدل على كمال صاحبها ونقصانها يدل على النقص في عقله وقال بعض الأصوليين العقل يوزن بين الأدميين قيل محلة الرأس • وقيل القلب • وهو لعين البصيرة بمنزلة الشمس • والسراج للعين الباصرة • يعني كما أن العين تنظر المحسوسات في الظلمة بواسطة نور الشمس • والسراج كذلك البصيرة تدرك المعقولات في ظلمة الجهالات • بواسطة نور العقل • فلذلك سموه نورا • وقال بعض الحكماء العقل قوة للنفس الناطقة بها تدرك المفهومات الكلية • ثم بداية المقولات • نهاية المحسوسات • لأن الإنسان إذا رأى • بعينه شيئا أو سمع او شم أو لمس أو ذاق استدل بنور العقل من ذلك الشيء بواسطة تلك الحاسة على شيء آخر • مثلا إذا نظر بعينه إلى بناء رفيع • وقصر مشيد • استدل بنور عقله أن له بانيا لا محالة ذا حيوة وقدرة • علم أن سائر • أوصافه التي لا بد للبناء منها • ثم إذا نظر إلى السماء ورأى أحكامها ورفعتها وعظم هيأتها • واستنارة كواكبها • وسائر ما فيها من القدرة العجيبة • والحلة
19و
البديعة • استدل بنور عقله لا محالة على أنه لابد لها من صانع قديم • مدبر حكيم قادر عظيم • حي عليم • سميع بصير • وقيل العقل جوهر يدرك به الغائبات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة • وقيل هو جوهر طهر بما القدس • وروح بروائح • الأنس • وأودع في قوالب بشرية • وأحداق إنسانية • كلها أضاء استنار مناهج • اليقين • وإذا أخفى أظلم خفي مدارج الدين وهو من عالم الملكوت كالشمس في عالم الملك • قال الإمام الأعظم أبو حنيفة رضي الله عنه لو لم يبعث بالله رسولا لوجب على العقلاء أن يعرفوا الله تعالى بعقولهم • قال الله تعالى أن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب • قال الإمام علم الهدي أبو منصور المازيدي رحمه الله المراد بالوجوب هنا الأولوية يعني لكان إقرارهم بوجوده أولي من إنكارهم وتوحيدهم إياه أولى من أشركهم معه غيره لا الوجوب الذي يترتب عليه الثواب والعقاب كما هو مذهب المعتزلة • وعلى كل تقدير فلا شك إن العقل هو من حجج الله تعالى على خلقه • وأجمع المتكلمون على أن الدليل على وجود الصانع القديم تعالى وتقدس هو العقل فقط • وأما الدليل على وحدانيته فقد اشترك فيه العقل والنقل • وأما الأحكام الشرعية فدليل ثبوتها النقل فقط وقد يساعده العقل بشيء يستنيط به وقد لا يدرك وجه الحكمة فيه فما يسعه إلا الانقياد والتسليم وقد ذكرت لك ذلك مستوف في شرح السلك الفريد فليطالع • قال أفريدون العاقل محبوب حتى إلى عدوه والجاهل بغيض حتى إلى والده • قيل عداوة العاقل خير من صداقة الجاهل وحسبك أن الله تعلى لم يخاطب إلا أولى الألباب • وقال بعض الحكماء اعتبر الرجال بأفعالهم وعقولهم • لا بأجسامهم وأشكالهم • قال صالح ابن عبد القدوس شعر •
19ظ
• ولين يعادي عاقلا خير له من أن يكون له صديق أحمق • وإذا ثبت ما قررناه فلينظر المتأمل إلى سيرة مولانا السلطان خلد الله تعالى سلطانه ومبدأ أمره • وكيف نشأ من بين أقرانه • في عبادة الله تعلى وطاعته • متلبسا بجميع ما ذكر وما يذكر من مكارم الشيم • ومحاسن الأخلاق • فهل خرج غير معني قوله صلى الله عليه وسلم على ما رواه ابن الدرداء رضي الله عنه • قال النبي صلى الله عليه وسلم يا عويمر ازدد عقلا • تزدد من ربك قربا • قلت يابي6 أنت وأمي ومن لي بالعقل قال اجتنب محارم الله • وأد فرائض الله • تكن عاقلا • ثم تنقل بصالح الاعمال تزدد في الدنيا عقلا • وتزدد من ربك قربا • وعليه عزا • وهل خرج عن ذاته الشريفة ما ذكره الإمام أمير المؤمنين على كرم الله وجهه من هذه الأخلاق شيء وهو قوله شعر • إن المكارم أخلاق مطهرة • والعلم ثالثها والحلم رابعها • والمر سابعها والصبر ثامنها • والنفس تعلم أني لا أصدقها • والعين تعلم من عيني محدثها • فالعقل أولها والدين ثانيها • • والجود خامسها والعرف سادسها • • والشكر تاسعها واللين عاشرها • • ولست أرشد إلا حين أعصيها • • إن كان من خرجها أو من أعاديها • قد استوفينا بحمد الله تعالى في هذا الفصل في العقل وفضله الذي هو مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ما فيه مقنع وقد اعقبنا ذلك بفصل نذكر فيه حسن الخلق مفصلة • وقد اسرنا إلى ذلك في أول الفصل في العقل ولكن الشيء إذا تكرر تقرر • وإذا تقرر تحرر • والله أعلم بالصواب • • فصل في حسن الخلق وفضله •
20و
اعلم أن حسن التصوير • وجمال الشكل • هو مطلوب عامة الناس • فإنهم مقصورون على ظاهر الخلقة • وبصائرهم قاصرة عن إدراك المعاني التي هي من خواص الإنسان ومطلوبه منه وكمال الإنسان وحقيقته في باب الخلق أتم وأكمل • فإن الله سبحانه وتعالى خلق أكثر الناس • وأما من حسن خلقة فقليل • وامتياز العوام عن البهائم بتسوية الخلق • وامتياز الخواص عن العوام بتسوية الخلق • وأيضا فإن تباين الأخلاق كتباين الصور • وكما لا تتشابه الصورتان إلا نادرا • فكذلك السيرتان لا تتشابهان إلا نادرا • وهذا مما يدل على كمال القدرة • وإلا كان دليل العجز • تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا • وقل ما توجه صورة حسنة • إلا وكان فيها فعال حسنة • ولهذا قال صلى الله عليه وسلم اطلبوا الخير عند حسان الوجوه • وسئل أفلاطون أي شيء من أفعال الناس أشبه بأفعال الله تعالى قال الإحسان إلى الناس • وحسن الخلق نعمة عظيمة لا يضعها الله تعالى إلى فيمن أحبه من خواص عباده • وفيمن اصطفاه من خيرة خلقه ولذلك من الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بها دون سائر النعم فقال عن من قائل وإنك لعلى خلق عظيم • قال أنس رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا مع أنه كان أجملهم خلقا أيضا • وروى جابر رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ألا أخبركم على من تحرم النار على كل هين لين سهل قريب • وروى بن مسعود رضي الله عنه • قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل فكلمه فأرعد فقال هون عليك فإني لست بملك ولا جبار إنما أن من امرأة من قريش كانت تأكل القديد • قال الله سبحانه وتعالى وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن أن الشيطان ينزع بينهم • وقال تعالى ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ثم قال وما يلقاه إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا
صفحه نامشخص
20 ظ
ذو خط عظيم • وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم • وفي رواية فسعوهم ببسط الوجوه والخلق الحسن وقال صلى الله عليه وسلم حسن الخلق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة وقال صلى الله عليه وسلم لكل ذنب توبة إلا سوء الخلق فإنه كلما خرج من ذنب دخل في ذنب • وقال عليه الصلاة والسلام ما حسن الله خلق إنسان وخلقه ليطعمه النار • حكى الإمام القشيري رحمه الله قال سأل بعض الملوك ندماؤه عن سر الأشياء فقال بعضهم المرأة السوء • وقال آخر الولد السوء وقال بعضهم الجار السوء • وقال آخر الخلق السوء • ثم شرع كل منهم يقيم الدليل على ما ادعاه حتى اتفقوا على التحاكم إلى قول من يلقونه إذا خرجوا من البلد للسيران فخرجوا فاستقبلهم رجل من أهل السواد معه حمار عليه جرار خزف فتحاكموا إليه فقال شر الأشياء الخلق السوء فطلبوا الدليل فقال لإن المرأة والولد والجار والصاحب يمكن الخلاص منهم بالموت أو الفراق والطلاق والخلق السوء لا خلاص منه لا في الدنيا • ولا في القبر • ولا في الآخرة • فاستحسنوا ذلك منه • وسلموا إليه • وأعجب به الملك • فقال ثمن علي فقال أطلب من صدقاتك • شيئا يزيدني ولا ينقصك • وينفعني ولا يضرك • فقال ما هو فقال إن المهرجان قريب والناس يهنئون مولانا الملك بقدوم المهرجان ويقومون له بالخدم والتقادم على جاري عادتهم فلتبرز مراسيمه أن لا يقدم إليه أحد تقدمة إلا معه جرة من جراري هذه ولا يقبل لأحد خدمة بدون جرة من جراري هذه فإن في ذلك نفاق بضاعتي ومنفعتي بما ليس فيه كبير ضرر لأحد فأجابه إلى ذلك وأمر فنودي أن لا يقدم أحد تقدمة إلا مع جرة من جرار فلان الفخار فشرع كل من أراد أن يقدم تقدمة يشتري من ذلك الرجل جرة فيبيع ذلك
21و
بما اختار ثم استقر الحال على أنه باع كل جرة بدينار وجعل يخالق الناس بخلق حسن فلا يرون لذلك مضضا بل يرغبون في منادمته • وكان للملك وزير سيء الخلق فقيل له في ذلك فقال جرة بنصف درهم فلتكن بدرهم او درهمين وأرسل إليه بذلك فأبى إلا بدينار فاضطرب الوزير إلى شراء الجرة ورضي بالدينار فقال الرجل ما كنت من معاملي أول سوق وأما الآن فلا أبيعها إلا بمائة دينار فغضب الوزير وساء خلقه وقال بالأمس لم اشترها بدينار فاشتريها بمائة دينار ثم تصبر وقرب وقت التقدمة واضطر الوزير فبذل مائة دينار فقال لا أبيعها إلا بألف دينار فاستشاط الوزير غضبا • وضاق عطنا • وساء خلقا • وتأخرت هدايا الناس لأنهم لا يهدون قبل الوزير ثم إن الوزير لم يجد بدا من شراء الجرة فبذل ألف دينار فقال الرجل لا أبيعك شيئا أصلا لا بقليل ولا بكثير فألح عليه وألجأه الاضطرار إلى التملق والخضوع له فقال له لا أريد له ثمنا إلا أن تحملني على رقبتك وتدخل بها على الملك وهي في يدي ففعل ذلك بالضرورة ودخل على الملك فلما وقع نظر الملك عليه ناداه وقال أيها الملك هذه نتيجة سوء الخلق فانظر ما أثقل حمله فاستحسن الملك منه ذلك وعزل الوزير وولى ذلك الرجل مكانه وقال إنه حكيم وسلم إليه ذمام أموره وقيل أن وزير أمن وزراء السلطان يمين الدولة محمود بن سبكتكين رحمه الله دخل عليه يوما فرآه مغتما فسأله عن سبب ذلك فقال إني نظرت اليوم في المرآة فلم يعجبني وجهي والملك ينبغي أن يكون حسن المنظر لتتوفر رغبة الرعية ومحبتهم فيه ويميل طبعهم إليه فإن الناس غالبهم مقيد بالصورة فقال الوزير يا مولانا السلطان أنا أدلك على ما تستعيد به أحرار الرعية • وتملك به باطنهم وظاهرهم • فقال وما هو قال حسن الخلق • واصطيادهم بالبر والإحسان • وربط أعناق الكبير منهم والصغير بحبال الجود والامتنان • وإذا فاتك حسن الصورة فتلاق ذلك
21ظ
بحسن السيرة فإنك إلى تحسين خلقك • أحوج منك إلى تزيين خلقك • فأعجبه ذلك واتخذه أمامه • فملك قلوب الناس وخلد ذكره الجميل إلى يوم القيامة • قال الشاعر • شعر• • يا حسن الوجه توق الخنا • لا تبدلن الزين بالسين • • ويا قبيح الوجه كن محسنا • لا تجمعن بين قبيحين • ولقد وفدت على أكابر ملوك زماني من الشرق والغرب وحاضرتهم وخدمت أكثرهم في بلاد الجغتاي • والخطأ • والهند • والعجم • والدشت • والروم • والترك • والعرب • ولازمت مباشرة الوظائف عندهم • إلى أن شملتني السعادة بالمثول بين يدي المواقف الشريفة • المولوية السلطانية • الملكية الظاهرية • نضر الله بهجتها • وحفظ عن الأسواء مهجتها • فلم تقف عيني على أحد من الملوك والسلاطين ولا على أحد من غيرهم أحسن خلقا وخلقا • ولا أبهى صورة • ولا أذكى سيرة من مولانا السلطان أما صورة وخلقا فذلك مشاهد لكل أحد لا يحتاج إلى دليل • وأما سيرة وخلقا فيكاد بألفاظه العذاب يخلب القلوب • وبحركاته الشريفة اللطيفة يستعبد الأحرار ويسلب العقول يحسن ويعتذر • ويعطي ويجزل • ويعقب العطاء الجزيل • بالوعد الوفي الجهل يجترئ عليه فيتلافا هفوات المجترئ بحسن خلقه • ويقصر في طاعته فيتدارك ذلك التقصير بالاعتذار عن المقصر ولما توفى الملك الأشرف وأوصى إليه شرع بعض المماليك الأشرفية يستطيل على الناس وكل من هو في حارة منهم أضمر لجيرانه سوءا وجعل يفتري ويجترئ عليهم وكان الناس يرفعون شكواهم لمولانا السلطان وهو إذ ذاك نظام الممالك الإسلامية فكان ينصحهم بالحسنى ويردعهم بأحسن عبارة ويجتهد في إصلاحهم بقدر ما يصل إليه يده ولسانه من الإحسان وقد قال الله تعالى
22و
من يضلل الله فلا هادي له فلم يجدوا لبرد غليلهم غير أن يتفقوا ويركبوا عليه ويرفعوه من البين فيصلوا إذ ذاك إلى أغراضهم الفاسدة • ويستطيلوا على المسلمين في دنائهم وأموالهم وحريمهم كيف ما أرادوا ويأبى الله ألا يتم نوره ولو كره الكافرون وكان رؤوس الأمراء غائبين في التجريدة التي جهزها الملك الأشرف قبل أن يحصل له المرض الذي مات فيه ثم إن الأجلاب اتفقوا على الوثوب على مولانا السلطان يوم يصعد إلى الخدمة وذلك يوم الخميس سادس عشر صفر سنة إثنين وأربعين وثمانمائة • وكان في منزله الشريف المعهود وتحت الكبش فاختلفت كلمتهم وأخبره بذلك واحد من أعيانهم قيل أنه كان اينال الذي كان عين لأمرة الحاج وسيأتي بيان أمره مفصلا فلم يركب مولان السلطان ذلك اليوم وأخذ حذره منهم ولما خاب سعيهم وعرفوا أن هذا القضية لا تخفى لم يسعهم إلا المجاهرة بالعصيان فتوجه لمحاصرتهم في القلعة ثم أنهم نزلوا إليه مذعنين وتمثلوا بين يديه بعد أن تفرقت كلمتهم • فكان من حسن أخلاقه الشريفة وكرم عاطفته أنه لم يعنفهم • ولم يقل لهم ما يؤلم خاطرهم • بل قال لهم يا أولادي أنا نصحت لكم • وكان قصدي حفظ دينكم وصيانة عرضكم • فأنتم فعلتم هذا بأنفسكم • ولم يزدهم على هذا • ونزلهم في داره وقال أنتم ضيوفي واحتفظ برعايتهم حتى قدم الامراء فتعاطى أمرهم فرقتان وسنذكر تفصيل ذلك وكيفيته • ومن أعلا أخلاق مولانا السلطان الشريفة • ومكارم شيمه المنيفة • التشبث بأذيال الشريعة المطهرة • والوقوف عند أوامرها • وتعاطي أسباب نصرتها مهما أمكن • وتلاوة كتاب الله تعالى ليلا ونهارا بالقراءات السبع • والفحص عن أوامره وأموره • وتأمل معانيه • والتفكر في دقائق أسراره ولطائف فحاديه • والتشبث بذيل العمل بما فيه • وهذا سر قول عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت
22ظ
كان خلقه القرآن مع مراقبة أحواله • وملازمة أوراد الذكر والتسبيح • وقيام الليل والتهجد • والتعبد • والدوام على الطهارة ليلا ونهارا • حتى نقل عنه بالتواتر أنه لم يدخل عليه وقت صلوة في سفر ولا حضر إلا وبادر إلى أدائها على الوجه الأتم الأحسن في أفضل أوقاتها • وتقديمها على جميع المهمات • ولا يشغله عنا شاغل • ولم يضبط عليه أنه نام على غير وضوء بل إذا أراد النوم فإن كان على وضوء نام وإلا توضأ واضطجع الاضطجاع المسنون وهذا مقام لا يكاد يوفق إليه إلا أفراد الأولياء • حكى لي أخص خواص حضرته الشريفة الجناب القضائي الغرسي السنحاوي أحد بطائن الخير ورأس المخلصين الناصحين • قال كنت مرة في خدمة مولانا السلطان ببلاد الصعيد فأصابنا برد شديد • وشتاء عتيد • وكان مولانا السلطان جعل الله تعالى التقوى زاده • ورزقه الحسنى وزيادة • يتوضأ كل ليلة بعد أداء العشاء الأخرة ويأخذ مضجعه فيحصل له بذلك مشقة عظيمة من البرد اليابس فقلت له يا مولاي قد أديت ما عليك وصليت العشاء الأخرة والآن تأخذ مضجعك وليس في الوضوء كبير فائدة لأنك تنام فلم تتحمل هذه المشقة الكثيرة الضرر القليلة الجدوى فقال إني سمعت مرة العلماء والثقات أنه من توفى على الوضوء فإنه يموت شهيدا وينال درجة الشهداء • ومن نام على وضوء وأدركه الموت فكمن مات على وضوء وما يدريني أن هذه الليلة هل أعيش إلى صباحها أم لا • وربما تكون أخر الليالي من عمري فأنا أستعد لذلك فإن أدركني الأجل وقدر الله تعالى علي بلقائه في ليلتي فأكون على طهارة فأنال مرتبة الشهادة وأكون مستعدا للقاء به • ومن كان هذا أمله كيف لا يحسن أخلاقه • ولا يتهذب في أقواله وأفعاله • ومن استعد كل ليلة لحلول رمسه • كيف يغفل عن اصلاح نفسه • وهذه نبذة ما وقع الاطلاع عليه • وأما أحواله الشريفة التي لا يطلع عليها إلا الله تعالى وما هو
صفحه نامشخص
23و
بينه وبين مولاه • من صدق النية • وخلوص الطوية • والشفقة على الرعية • والمناجاة الخفية • والإخلاص في طاعة الله تعالى • والتضرع والالتجاء إليه في الخلوات فذلك شيء لا نعرفه • فكيف نقدر نذكره أو نصفه • فاسأل الله تعالى الذي لا يخيب سائلا • أن يخلد هذه الدولة السعيدة على المسلمين والإسلام • أن يصل طنب سعادتها بأوتاد الخلود إلى يوم القيام • بمنه وكرمه • واعلم أن أعلى محاسن أخلاق العلم الذي هو زمام مصالح الدارين • وقوام معائش الثقلين • وأصل المعالي والمفاخر • ورأس مال المكارم والمأثر • فلنذكر فضله بعد محاسن الأخلاق إذ هو لرأسها وجه ولوجهها عين • ولعينها نور • ولجسدها صدر • ولصدرها قلب • ولقبها سرور والله الموفق • فصل في العلم وفضيلته ومزية أهله على سائر الناس قال الله تعالى قل هل يستوي الذين لا يعلمون والذين لا يعلمون وقال تعالى قل يرفع الله الذين أمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات • وقال عليه الصلاة والسلام طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة • اعلم أن كل شيء من الحيوانات يعظم العالم ولولا العلم لما قدر الإنسان أن يتمكن من شيء من المخلوقات • وإن الله سبحانه وتعالى لم يتخذ وليا جاهلا • وقال سبحانه وتعالى فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون قال بعض الحكماء كل عمل لا يوطده علم فهو جهل • ولعالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد • وقال الله سبحانه وتعالى إنما يخشى الله عبادة العلماء أي لا يخاف الله ويعظمه ويتقيه من عباده إلا العلماء لأنهم هم العارفون دون غيرهم • وقور إنما يخشى الله من عبادة العلماء أي ما يوقر الله ويعظمه إلا العلماء من عباده لأنهم هم المستحقون التعظيم والتوقير وعلى كل تقدير فهم المخصوصون
23 ظ
دون غيرهم وبالخوف منه وبالتعظيم له وإما بتعظيمه لهم وتوقيره إياهم ومفسد الخشية على القراءة الأولى الخوف والتعظيم • وعلى القراءة الثانية التعظيم فقط • وقال تعالى ولقد أتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين وناهيك بموسى عليه الصلاة والسلام صاحب الشريعة والنورية وعلم الظاهر في زمانه كيف ارتحل هو وفتاه ليتعلم ممن هو أعلم منه بعلم الباطن بقرب الشام بحر الظلمات إلى مجمع البحرين إلى اقصى بلاد المعرب حتى لاقى الخضر عليه الصلاة والسلام ولم يأنف من أن قال له هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا وهو نبي الله تعالى وكلمته وحسبك أيضا ما أقحم الله الملائكة وأسجدهم لآدم صفيه إلا ببركة العلم وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال تعلموا العلم فإن تعلمه خشية • وطلبه عبادة • ومذاكرته تسبيح • والبحث عنه جهاد • وتعليم من لا يعلمه صدقة • وبذله لأهله قربة • لأن العلم منار أهل الجنة • وهو المؤنس في الوحشة • والصاحب في الغربة • والمحدث في الخلوة والدليل على السراء • والمعين على الضراء • والزين عند الإجلاء • والسلاح على الأعداء يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قاده • أئمة يقتفي أثارهم • ويقتدي بفعالهم • وترغب الملائكة في حلقهم • وبأجنحتها تمسحهم • ويصلي عليهم كل رطب ويابس وحيتان البحر • وهوام الأرض وسباع البرية • والبر • والبحر • والانعام • ولان المعلم حياة القلب من الجهل • ومصابيح الأبصار من الظلمة • وقوة الأبد أن من الضعف ويبلغ بالعبد منازل الأنبياء • والدرجات العلى في الأخرة والدنيا • والتفكر فيه يعدل بالصيام • ومذاكرته تعدل القيام • وبه توصل الأرحام • ويعرف الحلال من الحرام ويلهمه الله تعالى السعداء • ويحرمه الأشقياء • وحاصل الأمر في الجملة أن العلم أصل كل خير إلخ • والجهل منبع كل شر • قال الشاعر • وفي الجهل قبل الموت موت لأهله • وأجسادهم دون القبور قبور •
24و
• وان امرءا لم يحي بالعلم قلبه • فليس له حين النشور نشور • ويكفي الإنسان شرفا وكرامة أنه بالعلم يكتسب اسما من أسماء الله تعالى القديمة وهو اسم العالم فإن من أمهات الأسماء والصفات الأزلية القديمة لله تعالى العلم والله سبحانه وتعالى عالم وعليم وعلام وهو أن الاسمان صيغتا مبالغة قال أبو القاسم القشيري رحمه الله أسماء الله تعالى توقيفية فلا يسمى إلا بما ورد به الكتاب والسنة • وانعقد عليه اجماع الأمة • وقد وردت هذه الأسماء فأطلقت عليه ولا يقال في صفته تعالى عارف ولا فطن ولا داري ولا فقيه ولا فهم • فمن أذن من تحقق أنه عالم أن يكتفي بعلمه عند جريان قضائه وحكمه • ساكنا عند حلول تقديره عن تصرفه في أمور نفسه وتدبيره • كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام حين قال له جبريل7 عليه السلام سل الله حاجتك حسبي من سؤالي علمه بحالي رأيت في بعض التواريخ ببلاد الترك أن عالما في بلد تسمى تنكي تلاس هي عن سمرقند إلى جهة الحطا نحو من خمسة وعشرين يوما كان رجل من فوارس المسلمين اسمه قرا وكان قد انكى في مشركي الترك والتتار فاتفق أنه استشهد في بعض المواقف ففي بعض الليالي رآه واحد من الصلحاء في النوم وهو يقول له إن الكفار قد عزموا على قتالكم واستئصالكم فخذوا حذركم منهم فقال له الرأي ربما لا يصدقني الناس به في هذه الرؤيا فما علامة صدقي عندهم قال أن يحضروا إلى بيتي ويسمعوا كلامي من الزاوية الفانية فلما انتبه أعلم الناس فحضروا إلى بيت قرا الشهيد وسمعوا هذا الكلام منه الكبير والصغير • والمأمور والأمير ثم قال لهم إن لازمتم هذا الدعاء فإن الله يكشف عنكم شرهم • ويكفيكم أمرهم • فقالو وما هو • قال لازموا قولكم • اللهم كفى علمك عن المقال • وكفى كرمك عن السؤال • قال فلان سوء الناس هذا الدعاء فكف الله عنهم عدوهم وكفاهم أمره ومن أدب من تحقق علمه تعالى بحاله وأنه مطلع على سرائر الضمائر
24ظ
ووساوس الهواجس • وخفيات الخواطر • أن يستحي منه • ويكف عن معاصيه • ولا يغتر بجميل ستره • بل يخشى بغتات قهره • ومفاجأة مكره • قال الله تعالى يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضي من القول وفي بعض الكتب السماوية إن لم تعلموا أني أراكم فالخلل في إيمانكم • وإن علمتم أني أراكم فلم تجعلوني أهون الناظرين إليكم ومن أدب من اتقن بعلمه سبحانه وتعالى أن يكتفي بتدبيره • ولا يرفع إلى مخلوق حاجة • ولا يسكن إلى أحد سواه • فإن سكن إلى أحد غيره عوقب في الحال إن كان له عنده قدر • كما حكي عن إبراهيم الخواص رضي الله عنه قال كنت بالبادية فتهت فسمعت نباح كلب من بعيد فأصغيت إليه وقلت في نفسي لا يكون هذا إلا في عمارة فتبعت الصوت طالبا له فلم ألبث حتى أصابتني صفعة من ورائي ولم أر أحدا فبكيت وقلت يا رب هذا جزاء من توكل عليك فهتف بي هاتف ما دمت في خفارتنا كنت عزيزا فلما دخلت في خفارة الكلب صفعت ولكن هذا رأس من صفعك وذا برأس بين يدي مقطوعا • وحكي عنه أيضا قال كنت جائعا فوصلت إلى الري فخطر ببالي أن لي بها معارف سيضيفوني فلما دخلتها رأيت منكرا فنهيت عنه فضربوني فقلت في نفسي من أين أصابني هذا بجوعي ونهيي عن المنكر فنوديت في سري أصابك بسكونك إلى مضيفيك في طلب الرزق • ونقل عن بعضهم قال كنت جائعا فقلت لبعض معاوني إني جائع فلم يطعمني شيئا فمضيت فوجدت في الطريق درهما فأخذته فإذا عليه مكتوب أما كان الله تعالى عالما بجوعك حتى طلبت من غيره وحكي عن أبي سعيد الجزار رحمه الله قال خرجت من البادية إلى الكوفة وأنا جائع وكان لي فيها صديق يقال له الجرادي وكان يضيفني لو أدخلت الكوفة فقصدت حانوته فلم أجده فدخلت مسجدا بقرب حانوته انتظره وقلت بسم الله الرحمن الرحيم • والحمد لله رب العالمين • وسلام علينا وعلى عباده المتوكلين •
25و
وقعدت منتظرا فدخل داخل فقال الحمد لله رب العالمين • سبحان من أخلى الأرض من عباده المتوكلين • وسلام علينا وعلى جميع الكذابين • يا أبا سعيد يا مدعيا التوكل، التوكل يكون في الصحاري والبراري • ليس التوكل الجلوس على البوادي • لانتظار الجرادي قال فالتفت فلم أر أحدا • وهكذا سنة الله تعالى مع خواص أحبابه والمصطفين من عباده لا يشاء ضلهم في خطره • ولا يتجاوز عنهم في لحظه • بل يطالبهم بالصغير والكبير ويضايقهم على النقير والقطمير • وما أحلى عتاب الله تعالى مع أوليائه • لان العتاب أنما يكون بين الأحباب • وقيل شعر • • إذا ذهب العتاب فليس ود • ويبقى الود ما بقي العتاب • وعلى هذا قيل حساب أمة الحبيب حساب عتاب لا حساب عقاب لأن من نوقش الحساب عذب • وقد ورد في الحديث الصحيح أن الله تعالى يدين عبده • ويقرره بذنوبه • فيقول ما عملت كذا وكذا فيقول نعم • ويقول له عملت كذا وكذا فيقول نعم • حتى إذا اتفق له هالك • قال له سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفره لك اليوم وإذا أراد الأمر بين الستر في الدنيا والغفر في الأخرة فهل بقي شيء سوى العتاب • والعتاب إنما هو من الأجناب وأما الأعداء فيقال لهم أحشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون الآية وإذا سئلوا فيقال لهم مالكم لا تبصرون سؤال توبيخ وتضريع فلا خلاق لهم في الأخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم وإن قيل في حقهم شيء • قال سبحانه وتعالى فاصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا • سئل إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه عن الصوفي إذا جاع يوما ماذا يعمل قال جوع يوم ليس بجوع قيل فيومين قال ولا جوع يومين بجوع قيل فثلاثة أيام قال يصبر قيل ثم ماذا يفعل قال يصبر قيل فإن مات قال ديته على قاتله أليس كان عالما بحاله فإن شكاه فقد استحق العتاب • قال الشاعر •
صفحه نامشخص
25 ظ
• وإذا عرتك مصيبة فاصبر لها • صبر الكريم فأنه بك أعلم • • وإذا شكوت إلى بن آدم إنما • تشكوا الرحيم إلى الذي لا يرحم • وسر هذا المقام أن المحب إذا علم من محبوبه أنه عالم بحاله ومطلع على أحواله باطنا وظاهرا بل المملوك إذا علم من مالكه ذلك وقد أنهي إليه مالكه أنه يتصرف في ملكه كيف ما اختار وأنه لا يسأل عما يفعل • ثم ادعى أنه مكثف بعمله • وملق زمام تدبيره ورضاه إلى يد تقديره • وقال له شعر • • وكلت إلى المحبوب أمري كله • فإن شاء أحياني وإن شاء أتلفا • ثم التفت إلى غيره • ودفع حوائجه إلى ما سواه • هل يكون صادقا في دعواه أم لا فهل يستحق العتاب من محبوبه • والعقاب من مالكه أم لا • وهذا مقام عزيز • ومكان شريف • مبناه على الرسوخ في العلم • وثبات القدم في تحقيق المعرفة ولا يكاد يصل إليه إلا خواص العلماء • وأعلام الأولياء • والمقربون من الحضرة الإلهية والمتألهون في المشاهدات القدسية • والجائلون بأجنحة البابهم في الحظيرة الملكوتية • وأما الذين رتبتهم خسيسة • وقيمتهم رذيلة قليله • فلا اعتبار بهم ولا يعيا الله تعالى بأمورهم • فهم بإمهاله مغترون • ومن غفلاتهم منهمكون • إلى أن يأخذهم بغتة وهم لا يشعرون • كما قال الله تعالى قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون واعلم ان أشد الناس احتياجا إلى العلم الملوك والسلاطين ومن تقلد أمور عباد الله تعالى لأن الإنسان كلما كثرت عائلته واحتياج الناس إليه كان همه وهمته • وتوزع خاطره • واشتغال فكره • بعمل مصالحهم أكثر من غيره ولا شك أن جميع الرعايا وعامة الخلق وخاصتهم هم عائلة السلطان ومحتاجون إلى وفده • وضمهم تحت جناح عدله ومرحمته • ويفتقرون إلى صونه إياهم أن يتخطفهم أعداؤهم • وهذا مصداق قوله عليه الصلاة والسلام كلكم راع وكلكم
26ر
مسيؤل8 عن رعيته • فالإمام راع هو مسيؤل عن رعيته • فبحسب ذلك يحتاج السلطان إلى قانون يسوسهم به وهو اعلم الذي به قوام العالم • وكما أن السلطان هو خليفة الله في أرضه • ونائب رسله • في تدبير مصالح عباده • كذلك العملاء هم ورثة أنبيائه في إقامة شرائعهم • والملوك هم سياج الدنيا على عباد الله تعالى • والعلماء هم سياج الدين على خلق الله • فإذا كان السلطان عالما فهو نور على نور لأنه قد جمع بين أساسي السياسة والشريعة • وإن لم يكن لولي الأمر علم فإنه لا يقدر أن يعرف مقادير الناس ولا ينزل الناس منازلهم • ولهذا قيل ينبغي أن يكون عقل السلطان موازنا لعقول جميع الخلق لأن كل واحد من الناس صغير أو كبير محتاج إلى السلطان ومستمطر نواله ومراحمه وهو آنيا محتاج إلى معرفة قدر استحقاق كل منهم لينزله منزلته لا يتعدى بالوضيع طوره علوا • ولا يبخس الرفيع قدره تنزلا • عملا بقوله انزلوا الناس منازلهم • وقوله عليه الصلاة والسلام خاطبوا الناس على قدر عقولهم غير أن العقل يدرك به الكليات • والعلم يفصل به القضايا الجزئيات • والحاكم يحتاج مع هذا كله إلى فضل الحكومات • وخلاص الحقوق • وفصل المظلوم عن الظالم • فلو لم يكن له علم يستعين به على ذلك وتفرق به بين المحق والمبطل لا يتهيأ له ذلك وإذا كانت المخاطبة على قدر العقول واجبة وهي قولي فتنزيل الناس منازلهم على قدر مراتبهم واستحقاقهم أولى إذ هي فعل • وإذا لم يتهيأ لولي الأمر العلم فينبغي أن يكون صحبته مع العلماء • ويستعين بهم في فصل الحكومات • وإجراء أوامر الله تعالى على ما يقتضيه الشرع الشريف • قال الله تعالى فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون • وقال تعالى ولا ينبيك مثل خبير وكان القراء أهل مجلس عمر رضي الله عنه شيوخا كانوا أو شبانا • وإذا اجتمع في السلطان والملك العلم والدين وصحبة العلماء والإحسان إليهم في الغاية القصوى الجامعة لسعادة الدارين
26ظ
وخاصة إذا كانت العلماء فيهم المعون الناصح • والبطانة الصالحة • والمشيد الشفوق • والصديق الصدوق • الذي لا يأخذه في الله لومة لائم • كان الشيخ الإمام أبو سعيد ابن أبي الخير له كرامات مذكورة • وأخبار مشهورة • وكانت قد انتهت إليه الرئاسة في العلم والعمل ببلده ملازم • ويقصده السائح من الطريق والأقاليم • وكان يتردد إلى أبواب السلطان • ويحضر ديوان المظالم وغيره من الحكومات • ويتعاطى الكلام فيها وعقدها وحلها • ففي بعض الأيام قصده صور من بلاد شاحطة لما بلغه عنه من الزهد والعلم والعمل فلما قدم صور قصد داره فرأه راكبا في كبكبة عظيمة متوجها إلى ديوان المظالم فلام نفسه على مجيئه من بلاده وأنكر عليه غاية الانكار وهم بالرجوع لكن تضبط وقال قد جئت لأمر لابد من انهائه إلى أخره فلم يجد بدأ من أنه تبعد إلى الديوان فلما بلغوا إليه وإذا برجل حكم بقطع يده على أنه سرق والجلاد معه فسأل الشيخ أبو سعيد عن حاله ورفعه أن يرجئ أمره فانحلت القضية عن أنه كان بريء الساحة فتخلص من قطع اليد ثم التفت إلى الصوفي وقال لمثل هذه لازمنا أبواب السلاطين فعلم ذلك الرجل مقدار الشيخ ولازمه واستفاد منه غرضه • ومن هذه الحكاية يعلم أنه لا ينبغي أن يعترض على أحوال المشايخ وأهل العلم بل يحمل أفعالهم وحركاتهم من أفعالهم مهما أمكن على غرض صحيح ويطلب لهم وجه حسن مهما استطاع فإن لم يجد الطالب لذلك سبيلا فنسب الغي إلى نفسه • مثل ما منح الله الإسلام والمسلمين بمولانا السلطان خلد الله سلطانه الذي جمع بين الدين والعلم والميل إلى صحبة الأخيار والأبرار من العلماء والصلحاء وأهل الدين والخير والسداد والبر والإحسان إليهم وأمرهم بملازمة المواقف الشريفة ليلا ونهارا والاصغاء إلى ما يقولون ويرشدون إليه من مناهج الخير والصلاح والاستفسار والتفحص عن من يستحق توليه المناصب الدينية من أهل العلم أهل الدين والعفة والصلاح
27 و
والمعرفة بأحكام الشرع الشريف ليوليها إياهم ويرتب لهم الإقطاعات والادرارات والجوامك كوظيفة القضاء والتعاريش والأنظار على الأوقاف • والجوامك وشتان بين من لا يؤل وظيفة من الوظائف وخصوصا وظيفة القضاء حتى يعرضها للبيع وكل من أعطي أكثر ولاه ولا يلتفت إلى علم ولا عمل • وبين من يولي الوظائف • ويعطي عليها الإقطاعات والجوامك والادرارات ليصون بذلك أموال المسلمين ودينهم • وهذا معنى ما قلت أن مولانا السلطان عمر الله دنياه • وجعل أخراه خيرا من أولاه • عم الدنيا والأخرة في أقل مدة • فأشرقت بولايته الممالك الإسلامية • ومن جملة ذلك أن بلغ المسامع الشريفة عن سيدنا ومولانا الشيخ الإمام العلامة • فريد الدهر • وحيد العصر • علامة العلماء • بقية السلف الكرام الصلحاء • برهان الملة والدين بن أبي عون الشافعي عظمه الله تعالى • وما هو منطو عليه من الديانة والعفة والعلم والعمل فأحب أن يسأل صدقاته الشريفة • بحيث تتعدى بركته ونفعه إلى الإسلام والمسلمين ويحرروا ذلك في الصحائف الشريفة • وعد ذلك من أفضل إثباته عند الله • وسر عزته • أن يقبل وظيفة قضاء الشافعية بتدريس المدرسة فلم يقبل سيدنا الشيخ برهان الدين المشار إليه ذلك فدخل عليه نائب الشام والمرحوم السيد محمد بن السيد محمد بن يشبك فلم يقبل ذلك ولا خطر بباله وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى • وهذه الشيمة الشريفة لم تتجدد وإنما كانت من قديم الزمان وبعد الحدثان ومن حالة الصبا وعنفوان الشباب • ومن نكت اطلاعه على العلم واستحضاره لمتن حديث النبي صلى الله عليه وسلم ما جرى في مجلسه الشريف وهي أن شخصا يدعى الشيخ علاي9 الدين بن الدواليبي من أهل بغداد حضر مجلسه الشريف وأورد بالمناسبة قوله صلى الله عليه وسلم سبعة يظلهم الله الحديث إلى أن قال ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال إلى نفسها فقال إني أخاف الله فلما خرج الشيخ
27ظ
علاء الدين المذكور جرى ذكر هذا الحديث المنيف فقال مولانا السلطان لمن حضر أن الشيخ علاء الدين قال دعته امرأة ذات حسب والذي سمعناه ونستحضره إنما دعته امرأة ذات منصب ثم أنه نهض بنفسه الشريفة إلى خزانة الكتب وأخرج كتابا وناوله بعض من حضر وقال له افتح في المكان الفلاني فإنه في وسط الصفحة اليمين منه فكان كذلك • وإنما لم يذكر مولانا السلطان هذا الحديث بحضور الشيخ علاء الدين الدواليبي لئلا يستحي فذكره بعد أن خرج من بين يديه الشريفة فانظر إلى هذه الحشمة الملوكية • والشفقة التامة • وحفظ خواطر الناس • لئلا يخجلوا فأسأل الله تعالى أن لا يخجله يوم العرض بين يديه • وأيضا فانه لم يجر في خاطرته الشريفة مسألة فقهيه أو مفيدة إلا وكان له فيها يد ودراية ومشاركة بديعة • هذا الذي شاهدته مذ كنت ملازما الحضرة الشريفة واحدي قاضي القضاة سراج الدين الحمصي الشافعي قاضي قضاة الشام يوم الإثنين جاء من عرب صيديقة أبو رايق • قال كان مولانا السلطان خلد الله سلطانه يوما راكبا وحده في حارة من حوان فرأى بياعا ينادي ما يفعل الله إلا خير فدعاه وقال له لا تقل هكذا وقل كل ما تراه من الله انظر إلى هذا السطر الدقيق الذي لا يكاد يدركه فحول العلماء ومدققوا النظر في علم الكلام من الفضلاء والأذكياء إذ في قوله ما يفعل الله إلا خير دسيسة من مذهب الاعتزال حيث قصروا فعل الله تعالى على الخير ولم يعدوه إلى خلافة واستعملوا فيه أداة الحصر وحصروه والأوفر ما رسم به مولانا السلطان إشارة إلى مذهب أهل السنة والجماعة وهو الحق وهو أن الخير والشر بينه فقال وبإرادته وهو مأخوذ من قوله تعالى قل كل من عند الله لعمري أن كثيرا من مستعدي الفتها لا يدركون معنى الكلامين إلا بعد تقرير شاف وتحرير واف وكد القريحة وإمعان النظر ولم أر في ملوك العرب والعجم أكثر محبة من مولانا السلطان للعلم
صفحه نامشخص
28و
الشريف والعلماء ولا أحسن ميلانه إليهم • ولا أوفر عطاء لهم • ولا أكثر إعظاما للعلم وأهله منه مع الرعية التامة إليهم • والاصغاء لمباحثهم • واستجلاب خواطرهم ودعائهم بأنواع البر والإحسان والمرء مع من أحب • ولقد أذكرتني هذه الحكاية ما وقع بين أبي الفتح ملكشاه بن البر ارسلان وبين وزيره نظام الملك صاحب المدرسة النظامية ببغداد وهي أن ملك شاه كانت قد اتسعت مملكته بحيث ملك أقصى من بلاد ما وراء النهر إلى القدس الشريف • وما بينهما من بلاد العرب والعجم والترك واتفق أن الوزير نظام الملك أبا علي الحسن بن علي كان وزيره فتمكن في الملك حتى لم يبق لأبي الفتح ملكشاه سوى التخت والصيد فقط وذلك لاعتماده على كفاية نظام الملك ودينه وحسن تدبيره • وكان قبل أبي الفتح وزرلابيه الب أرسلان وكان قد وصى نظام الملك بابنه وضمه إليه وكان يدعوه أبا ونظام الملك يدعو ملكشاه أبنا فلما تمكن نظام الملك من الممالك وثبتت قدمه وطالت يده في الأمر والنهي شرع في الإحسان إلى العلماء • والفضلاء • والفقراء • والصلحاء • والأرامل والأيتام بحيث أن بره ومعروفه كان قد عم كل من مملكته • ومن هو معدود من تحت ولايته من بلاد العرب والعجم • وحضر هذه الطوائف المذكورون كما هو دأب مولانا السلطان خلد الله معدلته • وكأنه كان آلي على نفسه أن لا يمنع أحد من رفدة وجوده • وامتد زمان ذلك كالقيد في المكان فضبط ما كان يعرف إلى هؤلاء في كل سنة فوجد نحوا من ستمائة ألف دينار فوشي به إلى أبي الفتح فتغير عليه ثم دعاه وقد أضمر له سوءا وقال له يا أبت بلغني أنك تخرج من بيت الملا في كل سنة نحوا من ستمائة ألف دينار لمن لا ينفعنا ولا يصل إلينا منه كبير فائدة لو فرق هذا المبلغ على الجند والعساكر التي هي حاميتنا وبها تندفع الأعداء • وتستجلب الادراء • لركزت رايتنا في سور قسطنطينية
28ظ
فبكي نظام الملك وقال يا ابني أنا شيخ كبير أعجمي لو نودي علي في مظان الرغبات في لم اساو خمسة دنانير وأنت غلام تركي لو نودي عليك لعلك لا تصل إلى ثلاثين دينارا وقد ملكك الله تعالى في أحسن بلاد المسلمين • وحكمك في رقابهم وأموالهم • وأقامني أنا في خدمتك • وجعلني أنا واسطة بينك وبين عباده • وأنت مشغول بلذاتك منهمك في شهواتك • لا يصعد إلى اشتعالي منك غير المعاصي • وجيوشك الذين تعدهم النوائب • ونزول للصائب • إذا احتشد والدفع ما يهمك • وكشف ما يقصدك • إنما يكافحون عنك بسيف طوله ذراعان • وقوس مدي مرماه ثلثمائة10 ذراع • مع ما هم عليه من ارتكاب المعاصي • واستغرقهم في أنواع الملاذ من الخمور والملاهي • وانهماكهم في كبائر الذنوب • وربما لا يفيدك مكافحتهم شيئا • ولا يغني عنك مدافعتهم ومقاتلتهم • ولما كان لك ولأبيك من قبلك علي حق لابد من القيام بموجبه أقمت لك جيشا لا تطيش مهامهم • ولا نبوا سيوفهم • يسمون جيش الليل إذا نامت جيوشك • واستغرقوا من غفلاتهم • واشتغلوا بلذاتهم وشهواتهم • قامت الجيوش التي أقمتها لك جيوشا صفوفا على إقدامهم • بين يدي ربهم فأرسلوا دموعهم وأطلقوا بالدعاء لك ولجيوشك ألسنتهم • ورفعوا إلى الله تعالى أكفهم • ومدوا أيديهم بالتضرع والتذلل • وأعين بالنصر لك ولجيوشك • فأنت وجيوشك في خفارتهم تعيشون • وبدعائهم تثبتون • وببركاتهم تمطرون وترزقون وبوجودهم تنصرون تخرق سهامهم الحجب إلى السماء السابعة • وسيوف أدعيتهم في رقاب من يدعون عليه قاطعه فبكى أبو الفتح بكاء شديدا ثم قال شاباش شاباش يا أبت أكثر لي من هذا الجيش • وهذا الجيش بعينه هو الجند الذي اتخذه مولانا السلطان خلد الله سلطانه • لدفع النوائب • وحصول المآرب • فإنه لم يعهد أنه قصد المقام الشريف وافدا لا من العرب ولا من العجم عامة وخاصة العلماء
29و
والفقراء والصلحاء إلا وأولاه من صدقاته البالغة • ونعمه السابغة • ما يستدعي الدعاء لدولته الشريفة بالخلود • ودوام بقائها • ونصر أوليائها • وكسر أعدائها • ولا شك في أن الله عز وجل استجاب ذلك لأن منهم المضطر والمحتاج • والمسافر • والغريب • والصالح • وكل هؤلاء دعاؤهم مستجاب • بالنصوص القاطعة • بأخبار من لا خلاف في أخباره • ولله الحمد والمنة • أخبرنا الشيخ شمس الدين محمد بن الجزري رحمه الله بسنده في كتابه المسمى بالحصن الحصين • في كلام سيد المرسلين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يرد القضاء إلا الدعاء • ولا يزيد في العمر إلا البر • وقال فيه أيضا ما سعد الأمن سعد بالدعاء • ولا شقي من تشقى إلا بالدعاء • ونظام الملك المذكور هو أول من أنشأ المدارس وهو صاحب مدرسة النظامية ببغداد • وكان ورد عليه شخص صوفي يدعى أبا سعيد الصوفي وحسن له بناء مكان لأجل العلماء يلقي فيه الدروس فولاه عمل ذلك فبنى المدرسة المذكورة ورفع إليه حساب كلفتها ستين ألف دينار وكتب على بابها القاب نظام الملك واسمه فكتب أصحاب ديوان نظام الملك إليه وهو بأصبهان أن أبا سعيد لم يخرج مصروف المدرسة المذكورة سوى تسعة عشر ألف دينار لا غير فطلبه فلما عرف أبو سعيد لماذا يطلبه توجه إلى أحد الأكابر ببغداد لا يحضرني اسمه وقال له إني بنيت مدرسة باسم الوزير نظام الملك وإن ذكره يخلد بها إلى يوم القيامة فإن كان لك رغبة في تخليد ذكرك فأعطني ستين ألف دينار وأنا امحوا اسمه من طرازها وأثبت اسمك فرضي بذلك وأمره أن ينفذ إليه من يأخذ المال فلما استوثق منه رحل إلى أصفهان ودخل على نظام الملك فقال له إنك لم تصرف في عمارة المدرسة سوى تسعة عشر ألف دينار فقط وإلا فأقم حساب مصروفها فقال لا تطل الكلام إن شئت ليبرز مرسومك
29ظ
بتسلم الستين ألف دينار وامحوا اسمك من المدرسة المذكورة فقال بل رضيت بما صنعت ولا تهدم ما بنيناه • ولا تبطل ما عملناه • وسلم إليه ما فعله • وأبقى اسمه بالمدرسة المذكورة • ثم إن أبا سعيد المذكور • صرف الزائد من المال في عمل مساجد ورباطات وأماكن كلها مرصدة للخير • وكانت باقية إلى أخر وقت رحمهم الله تعالى • وحاصل ما ذكرنا أن الإنسان ينبغي أن يكون عالما أو متعلما • أو محبا للعلماء محسنا إليهم • فإن المرء مع من أحب • وهذه الأوصاف السعيدة هي التي اتخذها مولانا السلطان خلد الله سلطانه دابا ودينا • فالله تعالى يحوطه بالعلم الشريف ويجعله قائدا له إلى سعادة الدارين بمنه وفضله • وأحلى ثمرات العلم التواضع فلا جرم أعقبنا فصل العلم بالحلم الذي هو أفضل ثمراته • • فصل في التواضع • قال الله تعالى هو أصدق القائلين مخاطبا نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين • وقال تعالى ولا تصغر خدك للناس ولا تمشي في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور • وعن سنان بن سعد عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى أوصى إلي أن تواضعوا ولا يبغي بعضكم على بعض • وقال صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني قال على البر والتقوى والرهبة وذلة النفس وقال من تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيب دعوة الحر والعبد • ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن • أو فخذ أرنب • ويكافئ ويأكلها ولا يستكبر عن إجابة الأمة والمسكين • وسئل الجنيد رضي الله عن عن التواضع فقال خفض الجناح ولين الجانب • وسئل الفضل رضي الله عنه عن التواضع فقال تخضع للحق وتنقاد له وتقبله ممن قاله وتسمع منه وقال
30و
وهب بن منبه رضي الله عنه مكتوب في كتب الله أني أخرجت الذر من صلب آدم فلم أجد قلبا أشد تواضعا من قلب موسى فلذلك اصطفيته فكلمته • وقال أبو حفص من أحب أن يتواضع قلبه فليصحب الصالحين • وليلتزم بحرمتهم • فمن شدة تواضعهم في أنفسهم • يقتدي بهم ولا يتكبر • وقال لقمان عليه السلام لكل شيء مطية ومطية العلم التواضع • وقال يحيى بن معاذ رضي الله عنه التواضع حسن ومن الأغنياء أحسن وقال عبد الملك بن مروان أفضل الناس من تواضع عن رفعه • وزهد عن قدرة وأنصف عن قوة • وقال بعض الحكماء التواضع مع الشرف أشرف من الشرف وقيل البخل والجهل مع التواضع خير من السخاء والعلم مع التكبر • وقال ابن عباس رضي الله عنهما سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقول شعر • إذا أردت شريف الناس كلهم • فانظر إلى ملك في زي مسكين • • ذاك الذي حسنت في الناس رأفته • وذاك يصلح للدنيا وللدين • هذه صفات مولانا السلطان خلد الله تعالى سلطانه • رأيت في الكتاب المسمى بجامع الحكايات • ولامع الروايات • أن السلطان إسماعيل الساماني متولي نجارا وممالك ما وراء النهر استأذن عليه عالم من علماء زمانه فأذن له فلما دخل عليه قام له ثم استقبله حافيا ومشى لاستقباله سبع خطوات ثم أجلسه معه على منصته • وأصغى إلى كلامه • وعظمه تعظيما بالغا • يليق بحشمته وسلطانه وقضى حوائجه • فلما قام ذلك العالم نهض السلطان إسماعيل معه وشيعه كذلك مقدار سبع خطوات كما فعل أولا • وكان أخوه إسحاق الساماني حاضرا فلما خلا المجلس قال له يا أخي لقد أوهنت ناموس الملك ووضعت من جانبه قال بماذا قال بما فعلت مع هذا الفقيه حيث بالغت في تعظيمه ومشيت قدامه • ثم شيعته كذلك وحشمة الملك والسلطنة تقتضي الوقار والسكون وعدم الاكتراث بالناس فإذا فعلت
صفحه نامشخص
30ظ
هذا مع واحد من أحاد الفقهاء فقد أضعت حشمة الملك فقال إسماعيل يا أخي إن عزة تزول بتعظيم العلم والعلماء • وملك يحصل الوهن فيه • وكسر الناموس بإكرام ورثة الأنبياء لجدير أن لا يكون • وحقيق أن يذل ويهون • أنا ما عظمت هذا الرجل وإنما عظمت العلم الذي شرفه الله تعالى به • فلما نام السلطان إسماعيل تلك الليلة رأى في منامه النبي صلى الله عليه وسلم وهو مستبشر فقال له يا إسماعيل أكرمت عالما من علماء أمتي ومشيت معه سبع خطوات • فيملك من ولدك بعدك سبعه بنين • ويكون الملك في ذريتك إلى سابع ولدك • وأما أخوك إسحاق فليس له في الملك نصيب وكذا كان كل هذا من بركة التواضع وهذا باب واسع • ويلزم من التواضع الشفقة والحنو • والبذل • والسخاء • والرضى • والعدل • واتباع الحق • والحياء • وغالب الصفات المحمودة • وهذه الصفات السعيدة قد صارت كلها ملكة لمولانا السلطان خلد الله تعالى أيامه الزاهرة • وجمع له بين خيري الدنيا والآخرة وهذا لا يحتاج إلى دليل فإن الصبح لا يخفى على ذي عينين • وأما تواضعه وقربه من الناس فوالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت الكلام بين يديه • ورفع الحوائج إلى مسامعه الشريفة أهون وأيسر من تعاطي ذلك من أدنى ذو آذان ومباشر عند أحد من حواشيه وهذا ليس لواحد من الناس مخصوصا بل القريب والغريب • والصغير والكبير في ذلك سواء • وما أشبهه إلا بالشمس إلى نورها • يعم السهل والجبل والبر والبحر • ويصل إلى المشرق • والمغرب • والبحر العذب الذي يغترف به كل أحد كما يختار صافيا غير مكدر • ومن تأمل أوصافه السعيدة • وأفعاله الشريفة • وحنوه وشفقته على كافة الخلائق بعين البصيرة • ونظرها الاعتبار • يتعجب من لطيف صنع الله تعالى وكما احسانه • وفي الحال ينشد شعر •
31و
• ليس من الله بمستنكر • أن يجمع العالم في واحد وليس هذه الخلائق الشريفة • في ذاته المنيفة • على سبيل التكلف والتصنع • وإنما هو سجية وغريزة • وملكه ركيزة • وربما يلوم على ذلك جماعة من الأجلاف • وطائفة من الأجلاب • ومن لا يعرف دقائق المملكة • ودربة السياسة والرئاسة كإسحاق الساماني فيقول أن هيبة الملك • وحشمة السلطنة تقتضي الترفع عن الناس • والاحتجاب عن أبصار الخلائق وعدم الالتفات إليهم • فضلا عن الأذن لأفرادهم • والاجتماع بأحادهم • والانبساط إليهم • وهذا الكلام • والملام كان في مبادئ الأمر شائعا • وبين الأتراك ورؤساء الجند ذائعا • ولم يعلموا ان الفضل من الله يؤتيه من يشاء • وإن العزة لله تعالى • وذهلوا عن قوله تعالى قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء • وعن معنى قوله تعالى ألا تلك آيات الكتاب الحكيم أكان للناس عجبا الآية • فكذلك أكان للناس عجبا أن يرفع عليهم واحدا متواضعا من خيارهم • ويملكه رقابهم • ثم ماذا عسى ينقصه التواضع • واتباع سنة رسوله عليه الصلاة والسلام من ناموس الملك وحشمة السلطنة • وإن الله سبحانه وتعالى لما ملك مولانا السلطان ورفع قدره صار أعلى من على وجه الأرض شرقا وغربا فإنه سلطان ملوك الأرض وملك سلاطين الأقاليم السبعة • وإن جميع ملوك الأرض من الجهات الست قد فرض عليهم أن يحجوا البيت الذي هو تحت حكمه • ويتوجهوا إلى مكة المشرفة وحرما • وإن يطوفوا ببيت الله تعالى الذي هو خادمه وحاكم على جهاته • وأنه لا يجوز لهم أن يدخلوا الحرم ولا يجاوزوا الميقات الذي هو تحت حكمه وجار تحت ولايته الشريفة • إلا حفاة عراة • حاسري الرؤس11 • شعثا • غبرا • تاركي الأوطان متدرعي الأكفان • محرما عليه صيد وحوشه • وقطع أشجاره • واختلاء خلاه • اعظاما 31ظ
له إلى غير ذلك مما فيه تعظيمه وإجلاله وهذا إذا قصوا طوافه وأداء فرض عمرهم والقرب منه وإذا كانوا في أقطار البلاد ونواحي الأفاق فإنه لا تقبل لهم الصلوة التي هي عماد دينهم • والفارقة بين المؤمن والكافر إلا أن يتوجهوا إليه ويضعوا جباههم على الأرض سجدا إلى نحوه وجهته كل يوم وليلة خمس مرات وهذا في حال حيوتهم وأما في حال الممات فلا غنى عن التوجه إلى شطره • والاضطجاع في القبور متوجهين إلى نحوه وهذا القدر من العزة والرفعة ونباهة الشأن • يكفي مولانا السلطان • ولم يسمعوا بمن مضى من الخلفاء الراشدين • ومن تابعهم من الملوك والسلاطين كيف كانت طريقتهم في شرائع السياسة • وكيف كان قربهم من الناس • في حنوهم وشفقتهم عليهم • وعاطفتهم على الضعيف والمسكين واليتيم • وكيف كانت معيشة أولئك وأن عمر رضي الله عنه لما قدم عليه الهرمزان أحد ملوك العجم وبلاد فارس كان عليه رقعة فيها أربعة عشر رقعة • ولما قدم بلاد الشام وتلقاه رؤس الجنود وكان قائد البعير بغلامه فإنها كانت نوبته أشاروا عليه أن يلبس شيئا يمتاز به بين العساكر • وأتوه بمركوب يركبه بين الناس تعظيما له فقال إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلا نطلب العزة في غيره • ومن صفات عمر رضي الله عنه أنه كان عالما برعيته • عادلا في أقضيته • خاليا من الكبر • قبولا للعذر • سهل العجاب • مصون الباب • متحريا للصواب • رفيقا بالضعيف • غير مجاف للقوي ولا مبعد للقريب وقد قيل أفضل الملوك من كان شركة بين الرعايا لكل واحد منهم فيه قسط ليس أحد أحق به من أحد لا يطمع القوي في حيفه • ولا ييأس الضعيف من عدله • وقد قيل إن احتجاب السلطان عن الرعية شبيه بالموت لأن الميت محجوب لا ينتفع به وأيضا عند أصحاب السلطان تمتد أيدي الظلمة من حاشيته إلى الرعية وتنبسط إلى أموالهم ودمائهم • وأغراضهم الفاسدة • فإنهم قد آمنوا أن المظلوم لا يصل
32و
إلى السلطان • وإن لا يتمكن منه كما يريد وإن أوصل أحد خبره إلى السلطان • فإنها بين حاشيته قلما يبلغ ما يريد كما يريد • ويرى الحق في صورة الباطل • والباطل في صورة الحق وهذا لقوة الأسباب على حصور الفساد في الممالك • والخلد في أمور السلطنة • ومن تيقن معنى قوله صلى الله عليه وسلم كلكم راع ومحقق أنه مسؤول عن الرعية والنظر في أمرها ليرعاه الله تعالى يوم القيامة فكيف يهمل أمر عباد الله تعالى ويحتجب عنهم إذا وكل الله تعالى أمرهم إليه • واختاره على غيره في ذلك • فكيف هو معتهد على غيره • ووكل أمرهم إليه • وخاصة إذا كان ذلك الغير مائل إلى الأغراض الفاسدة • وعرض الدنيا • أو كان قليل الخبرة بمداراة الناس والقيام بمصالحهم • أو غير أهل لما وليه • قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة • وفي الأمثال زوال الدول باصطناع السفل • وسئل بعض الملوك عن سبب زوال ملكه فقال شغلتنا آرائنا عن مهماتنا • ووثقنا بكفاتنا في القيام لحاجاتنا • فأشروا مصالحهم عليها • وظلم عمالنا رعيتنا • ففسدن نياتهم لنا • وتمنوا الراحة منا وقل أهل خراجنا فقل دخلنا • فضعف لذلك جندنا • وزالت طاعتهم لنا • وقصدنا عدونا • فقل ناصرنا • وكان أعظم ما خذلنا استتار هذه الأخبار عنا • وأعظم من ذلك الكبر • والإعجاب • والاحتجاب عن الناس • بالحجاب والبواب • ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم كنت الأمة من آما المدينة تأخذ بيده فتطوف به على سكك المدينة حتى تقضي حاجتها • وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم من بعده مشهورة • وأحولهم وفرائضهم مذكورة • وأعلام معائشهم ومعاملاتهم مع عباد الله تعالى والتودد إليهم • والقرب منهم على فنن الدهر منشورة • فالذي قد جاء بعدهم • وأطلع على حالهم وأفعالهم • ثم ولي أمور الناس وترفع عما كانوا عليه من جميل الخصال • وشريف الفعال • ولم يرض أن يعيش مثل ما عاشوا • فكأنه تنزه عن 32ظ
طريقهم وما ارتضى عقلهم فيما كانوا عليه وكأنه في نفسه هو أعقل منهم وأعرف بطرق الحشمة • وعن أبي سلمة رضي الله عنه قال قلت لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه ما تقول فيما أحدث الناس من الملبس والمطعم والمشرب والمركب قال يابن أخي كل لله • واشرب لله • والبس لله • وكل شيء من ذلك دخله زهود ومباهاة • أو رياء أو سمعة فهو معصية وسرف • وعالج في بيتك من الخدمة ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج في بيته كان يعلف الناصح • ويعقل البعير • ويقم البيت • ويجلب الشاة • ويخصف النعل • ويرقع الثوب • ويشتري الشيء من السوق • فلا يمنعه الحياء أن يعلقه بيده • أو يجعله في طرف ثوبه فينقلب إلى أهله • يصافح الغني والفقير • والصغير والكبير • ويسلم مبتديا على كل من استقبله • من صغير أو كبير أسود أو أحمر • حر أو عبد من أهل الصلوة • ليس له حلة لمدخله • وحلة لمخرجه • لا يستحي أن يجيب إذا دعي وإن كان أشعث أغبر • ولا يحقر ما دعي إليه • وإن لم يجد إلا حشف الدقل • لا يرفع غداء لعشاء • ولا عشاء لغداء • هين المؤنة • لين الخلق • كريم الطبيعة • جميل المعاشرة • طلق الوجه • بسام من غير ضحك • حزون من غير عبوس • شديد من غير عنف • متواضع من غير مذلة • جواد من غير سرف • رحيم لكل ذي قربي ومسلم • رقيق القلب • دائم الأطراق • لم يتسم قط من شبع • ولم يمد يده قط إلى طمع • قال أبو سلمة فدخلت على عائشة رضي الله عنها فأخبرتها بحديث أبي سعيد فقالت ما أخطأ له حرفا • ولقد قصر أدبا أخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمثل سبعا قط ولم يبث إلى أحد شكوي • وكانت الفاقة أحب إليه من اليسار والغني وإن كان ليظل جائعا يلتوي ليلته حتى يصبح فما يمنعه ذلك عن صيام يومه ولو شاء أن يسأل ربه فيؤتيه بكنوز الأرض وثمارها ورغد عيشها من مشارقها ومغاربها لفعل • وربما بكيت رحة له مما أوتي من الجوع فامسح بطنه بيدي فأقول نفسي لك
33و
الفداء • لو تبلغت من الدنيا بقدر ما يقوتك ويمنعك من الجوع • فقال يا عائشة إخواني من أولي العزم من الرسل قد صبروا على ما هو أشد من هذا فمضوا على حالهم • فقدموا • على ربهم فأكرم ما بهم • وأجزل ثوابهم • فاحذر أن ترقيت في معيشتي أن يقصر بي دونهم فأصبر أياما يسيرة أحب إلى من أن ينقص إذا خطي في الآخرة • وما من شيء أحب إلي من اللحوق بإخواني وأخلاني • قالت عائشة رضي الله عنها فوالله ما استكمل بعد ذلك جمعة حتى قبضه الله تعالى • وما نقل من أحواله صلى الله عليه وسلم بجمع جملته أخلاق المتواضعين • فمن طلب التواضع فليقتد به • ومن رأى نفسه فوق محله صلى الله عليه وسلم • ولم يرض لنفسه بما رضي هو به فما اشد جهله • فلقد كان أعظم خلق الله تعالى منصبا في الدنيا والدين • فلا عزة ولا رفعة ولا سلطنة ولا شرف إلى في الاقتداء به صلى الله عليه وسلم • قال الله تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحييكم الله ويغفر لكم ذنوبكم • وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم فيرى اختلاف كثيرا • فعليكم بسنتي • وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي • عضوا عليها بالنواجذ • وإياكم ومحدثات الأمور فإنا كل بدعة ضلالة • ولا شك أن غالب ما يفعله ملوك هذا الزمان بدع • لكن الملوك التي سلفت لما لم يقدروا على ما يفعله مولانا السلطان خلد الله ملكه من الأفعال الموافقة للكتاب والسنة واتباع أثار السلف الصالح • لأنها كالجمع بين المتناقضين • احتجبوا عن الخلائق وترفعوا عن الناس • وفعلوا ما لا حاجة إلى ذكره • وتصوروا أن عزة الملك وحشمة السلطنة هو عين ذلك واشتهرت تلك عادة وديدنا • فلو اتفق أن جماعة من الفقراء أو غيرهم كانوا مسافرين ودخل وقت الصلوة فول واحد منهم أذن ونوب للصلوة ربما استسمح بعضهم فضلا عن الأجناد والأمراء ولو شرعوا في أطراف الكلام أو غيبة
صفحه نامشخص
33ظ
أحد فنهاهم واحد منهم لحسن يصعب على بعضهم وهذا أمر مشاهد يلذ بما تفوه بعضهم بشيء من الكلام نحو تتصوف علينا أو هذا درب لا ينقضي إلا بلطائف أو بالأخذ في نتف الكلام ونحوه • ومولانا السلطان يريد أن يحي رسوم الخلفاء الراشدين • ويتبع سنة سيد المرسلين • والله سبحانه وتعالى يقول يأيها الذين أمنوا أن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم • ولقد كنت يوما بحضرته الشريفة فدخل عليه واحد من خواصه وثوبه يرفل فقال له مولانا السلطان خلد الله ملكه • وأجرى في بحر السعادة والبقاء فلكه • لم تصنعون ثيابكم بحيث انه تصل إلى النجاسة وفيه عدة من المحذور • أولا إنه إسراف والله لا يحب المسرفين • وثانيا أنه يتنجس ويترتب عليه عدم جوز الصلوة والله يحب المتطهرين • وثالثا إنه يلجئ الإنسان إلى أن يشتغل دائما برفع ثيابه وضم أذياله • ورابعا إنه لا يستطيع من المشي فإنه يعثر في أذياله وخامسا إنه يسرع إليه الحك والتقطيع • ثم إنه رفقة الله تعالى لمرضاته • ورفع في الدارين درجاته • برز من سومه الشريف أنه إذا أفضل له قماش أن يكون من فوق الكعب • فانظر أيها المتأمل بين هذا القول الذي رسم به مولانا السلطان وبين ما قاله أمير المؤمنين على كرم الله وجهه قصر ثوبك فإنه أتقى • وأنقى • وأبقى • فرق وهل هذان الكلامان الأخارجان من مشكاة قوله تعالى وثيابك فطهر أي فقصر على بعض التفاسير • وإذا راعى إنسان رضي الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في جزئية لا يلتفت إليها غالب العلماء العاملين فكيف يكون مراعاة لما فوقها • فلو حلف حالف أن مولانا السلطان أدام الله تعالى أيامه • ورفع على قمم الأعداء أعلامه • من كبار الأولياء لم يحنث • قيل إن الله تعالى أخفى ثلثا في ثلاث أخفى رضاه في طاعته • وأخفى سخطه في معصيته • وأخفي أولياه في خلقه • فلا تحقرن شيئا من الطاعة
34و
فلعل أن يكون رضي الله تعالى فيها • ولا تحقرن أحدا من الخلق • فلعل أن يكون وليا لله تعالى من بركة التواضع ما روى أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه الصلاة والسلام أن يأتي الجبل ليكلمه فتطاول كل جبل طمعا في كونه محلا للمناجاة • وتصاغر طور سينا فكلمه الله تعالى عليه لتواضعه • وضد التواضع الكبر والتجبر وذلك أجلب شيء لسخط الله تعالى وأعظم موجبات عقابه • قال الله تعالى كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار • قال رسول الله صلى الله عليه وسلم • قال الله تعالى الكبرياء رواء • والعظمة ازاري • فمن نازعني شيئا منهما قصمته • وقال عليه الصلاة والسلام لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر • وهذا القدر كاف في بيان التواضع وفائدته • والكبر وضرره • ومن لم يهتد بأصباح • لم يهتد بمصباح • ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور • فصل في الحلم والعفو والشفقة ولين الجانب قال الله تعالى فيما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانقضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر • وقال تعالي والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين وقال تعالى محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم • وقال تعالى يأيها الذين أمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين لغزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم • وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء وروى بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال المؤمن الذي يعاشر الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم وقال صلى
34 ظ
الله عليه وسلم المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا • روى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل معروف صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق • أن تفرغ من دلوك في إناء أخيك وكان من حسن مداراته صلى الله عليه وسلم أن لا يذم طعاما ولا ينهر خادما روى أن رجلا يقال له أزهر بن حرام وكان بدويا وكان لا يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جاء بطرفة يهديها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه يوما من الأيام فوجده رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق المدينة يبيع سلعة له ولم يكن أتاه ذلك اليوم فاحتضنه النبي صلى الله عليه وسلم من ورائه بكفيه فالتفت فأبصر النبي صلى الله عليه وسلم فقبل كفيه وقال النبي صلى الله عليه وسلم من يشتري العبد فقال إذا تجدني كاسدا يرسول12 الله فقال عليه الصلاة والسلام ولكن عند الله ربح ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لكل أهل حضر بادية وبادية آل محمد أزهر بن حرام • وروى عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله • وفي الحديث الصحيح إن الله تعالى كتب كتابا قبل خلق السموات والأرض فهو عنده فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي روى مسلم رحمه الله من حديث سلمان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض فجعل منها في الأرض رحمة واحد فيها تعطف الوالدة على ولدها • والوحش والطير بعضها على بعض • وإذا كان يوم القيامة أكمله بهذه الرحمة • وفي بعض الروايات فإذا كان يوم القيامة جمعت الواحدة إلى التسعة والتسعين فكملت مائة رحمة حتى أن إبليس ليتطاول إليها رجاء أن ينال منها شيئا ورحمة الله تعالى عبادة هي اسباغ نعمته عليهم والتلطف بهم • ورحمة الخلق بعضهم
35و بعضا هي الرقة • والحنو • والشفقة • وهذا في جانب الله تعالى محال • لأن الرقة والحنو من خواص المخلوقين • والملك إذا رق لرعيته • وعطف عليهم أصابهم بخيره ومعروفه وأيدهم بصداقاته وإحسانه • وبث فيهم ما ينفعهم • ورفع عنهم ما يضرهم • قال معوية رضي الله عنه إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي • ولا سوطي حيث يكفيني لساني • ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت • لأنهم إذا شدوها خليتها وإذا خلوها شددتها • ولما أتى الله تعالى سليمان الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده وهو الملك المشهور • والسلطنة البسيطة • والتكحم في الأنس والجن والطير • والوحش • وتسخير الريح • تفقد الطير الحقير وهو الهدهد • وذلك لوفور شفقته عليه الصلاة والسلام • ولشمول عاطفته • ولعلمه أن الله سبحانه ليستحضر الجواب عن ذلك • وملك سليمان عليه الصلاة والسلام هو انموذج لسائر الملوك والسلاطين • وقيل ان سليمان عليه الصلاة والسلام هو حجة الله تعالى على الملوك والسلاطين المقصرين في أمر الرعية وطاعة الله تعالى وأيوب عليه الصلاة والسلام هو حجة الله تعالى على من ابتلى بمرض في بدنه فقصر في طاعة الله تعالى • ويوسف عليه الصلاة والسلام هو حجة الله تعالى على من استرق فقصر في عبادة الله تعالى • قال حكماء الهند لأسود دمع انتقام ولا رئاسة مع عجب • وقال معوية رضي الله عنه إني لأرفع نفسي أن يكون ذنب أعظم من عفوي • وجهدك أكبر من حلمي • وعورة لا يواريها ستري • وقال المأمون رحمه الله أليس علي في الحلم مؤنة • ولوددت أن أهل الجرائم علموا رأي في العفو فذهب خوفهم فتخلص لي قلوبهم • وقال بعض المذنبين للمنصور يا أمير المؤمنين الانتقام انتصاف • والتجاوز فضل • والمتفضل قد جاوز حد المنصف • ونحن
35ظ
نعيذ أمير المؤمنين أن يرضى لنفسه باوكس النصيبين • وأن لا يرتفع إلى أعلى الدرجيتين فاعف عنا يعف الله عنك فعفى عنه • وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ما قرن شيء إلى شيء أفضل من حلم إلى علم ومن عفو إلى قدرة • وقال المهلب لا شيء ابقي للملك من العفو لأن الملك إذا وثقت رعيته منه بحسن العفو لم يوحشها الذنب وإن عظم • وإن خشيت منه العقوبة أوحشها الذنب وإن صغر حتى يضطرها إلى المعصية • وقال لا تكن على الإساءة أقوى منك على الإحسان • ولا إلى البخل أسرع منك إلى البذل • وقال المأمون رحمه الله إني أجد لذة العفو أعظم من لذة الانتقام وكان يحي بن معاذ رضي الله عنه يقول سبحان من أذل العبد بالذنب • وأذل الذنب بالعفو • الهي إن عفوت فخير راحم • وإن عذبت فغير ظالم • إلهي إن كنت لا ترضى إلا عن أهل طاعتك فكيف تصنع الخاطئون • وإن كان لا يرجوك إلا أهل الوفاء فبمن يستغيث المقصرون • وقال لقمان عليه السلام لابنه يا بني ثلاثة لا يعرفون إلا عند ثلثة الحلم عند الغضب • والسماع عند الحرب • وأخوك الصديق عند الحاجة • وقال الأصمعي رضي الله عنه دفع أزدشير إلى رجل كتابا وقال إذا رأيتني غضبت فادفعه إلي وكان فيه اسكن فلست بألة • إنما أنت بشر • يوشك أن يأكل بعضك بعضا وتصير عن قريب للدود والتراب • وفي التوراة بن آدم أذكر في حين تغضب اذكرني في حين أغضب • وإلا أمحقك فيمن أمحق • وقال الأحنف تعلمت الحلم من قيس ابن عاصم كنت جالسا معه في فناء وهو يحدثنا إذ جاءت جماعة يحملون قتيلا ومعهم رجل مأسور فقالوا هذا ابنك قتله أخوك وها هو مأسور فوالله ما قطع حديثه ولا حل حبوته حتى فرغ من كلامه ثم أنشأ يقول شعر • • أقول للنفس تأنيبا وتعزية • إحدى يدي أصابتني ولم تزد • • كلاهما خلف من فقد صاحبه • هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي •
36و
صفحه نامشخص
ثم قال لابنه قم فأطلق عمك • ووار أخاك • وشق إلى امه مائة من الإبل فإنها غريبة وقيل للإسكندر أن فلانا وفلانا يثلبانك وينتقصانك فلو عاقبتهما فقال فقال هما بعد العقوبة على ثلبي وتنقصي أعذر • وذكر في كتاب جامع الحكايات أن أمير المؤمنين المعتصم كان في غاية الشدة واستمساك البدن ونهاية القوة • وإنه في بعض متصيداته مع المأمون خرج عليه أسد فنزل عن فرسه وقاومه وقطع رأسه وحمله إلى المأمون ثم أنه في أيام خلافته ركب يوما وكان شديد البرد فمر في سيرانه بشيخ كبير قد انحنى ظهره من الكبر وهون يسوق حمارا ضعيفا عليه حطب وقد توحل الحمار في الطين وكل منهما قد تغلب لعجزه وضعفه لا الحمار له نهضة الخلاص من الرجل • ولا الشيخ فيه قوة تعينه على ما هو فيه وقد ضعف الطالب والمطلوب • فرق له قلب المعتصم فأوقف حاشيته مكانهم وتوجه إلى الشيخ وحده فوجده في أشد ما يكون من الحال • ودموعه تتساقط من البرد فنزل عن فرسه • وشمر عن ساعديه • وعزز أذياله في محزمه وجذب الحمار فخلصه من الطين ثم إنه أراد أن يكمل احسانه • ويلحم ما أسداه من الخير بالمعروف فأمر للشيخ بخمس مائة دينار • فلما جاء الشيخ إلى منزله باع الحمار واشترى فرسا • وظهر في حالة حسنة فقال الجيران أنه لقي خبيه وقالوا له أطعمنا مما أطعمك الله وإلا وشينا بك فإنك لقيت كنزا فقال كلا والله ما لقيت شيئا • ولكن لحظتني لواحظ السعادة بعين العطف والرحمة • واشرقت علي شمس السعد فأنجتني من ظلمات الخمول • حكى الإمام أبو القاسم القشيري رحمه الله أن مالك بن دينار رضي الله عنه كان له جار يتعاطى المنكرات ويؤذي الجيران فاجتمعوا إلى مالك رضي الله عنه وشكوه إليه فأحضره وقالوا له إن الجيران يشكون منك لأنك تؤذيهم بما أنت عليه من ارتكاب
36ظ
الفواحش واخرج من المحلة فقال أنا في منزلي لا أخرج منه • فقال له بع دارك فقال ولا يلزمني أحد يبيع ملكي • فقال له نشكوك إلى السلطان • فقال السلطان يعرفني وأنا من خواصه • فقال له ندعوا الله عليك فقال الله ارحم بي منكم • قال مالك رضي الله عنه فغاظني لشدة جداله فلما امسيت قمت إلى الصلاة وهممت بالدعاء عليه فهتف بي هاتف لا تدع عليه فإنه من أوليائنا • فلما أصبحت أتيت إلى بابه ودققت عليه الباب فخرج فلما رآني ظن أني جئت لإخراجه من المحلة فجعل يعتذر فقلت له ما جئت لهذا ولكن رأيت في حقك كذا فبكى وقال إذا كان كذلك فأشهدك أني تائب لوجهه الكريم • ثم خرج من الدار فلم أره بعد ذلك فخرجت بعد مدة إلى الحج فرأيت حلقة في الحرم • فتقدمت إليها فرأيت مريضا مطروحا في وسطها وإذا هو جاري ذلك • فلم البث حتى فارق الدنيا رحمه الله • وقيل أن المأمون ركب يوما بالشماسية ومعه أحمد بن هشام فصاح رجل الله الله يا أمير المؤمنين فوقف له المأمون فقال له إني رجل جئتك من فارس وقد ظلمني أحمد بن هشام واعتد علي فقال له المأمون كن بالباب حتى أرجع وانظر في أمرك فلما مضي التفت إلى أحمد ابن هشام وقال ما أقبح بك أن تقعد أنت وصاحبك على رؤس13 الأشهاد • في دست المظالم • ثم يكون خصمك ظالما وأنت مظلوم • فكيف إذا قعدت أنت وهو وأنت ظالم وهو مظلوم • وهو محق وأنت مبطل • فوجه إليه من يجمله إلى رحلك واسترضه ولا تحوجه إلى الحضور إلى بابنا • فلو ظلمت أبني العباس كان أهون علي من أن تظلم رجلا تعني من شاحط البلاد • وقطع المهامه والبرادي وتجشم ركوب الأخطار • ومكابدة الهواجر • وطول المسافة • وليس له معين ولا ملجأ ولا حيلة • ولا يتيسر له النظر إلى كل وقت • إذا والله لا ننصفه • ثم لا ننصفه • قال فوجه إليه أحمد بن هشام من حوله إلى رحله • وكتب إلى عامله بفارس
37و
يرد ما أخذه منه واسترضاه • وهذا من شفقة المأمون ووفور عاطفته • سامحه الله تعالى • وكان مسلم بن نوفل سيد بني كنانة فضربه يوما رجل من قومه بسيفه فأخذوه وأتوا به إليه فقال لم فعلت هذا أما خشيت انتقامي • قال فلم سودناك علينا • إنما سودناك لتكظم الغيظ • ونغفوا عن الجاني • وتحلم عن الجاهل • وتحتمل المكروه في النفس والمال • فخلى سبيله فقال الشاعر • شعر • تسود أقوام وليسوا بسادة • بل السيد المعروف سلم بن نوفل • ومن أمثال العرب احلم تسد قال هشام لخاله بن صفوان صف لي الأحنف ابن قيس • قان إن شئت بثلاث وإن شئت باثنتين • وان شئت بواحدة • قال بثلث قال كان لا يخوض • ولا يجهل • ولا يدفع الحق إذا نزل به • قال باثنتين قال كان يؤثر الخير • ويتوقى الشر • قال بواحدة قال كان أعظم الناس سلطانا على نفسه • وقال الأحنف رحمه الله وجدت الحلم انصر لي من الرجال وهذا كلام حق • لأن الإنسان إذا استعمل الحلم قام بنصرته كل أحد وانتصف له • وضد الشفقة والرحمة ولين الجانب القسوة • والفظاظة • وقد مر أن الله سبحانه وتعالى فأوت بكمال قدرته بين بني آدم في هذه الأوصاف • وبها يعرف التفاوت بين الرجال • وكان تمرلنك المخذول من افظ الناس واشدهم قسوة على من خالفه وأغبى ملوك الدنيا وكذلك جنده وعساكره وحكاياتهم أكثر من أن تحصر • وأشهر من ان تذكر • حتى أن كف من وقع في أيديهم من الناس عجما أو عربا • حصل له من الشدة والنكال قصة لا تشبه قصة الآخر • فمن أعظم ذلك أنه لما فتك في أصفهان كان من قتل في دفعة واحدة صبوا ستمائة ألف نفس • ثم أن بعض الفقراء استعان ببعض أمراء تيمور فأمره أن يجمعوا شرذمة من الأطفال في مكان ويتركونهم يتصاغون فإذا رآهم تيمور ربما رق لهم ففعلوا ووضعوا على ممر تيمور جماعة كثيرة
37ظ
من الأطفال فلما ركب ومر بهم سأل عن أمرهم فقال له ذلك الأمير هؤلاء أمة مرحومون وطائفة أطفال محرومون • قد شمل الفناء أكابرهم • وعم غضب مولانا الأمير على والديهم وذويهم • وهؤلاء يسترحمون مولانا الأمير لصغرهم • ويتمهم وفقرهم وكسرهم • أن يبقى على من بقولهم • فما رد جوابا • ولا أبدى خطابا • ثم إنه مال بعنان فرسه عليهم وما العسكر معه فجعلوهم طعمة لسنابك الخيل ودقة تحت مواطئ الأرجل وكذلك فعل في بغداد وحلب وغيرها • وكان في عسكره شخص يدعى دولت تمور لم يخلق الله تعالى في قلبه من الخير ذرة • وكان راكبا معه ذات يوم فكان تمرلنك رأى واحدا من العسكر ينعس أو حمله مائل فقال ترى ما تم أحد يقطع رأس هذا الفاعل الصانع ففي الحال توجه دولة تمور إلى ذلك الرجل وقطع رأسه وأتى به إلى تمرلنك فقال ويلك ما هذا فقال رأس الذي أشرت أن تقطع فلم يكترث به بل أعجبه ذلك لكون أمره يمتثل بأدنى إشارة • ولما أخذوا حلب عنوة وقهرا وقتلوا فيها وسفكوا الدماء جمع بعض الناس جماعة من الأطفال في حانوت تحت القلعة فجعلوا يتصاغون ويبكون فمر بهم أمير من أمرائه فكان رق لهم ولم يجد شيئا يفيدهم به ولا ينقذهم مما هم فيه فأمر صبيانه وحاشيته فصعدوا الحانوت وهدوه عليهم فارتدموا تحته وقال إذا ماتوا استراحوا مما هم فيه هذا الشفوق الرحيم الذي في عساكر تيمور ذكر في جامع الحكايات عن بعض جلساء المأمون أنه قال حضرت يوما مجلس المأمون وقد حضر الطعام فقال المأمون للحاضرين ما الذ الأطعمة فقال كل منهم شيئا والمأمون ساكت فلما فرغوا قال المأمون أنا عندي أن ألذ الأطعمة الهريسة لا سيما وفيها قوة الدهن واللحم المضاف ذلك إلى قوة الحنطة مع أن رجلا قال لرجل أنا جائع فما آكل قال كل التراب فقال أفيه ودك يعني أن الودك إذا كان في شيء فإنه يمكن أكله فاستصوب الحاضرون ذلك وسلموا إليه فقال للمتوكل بأمر السماط اصنع
38و
لنا غدا هريسة فقال سمعا وطاعة • ثم قال لنا المأمون لا يتخلف غدا منكم أحد ليأكل من الهريسة فحضرنا اليوم الثاني فقال المأمون الأن تحضر الهريسة فلما جاء وقت السماط أحضروا جميع أنواع الأطعمة ولم تحضر الهريسة فحصل للمأمون بذلك خجل فسأل المتوكل عن ذلك فقال يا أمير المؤمنين نسيت والنسيان من عادة الإنسان ونسي قبلي من هو أجل قدرا مني وأعظم حظرا فقال ومن هو فقال آدم عليه الصلاة والسلام إذ قد أخبر الله عز وجل عنه بقوله ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي فقال المأمون إن كان آدم عليه السلام نسي فإنه جوزي بذلك بأن أخرج من الجنة ونحن أيضا نجازيك عن نسيانك بأن نعزلك عن هذه الوظيفة ولم يزده على ذلك ولم يقصد هذا القول إلا المداعبة وإعلام من حضر أنه لم يؤثر ذلك في حلمه وسعة صدره شيئا • وكان في الحاضرين أحمد بن هشام أحد أعيان المجلس وكان فظا غليظا فلما رأى أحمد المذكور أن المأمون لم يزد على هذا القول ولم يؤاخذ الطباخ بأكثر ما قاله له حصل له من الغيظ والحنق ما لا مزيد عليه وكاد قلبه يتفطر وصار يعض الأنامل من الغيظ فلما تصدع الحاضرون من المجلس جاء أحمد إلى منزله وأمر بإحضار طباخه فلما أحضر أمر به فنزعت ثيابه ثم جلده جلدا مبرحا إلى أن سكن ما به من الغضب والحنق فلما فرغ من ضربه قال له الطباخ يا مولانا الوزير أي كبيرة صدرت مني وبأي جريمة استوجبت هذا العقاب الأليم فقال لأن طباخ الخليفة نسي طبخ الهريسة وخالف أمر أمير المؤمنين ولم يجازه الخليفة بشيء فشق ذلك علي ولم أقدر على الانتصاف منه فانتقمت منك والجامع بينكما علة الطبخ واتحاد والوظيفة • وذكر هذه الحكاية من باب الحلم ثم قال في أخرها فانظر أيها المتأمل تفاوت ما بين خلقي أمير المؤمنين المأمون وأحمد الطوسي وهذه الحكاية تظهر لك سر قوله
38ظ
صفحه نامشخص
عليه الصلاة والسلام إن الله قسم بينك أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم • قال الفضيل رضي الله عنه ثلاثة لا يلامون على الغضب المريض • والصائم • والمسافر • ومما نقل عن دماثة أخلاق الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب سقي الله ثراه شآبيب الغفران • أنه لما ثقل في مرض موته أسند ظهره إلى مخدة وأحضر له ماء فآثر ليشربه عقيب شراب يلين باطنه فشربه فوجده شديد الحرارة فشكا من شدة حره فغيروه وعرض عليه ثانيا فشكى من شدة برده ولم يغضب ولم يصخب ولم يقل سوى سبحان الله لا يمكن أحدا تعديل الماء • ولم يزد على هذا حتى تعجب الحاضرون من لين جانبه ودماثة أخلاقه في تلك الحالة خاصة • وقال القاضي الفاضل والله لو أن هذا وقع لبعض الناس كان قد ضرب بالقدح رأس من أحضره وهذه الأخلاق الشريفة بعينها هي سجية مولانا السلطان خلد الله تعالى سلطنته ومملكته الراسخة في ذاته الشريفة • وإنه قد وجد الحلم والاغضاء والإحسان إلى كافة الخلائق عامة وخاصة أعون له على سيد قلوبهم وأوثق قيد ورباق ربط أعناقهم فبث ذلك فيهم • واصطاد الغريب والقريب • شعر • • ومن وجد الإحسان قدا تقيدا • فالشفقة والرحمة والحنو والعاطفة التي جعل الله تعالى مولانا السلطان عليها قل إن توجد إلا في أفراد الاولياء • وأحاد العباد من الأصفياء • أما شفقته ورحمته للقريب والغريب والصادر والوارد فأجل من أن يحصى • وأعظم من أن يستقصى • ولكن أذكر نكتة من شفقته وحنوه • ووفور مرحمته على مخالفيه ليعلم من ذلك ما منحه الله تعالى من الرأفة والعاطفة ويكون ذلك كالأنموذج على غيره وهو أنه لما أظهر الأجلاب العصيان • ورفعت يد المماليك الأشرفية يد البغي والطغيان • وعصوا في القلعة كما مر وسيأتي بيانه في موضعه سنة
39و
اثنين وأربعين وثمانمائة لزم من هذا أنه توجه إلى القلعة وقصد الهفاء نائر لهم وقمع فسادهم فأقام يحاصرهم فأشار جماعة من العسكر المنصور أنهم يقطعون الماء عن البغاة ليظهروا فقال لا تفعلوا فإن هذا لا يفيدنا شيئا لان في القلعة الضعيف والفقير والحرم والعاجز عن الوصول إلى الماء فما ذنبهم فإن نحن قطعنا الماء عن الناس فأول من يتضرر بقلة الماء وغلبة العطش الضعفة من المسلمين لا نستفيد من القصد بقدر ما نأثم بل نتوكل على الله تعالى ونلقي مقاليد أمورنا إلى تدبيره وزمام تقديره يفعل بنا وبهم ما يشاء ويحكم ما يريد • ثم إن الذين أشاروا بقطع الماء توجهوا من غير أن يكون لمولانا السلطان بذلك علم وقطعوا سبيل أم المؤمنين فاضطررت العصاة وهم بلا ماء ونزلوا طائعين ومناديلهم في رقابهم وإذا كان هذا الشفقة في حق مخالفيه وأعدائه فما الظن بالشفقة والحنو على مطيعيه والمخلصين من أوليائه• وأما وفور شفقته العامة من حق العامة والخاصة ومرحمته وعاطفته لجميع الخلائق • فلو أمكنه أن يجعل جميع الناس أوتادا أولياء وعبادا أصفياء • لفعل وهذا الوصف بعينه كان خلق شيخنا المرحوم الشيخ علاء الدين النجاري تغمده الله تعالى برحمته فإنه كان يقتل نفسه في إجهاده أن يرد الناس عما هم عليه من ارتكاب الهوى • والمساعي الباطلة • وحظوظ الأنفس ويود جهده وطاقته إن يتخلص الخلق من المأثم والمظالم • ويصيروا أتقياء • أبرارا وأذكياء أخيارا• وكان مولانا السلطان خلد الله دولته والشيخ علاء الدين روى الله روضته • كانا فرسي رهان في هذا الوصف السعيد • والخلق الحميد • غير أن مولانا السلطان يتعاطى أسباب ذلك قولا وفعلا بتولية الوظائف • وبذل الأموال • وإعطاء المناصب لأربابها • لحفظ دينهم وتبعيدهم عن الآثام • وتقريبهم إلى ما يرضي الله تعالى ويبلغهم دار السلام • وهذا
39ظ
لعلمه الشريف بأنه راعيهم ومسئول14 عنهم فهو مجتهد في العمل بمقتضى علمه الشريف بما تبلغ إليه طاقته • ويصل إليه اجتهاده فاسأل الله تعالى أن يعطف بقلوب الخاص والعام على طاعته الشريفة • وتحليهم بحلي الإخلاص والعكوف على محبته المنيفة • وينفذ في مسامع اقبالهم مراسيم أوامره • ويقيد ملوك الدنيا بأرباق زواجره • • • فصل في الشكر • قال تعالى وإذ تأذن ربكم لين شكرتم لأزيدنكم • وقال تعالى وقليل من عبادي الشكور • والشكر عند أهل الحقيقة الاعتراف بالنعمة على سبيل الخضوع والله سبحانه وتعالى سمي نفسه شكورا على معنى أنه يجازي العبد على أداء الشكر فعلى هذا إذا أطلق الشكور على الله تعالى يكون مجازا وإذا أطلق على العبد يكون حقيقة قال الإمام أبو القاس القشيري رحمه الله حقيقة الشكر الثناء على المحسن بذكر إحسانه فشكر الله تعالى لعبده المحسن ثناؤه عليه بذكر أفعاله الحسنة وطاعاته فعلى هذا يكون الشكور حقيقة في جانب الخالق والمخلوق وقيل شكره تعالى أعطاؤه الثواب الجزيل على العمل القليل • حكي أن رجلا ريئي15 في المنام بعد موته فقيل له ما فعل الله بك فقال أقامني بين يديه وقال لم خفتني كل ذلك الخوف أما علمت أني كريم • وسئل بعضهم عن أشكر الشاكرين فقال المطيع الذي يعد نفسه من المذنبين • والمجتهد في الفرائض والنوافل الذي يعد نفسه من المقصرين • والراضي بالقليل الذي يعد نفسه من الراغبين والذاكر الذي يعد نفسه من الغافلين • والمواظب الذي يعد نفسه من البطالين • والشكر على أقسام شكر البدن وهو أن لا يشغل جوارحه بغير الطاعة • وشكر القلب وهو أن لا يشتغل في غير ثناء حمده وخالقه ومدحته • وشكر المال وهو أن لا ينفقه في غير رضاه ومحبته • وقيل الشكر أن لا يستعان بنعمة على معاصيه
40و
قال بعض العلماء حقيقة شكر الله تعالى استقامة القلب على أداء جميع الطاعات والاجتناب عن جميع المعاصي • وقال الهلب بن أبي صفرة إذا رأيتم النعم مستدرة فبادروها بتعجيل الشكر قبل حلول الزوال • قال بعض العلماء العارفين في معنى قوله تعالى وقيل من عبادي الشكور أي قليل من يشهد النعمة من أخر حقيقة الشكر للنعمة الغيبة عن شهودها بشهود المنعم تعالى وتقدس اعلم أن شكر الله تعالى واجب على كل مخلوق لأن نعمه شاملة للكل وأول النعم الوجود من العدم • ثم بعد ذلك تزداد النعم وتترادف الآلاء • وكلما زادت نعم الله تعالى على بعد زاد وجوب الشكر عليه فأذن الملوك والسلاطين أشمل نعما من غيرهم فيكون شكر الله تعالى عليهم أوجب وأكثر • بيان ذلك أن السلطان طل الله تعالى في أرضه • وله شطر من حكمه قبل حكمه • وليس فوق يده يد • يده باسطة • وكلمته نافذة • له حصة في الإبقاء والإهلاك • وقسم في المنع والإعطاء • ونصيب من التصرف في عباد الله تعالى وبلاده • كتصرف المالك في ملكه • وتحكم السيد في عبيده • قد نال من منازل الدنيا أعلاها • وبلغ من أرجائها أقصاها • وصعود رده الملك الشامخ • والسلطان الباذخ • فينبغي أنه مثل ما اختاره الله تعالى • لكن يكون فوق كل أحد • وكل أحد تحت حكمه • وأمره كل على إطاعته بالجنة • وأوعد على مخالفته • والخروج عن أمره بالنار فلذلك يجب أن يكون شكره لله تعالى • وانقياده لأوامره فوق طاعة كل مطيع • وانقياد كل منقاد • ولا يرضى من نفسه لله تعالى بيسير الشكر • ولا بقليل الطاعة • ذكر بن عمر ابن عبد العزيز رحمة الله عليه كان يؤتى قبل الخلافة بالثوب بأربعة آلاف درهم فيقول ما أحسنه لولا خشنة فيه فلما ولي الخلافة
40ظ
كان يؤتى بالثوب بأربعة دراهم فيلمسه فيقول ما أحسنه لولا نعومة فيه فيقل له في ذلك فقال إن لي نفسا تواقة ذواقة ما ذاقت شيئا إلا وتاقت إلى ما هو فوقه وأعلى منه فلما ذاقت الخلافة تاقت إلى ما فوقها • ولم يكن شيء في الدنيا فوقها فتاقت إلى ما عند الله تعالى وما عند الله تعالى لا نصله إلا بترك الدنيا فتركها • وحسبك في المثال واحد وهو أن الله تعالى جعل محمدا صلى الله عليه وسلم أشرف المخلوقات وسيد الأنبياء • وخاتمهم • وهذه هي النعمة العظمى • ثم قال له وللإخوة خير لك من الأولى • ولسوف يعطيك ربك فترضى • وهو المقام المحمود • والحوض المورود وقبول الشفاعة حيث يحجم عنها كل شيء مرسل • وملك مقرب • فلا نعمة في الدنيا والأخرى فوق هذه • مع أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر • ثم انظر كيف قابل صلى الله عليه وسلم هذه النعم بأنواع الشكر من بدنه وقلبه ولسانه • إلى أن شد الحجر على بطنه • وقام لله تعالى حتى ورمت قدماه • فقيل له في ذلك فقال أفلا أكون عبدا شكورا • ثم جاهد في الله حق جهاده • وعبد الله حتى أتاه اليقين • ومع هذا قال لا أحصي ثناء عليك تصديقا لقوله تعالى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها • وكما أن نعم الله تعالى كانت في حقه صلى الله عليه وسلم أشمل • كان شكره لله تعالى من جميع الأنبياء والمرسلين • بل من جميع العالمين أوفر وأكمل • ثم قال لا أحصي ثناء عليك • فلما يحصي الثناء الذي هو وظيفة اللسان • وهو أهون ما يكون من الشكر وأيسر طرق الشكر إذ هو قول فكيف يحصي ما هو أعلى من ذلك وهو العمل بسائر الأركان وغيرها وهو فعل ثم اعلم ان نعمة واحدة من نعم الله تعالى تستغرق جميع عمر المنعم عليه بيانه أنه لو شكر الله تعالى واحد على نعمة فتوفيق الله تعالى له لأداء ذلك الشكر نعمة أخرى يجب الشكر عليها وإذا شكر عليها فيجب على شكر آخر فيتسلسل
41و
صفحه نامشخص
إذ ذاك إلى ما لا نهاية له فيستغرق نعمة واحدة جميع العمر في أداء شكرها فما ثم غير التشبث بذيل ما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إليه بقوله لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ثم اعلم أيضا ان نعم الله تعالى لا تتناهى • قال الله تعالى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها • وأفعال العباد محصورة فكيف يحيط ما يحصر بما لا يحصى • مثال آخر وهو أن في نفس الإنسان نعمتين وذلك أن الهواء الذي يتنشقه الإنسان من خارج يتبرد به القلب • وتتروح به الروح • فلو انحبس عنه ساعة مات الإنسان ولو كان دخانا أو غبارا أو نحو ذلك ويستمر مات الإنسان بل لا بد أن يكون معتد لا ليستريح به القلب والروح فهو نعمة وإذا دخل الهواء من خارج إلى بدن الإنسان فإنه نعمة إذا دخل الهواء من خارج إلى بدن الإنسان • ونعمة إذا خرج النفس من بدن الإنسان ففي كل نفس استرواح القلب والبدن الداخل يدخل ببرودة يتروح بها البدن والقلب • وتسكن بها الحرارة الغريزية • والأصح يخرج بالحرارة التي انحبست وإيهما انحبست ساعة مات الإنسان • وهو الذي لا يحتاج إلى دليل • فأي شكر يصور بأداء نفس من هذين النفسين • وقد قيل ان كل ساعة يتنفس فيها الإنسان ألف نفس • ففي كل يوم وليلة عدوا على الإنسان من النعم أربعة وعشرون ألف نعمة • ولا يقدر الإنسان أن يؤدي شكر نفس إلا بأمداد أنفاس فمن يقدر أن يؤدي شكر نفس واحد • لكن ما يدرك كله • لا يترك كله • وإذا كان كذلك فبالشكر يبلغ الوضيع في النسب • درجة الرفيع في الذنب • قال الله تعالى فإذا انفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسألون فيكون العبد الحبشي الشكور • أولى من الشريف الهاشمي الكفور • فإن من ابطأ به عمله • لم يسرع به نسبه • قال سلم الجعفر بن سليمان الهاشمي متولي مدينة النبي صلى الله عليه وسلم احذر أن يأتي غدا يوم القيامة رجل ليس به في الإسلام أب ولا جد فيكون
41ظ
أولى منك برسول الله صلى الله عليه وسلم كما كانت زوجة فرعون أولى بنوح ولوط عليهما الصلاة والسلام من فرعون وامرأتا نوح ولوط عليهما السلام أولى بفرعون من زوجيهما • إذا تأمل الناظر في هذا الكتاب حقيقة الشكر • وكيفية القيام بأدائه • ثم شاهد الشمائل الشريفة السلطانية وتدبر حركاتها السعيدة • وأقوالها السديدة • وأراءها الحميدة • وجدها منسوجة على منوال الشكر • فإن مولانا لم يسد الله إليه نعمة إلا والحمها بالشكر • وطرزها بألوان الذكر والفكر • وقلدها أعناق عباده ليكون له يوم القيامة أعظم ذخر • ومورد الشكر هو القلب واللسان والأركان • قال شعر • • أفادتكم النعماء مني ثلاثة • يدي ولساني والظهير المحجب • وأما لسان مولانا السلطان فلم يزل بأداء شكر نعم الله مشغولا في القرآن العظيم والتسبيح • وأراد الخير • والأمر بالمعروف • والنهي عن المنكر • وأما أياديه الشريفة فكأنها خلقت من أصل الجود ومعدن الكرم • وجوارحه منعكفة على طاعة الله تعالى • والجوارح واللسان أقوى دليل على ما في القلب • فإن الجوارح والأعضاء بمنزلة الخدم • والقلب هو السلطان • والخدم لا يتحرك • ولا يطرف طرفة عين إلا بإرادة القلب • كذا ذكر الإمام الغزالي رضي الله عنه ورحمه في كتاب احياء علوم الدين • وقال عليه الصلاة والسلام في حق المصلي الصابئ لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه • فأولا إن القلب مغمور بالله تعالى ما كانت الجوارح مشغولة بما هو رضي الله تعالى • قال شعر • • إن الكلام لفي الفؤاد وإنما • جعل اللسان على الفؤاد دليلا وقد تقرر أن صلاح الظاهر دليل على صلاح الباطن فاسأل الله تعالى أن يورع
42و
لان يشكر نعمته التي أنعم بها عليه • وأن يوفقه لاكتساب المزيد من نعمه بالشكر كما أجرى نعم عباده على يديه • ويسدده فيما أنعم عليه وما أولى • ويصل نعم دنياه بنعيم أخراه فإن الأخرة خير من الأولى بمحمد واله فصل في الكرم والبذل والسخاء والإيثار • والجود • قال الله تعالى يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة • وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله حي كريم إذا رفع العبد يديه إليه أن يردهما صغرا حتى يصنع فيها خيرا • الكرم ضد اللؤم ويطلق على الخالق والمخلوق وهو في حقه تعالى من صفات ذاته فإنه سبحانه لم يزل كريما ولا يزال كريما ومعناه نفي الدناءة وتنزيهه سبحانه عما لا يليق بجنابه تعالى وتقدس وإذا أطلق على مخلوق فالمراد منه النفيس الخطير الحسن • ومنه قوله تعالى أجرا كريما • رزقا كريما • ومقام كريم • قال الجنيد رضي الله عنه الكريم الذي لا يحوجك إلى وسيلة وقيل هو الذي لا يرضى أن يرفع إلى غير ربه حاجة • وقيل هو الذي لا يخيب رجا الآملين • وقيل هو الذي إذا رفعت إليه حاجة عاتب نفسه كيف لم يبادر إلى قضائها قبل أن تسأله • قال بعضهم رأيت في سوق البصرة جنازة يحملها أربعة وليس معهم مشيع فقلت لا إله إلا الله سوق البصرة وجنازة رجل مسلم لا يشيعها أحد لأشيعها فتبعتها وصليت عليها فلما دفنوه سألتهم عنه فقالوا ما نعرفه وإنما أكثرتنا تلك المرأة وأشاروا إلى امرأة واقفة قريبا من القبر ثم انصرفوا فرفعت المرأة يدها إلى السماء ودعت ثم ضحكت وانصرفت فتعلقت بها وقلت لها أخبريني بقصتك فقالت إن هذا الميت ابني ولم يترك من المعاصي شيئا إلا فعله فمرض ثلثة أيام فقال يا أمي إذا أنا مت فلا تخبري الجيران
42ظ
بموتي فإنهم يفرحون بموتي ولا يحضرون جنازتي ولكن اكتبي على خاتمي لا إله إلا الله محمد رسول الله وضعيه في إصبعي وضعي رجلكي على خدي إذا مت وقولي هذا جزاء من عصى الله فإذا دفنتيني فارفعي يديكي إلى الله عز وجل وقولي اللهم إني رضيت عنه فارض عنه فلما مات فعلت جميع ما أوصى به فلما رفعت يدي إلى السماء ودعوت سمعت صوته بلسان فصيح انصرفي يا أمي فقد قدمت على رب كريم رحيم فرضي عني فلذلك ضحكت سرورا بحاله • وأما البذل فهو الإعطاء مطلقا • وأما الجود فقيل هو إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي لمن ينبغي كإعطاء السلاح للمغازي • والكتاب للعالم • والثوب للعريان • والطعام للجائع • وإيصال كل محتاج إلى ما هو محتاج إليه • والحاصل أن حقيقة الجود تنزيل كل شيء في محله وهذا كما قال عيسى صلوات الله وسلامه عليه لا تضعوا الحكمة في غير أهلها فتظلموها • ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم • وقال الشاعر • شعر • إذا أنت أكرمت الكريم ملكته • وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا • فوضع الندا في موضع السيف بالعلا • مضر كوضع السيف في موضع الندا • وأما السخاء فهو سماحة النفس وسهولتها عند البذل وبذل الرغائب في مواضعها وهو قريب من الجود غير أن السخاء غريزة • وفي مقابلته الشح • وفي مقابلة الجود والبخل • وفي مقابلة البذل الإمساك • وفي مقابلة الإعطاء المنع • وفي مقابلة الكرم اللوم • وأما الإيثار فهو تقديم الغير على النفس • وإعطاء الشيء لمستحقه مع كون المعطي أكثر استحقاقا • وأشد احتياجا • إليه وهذا أعلى المقامات • قال أبو يزيد البشطامي رضي الله عنه رأيت شابا من الزهاد جاء من بلخ فسألني عن الزهد فقلت إذا وجدنا أكلنا • وإذا فقدنا صبرنا • فقال هذه عادة الكلاب عندنا في بلخ لكن الزهد عندنا إنه إذا فقدنا شكرنا • وإذا وجدنا آثرنا
43و
وفي مثل هذا المقام نزل قوله تعالى ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة • قيل أهدي إلى واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رأس شاة مشوي وكان مجهودا فوجه به إلى جاره فتداوله سبة أنفس ثم عاد إلى الأول فأنزل الله تعالى هذه الآية وفي رواية فقال إن أخي فلانا وعياله أحوج إليه منا فبعث به إليه فلم يزل يبعث به واحد إلى واحد حتى تداوله سبعة أبيات حتى رجع على الأول فنزلت وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصابه جهد فقال يرسول الله إني جائع فأطعمني فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أزواجه هل عندكم شيء فكلهم قلن والذي بعثك بالحق نبيا ما عندنا إلا الماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عندنا ما نطعمك هذه الليلة ثم قال من يضيف هذا هذه الليلة رحمه الله فقام رجل من الأنصار فقال أنا يرسول الله فإني به منزله فقال لأهله هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكرميه ولا تدخري عنه شيئا فقالت ما عندنا إلا قوت الصبية فقال قومي عليهم عن قوتهم حتى يناموا ولا يستطعموا شيئا ثم اشرحي فإذا اخذ الضيف ليأكل قومي كأنك تصلحين السراج فأطفئيه وتعالي نضع السنتنا لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يشبع ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم • فقامت إلى الصبية فعللتهم حتى ناموا عن قوتهم ولم يطعموا شيئا • ثم قامت فأثردت وأسرجت • فلما أخذ الضيف ليأكل قامت كأنها تصلح السراج فأطفأته فجعلا يمضغان ألسنتهما لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وظن الضيف أنهما يأكلان معه حتى شبع الضيف وباتا طاويين فلما أصبحوا عدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم • فلما نظر إليهما تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لقد عجب الله من فلان وفلانة هذه الليلة فانزل الله تعالى هذه الآية • وروى أن أبا الحسن الأنطاكي رحمه الله اجتمع عنده نيف وثلاثون
43ظ
صفحه نامشخص
رجلا بقرية الري وله أرغقة معدودة لا تشبع خمسة منهم فكسروا الرغفان واطفئوا السراج وجلسوا للطعام فلما رفع الطعام إذا هو بحاله لم يأكل أحد منهم شيئا إيثارا منه أصحابه على نفسه • وحكي عن صديقه العدوي رحمة الله عليه قال انطلقت يوم اليرموك لطلب بن عم لي بين القتلى ومعي شيئا من الماء • وكان ذلك اليوم شديد الحر والعطش استشهد فيه جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم وهو يوم مشهود • فكنت أقول إن لقيت بن عمي سقيته ومسحت وجهه • فإذا أنا به وهو على أخر رمق فقلت أسقيك فأشار أن نعم فسمعنا رجل من الجرحى فقال آه فقال بن عمي انطلق به إليه فإذا هو هشام بن العاص فقلت أسقيك فقال آخر آه فقال هشام انطلق به إليه فتوجهت نحوه فلم أدركه إلا وقد مات • فرجعت به إلى هشام فلقيته قد مات • فرجعت إلى بن عمي فإذا هو أيضا قد مات • رضي الله عنهم • حكاية ذكرها الشيخ كمال الدين الدميري في باب القاف عند ذكر القط عن بن خلكان في ترجمة ابن بابشاد النحوي فلتنظر هناك • ومن أغرب ما وقع في هذا الباب ما ذكره أبو محمد الأزدي قال احترق مسجد بمصر فظن المسلمون أن النصارى أحرقته فذهب جماعة من المسلمين وأحرقوا خانات النصارى فقبض السلطان على جماعة من الذين أحرقوا الخان وكتب رقاعا في بعضها القتل وفي بعضها الجلد ونثرها عليهم وأمرهم أن يأخذ كل واحد منهم ورقة • وإن يجري عليه ما هو في ورقته • فوقع في يد واحد منهم رقعة فيها القتل • فقال والله ما بي أن أقتل ولا أبالي به إذ لا بد من الموت ولكن لي أم ضعيفة يضيع أمرها بعدي • وكان إلى جانبه واحد من الفتيان من رفقائه فقال أنا في رقعتي الجلد • وليس لي كلفة أم ولا ورائي علقة • وأنا كما قيل • شعر • لولا التكلف عاش الناس عيش هناء • لولا التعلق مات الناس موت رضى •
44و
فادفع إلي رقعتك وخذ رقعتي فدفع إليه رقعة القتل وأخذ رقعة الجلد فقتل ذلك ونجا هذا وهذا كما قيل شعر • يجود بالنفس إذ ضن الجواد بها • والجود بالنفس أقصى غاية الجود • يقول إنما نجا ذلك ببركة بره أمه • وقال بعض الأولياء رحمهم الله تعالى حقيقة الإيثار أن تؤثر بخط أخرتك فإن الدنيا أقل خطر من أن يكون لإيثارها محل أو لذكرها قدر • كما قيل إنه سعي بالصوفية إلى الخليفة وقيل إن ههنا جماعة سكنوا القبور ورفضوا الدنيا وهم يدعون الخلائق إلى رفض الدنيا وقطع الأسباب والعلائق ويلزم من هذا تعطيل أمور الناس وتبديد معايشهم وما هم إلا زنادقة • وكان ذلك في زمن الجنيد رضي الله عنه • فأرسلوا إليهم وقبضوا عليهم • منهم الشحام • والدقاق • وأبو الحسين النوري • وبسط النطع لضرب رقابهم • فتقدم أبو الحسين النوري وقال للجلاد أريد أن تضرب عنقي قبل رفاقي فتعجب الخليفة والحاضرون من ذلك إذ هذا خلاف المعهود ممن يؤمر بقتله ثم سألوه عن موجب ذلك فقال لم يبق لنا في الدنيا غير أنفاس قليلة فأنا أوثر أصحابي بها ليذكروا الله تعالى فيها ويسبحوه ويتلوا القرآن فيكتب لهم الأجر فعند ذلك قال الخليفة لا تتعاطى أمر هؤلاء من غير تدبر وترو • ثم أحضروا العلماء وطرحوا عليهم مسائل فقهية وأجابوا عنها بأحسن جواب من جملتها كيف زكاة الذهب فقال النوري عندكم في كل عشرين دينارا إذا حال عليها الحول نصف دينار • وأما عندنا فيجب فيها عشرون دينارا ونصف دينار فقال ولم قال غرامة وجناية لأنا أمسكنا متاع الدنيا فنحن من أين ومتاع الدنيا من أين وشرع يقول إن لله عبادا إذا قاموا قاموا بالله • وإذا نطقوا نطقوا بالله • وسرد ألفاظا أبكى بها الخليفة الحاضرين وصدع بها كما قلت • • الروح إن تخرج كلأة صادقا • تصدع به القلب الأصم الجلمدا •
44ظ
فقال بعض الحاضرين من العلماء إن كان هؤلاء زنادقة فما في الدنيا صديق ولا مسلم فقال لهم الخليفة ارفعوا إلينا حوائجكم فقالوا حاجتنا أن لا تسألوا عنا ولا تطلبونا فلا نراكم ولا ترونا • ومولانا السلطان خلد الله تعالى أيامه • وأطال تحت ظله الشريف أيام الملك وأعوامه • هو المختص بأعلى هذه المقامات • والواصل في ذروة الكرم والسخاء إلى أعلى الدرجات • فلقد طفق بهم جوده وفائض نواله الشرق والغرب • وروت بحار بذله وعطائه رياض الآمال • وحدائق رجاء ذوي الفضل والأفضال • ولقد اصطاد بهباته العميمة • وصدقاته الجسيمة • قلوب جميع الخلق ما بين سلطان ووزير • ومأمور وأمير • وكبير وصغير • وبعيد وقريب • ومعرفة وغريب • فاهرع إليه الأقارب والأجانب • وأسرع إلى تقبيل أرض العبودية وبساط • الطاعة الموافق والمخالف • واغتنم الملوك الامتثال أوامره الشريفة • وبادرت أكابر أطراف الأرض إلى الإكتحال بنور طلعته السعيدة المنيفة • وما ذاك لعموم صدقاته فقط • ولا لفيض أياديه فحسب بل لما انتشر في الآفاق من صيت ثنائه الجميل العاطر • وتقدمت إلى الأطراف من عوائد إحسانه الجليل الماطر وكأنه كان آلى على نفسه أن لا يدخر شيئا • ولا يحرم سائلا قط • وإنه يبذل جميع موجوده • ويؤثر بكل ما تحويه يداه الشريفة • وهذه العادة الشريفة من مبتدأ أمره • وقديم أيامه ولقد كان إذا جاءه سائل ولم يكن بحضرته شيء يتصدق عليه بقماش الخيل والفرش ونحو ذلك وربما دخل إلى الطشتخاناه والفراشخانه فمهما وجده من أثاث ونحاس أعطاه السائل وأوصاه بإخفاء ذلك بالإسراع لئلا يطلع عليه أحد من جماعته وهذه هي الصدقة المخفية بعينها التي عناها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه • وهذه
45و
نكتة من عادة الأولياء • وخواص الخواص الأتقياء • كان الإمام أبو سهل الصعلوكي رضي الله عنه من الأجواد الأخيار • والعباد الأبرار • وكان يوما يتوضأ في صحن داره فدخل عليه سائل فقال له اصبر حتى أفرغ ولم يكن عنده شيء سوى القمقمة التي يتوضأ منها فلما فرغ أعطاه القمقمة وقال أسرع لئلا يراك أحد فيأخذها منك ثم صبر حتى علم أن السائل أبعد وفات من يطلبه • ثم صاح وقال دخل إنسان وأخذ القمقمة فخرجوا خلفه وطلبوه فلم يدركوه • وما كان قصده بهذا الإعلام الا عدم وقوع المريدين بعضهم في بعض ودفع تهمة بعضهم عن بعض • فالحمد لله الذي وافقت أفعال مولانا السلطان خلد الله دولته أفعال أولياء الله تعالى • ومما تواتر من صدقات مولانا السلطان وفيض أياديه الشريفة أنه من حين قدر على شيء من مال الدنيا وإلى حين ولي أمور المسلمين • وتشرف بميامن ولايته الدنيا والدين • لم يجب عليه زكاة قط • وكأنه من شأنه الشريف كما قيل • هو البحر من أي النواحي أتيته • فلجته المعروف والجود ساحله • تعود بسط الكف حتى لو أنه • تناهي لقبض لم تجبه أنامله • ولو لم يكن في كفه غير روحه • لجاد بها فليتق الله سائله • وقيل إنه كان من علمه الشريف أنه إذا جاء إليه أحد من مماليكه وخدمه لطلب مركوب أو نحوه فمهما كان بحضرته من ذلك الجنس أعطاه إياه على الحظ والنصيب فربما طلب أحد مماليكه فرسا فيعطيه فرسا ثم يعود إليه ويقول يا مولاي هذا الفرس ظالع أو لا يصلح للركوب فيقول له يا ولدي هذا الذي فتح الله تعالى به وقسم إن لم ينفعك بعه وارتفق به وإذا فتح الله تعالى بشيء غيره أعطيناك ترى هل فوق هذه المكارم ودماثة الأخلاق درجة • ومما اشتهر عنه من جميل الصفات يدفع الله تعالى في الدارين الدرجات • إنه في بعض الأوقات كان مضيقا عليه في مكان
45ظ
فكان يصر الدراهم وغيرها ويلقيه على الطرقات فإذا سئل عن سبب ذلك قال ربما يقع ذلك في يد مستحق وهذا النوع من الكرم والجود كان يفعله جونة صاحب الهند وهو أحد الملوك المشهورين بالعظمة والجود والسخاء • ونظير هذه الحكاية ما حكي عن أمير المؤمنين المتوكل على الله أنه كان عنده مملوك يدعى الفتح وكان في الجمال • وجميل الخصال • في غاية الكمال • فأحبه المتوكل واتخذه في مقام الولد وأقام عليه من علمه فنون العلم والأدب • وكان دون البلوغ ومن جملة ما أراد تعليمه السباحة • وكان الملاحون يترددون إليه كل يوم يعلمونه العوم والسباحة فاتفقوا أنه في بعض الأيام القى نفسه في دجلة بغداد ليسبح فقوى عليه التيار وغلبه فما وسعه غير الاستسلام لأمر القادر الجبار • وعدم مقاواة التيار • واسترسل في الماء إلى أن غاب عن أعين الناس • ثم اجتهد وسارق الماء إلى أن ألقى نفسه في كهف نقبه الماء من طول المرور فالتجئ إليه واشتهر فيه مدة سبعة أيام منتظرا من الله تعالى ما يقدره له من الفرج • فلما سمع المتوكل بذلك اسودت الدنيا في عينيه واضطرب وحزن حزنا شديدا لا مزيد عليه • ثم دعي الملاحين وقال من أتاني بجنة الفتح أعطيته ألف دينار فشرع السباحون والغواصون يطلبونه بالفتح حيا فما تتصدق به علي قال خمسة ألاف دينار فأخذ مركبا وذهب إليه وأتى به سالما فلما رآه المتوكل سجد لله شكرا وأعطى الملا ما جعله له ثم دعا بطعام للفتح ليأكله فقال إني شبعان فقال المتوكل سبحان الله لك سبعة أيام في الماء ثم تقول أنك شبعان فمن أين كنت تأكل • قال بينما أنا في ذلك النقب إذ مر بي طبق عليه نحو من عشرين رغيفا فاجتهدت إلى أن تناولت منه ما سد رمقي في هذه المدة وكان مكتوب على كل رغيف محمد بن الحسن الإسكاف فتعجب الخليفة من هذا الأمر ورسم
46و
صفحه نامشخص
فنودي ليحضر إلى أبواب أمير المؤمنين من كان يلقي الخبز كل يوم في دجلة ليكافئه • فحضر رجل وقال أنا كنت ألقى الخبز فقال له الخليفة وما علامة ذلك قال اسمي • مكتوب على كل رغيف وهو محمد بن الحسن الإسكاف فلما ظهر صدقه قال له الخليفة ما حملك على ذلك قال سمعت من الأكابر يقولون ازرع الجميل والق في البحر فلا بد أن يثمر يوما فأردت تجربة هذا المثل فقال له الخليفة لا جرم أثمر زرعك ثم أمر له بخمس ضياع من قرى بغداد تكون له رزقة ولأولاده من بعده • قال راوي هذه الحكاية إن الخير لا يبور أبدا ولكن اين من يتنبه لهذه اللطائف الا من أيقظه الله تعالى كمولانا السلطان خلد الله تعالى أيامه الزاهرة • وجمع له بين خيري الدنيا والأخرة • قال لي الجناب القضاي الفرسي السخاوي أحد بطائن الخير والناصحين لهذه الدولة الشريفة قلت يوما لمولانا السلطان خلد الله أيامه وقد شاهدت عميم صدقاته • وفيض هباته • ومنحه المال لكل أحد بما لا مزيد عليه • يا مولانا السلطان إن المال يدخر لكائنة تقع • أو لحادث يكون • ولما يحتاج إليه من وقت ضيق أو شدة ومولانا السلطان وإن كنت همته الشريفة لا تدرك • وكرمه وسخاؤه لا يحصر • لو ادخر شيئا من هذه الأموال • وأبقى على بعض شيء منها • فربما يقع الاحتياج إليه فما كان جواب مولانا السلطان إلا إن قال أو هذا الذي أفعله بالمال من الإعطاء والهبات هو جودا ويقال له كرم وسخاء أنت أرني مالا وانظر كيف يكون الكرم والنوال والسخاء بالأموال • قال فأسكتني وعلمت أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وهذا من باب تلقي المخاطب • بغير ما يترقب • كقوله تعالى يسئلونك ماذا ينفقون قل ما انفقتم من خير فللوالدين والأقربين الآية • كما قيل شعر • أنت تشتكي عندي مزاولة القرى • وقد رأت الضيفان ينحون منزلي •
46ظ
فقلت كأني ما سمعت كلامها • هم الضيف جدي في قراهم وعجلي • وكان مولانا السلطان أظله الله تعالى تحت سحاب نعمه • وروي حدائق الفضل من سيول كرمه • هو الذي أنشد شعر • ملأت يدي من الدنيا مرارا • فما طمع العواذل في اقتصادي • ولا وجبت على زكاة مال • وهل تجب الزكاة على الجواد • فائدة ادخار الأموال ورفعها إلى بيت الأموال والخزائن إنما هو طريق ملوك الطوائف والهند والصين والسند وملك الروم • وأما الملوك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين فلم يكن لهم بيت مال بل كانوا كلما حصل لهم مال من الغنائم والفتوحات وغيرها فرقوه على جندهم ورعاياهم • وكانت الرعايا هم الأجناد والحماة وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان يجوع نفسه الشريفة أكثر من ما كان يشبعها لا لأنه ما كان يجد الدنيا لكن بهوانها وذلتها وقلتها عنده ومات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة في صاع من شعير عند يهودي • وكذلك الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان • وعلي • وغيرهم الحسن • وعمر بن عبد العزيز • رضي الله عنهم • والنبي صلى الله عليه وسلم لما فتح البلاد كانت تجيء إليه الأموال • فيفرقها ليومها • وكانت توضع في المسجد على الانطاع فيغرقها • وكذلك المغانم ويعطي عطاء من لا يخشى الفقر • ولم يكن له صلى الله عليه وسلم بيت مال ولا للخلفاء الراشدين من بعده • وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجد • وروى أبو جاود في السنن أنه عليه الصلاة والسلام صلى العشاء ودخل حجرته وخرج مسرعا وبيده خريقة فيها ذهب فقسمه ثم قال ما ظن آل محمد لو أدركه الموت وهذا عنده • الآل مفخم المتعظم ولو وردت ما ظن آل بالإضافة لكان له وجه وما استفهامية من الوجهين فائدة
47و
أخرى تفريق المال في وجوهه أهون وأيسر من جمعه من أي جهة كانت مع عدم المبالاة لأن في تحصيله أيضا على هذا الوجه تحمل أوزار وآثام ولا بد أن الله تعالى مسائل عبده عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه فيكون أقل الدرج الحساب • ولولا الحساب خاب الاكتساب • وهل سمع في هذا العصر أو قريبا منه أن أحدا من الملوك جاءه مال جزيل من جهة من الجهات فرده وخاف حسابه وعقابه • لكن مولانا السلطان نصر الله الإسلام بوجوده • وغمر المسلمين بصداقته وجوده • كان من بعض ورعه وتعففه عن الشبهات أن رد على الفرنج أكثر من ثلثمائة ألف أفلودي جاءته وورد عليه وردها صفوا • وذلك ما ذكر لي بحضرته الشريفة زاد الله شرفها • وأعلى في قصر الدوام غرفها • الجناب العالي القضائي الولي الصفطي الشافعي عظم الله تعالى شأنه أنه لما من الله تعالى به على الإسلام والمسلمين • وأضاء بمشكاة طلعته الشريفة معالم الدنيا والدين • أخذ في هدم ما بنى من المظالم • ونقض ما أسس على الجود والمأثم • والخلاص من ما تحمله من قبله من المغارم • فمن ذلك أن الملك الأشرف أبا النصر برسبآي تغمده الله تعالى برحمته كان قد جمع أكابر الفرنج المستأمنين بإسكندرية ومصر والمتسببين بالممالك الشريفة الإسلامية وحجر عليهم أن لا يتجروا ببلاد الإسلام • وشوشوا عليهم بهذا السبب وغيره • ثم ألت القضية إلى أن ألزموا بمبلغ ثلثمائة ألف أفلودي وكسور في بطن ما يفسح لهم من التجارة والتسبب ببلاد الإسلام وكتب بذلك عليهم شهادات بشهود عدول وأثبت ذلك على القضاة وكان مستند من تعاطي هذه الأمور أن هذا مال ينفع الله به المسلمين • أو بنصرة جيوش الموحدين • فليدخر لما يحدث من جر منفعة أو دفع مضرة • فلما أشرقت الدنيا بأنوار الدولة الشريفة الملكية الظاهرية وكان علمها الشريف محيطا بأن ذلك كتب بطريق القسر والجبر والإكراه والقهر برزت المراسيم الشريفة
47ظ
بإبطال ما كتب من ذلك لكونه على غير الأساس الشرعي وقال مولانا السلطان نصره الله وأيده وثبت ملكه وخلده • إن كان الله تعالى قدر أن يمهدها قد أمرنا لفوز الدين • وينصرنا على الأعداء المتمردين • فلا حاجة بنا إلى هذا المال الخبيث • وإن كانت والعياذ بالله الأخرى فلا يفيدنا مال ولا رجال • فعلى كل حال لا تذمم مال أهل الذمة • ثم دعا من كتب ذلك عليه ودفع مكاتبته إليه • فلما رأت الفرنج إلى هذه القضية • سارعت إلى تهيئته شيء من الهدية فقدموا شيئا يساوي عشرة آلاف دينار وأكثر فلم يقبل مولانا السلطان خلد الله ملكه من ذلك ما يساوي الدرهم الفرد • ورد ذلك كله عليهم • وهذا الورع لا يكاد يفعله أحد إلا إن كان الجنيد البغدادي • أو إبراهيم بن أدهم • رضي الله عنمها • أو من يداينهما في زهدهما • ولو اتفق أن أحدا استفتى في هذه القضية أحد من العلماء بحل تناول هذا المال واستنبط له دليلا وأقل الأشياء كان يفتي بحل تناول الهدية وهذه نكتة من تورع مولانا السلطان في ادخار المال رغبة ليس له هذا أيضا رغبة في تحصيله من أي جهة كانت بل يتحرى جهات حصوله ويتوقى الشبه • وكانت الملوك السالفة • والسلاطين الماضية • من يد يد يده قد تعودوا أخذ شيء من القضاء في مقابلة ما يولونهم وظيفة القضاء واستمر ذلك عادة وديدنا حتى كأنه صار سنة ورسما معهودا • وإن قوله مخل بقواعد السياسة • واعتاد ذلك من يسعى في طلب القضاة حتى صاروا يتغالون في ذلك • ويتزايدون في رفع الأموال ولا يبالون بكلام الناس • وهذه البدعة السيئة كانت إحدى الحجج التي اعتل بها تمور على ملوك الشام وسلاطينهم • والسبب الباعث له على التوجه إلى بلاد الشام وكان في بعض مراسلاته إليهم أنهم يبيعون وظيفة القضاء ويرتشون على تولية المناصب الدينية ولا يلتفتون إلى من يستحقها بل يعطونها لمن دفع إليهم الذهب سواء كان عالما دينا أو فاسقا جاهلا • ويصيب أيضا العلماء والفقهاء لكونهم لا يتعففون عن ذلك ويقولون
48و
الوظائف بالرشي • ويذلون أنفسهم والعلم الذي من حقه أن يكرم ويرفع محله ويقول وإذا دفعوا في مقابلة وظيفة القضاء والتحكم في دماء الناس وأموالهم مالا فمن أين يأخذون عوضه إلا من أموال اليتامى • والارتشاء على الأحكام • والاستيلاء على الوظائف وقطع أرزاق المستحقين من الفقهاء • وطلبة العلم • والاستطالة على الناس بكل ما تصل إليه يدهم • وبويع المظالم على بلاد الله تعالى وعباده • وإذا فعل ذلك في المنصب الذي هو أعلا مناصب الدين • ووظيفة الأنبياء والمرسلين • وهو القضاء الذي به يميز الحلال عن الحرام • ملوك الناس وعلما وهم الذين هم أعلا الناس فلا عتب على العامة إذا أكل بعضهم بعضا • ثم أن تيمور جعل هذه ذريعة إلى توجهه على بلاد الشام • وإن جميع ملوك المشرق والمغرب ينتقمون على ملوك الشام • وقصر هذه الخصلة الوبيلة • فأما بن عثمان فإن عادتهم أنهم كل سنة يرسلون إلى سائر ممالكهم ويتفحصون عن أمور القضاة بحيث أن قضاتهم ينادون في كل مدينة كل من ظلم من القاضي أو قطع القاضي ممانعته فعليه بالملك العادل ابن عثمان • وإذا ولي بن عثمان قاضيا يقول له على شرط أنه إن ظهر عليك أنك ارتشيت على حكم الله تعالى أو حكمت لغرض بغير الحق أطعمتك لكلابي • إلى أن من الله سبحانه وتعالى على الإسلام والمسلمين بولاية مولانا السلطان جعلها الله ولاية دائمة وبإحياء الشريعة المطهرة قائمة • فأبطل هذه العادة البشعة • وأمات هذه البدعة الشنيعة • وصار أكره الخلق إليه من يدفع مالا في مقابلة ولاية القضاء • وجعل يرسم لمن يتق به ويقول كل من رأيتموه صالحا لوظيفة من الوظائف وخصوصا وظيفة القضاء إلى مصر أعلا مناصب الدين ارفعوا أمره إلينا • ثم أنه في شهور سنة ثلاث وأربعين وثمانمائة قدم المرحوم القائي علاي16 الدين بن خطيب الناصرية من حلب وسعى أن يتولى وظيفة القضاء بها وبذل في مقابلة ذلك نحوا من ألفي دينار فاستشاطت الخواطر الشريفة بسبب ذلك فقيل يا مولانا
48ظ
صفحه نامشخص
السلطان إنما فعل ذلك على وجه الهدية لا في مقابلة الوظيفة فقال مولانا السلطان لما قدمنا مع العساكر إلى حلب هذا أهدى إلينا رأس غنم أو عشرة أجنحة من طير الدجاج فلولا أن له غرضا فاسدا لما أهدى الفي دينار فقال القاضي علاي الدين وأقسم بالله أنه إنما فعل ذلك غيرة على الدين وصونا لأحكام الشريعة المطهرة وإنه لا يأخذ في مقابلة ذلك من أحد من خلق الله شيئا • وإنه يخاف إن ولي هذا المنصب غيره أن يقع الخلل في أحكام الله تعالى أما لجهله أو لغرض فاسد • وكان القاضي علاي الدين المذكور من أهل العلم والمعرفة بالأحكام فلما تحقق مولانا السلطان ذلك منه قال فإذن نوليه بغير شيء وفعل ذلك • ثم إن القاضي علاي الدين المذكور استشفع إلى الأبواب الشريفة بأهل الخير والدين والصلاح وبكل من هده جميل بأن هذا مال حلال من غير شبهة وقد خرجت عنه وقد سمعت أن المراسيم الشريفة برزت بتهيئة أغربة ومواكب لمجاهدة أعداء الله فليصرف ذلك المال في هذا الوجه لعل الله يقبل ذلك فيكون لي فيه أجر • وإن قد وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا وأنا في غنية فيكون هذا أبعد ما بين يدي من لأمور أخرى فقبل اليسير منها بجهد • وصرف إلى الوجه المذكور • والعمل الصالح المبرور • ثم إن القاضي علاي الدين المذكور لم ينشب أن توفي إلى رحمة الله تعالى • وهذا إلا بنية مولانا السلطان أنار الله ضهيره • وأما بنية القاضي علاي الدين وإيمانه التي حلفه • وهذه العادة الشنيعة لما هدمها مولانا السلطان وبرزت المراسيم الشريفة بتولية كل من كان للقضاء أهلا من العلم والدين • والعفة والمعرفة بأحكام الشرع ودرية القضاء • وفصل الحكومات • فأختار لهذه الوظيفة النفيسة • والمنصب العالي بدمشق من يليق بذلك كالشيخ الإمام العلامة برهان الدين الباعوني فلم يقبل فازدادت رغبة مولانا السلطان في المشار إليه وتوفر اعتقاده فيه
49و
وذلك في شهور سنة أثنين وأربعين وثمانمائة إلى أن وقع الاختيار على قاضي القضاة شمس الدين أبي عبد الله محمد الوناي الشافعي فتجهز إليها في شهور سنة ثلاث وأربعين وثمانمائة • فأجي شعائر الشرائع • ونصر الحق • ونصر المظلوم • وأوصل الحق إلى مستحقه جهده وطاقته إلى أن حج ورجع على الدرب المصري • واستقال منها • وذلك لعفته وزهده • واشتغاله بمذاكرة العلم الشريف • وطلب ما هو الأهم • وإذا رفع إلى الخزائن الشريفة شيء من الأموال لم يزل نصيب العين حتى يفوق على الجهات المبرورة وفي المصالح المشكورة • حسبما ذكر وما هو مشاهد • وهاهنا دقيقة غامضة لا يكاد يهتدي إليها إلا من وفقه الله تعالى وأرشده إليها مثل مولانا السلطان أنار الله بصيرته وعمر بواردات أنسه سريرته • وهي أن المال ليس محبوبا لعينه • ولا مطلوبا لذاته • بل إنما هو واسطة بين صاحبه وبين الأغراض المطلوبة مثل استجلاب خواطر الأولياء • وقهر الحساد • والأعداء • وإذا صرف إلى قهر الأعداء وكسرهم • فهو بين أمرين بين أن ينجح ويظفر بهم وبين أن لا ينجح فيضيع كل ذلك ويزيد عليه تحمل مشاق البدن ووهن العساكر • وتعب الأولياء والأصحاب • وحصول ما يترتب على ذلك من شماتة الأعداء • وظفر الحساد • كما فعله الملك الأشرف في التوجه إلى آمد بسبب عثمان وايلوك التركماني • لكن الطريق الأسلم • والخلق الأكرم • في ذلك تعاطي أسباب نصرة الموافق • واصطياد الأعداء • والمخالف باللطف والرفق • وبذل الأموال • وبذر حبات الإحسان • والإيثار تحت شباك مكارم الأخلاق • لإيقاع عصافير القلوب في شرك المحبة والطاعة • والانقياد بالسمع والطاعة • عملا بقوله صلى الله عليه وسلم ما كان الرفق في شيء الا زانه ولا فرق بين خزن المال • وخزن التراب والأحجار • وفي المثل لا طعم للشهد إلا في الفم وإذا كان لا بد من صرف المال لنيل المآرب وحصول المقاصد فبالطريق الأحسن
49ظ
أولى • ويبقى الثناء الحسن • وراحة القلب والخاطر • ورفاهية الجند والعساكر • واكتساب الدعاء والثناء • والظفر من كل الناس برق العبودية والولاء • والتيقن بحصول المقصود زيادة على ما في النفس • اللهم إلا إن كان الخصم لا يرضى إلا ببذل الروح • وينتصب للمناوشة والمهاوشة • ويتسم للمقابلة والمعاتلة • فعند ذلك يؤخذ في أمره بالأفكار الدقيقة • والحيل الغامضة • ويتعاطى دفع كيده وشره • وتدبير تدميره بأنواع المخادعة • وأبواب الحزم والتيقظ • ويبذل المال في ذلك • وقد قيل أضعف الحيلة خير من أقوي الشدة • وكما قيل شعر • • الرأي قبل شجاعة الشجعان • هو أول وهي المحل الثاني • فإذا هما اجتماعا لنفس حرة • بلغت من العليا كل مكان • ثم بعد ذلك ببذل الأموال • في اصطناع الرجال • وإعداد العدد • وأعداد العدد • كما قال الله تعالى وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم • ومولانا السلطان خلد الله دولته • ونفذ في الأفاق كلمته • هو الذي وفقه الله تعالى لإدراك هذه المعاني الدقيقة • والطلاع على هذه الأسرار الجليلة • وها أنا أوضح ذلك ببرهان جلي • فأقول الذين عاصرتهم أنا وغالب أهل زماني من ملوك مصر والشام وسلاطينهم خاصة • منهم الملك الظاهر أبو سعيد برقوق رحمه الله والذي قاساه وعاناه من مشاق أمور السلطنة • وصعاب أحوال المملكة • لا يخفي على معاصر • ولا متأخر • إلى أن استقل بعد أنواع المحن • وركوب الأخطار • وتحمل أنواع الأوزان • وسفك دماء لا تحد ولا تحصر • إما بحق وإما بباطل • مع كثرة المخالفين • وقوة العصاة والمتمردين كنعم أمير العرب • وسوابك بن دلغادر أمير التركمان وغيرهم • ثم خرج من الدنيا وقلبه ملآن من حراتهم وزفراتهم • ولم يشف له غليل ولم يبرد له عليل • وإن كان
50و
التجأ إليه السلطان أحمد بن الشيخ يونس حاكم بغداد والعراق • والملك مجد الدين عيسى حاكم ماردين وديابكر17 وخطب له ببلادهما وضرب الدرهم والدينار باسمه فيها وفي تبرين فإنما كان ذلك بواسطة ما ألجأهما إليه تيمور وضيق عليهما وقصد بلادهما ولم يكن له في ذلك صنع وإنما ألجأتهما الضرورة إلى أن اديا إليه وجعلاه ظهرهما ولم يفدهما ذلك شيئا إلى أن درج إلى رحمة الله تعالى وفي قلبه من الحسرات ما فيه فتولى بعده ولده الملك الناصر فرج وكان من أمره أن سفك الدماء وقطع رؤس18 الرؤس من الملوك والأمراء إلى أن خلت الديار والممالك واستولى العدو الخذول تيمور على البلاد وجرى عليها ما هو مشهور • ثم بعد ذلك وقع بينه وبين أمراء عساكره ورؤس أجناده من السفك والفتك والقتل ما هو مشهود مذكور • وفي كتب التواريخ مسطور • وحاصل الأمر أنه لم يكن له نية في عمارة بلاد • ولا إصلاح عباد • وإنما كان منهمكا في لذاته • مشغولا بإبادة الملوك والأمراء من عساكره • إلى أن قتل شر قتلة وآل مآله إلى ما آل • ثم من بعده الملك المؤيد شيخ فبعد وقائعه مع نوروز وبعد نوروز عصيان الأمراء والنواب فأمر من اليمن ما لا يزيد عليه وتشتت الأمراء والعساكر منه في البلاد وأطراف الدنيا استقر واستقل ثم أراد أن يستخلص الممالك من أيادي مجاوريه فلم ير لذلك الارتكاب ما لا يحل فارسل إلى من عثمان الملك المظفر غياث الدين أبي الفتح بن محمد بن أبي يزيد بن مراد بن أورخان بن عثمان على يد قوجتار المؤيدي سنة 823 هدايا وتحفا ودس إليه في ذلك شيئا فمات إلى رحمة الله تعالى وأرسل إلى قرا يوسف شخصا يعمل المعاجين والجوارسان وكان قرا يوسف ممن لا يتقيد بدين • وكان يرغب في المفرحات والمخذرات فصنع له شيئا من المعاجين وأضاف إليه سما فقتله به • ثم لم يلبث الملك المؤيد أن توفي إلى رحمة الله تعالى فلا هو الذي بلغ مراده وصفا له الملك وتمكن في الدنيا بعد اضداده
50ظ
ولا هو الذي خلص من أثم القتل فتحمل أثام ذينك الملكين ودماؤهما ثم لحقهما عن قريب بحيث لم يكن بينهم إلا أقل من نصف سنة وذلك في شهور سنة أربع وعشرين وثمانمائة فتولى بعده الملك الظاهر أبوا الفتح تتر رحمه الله تعالى فلم يمهلهم الزمان إلى أن يرتب الأمور • ويمهد أحوال الممالك • وطرائق السلطنة والسياسة • فتولى بعده الأشرف • أبو النصر برسباي فلم يكن له دأب إلا في ادخار الأموال حلالا وحراما ومعاداة الغريب والقريب • والترفع عن الناس • والاحتجاب عنهم • ولم يكن عنده من الناس مسلم إلا من كان عنده ذهب أو مال فرشاه • أو قدم إليه شيئا من سحت الدنيا في مقابلة توليه الوظائف والمناصب • وأما العلم والفضل والاستحقاق في أيامه • وكان من أكبر أمور الناس مع أنه كان لم يكن له في تدبير الملك • ولا في سياسة الرعية رأي ولا تدبير • وإنما كان له سعد عال • وحظ مساعد • وزمام اختياره كان في يد غيره يصرفه كيف ما اختار إلى أن اندرج إلى رحمة الله تعالى وهو على ذلك • ولو أطلت لسان القلم في ترجمة كل واحد من هؤلاء الملوك والسلاطين واستوفيت بقدر الإمكان ترجمته لطال الشرح وانفرط نظام المقصود من هذا الكتاب • وأما أولاد هؤلاء الملوك فلم تكن مدتهم إلا يسيرة ولم يكن لهم حل ولا ربط فيما في ذكرهم كبير فائدة • وأما الملك الظاهر برقوق والملك المؤيد شيخ • والملك الأشرف برسباي • فإنهم كانوا أحرص خلق الله على جمع المال • وأبخل خلق الله ولم يكن لهم دأب إلا في ادخار الأموال • والملك الظاهر برقوق كان أطيب نفسا من الملك المؤيد • والملك الأشرف • وما أفادهم في ذلك شيئا لا في الدنيا ولا في الآخرة وأما الملك الناصر فرج فإنه كان متلافا مسرفا في إخراج المال لكن لا في وجوه الخير • ولا يقصد بذلك البر والأجر والثواب • وأما الملك الظاهر تتر فإنه كان محسنا حسن الطوية والاعتقاد ولكن لم يساعده
51و
صفحه نامشخص