تبادلنا نظرات ارتياب وتوجس على حين انصرف عنا في غير مبالاة. وجرى التهامس بيننا في إشفاق: أحق ما يقول؟ - يبدو الأمر جدا. - إذن ما معنى هذه الرحلة؟ - لننفعل بالأحداث. - أليس من الأسلم أن ننفعل في القاهرة؟ - وهؤلاء الجنود أليسوا بشرا مثلنا؟ - ولكنهم جنود. - لعله يمازحنا.
وإذا به يلتفت نحونا هاتفا: ستنفعلون أولا وقبل كل شيء بالحميات المجهولة.
وضحكنا طويلا، ضحكنا وكأننا نتسول تكذيب الظنون، ضحكات هي الأصوات المسموعة للقلق المتطاحن في أعماقنا، ولكنه استقبل هدنة راحة في زحمة العمل فرمقنا بنظرة جادة حقيقية لأول مرة؛ جادة وودودة. ثم قال بنبرة أخوية: أهلا بكم فرصة طيبة وسعيدة، وهنيئا لكم زيارة بلد شقيق ثائر، ستجدون له مذاقا خاصا، وجمالا ذا سحر غير منكور، فاذهبوا بسلام آمنين.
شددنا على يده بامتنان، وذهبنا وراء حقائبنا المحمولة إلى السفينة. ودعانا القبطان إلى العشاء. وطيلة الوقت ترامى إلينا غناء الجنود من سطح السفينة الأمامي، ودار حديث عن ميعاد الإبحار والجو. وأعلمنا الرجل الكريم الظريف بأننا سنكون ضيوفه طوال الرحلة.
وفي أثناء ذلك اختفى من الصحاف الدجاج والشواء والملوخية والبطاطس والسلطة الخضراء والمش والبطيخ. ودعانا إلى قضاء السهرة في جناحه المطل على البحر، ثم مضى إلى عمله. أطفأنا المصباح واهبين الليل أنفسنا. أنعشنا شراب البرتقال ونسمة معبقة بجو الميناء، وما زالت أغنية تتردد متهادية إلينا من معسكر الجنود فوق مقدم السفينة. - ترى فيم يفكرون حول بنادقهم؟ - الحرب .. إنها الحرب. - أقدم حرفة في الوجود. - لكنها تنشب هذه المرة في سبيل التحرير والحرية. - إنها الحرب، وهي ككل حدث خطير تدفعنا إلى مواجهة لغز الوجود، وجها لوجه!
وتذوقنا حينا النسمة الملاطفة، استسلمنا بكل قوانا للحظة طيبة خالية من الكدر، ثم تفرق الحديث واختلف كأنما يدور بين أجيال، وأوشك أن يستقل كل اثنين بفكرة ما. - ستكون الحرب القادمة خاتمة الحروب. - ولكن هل تستمر الحضارة بلا حروب؟ ••• - الحق أن العالم مقبل على عصر عليه أن يخلق فيه كل شيء من جديد. - وربما وجد أن عليه أن يعتاد الحياة بلا معنى ولا آمال كبيرة! ••• - أظنه بسكال الذي قال: إننا مبحرون في هذا العالم، ليس لنا خيار في أمر السفر فلم يبق لنا سوى اختيار السفينة. - ولكن كيف نختار سفينة مناسبة إذا لم يكن لدينا فكرة عن الرحلة؟
الأفكار مغلقة، ولكن الأصوات راضية تند عنها غبطة المستمتع بعشاء لذيذ وشراب منعش. والغناء لا يتوقف، يحمل إلينا أنغام حماس وحنين، وثمة تساؤلات عما ينتظرنا هناك عند المأكل والمشرب والمنام، ومخاوف أوشكت أن تتضخم لولا أن ارتفع صوت قائلا: ما هي إلا أيام ثم تنقضي بسلام؛ دعونا نشارك الجنود حياتهم ولو بدون قتال.
شعرت برغبة في الحركة، غادرت جناح القبطان إلى السطح ماضيا حتى الشرفة المطلة على مقدم السفينة. رأيت الجنود على ضوء الكلوبات ما بين مستلقين وواقفين وجالسين. جال بصري بينهم في جد وانفعال، اجتاحني طوفان من الذكريات الوطنية حماسية وأليمة على السواء، لكنه طوفان حمل في النهاية هذه السفينة التي تحمل بدورها هؤلاء الجنود ثملة بنشوة النصر والأمل، ملوحة براية الأخوة والكرامة، فأيقنت أن تاريخنا الطويل المثقل بأحلك الذكريات يتكشف عن صفحة جديدة بيضاء. وخيل إلي أن اسمي يتردد في نداء صاعد من بين أمواج الغناء. حقا! أجل إن صوتا يناديني، تحرك رأسي هنا وهناك حتى رأيت جنديا يشق طريقه نحو أسفل الشرفة ملوحا بيده. أمعنت النظر فيه بدهشة، تذكرته، انحنيت من فوق السور في غاية من الابتهاج، لوح لي بيده تحية، فلوحت له بيدي.
الجندي
دعتني للجلوس فجلست، توقفت عن الكتابة على الآلة الكاتبة، وقالت لي مجاملة: شكلك ظريف في البدلة العسكرية.
صفحه نامشخص