تحت المظلة
النوم
الظلام
الوجه الآخر
الحاوي خطف الطبق
ثلاثة أيام في اليمن
يميت ويحيي
التركة
النجاة
مشروع للمناقشة
المهمة
تحت المظلة
النوم
الظلام
الوجه الآخر
الحاوي خطف الطبق
ثلاثة أيام في اليمن
يميت ويحيي
التركة
النجاة
مشروع للمناقشة
المهمة
تحت المظلة
تحت المظلة
تأليف
نجيب محفوظ
كتبت هذه القصص في الفترة بين أكتوبر وديسمبر 1967.
تحت المظلة
انعقد السحاب، وتكاثف كليل هابط، ثم تساقط الرذاذ، اجتاح الطريق هواء بارد مفعما بشذا الرطوبة، حث المارة خطاهم غير نفر تجمعوا تحت مظلة المحطة، وأوشكت الرتابة أن تجمد المنظر لولا أن اندفع رجل؛ اندفع راكضا كالمجنون من شارع جانبي، واختفى في شارع آخر على الجانب الآخر، تبعه على الأثر جماعة من الرجال والغلمان وهم يتصايحون: «لص ... أمسكوا اللص!» وما لبثت الضجة أن خفت رويدا حتى ماتت وتتابع الرذاذ، وخلا الطريق أو كاد، أما المتجمعون تحت المظلة فبعضهم ينتظر الباص والبعض لاذ بها خوف البلل. وبعثت ضجة المطاردة مرة أخرى، وتدانت في اشتداد وتضخم، ثم ظهر المطاردون وهم يقبضون على اللص، ومن حولهم الغلمان تهلل بأصوات رفيعة حادة. وعند عرض الطريق في المنتصف حاول اللص الإفلات؛ فأمسكوا به وانهالوا عليه صفعا ولكما، فمن شدة الضرب قاوم وضرب كيفما اتفق. وشدت أعين الواقفين تحت المظلة إلى المعركة. - يا لها من ضربات قاسية عنيفة! - ستقع جريمة أشد من السرقة. - انظروا .. الشرطي واقف في مدخل عمارة يتفرج. - بل أدار وجهه إلى الناحية الأخرى.
واشتد الرذاذ؛ فتواصل أسلاكا فضية برهة ثم انهمر المطر، خلا الطريق إلا من المتعاركين والواقفين تحت المظلة، نال الإعياء من الرجال فكفوا عن تبادل الضربات، ولكنهم أحاطوا باللص، وتبادلوا كلمات غير مسموعة معه وهم يلهثون. ثم انغمسوا في مناقشة هامة، لم يميزها أحد، دون مبالاة بالمطر. التصقت الملابس بأجسادهم، ولكنهم واصلوا النقاش بإصرار وبلا أدنى اكتراث بالمطر. ووشت حركات اللص بحرارة دفاعه ولكن لم يصدقه أحد. ولوح بذراعيه فكأنما يخطب، ولكن ضاع صوته في البعد وانهلال المطر. إنه بلا شك يخطب، وها هم يصغون إليه، تطلعوا إليه خرسا تحت المطر، وظلت أعين الواقفين تحت المظلة مشدودة إليهم. - كيف أن الشرطي لا يتحرك؟!
لذلك خطرت فكرة؛ أن يكون الحدث منظر تصوير سينمائي! - لكن الضرب كان حقيقيا! - والمناقشة والخطابة تحت المطر؟
شيء طارئ جذب النظر، فمن ناحية الميدان انطلقت سيارتان في سرعة جنونية، مطاردة حامية فيما بدا، المتقدمة تطير طيرا، والأخرى توشك أن تدركها، وإذا بالمتقدمة تفرمل بغتة حتى زحفت فوق أديم الأرض، فصدمتها الأخرى صدمة عنيفة مدوية، انقلبتا معا محدثتين انفجارا، وسرعان ما اشتعلت فيهما النيران. وارتفع صراخ وأنين تحت المطر المنهمر، ولكن لم يهرع أحد من المحدقين به إلى بقايا السيارتين اللتين أدركهما الخراب على بعد أمتار منهم، لم يبالوا بهما كما لا يبالون بالمطر. ولمح الواقفون تحت المظلة آدميا من ضحايا الحادث يزحف ببطء شديد من تحت سيارة ملطخا بالدم، حاول النهوض على أربع ولكنه سقط على وجهه سقطة نهائية. - كارثة حقيقية بلا أدنى شك. - الشرطي لا يريد أن يتحرك! - لا بد من وجود تليفون قريب.
ولكن أحدا لم يبرح مكانه خشية المطر، وقد انهل انهلالا مخيفا، وقعقع الرعد، وانتهى اللص من خطابه، فوقف ينظر إلى مستمعيه بثقة واطمئنان؛ وفجأة راح يخلع ملابسه حتى تجرد عاريا، رمى بملابسه فوق حطام السيارتين اللتين أطفأ نيرانهما المطر، دار حول نفسه كأنما يستعرض جسمه العاري، تقدم خطوتين وتأخر خطوتين، وبدأ يرقص في رشاقة احترافية؛ وإذا بمطارديه يصفقون له تصفيقات إيقاعية، على حين تشابكت أذرع الغلمان وراحوا يدورون من حولهم في دائرة متماسكة؛ وذهل الواقفون تحت المظلة ولكنهم رغم ذلك استردوا أنفاسهم. - إن لم يكن منظرا تصويريا فهو الجنون! - منظر سينمائي بلا ريب، وما الشرطي إلا أحدهم ينتظر دوره. - وحادث السيارتين؟ - براعة فنية، وسوف نكتشف المخرج في النهاية وراء إحدى النوافذ.
فتحت نافذة في عمارة مواجهة للمحطة محدثة صوتا لافتا للنظر، لفتت الأنظار رغم التصفيق وانهمار المطر؛ ظهر بها رجل كامل الزي، فصفر صفيرا متقطعا، وفي الحال فتحت نافذة أخرى في نفس العمارة، فظهرت بها امرأة متأهبة الزينة والملابس، فاستجابت لصفيره بإشارة من رأسها، اختفيا معا عن أنظار الواقفين تحت المظلة، بعد قليل غادرا العمارة معا، سارا متشابكي الذراعين بلا مبالاة تحت المطر، وقفا عند السيارتين المهشمتين، تبادلا كلمة. أخذا يخلعان ملابسهما حتى تعريا تماما تحت المطر. استلقت المرأة على الأرض طارحة رأسها فوق جثة القتيل المنكفئ على وجهه، ركع الرجل إلى جانبها، بدأ غزل رقيق بالأيدي والشفاه، ثم غطاها الرجل بجسده ومضى يمارس الحب. وتواصل الرقص والتصفيق ودوران الغلمان وانهمار المطر. - فضيحة! - إن لم يكن تصويرا فهو فضيحة، وإن يكن حقيقة فهو جنون. - الشرطي يشعل سيجارة.
واستقبل الطريق شبه الخالي حياة جديدة، جاءت من الجنوب قافلة من الجمال، يتقدمها حاد ويقودها رجال ونساء من البدو، عسكرت على مبعدة قصيرة من حلقة اللص الراقص. شدت الجمال إلى أسوار البيوت ونصبت الخيام، وتفرقوا؛ فمنهم من تناول طعامه، أو راح يحتسي الشاي أو يدخن، وبعضهم غرق في السمر. ومن الشمال جاءت مجموعة من سيارات السياحة محملة بالخواجات، توقفت فيما وراء حلقة اللص، ثم غادرها راكبوها من الرجال والنساء، فتفرقوا جماعات تستطلع المكان في نهم دون مبالاة بالرقص أو الحب أو الموت أو المطر.
ثم أقبل عمال بناء كثيرون تتبعهم لوريات مثقلة بالأحجار والأسمنت وأدوات البناء، وبسرعة مذهلة شيدوا قبرا رائعا، وعلى مقربة منه أقاموا من الأحجار سريرا كبيرا، فغطوه بالملاءات، وزينوا قوائمه بالورد، كل ذلك تحت المطر. ومضوا إلى حطام السيارتين فاستخرجوا منه الجثث، مهشمة الرءوس، محترقة الأطراف، وضموا إليها جثة المنكفئ على وجهه من تحت العاشقين اللذين لم يكفا عن ممارسة الحب، ثم رصوا الجثث فوق السرير جنبا إلى جنب، وتحولوا إلى العاشقين فحملوهما معا وهما لا ينفصلان فأودعوهما القبر، ثم سدوا فوهته، وأهالوا عليهما التراب حتى سووها بالأرض. استقلوا بعد ذلك اللوريات فانطلقت بهم في سرعة عاصفة وهم يهتفون بكلام لم يميزه أحد. - كأننا في حلم! - حلم مخيف، ويحسن بنا أن نذهب. - بل علينا أن ننتظر. - ماذا ننتظر؟ - النهاية السعيدة. - السعيدة؟! - وإلا فبشر المنتج بكارثة!
في أثناء الحديث تربع فوق القبر رجل يرتدي روب القضاء. لم ير أحد من أين أتى! من عند الخواجات، أو من عند البدو، أو من حلقة الرقص، لم يعرف أحد! بسط صحيفة بين يديه، وراح يتلو نصا كأنما ينطق بحكم، لم يميز كلامه أحد؛ إذ غطى عليه التصفيق وضوضاء الأصوات بشتى اللغات والمطر. ولكن كلماته غير المسموعة لم تضع، فانتشرت في الطريق حركات كالأمواج الصاخبة في عنف وتضارب، نشبت معارك في محيط البدو، وأخرى في مواقع الخواجات، واشتعلت معارك بين بدو وخواجات، وجعل آخرون يرقصون ويغنون، وأقبل كثيرون حول القبر، وراحوا يمارسون الحب عرايا، وأخذت النشوة اللص؛ فتفنن في رقصه وأبدع، واشتد كل شيء وبلغ غايته؛ القتل، والرقص، والحب، والموت، والرعد، والمطر.
واندس بين الواقفين رجل ضخم؛ عاري الرأس يرتدي بنطلونا وبلوفر أسود، وبيده منظار مكبر، شق مكانه بينهم بعنف واستهتار، وجعل يراقب الطريق بمنظاره متجولا به بين الأركان. وتمتم: لا بأس .. لا بأس!
تعلقت به أعين المتجمعين تحت المظلة باهتمام: هو؟ - نعم .. هو المخرج.
وعاد الرجل يخاطب الطريق مغمغما: استمروا بلا خطأ وإلا اضطررنا لإعادة كل شيء من البدء!
عند ذاك سأله أحدهم: هل سيادتك ...
ولكنه قاطعه بإشارة عدائية وحاسمة؛ فازدرد الرجل بقية سؤاله وسكت، ولكن آخر استمد من توتر أعصابه شجاعة فسأله: حضرتك المخرج؟
لم يلتفت إليه، وواصل مراقبته؛ وإذا برأس آدمي يتدحرج نحو المحطة فيستقر على بعد أذرع منها، والدماء تتفجر من مقطع العنق بغزارة. صرخ الرجال فزعا، أما الرجل فحدق بالرأس مليا، ثم غمغم: برافو .. برافو!
وصاح به رجل: ولكنه رأس حقيقي ودم حقيقي.
فوجه الرجل منظاره نحو رجل وامرأة يمارسان الحب، ثم هتف نافد الصبر: غير الوضع .. حذار من الملل!
ولكن الآخر صاح به: ولكنه رأس حقيقي، فمن فضلك فهمنا!
وآخر قال: كلمة واحدة منك تكفي لنعرف من أنت ومن هؤلاء.
وثالث قال بتوسل: لا شيء يمنعك من الكلام!
ورابع تضرع قائلا: يا أستاذ لا تضن علينا براحة البال.
ولكن الأستاذ تراجع في قفزة مباغتة، كأنما كان يداري نفسه خلفهم، ذاب الصلف في نظرة مترقبة، وتوارت نفخته، كأنما طعن به السن أو تردى في مرض. رأى المتجمعون تحت المحطة نفرا من الرجال ذوي هيئة رسمية يتجولون غير بعيد من المحطة كأنهم كلاب تشمم. واندفع الرجل راكضا مجنونا تحت المطر، انتبه إليه رجل من المتجولين فاندفع أيضا صوبه يتبعه الآخرون كعاصفة. وسرعان ما اختفوا جميعا عن الأنظار مخلفين الطريق للقتل والحب والرقص والمطر. - يا ألطاف الله! لم يكن المخرج كما توهمنا! - من يكون؟! - لعله لص. - أو مجنون هارب! - أو لعله ومطارديه ضمن المنظر السينمائي. - هذه أحداث حقيقية لا علاقة لها بالتمثيل. - ولكن التمثيل هو الفرض الوحيد الذي يجعلها معقولة على نحو ما. - لا داعي لاختلاق الفروض. - فما تفسيرك لها؟ - هي حقيقة بصرف النظر ... - كيف أمكن أن تقع؟ - هي واقعة. - يجب أن نذهب بأي ثمن. - سندعى للشهادة عند التحقيق. - ثمة أمل باق.
قال ذلك واتجه ناحية الشرطي وصاح: يا شاويش!
كرر النداء أربعا حتى انتبه إليه الرجل؛ فقطب متنحنحا، فأشار إليه يستدعيه قائلا: من فضلك يا شاويش!
نظر الشرطي إلى المطر متسخطا، ثم حبك المعطف حول جسمه، ومضى نحوهم مسرعا حتى وقف تحت المظلة، تفحصهم بقسوة متسائلا: ما شأنكم؟ - ألم تر ما يحدث في الطريق؟
لم يحول عينيه عنهم، وقال: كل من كان في المحطة استقل سيارته إلا أنتم، فما شأنكم؟ - انظر إلى هذا الرأس الآدمي. - أين بطاقاتكم؟
ومضى يتحقق من شخصياتهم وهو يبتسم ابتسامة ساخرة قاسية، ثم سألهم: ماذا وراء اجتماعكم هنا؟
تبادلوا نظرات إنكار، وقال أحدهم: لا يعرف أحدنا الآخر. - كذبة لم تعد تجدي.
تراجع خطوتين، سدد نحوهم البندقية، أطلق النار بسرعة وإحكام؛ تساقطوا واحدا في إثر الآخر جثة هامدة، انطرحت أجسادهم تحت المظلة، أما الرءوس فتوسدت الطوار تحت المطر.
النوم
هذه النخلة الوحيدة في الفناء الترب تذكر بحوش قرافة. يجرى ذلك في خاطره كلما مر عبر الفناء إلى باب البيت الخارجي، واعترضه صاحب البيت وهو يرش الأرض بالخرطوم، ناداه قائلا: أستاذ.
اللعنة! أبغض يوم عنده يوم يصبح على وجهه. عجوز ناعم، يفتر فوه أحيانا عن ابتسامة كشق في لحاء شجرة. - أنت شاب وحيد ولكنك مهذب طيب السمعة، لا شكوى من ناحيتك؛ فبالله ما معنى الجلسات التي تعقد في شقتك لتحضير الأرواح؟ - هل أستجوب عما يدور داخل شقتي؟ - نعم، إذا امتد أثره إلى من حولك، ثم إن لي حقا في مخاطبتك باسم صداقتي القديمة للمرحوم والدك.
انطبع الامتعاض في صفحة وجهه، فقال صاحب البيت: لم أرك مرة واحدة في صلاة الجمعة! - وما دخل ذلك في موضوعنا؟ - المؤمن لا يهتم بهذه الألاعيب، هذا ما أعنيه.
ضحك الشاب ضحكة قصيرة، وقال: ولكن الاهتمام بذلك يعني الإيمان بالأرواح. - كلا. يعني الشك أولا وأخيرا.
فغير الحديث قائلا: أذكرك بجدار دورة المياه. - لا تتهرب، الحق أن هذه الجلسات تحدث بين السكان اضطرابا غير مستحب! - أنا لا أرتكب فعلا مخالفا للقانون، وأرجو أن الجدار ... - من الأفضل أن نبقى على وفاق.
ثم قال وهو يدفع بماء الخرطوم إلى بعيد: أما عن أي إصلاح فعليك أن تقوم به بنفسك.
ما أبغض أن يصبح على وجهه يوم العطلة! والطريق شبه خال كشأنه في بواكير العطلات، وثمة سقيفة من السحاب الثابت تمتد فوق الضاحية، واشتد عليه ثقل رأسه عقب ليلة لم ينم فيها أكثر من ساعتين، فبعد انفضاض حلبة التحضير قال لزميله مدرس التاريخ: يطيب الآن الحديث في المصير ...
وتقضى الليل دون أن يجنوا من النقاش ثمرة. وقال له صديق، ضاحكا وهو يغادر الشقة قبيل الفجر: خير حل أن تتزوج.
وأوى إلى فراشه قلقا، ووجه محبوب يتراءى لعينيه، لا ينبغي أن تبقى النخلة وحيدة إلى الأبد. ولم كانت أمه تؤكد له دائما قبيل وفاتها بأيام بأن كل شيء يدعو للحمد؟ وجد الكازينو خاليا في تلك الساعة المبكرة، واتخذ مجلسه عند مدخل الحديقة الفاصلة بين الكازينو ومحطة الديزل. حياه الجرسون وجاءه بالجرائد، أعد له مع القهوة سندويتش فول، فبعد أن شبع ثقل رأسه أكثر وأكثر حتى عجب أين كان النوم وهو يستجديه في فراشه! وتذكر درس المفعول المطلق الذي سيلقيه غدا صباحا على تلاميذه، فتذكر بالتالي زميله مدرس التاريخ، قرينه في المناقشات الجنونية. - ولكن ما معنى ذلك؟ - أنت مدرس عربي، حسن! هل عرفت فعلا بلا فاعل؟ - اللغة بحر بلا حدود. - مات محمد. محمد فاعل، ولكن أي فاعل هذا؟ ولذلك فإني أبحث عما أريد خارج نطاق اللغة.
وجاء الجرسون لينظف الرخامة، فسأله: كيف تبرر مطالبتك الزبائن بأثمان الطلبات؟
ابتسم الرجل ابتسامة المعتاد لهذه الأسئلة الغريبة، ثم تناول قروشه ومضى، وقال هو لنفسه: «إنه يبتسم ابتسامة العقلاء، ومع ذلك فما لم نعرف كل شيء فستظل معرفتنا الأشياء الصغيرة القريبة ناقصة وغير مبررة.» ورنا إلى السحب حتى ابيض كل شيء في عينيه. ولكن البياض لم يثبت على حال، لعبت به يد ساحرة، تميع وتموج، واستحال لونا معتما بلا شخصية ولا شكل، واختفى قطار الديزل الواقف في المحطة أو ذاب في السحاب. وبدافع من رغبته في الهدوء المطلق مثل بين يدي بوذا في الحديقة اليابانية، وسمع صديقه مدرس التاريخ يقول وهو يشير إلى بوذا: «الهدوء والحقيقة والانتصار.» ثم أكد قوله مكررا: «الهدوء والحقيقة والهزيمة.» وجمع عزيمته على المناقشة، ولكن أوراق الشجر اهتزت بصرخة حادة؛ صرخة طفل أو لعلها صرخة امرأة، وخفق قلبه وانتعش بروح الغزل، وأراد أن يستشهد ببيت من عمر الخيام ولكن هيهات. وناداه صوت؛ التفت نحو مصدره، فرأى صديقه الآخر وقد بادره قائلا: «خير حل أن تتزوج.» وأطبق عليه وقع أقدام راكضة، وركض ليلحق بالديزل، فزلت قدمه وتهاوى من فوق الطوار. رباه كيف اكتظ المكان بهؤلاء! عشرات وعشرات وعشرات يقفون خارج سور الحديقة الصغيرة، وقوة من الشرطة تعسكر فوق طوار المحطة. حدث تحت السحاب الراكد! وها هو الجرسون راجعا من الزحام إلى الكازينو. وقد مال الرجل نحوه قائلا:حضرتك رأيت كل شيء طبعا!
فقطب متسائلا ومنكرا في آن، فواصل الرجل: سوف تدعى فورا إلى المحقق. - أي محقق يا هذا؟ - ارتكبت الجريمة في المحطة على بعد أمتار من مجلسك.
تساءل ذاهلا: جريمة؟ - أين كنت يا سيدي؟ جريمة القتل فظيعة، ألا تعرف الآنسة «المولدة»؟ - المولدة! - قتلها شاب مجنون، الله ينتقم منه.
تقلص وجهه في ألم وذهول، وغمغم: قتلت! لا أصدق .. وأين هي؟ - حملوها إلى المستشفى لإسعافها، ولكنها ماتت في الطريق. - ماتت! - ألم ترها وهي تقتل على بعد أمتار منك؟
وبعد صمت عاد يقول: كيف لم ترها! أما أنا فكنت مشغولا في الداخل، ثم خرجنا على صوت الصراخ، كان الملعون يطاردها وهي تجري أمامه حتى طعنها في المكان الذي يقف فيه المحقق ... - والقاتل؟ - استطاع الهرب، حتى الآن على الأقل، شاب صغير، رآه ناظر المحطة وهو يثب فوق السور ويستقل دراجة بخارية، ولكن سيقبض عليه عاجلا أو آجلا.
اشتد تقلص وجهه بالألم حتى تقوض في مجلسه. ومضى الجرسون عنه وهو يقول: كيف لم تر الحادثة التي وقعت بين يديك؟
وأقبل شرطي فدعاه إلى لقاء المحقق، قرر أن يركز فكره المشتت مهما كلفه ذلك من عناء، نظر في ساعته فأدرك أنه نام ساعة على الأقل. ومضى مع الشرطي وهو يجر رجليه، بدأ السؤال كالعادة بالاسم والسن والعمل. - متى جلست في الكازنيو؟ - في السابعة صباحا على وجه التقريب. - ألم تغادر مجلسك طيلة الوقت؟ - كلا. - ماذا رأيت؟ حدثنا بالتفصيل من فضلك. - لم أر شيئا! - كيف؟ لقد ارتكبت الجريمة في هذا الموضع، فكيف لم تر شيئا؟ - كنت نائما! - نائما؟!
أجاب باستحياء: نعم. - لم توقظك المطاردة؟ - كلا. - ولا الصراخ؟
هز رأسه نفيا، وهو يعض على شفتيه. - ولا استغاثتها وهي تناديك باسمك؟
تأوه هاتفا: اسمي! - أجل، لقد نادتك مرارا، ورجح الشهود أنها كانت تجري نحوك مستغيثة بك.
حملق في وجهه بذهول، وتمتم في توسل: كلا! - هو الواقع.
أغمض عينيه ولم يعد يلقي بالا إلى المحقق أو أسئلته، حتى قال له هذا في ضجر: أجب .. عليك أن تجيب! - إني في غاية من التعاسة! - أكانت ثمة علاقة بينك وبينها؟ - كلا! - ولكنها نادتك باسمك. - نحن من ضاحية واحدة، ونقيم في شارعين متجاورين. - شهد شهود بأنهم كثيرا ما رأوكما تقفان متقاربين في انتظار الديزل؟ - توافق في المواعيد بحكم العمل ليس إلا. - أليس لاستغاثتها بك دلالة ما؟ - لعلها كانت تشعر بإعجابي بها. - إذن كانت هناك علاقة من نوع ما. - ربما ..
ثم بانفعال قاهر: كنت أحبها .. كنت أفكر كثيرا في طلب يدها. - أولم تفعل شيئا في سبيل ذلك؟ - كلا .. لم أكن اتخذت قرارا بعد. - ووقعت الواقعة وأنت نائم؟ (أطرق في خزي أليم.)
والآخر .. أعني القاتل .. أليس لديك فكرة عنه؟ - كلا. - ألم تسمع عن علاقة لها بآخر؟ - كلا. - ألم تر أحدا يحوم حولها؟ - كلا. - هل لديك أقوال أخرى؟ - كلا.
ما زالت السماء محجوبة وراء سقيفة السحاب الجامد، وتساقط رذاذ دقيقة واحدة ثم انقطع. هام على وجهه طويلا.
انقضى النهار وهو يهيم على وجهه، كأنما يداوي أزمته الطاحنة بالحركة المرهقة، وصادفه مدرس التاريخ أمام الحديقة اليابانية، هز يده مصافحا وهو يقول: تعال نجلس سويا، بي رغبة في الحديث.
فقال بفتور: من غير مؤاخذة، لا رغبة لي في الأحاديث الميتافيزيقية.
مط الرجل بوزه آسفا، وتساءل: أحق ما يقولون من أن المولدة قتلت أمامك وأنت نائم؟
فسأله غاضبا: من أدراك بذلك؟
أجاب بنبرة المعتذر: سمعت به عند الحلاق! - أمن العجب أن ينعس إنسان متعب؟ وما ذنبه إذا قامت القيامة في أثناء ذلك؟
ضحك الزميل وقال ملاطفا: لا تغضب، ولكني لم أكن أعلم بالعلاقة بينك وبين المولدة. - أي علاقة؟! أنت مجنون؟! - أعتذر .. أعتذر .. هذا ما سمعتهم يقولونه في دكان الحلاق.
مضى في سبيله الذي لا هدف له، اللعنة، ستنتفخ الشائعات كالمناطيد. ولن ترد قوة الجميلة اليانعة إلى الحياة، حسرة لا دواء لها. واستغاثتها اليائسة ارتطمت بجدار النوم، ولكنها نفذت بطرق سحرية إلى آذان الضاحية. أيتها التعيسة، إني أتعس منك. وقال له بائع السجائر وهو يعطيه العلبة: لا بأس عليك يا أستاذ، البقية في حياتك.
اللعنة! لا يبدو أن أحدا يجهل الواقعة، وها هم يقدمون له العزاء مسلمين بداهة بعلاقته بها، ها هي الخطبة تعلن بعد الوفاة، وربما تمادت الظنون وراء ذلك.
ورماه البدال بنظرة ذات معنى، ما البدال! يخيل إليه أن الأعين كلها تتعقبه، إنه في الواقع مطارد، متهم، مجرم. إنه مسئول عن الاستغاثة الضائعة لا مفر. وغدا في المدرسة تنهال عليه الأسئلة. الجحيم الحقيقي ستندلع نيرانه في حوش المدرسة، تخبط طويلا، تلقى أقوالا كثيرة كلها مثيرة مؤلمة، إنه حديث الضاحية، لا حديث للضاحية إلا الجريمة والنوم، «قبض على القاتل وهو تلميذ بالثانوي.» إذن قتلها العبث وجنون العيال «كان القاتل يحبها ولكنها لم تشجعه.» لذلك بدت له دائما رزينة وجادة. «من المؤكد أنها كانت تحب مدرس اللغة العربية.» يا للحسرة! شغل عن إسعادها بجلسات تحضير الأرواح ومنعه من إنقاذها النوم. «قال في التحقيق إنه كان نائما، أليس عجيبا ألا يوقظه الصراخ والمطاردة والاستغاثة!» إنه لعجيب حقا، ولكنهم لا يعلمون أنه قضى الليل في تحضير الأرواح وأحاديث المصير، اعتصر الألم قلبه فتجرعه سما بطيئا، واضطر أخيرا إلى الرجوع إلى البيت وهو كاره. كان المساء يغشي حجاب السحاب بغلالة معتمة، وجد صاحب البيت يقتعد أريكة تحت النخلة الوحيدة، استقبله بلطف وقال: تبدو متعبا، أرجو ألا يكون حديثي معك في الصباح قد ضايقك؟
هز رأسه نافيا، فخفض الرجل صوته وهو يسأله: أحق ما يقال؟
فقاطعه بحدة: أجل .. قتلت المولدة على بعد أمتار من مجلسي في الكازينو وأنا نائم، هذه هي المعجزة الثامنة! - لم أقصد يا بني أن ...
فقاطعه مرة أخرى: ولم أسمع استغاثتها، وفي قول آخر أني سمعته ولكني تناومت ...
أقبل عليه الرجل معتذرا متأسفا، وأخذه من ذراعه فأجلسه إلى جانبه قائلا: كان المرحوم والدك صديقي، لا تؤاخذني يا بني!
ومضت فترة غير قصيرة في صمت وحذر، ثم استأذن في الانصراف، فأوصله الرجل حتى الباب الداخلي، وهناك همس في أذنه: أكرر الرجاء فيما قلته لك في جلسات تحضير الأرواح.
استلقى على الفراش، وهو من العناء في غاية، ثم غمغم مغمض العينين: ما أحوجني إلى نوم طويل؛ طويل بلا نهاية!
الظلام
كثيف الظلام كأنه جدار غليظ لا يمكن أن تخترقه عين، لا شيء يرى ألبتة، إنهم يجتمعون في عدم، ولا صوت إلا قرقرة الجوزة، والجوزة تدور حتى تتم دورتها في الظلام، فترجع إلى المعلم بطريقة ميكانيكية. وكثيرا ما كان المعلم يقول: إني أرى في الظلام، اعتدت ذلك لطول معاشرة السجون والخلاء.
إذن فهو يراهم على حين أنهم لا يرونه ولا يرون شيئا، وبسبب الظلام يعيش كل منهم في عالم خاص به مغلق الأبواب عليه. يجيئون من أماكن مختلفة، متباعدة ومتقاربة، لا يدري أحد عن الآخر شيئا، يشدهم إلى هذه الحجرة داء واحد، والمعلم يدعوهم واعدا إياهم بالأمان والستر، وكلما دعا أحدهم قال له: في عزبة النخل داري، وفي حوشها الخلفي فيما يلي الحقول شيدت حجرة مرتفعة، معزولة عن الأرض بلا موصل يفضي إليها، ستصعد إليها على سلم خشبي سرعان ما يطرح تحت أكوام التبن، فهي حصن لا يكبس، ولها من الظلام حولها حصن آخر.
أجل، ها هم معلقون في الهواء، غائصون في الظلام، كأنما يعيشون في الزمن الذي لم تكن الأعين قد خلقت فيه بعد، وكل يد تلامس اليد المجاورة عند تناول الجوزة ولكن يد من هي؟ أي شخص وأي هوية؟
ويضحك المعلم ويقول: نحن مدينون للظلمة بالسلام الذي ننعم به، صدقوني فإنني رجل مجرب.
لم يتوقع يوما أن يناقشه أحد خشية أن يفضحه صوته لدى آخر ممن يكفنهم الظلام. وكان يقول لهم: لو تعارفتم على ضوء شمعة لتبادلتم أحاديث لا نهاية لها. ولاحتد الخلاف بينكم، ولانقلب المجلس جحيما لا يطاق، وطالب اللذة لا يحب ذلك، أما أنا فأمقته مقتا.
وندت من الظلام همس ضحكات مكتومة، فقال: أعرف بينكم أناسا مختلفي الأديان والآراء، وها أنتم تمضون وقتا طيبا في سلام بفضل الظلام والصمت.
ند الهمس من جديد، لعلهم يسخرون كعادتهم ولو في سرهم. يا لها من طريقة طريفة لمعالجة التفرقة الدينية والفكرية! يسخرون وهم لا يعرفون للحجرة التي يترددون عليها شكلا إلا مس الشلت والحصيرة المفروشة بينها! وهو يسعل كثيرا، ثم يقول بصوت كالقرقرة: إن أحدكم قد يلقى جليسه في مكان فلا يعرفه، قد يكون زميلا في مصلحة أو عضوا في أسرة، قد يريد له الخير أو يضمر الرغبة في قتله، كل ذلك طريف للغاية !
إنهم جميعا غارقون في الإثم، وحامل الإثم جبان؛ ولذلك فهم يكتمون الضحكات فتضغط وتمط في صوت فحيح زاحف في الظلمة. ويضحك عاليا ويقول: إني أعرفكم جميعا، الاسم والعمل والمكانة، أما أنا فلا يهمني شيء، لا يكبل الإنسان مثل حرصه المضحك على حسن السمعة، وما سر الحرية التي أتمتع بها إلا السجن والخلاء وسوء السمعة!
يا له من صوت كالقرقرة. ونبرة لا تخلو أبدا من السخرية والثقة بالنفس، وسوء سمعته جدير بتخويف الناس من مجلسه لولا دبلوماسيته في معاملة السلطات، وعنده يجد المصاب ما لا يجد عند غيره من الصنف والطمأنينة. ويقبع في الظلام محتكرا الكلام والرؤية. ومرة قال ضاحكا: إنكم جميعا من السادة، لكم منزلة تخافون عليها، أما الفقراء فلا يخافون على شيء؛ ولذلك فلا مكان لهم عندي، ولذلك فهم لا يؤمنون بالظلام والصمت.
هذا الرجل رغم حقارته ذو مكانة يؤمن بها المصابون بالأدواء. يتلقون أياديه بامتنان، ولا ينتشلهم من العدم إلا عيناه المحطمتان لجدار الظلمة؛ وهو أحدب، مغضون الوجه، قصير القامة، نيف على السبعين، ولكنه ذو حيوية شيطانية. ويسألهم ضاحكا: لم لا تجعلون من حياتكم كلها امتدادا جميلا لهذه الجلسة؟
ثم قال وكأنه يجيب على سؤاله: ستقولون العمل .. الأسرة .. الواجب.
وضحك ساخرا، ثم واصل قائلا: لكنه لا شيء إلا الظلام والصمت!
وتنقضي فترة طويلة في صمت، ثم يعود قائلا: إني أسخر منكم بالكلام الفارغ، وأنتم تسخرون مني في قلوبكم بالصمت، وهذا يعني أنكم لا تتعلمون، أما أنا فقد حققت لنفسي المعجزة، رغم أنف الدنيا، فلا أسرة لي ولا عمل، إذ إن الموزع في الحقيقة لا عمل حقيقي له، وفي غمرة الذهول وجريان الأيام على وتيرة واحدة تبدو لي الحياة طويلة كثيفة مثقلة بالملل فلا أخاف الموت، من منكم لا يخاف الموت!
وبرغم حقارته، برغم ما يثيره في النفوس من سخرية خرساء، فقد مس وترا حساسا، ولكن من يصدق أنه لا يخاف الموت؟ ولم إذن بنى هذه الحجرة المعزولة في الهواء والخلاء؟
وفي ذات ليلة قال لهم بثقة: في هذه الحجرة خلاصة مركزة لحكمة الحياة.
وكف عن الكلام طويلا؛ وإذا بالجوزة تتوقف عن الدوران، ظنوه ينشد شيئا من الراحة بخلاف عادته، وانتظروا فطال بهم الانتظار في الصمت والظلام، انتظروا وانتظروا، ولكن لم يجد جديد، استهلكوا قدرتهم على الانتظار، تنحنح بعضهم استحثاثا له على العمل، ولكن دون جدوى. هل نام الرجل؟ هل أغمي عليه؟ هل مات؟
وأقربهم إلى موضعه مد يده متحسسا مكانه، ثم همس بقلق: ليس الرجل في مكانه!
وألصقهم بالباب قام ليفتحه، ولكنه همس في اضطراب: الباب مغلق بإحكام.
واضطر أحدهم إلى رفع صوته قائلا: لا بد من وجود نافذة، فليفتش عنها كل فيما يليه من الجدار.
ومضت فترة في التفتيش، ثم تتابعت الأصوات: لا توجد نافذة .. لا توجد نافذة!
واستهانوا بالستر فقرروا إشعال أعواد الثقاب ليتبينوا موقفهم، ولكن أحدا لم يجد علبة ثقابه .. علبة السجار بمكانها أما الثقاب فلا أثر له! لا يمكن أن يقع ذلك مصادفة. سرق الثقاب! ولكن من السارق؟ ولم سرقه؟ وماذا يراد بهم؟ ونادوا المعلم؛ نادوه بأصوات غاضبة، نادوه بأصوات رعدية، ولكن لا مجيب، لا مجيب على الإطلاق، ولا صوت. - أين ومتى ذهب؟ - من أي منفذ تسلل؟ - ما معنى اختفائه؟ - كيف؟ ولم سرق الثقاب؟ - لعله ذهب لقضاء أمر فدهمه حادث. - ولم أغلق الباب؟ - ولم سرق الثقاب؟ - أهزر وراء ذلك أم شر؟ - نحن مهددون في الظلام.
وعادوا ينادون الرجل فترتطم أصواتهم بالجدران الصماء، بحت حناجرهم، وكلت قبضاتهم من دق الحيطان، وأطبق عليهم اليأس في الظلام، ما عسى أن نفعل؟ هل ننتظر إلى ما لا نهاية؟ نستسلم حتى يتقرر مصيرنا؟ وما مصيرنا؟ هل جن الرجل؟ استكانوا إلى مقاعدهم فوق الشلت وهم في نهاية من الإعياء، كأنهم جروا شوطا قطع منهم الأنفاس، أو خاضوا معركة مزقت الأوصال، حتى الخوف باخ تحت وطأة التلبد الذي أخلفه الوهن. وتثاءب شخص بصوت مسموع فجرى التثاؤب من فم إلى فم. وتساءل صوت: ترى هل سرقت علب الثقاب وحدها؟
وفتشت الأيدي الجيوب حتى صاح أحدهم: بطاقة الشخصية! لا أثر للبطاقة.
وتتابعت الأصوات : وبطاقتي أيضا! - النقود موجودة أما البطاقة فلا أثر لها. - ما معنى هذا اللغز؟
وأكثر من شخص أراد معاودة النداء فخذله صوته، وعاد التثاؤب يتردد في نغمة ممطوطة مسترخية، ثم ساد في الظلام صمت ثقيل كأنه النوم أو الموت.
وإذا بصوت يشق الظلام متسائلا في هدوء: كيف حالكم؟
تردد الصوت في الظلام وحده ولكن دون رد فعل، فعاد يتساءل مرتفعا درجات: هوه .. كيف حالكم؟
وندت حركة ضعيفة في الظلام أعقبها صوت يقول بنبرة فازعة للأمل: المعلم! .. من؟ .. المعلم؟
واستبقت الأصوات مرددة: المعلم .. المعلم .. فعاد الصوت يتساءل متهكما: كيف حالكم؟ - تسأل عن حالنا! .. أنت! .. أي دعابة سمجة؟ - كيف حالكم، هذا ما أسأل عنه. - أين كنت يا رجل؟ - أنا لم أبرح مكاني. - ألا زلت مصرا على العبث بنا؟ - صدقوني فأنا لم أبرح مكاني طيلة الوقت. - كذاب .. تحسسنا موضعك فلم نجد لك أثرا. - لم يحرك أحد منكم ساكنا. - أيها المكابر .. لقد ناديناك حتى بحت أصواتنا، ودققنا الجدران حتى كلت أيدينا. - لم يحرك أحد منكم ساكنا، صدقوني، وكنت طيلة الوقت بينكم. - ما زلت متوهما أنك قادر على العبث بنا! - صدقوني .. لم أفعل شيئا سوى أن أخذت بطاقاتكم وعلب الثقاب. - ها أنت تعترف .. كف عن العبث .. لم نكن نعرف أنك نشال ماكر. - بل أخذتها وأنتم نيام. - نيام! - أجل وأنتم نيام. - لم يغمض لأحد منا جفن. - بل نمتم ساعة كاملة على الأقل، أنجزت فيها مهمتي. - أنت مطالب بأن تفسر لنا سلوكك الشاذ. - طيب .. خطر لي أن أقوم بتجربة فذة .. خدرتكم بخلطة عجيبة من ابتكاري! - إنك تهذي! - ستفقدون ذاكرتكم قبل طلوع الفجر. - رد إلينا مسروقاتنا، وافتح الباب. - واستغرقتم في النوم ساعة كاملة تبعا للخطة، ثم استيقظتم، وتثاءبتم، وندت عنكم همسات لا معنى لها، ثم تكلمت أنا. - لن يجدي خداعك. - نمتم ساعة بدليل أنني أخذت ما أردت أخذه منكم وأنتم لا تشعرون. - لكنني تحسست مكانك بيدي فلم أجدك. - لم يكن باستطاعتك أن تحرك يدك. - ودققنا الجدار، ونادينا بأصوات كالرعد. - عجزتم عن ذلك كما تعجزون عنه الآن، ولكنكم توهمتم أفعالا لم تخرج في حقيقتها عن نطاق رءوسكم، كانت أفعالكم كالظلام الذي يلفكم لا وجود حقيقيا لها. - ألا ترى أننا غير مستعدين للهزل؟ - ستفقدون الذاكرة قبل الفجر، لن يعرف أحدكم نفسه، فضلا عن الآخرين! - ألا ترى؟ - لذلك استوليت على بطاقاتكم، لن يعرف أحدكم نفسه، وهيهات أن يعرفه أحد. - اغسل رأسك بماء بارد .. أسرع! - غدا صباحا لن يوجد منكم أحد، ستختفون كما اختفت بطاقاتكم! - هل جننت يا رجل؟ - ليكن، ماذا جنيتم من عقلي؟ فلتجربوا جنوني، وسوف أخدر نفسي بابتكاري العجيب، ومن حسن الحظ أنني لا أملك بطاقة من الأصل، فلنشكر للظلام والصمت والليل أياديها. - يا مجنون! يا مخرف! - ستفقدون القدرة على الكلام كما فقدتم القدرة على الحركة، سوف ألحق بكم، أعدكم بذلك. انطرحوا جثثا فوق الشلت فغدا سيستقبلكم الخلاء أجسادا فتية مبللة بندى الحقول.
وساد الصمت. لم ينبس أحدهم بكلمة، وترددت أنفاس نوم عميق. وجعل ينقل بصره من واحد لآخر، ثم تنهد بارتياح متمتما: مبللة بندى الحقول.
الوجه الآخر
زارني عثمان بعد غياب طال بسبب خدمة طويلة في الأقاليم. تعانقنا بحرارة، تذاكرنا عهدا ماضيا امتد من الطفولة مارا بالشباب حتى الكهولة. وقد عاد ليشغل وظيفة هامة رئيسية في جهاز الأمن عقب انتصارات خطيرة أحرزها في مطاردة المجرمين. وبعد أن شرق بنا الحديث وغرب سألني: هل ترى رمضان؟
توقعت هذا السؤال طيلة الحديث. حدثني قلبي بأنه آت لا ريب فيه، وأجبت بأمانة: أجل، بين حين وآخر. - ما زلتما صديقين؟ - أجل. - أليس غريبا أن تظلا صديقين وأنت المربي الفاضل؟ - الأمر لا يخلو من غرابة ولكنها عشرة عمر، ثم إنه يلقاني إذا جاء كشخص أليف مستأنس كأنما لا يمت بصلة إلى الشخص الآخر المثير للفزع. - لا أتصور ذلك! - ولكنها حقيقة، وعلاقته بي هي العلاقة الإنسانية الوحيدة في حياته، فلا عجب أن يحرص عليها. - قد يدهمك بغدره على غير انتظار. - لا سبب يدعو إلى ذلك البتة!
تنهد بحزن عميق، وشاركته مشاعره؛ إنه شقيقه، وهو يمثل نقطة سوداء دامية في حياته وحياة أسرته؛ نشآ في بيت واحد . نشأنا في حارة واحدة تحت ظل جيرة حميمة .. ولكن رمضان كان دائما ريحا هوجاء تعصف الوجوه بالطين والتراب. وسألني: هل تستطيع أن تهيئ لي لقاء معه في بيته؟
تفكرت مليا في قلق، فعاد يقول بإلحاح: لا بد من ذلك، إني مسئول عن الأمن، وأنت أدرى بما في موقفي من حرج! - ولكنه ... أعني ... - ولكنه يمقتني، ويسيء بي الظن، غير أنه سيثق في كلمتك! - أعدك بالسعي إلى تحقيق رغبتك، ولكن عدني بالتزام الحلم إلى أقصى حد مهما لقيت من استفزاز. - ليس في نيتي طبعا أن أعرض بيتك المنعزل في الضاحية الهادئة للفضيحة .. إني أعطيك كلمة شرف، وأنت أدرى بقدرتي على ضبط النفس. - وقد وعدتك! - تبدو غير متحمس؟ - فعلا. - وتراه لقاء عقيما؟ - أي نعم. - ولكن لا بد منه! - أي نعم.
وتبادلنا نظرة طويلة حزينة، وتلبدت سماؤنا بغيوم الذكريات المتجهمة، الصداقة الحميمة وقوى الهوس الصبياني التي انقلبت مع الزمن شرا كاسرا. وقال بنبرة كئيبة: لم أكن أتخيل أنه سيتردى إلى هذه الدرجة من الحضيض! - ولا أنا، ولو أن العمر والتجربة ومزاولة التربية لم تدع لي مجالا واسعا للدهشة. - وكم أرقتني أنباء تدهوره وأنا بعيد عن العاصمة! - لم يكن في الوسع صنع شيء. - لا أشك في أنك حاولت الإصلاح ما وسعك ذلك. - طبعا، ولكن النصيحة تؤجج ناره، فتجنب الحديث الشائك. - واحتفظت بصداقته رغم ذلك؟! - كان الذي بيننا أعمق من أخوة حميمة، ثم إن الإنسان الذي يجيء لمقابلتي إنسان آخر، طيب المعشر، عامر بأجمل الذكريات، يفيض بالود قلبه. - وكيف تفسر ذلك؟ - إن الحية الغادرة لا تخلو من عواطف أمومة! - ولكنك تعلم أنه وحش قذر وعار إنساني! - لن أدافع عن نفسي؛ فإني صديقه كما أنك شقيقه. - لا زلت أعجب أنك لم تقطعه!
داريت ابتسامة كئيبة، وقلت: إنه ليس كائنا من جنس آخر غير جنسنا، الحكاية أنه أسير الأهواء التي وفقنا إلى كبحها. - هو الفرق بين المدنية والوحشية. - إني لا أدافع عن انحرافه!
ولذنا بالصمت مليا، ثم عاد يسأل: هل زرت مخبأه في الجبل؟
تساءلت بدوري ضاحكا: هل تبدأ التحقيق معي؟
فضحك ضحكة فاترة ولم ينبس، فقلت: لا أدري شيئا عن هذا المخبأ المزعوم.
فقال بامتعاض: اعتداء، برمجة، بلطجة، مخدرات، عربدة، سرقة ونهب، هتك أعراض. - أما المبالغات فقد خلقت منه أسطورة! - إني أعرفه من المهد، وأنت كذلك! - أي نعم. - كنا ثلاثة، وكنا واحدا! - أجل. - انظر كيف انشق وانحرف! - يا للأسف! - شرير بطبعه. - الأفضل أن نقول: إن ثمة معاملات صادفته داخل البيت وأخرى في الطريق. - لا هذه ولا تلك يمكن أن تبرر هذا المصير الأسود. - أنا لا أدافع عنه، ولا جدوى من ذلك!
نهض وهو يقول إنه آن له أن يذهب، ذكرني بوعدي. ثم ودعني وانصرف. •••
وقلت لرمضان ونحن نحتسي الشاي بعد العشاء: أحدهم يروم مقابلتك.
حدجني بنظرة ثاقبة، نظرة ينفذ بها إلى باطن محدثه إذا تشمم وراء كلماته أمرا. وقال متهكما: إن تكن امرأة فأهلا وسهلا بها!
وأدركت أنه أدرك ببساطة: إنه رجل، ومن رجال الأمن.
فقال مقطبا: توقعت ذلك مذ علمت بعودته إلى العاصمة. - هذا يقطع بحسن ظنك به.
فتقلص وجهه غضبا - وما أسرع انفعالاته - وقال: اللعنة! إنه مثال العقل كما يقولون، ولعله ازداد مع الأيام ثقل ظل! - لا شك أن وراء رغبته بواعث طيبة. - منذ المهد وهو يود القضاء علي! - كان يود لك أن تسلك في الدنيا مسلكه. - العقل .. الاتزان .. الاعتدال .. النظام .. الاجتهاد .. الأدب، إنه رمز الموت في عيني!
يا للذكرى، شد ما تبادلا المقت. وبازدراء متقزز كان عثمان يقول عنه «عاصفة مجنونة .. نزوة بلا ضابط .. ثور هائج معصوب العينين .. مجموعة من الأكاذيب والخرافات.» شد ما تبادلا المقت، ولكن من الغريب أنني أحببتهما معا. عثمان كان الرفيق الذي شجعني على الدرس والخلق والوطنية، وأما رمضان فكنت أهرع إليه ليروي ظمئي المكبوت إلى الانطلاق والأسطورة والغاية. وقلت له: إنه أخوك على أي حال. - ماذا يريد مني؟ - ليس من الصعب أن نتخيل. - لعلها مكيدة!
فقلت محتجا: كلا .. ألف مرة كلا. - العقل يعني الحكمة، والأنانية، والجبن. - لك أن ترفض إذا شئت! - يجب أن يعرف أنني لا أخشاه. - إذن فلنحدد موعدا؟ - ولكني لن أقع كذبابة. - والرأي؟ - لعله يريد أن ينتقم! - لقد انقضى الماضي واختفى، وهو اليوم زوج وأب سعيد.
تذكرت عروس عثمان الأولى التي هربت مع رمضان موقعة بالأسرة زلزالا، وكيف عاملها بعد معاشرة أسبوع بوحشية حتى اضطرت إلى الاختفاء مجللة بالعار واليأس. وعدت أقول: لقد مضى ذلك وانقضى، ولك أن ترفض إذا شئت.
فتفكر مليا، ثم قال: ادعه .. وسوف أحضر متأخرا بعد أن آخذ حذري. •••
وجاءنا رمضان ونحن ندخن في حجرة المكتب، ووقف عثمان لاستقباله، فالتقيا وجها لوجه بعد فراق ربع قرن من الزمان، نظرت إليهما باهتمام محموم وقلبي يخفق، تقابلا بوجهين جامدين لم يتحركا باختلاجة عاطفية واحدة، وتصافحا مصافحة رسمية باردة، وقال عثمان: أشكرك على قبول دعوتي.
وجلس عثمان على مقعده، على حين جلس رمضان إلى جانبي على الكنبة، واقترحت أن أنصرف، ولكنهما أصرا - معا - على استبقائي. وقال عثمان مخاطبا أخاه: لا أظنك تجهل السبب الذي دعوتك من أجله؟
قال رمضان ببرود: صارحني بما لديك. - طيب، نحن نعمل الآن في مدينة واحدة، ويحسن بنا أن نتجنب - ما وسعنا ذلك - وقوع المأساة. - المأساة؟
لم يخدع بتجاهله إذ كان على يقين من إدراكه لما يعنيه؛ ولذلك واصل حديثه قائلا: عندي اقتراحان.
فتساءل رمضان وهو يرمقه بتحد: أولهما؟ - أن تسلم نفسك معلنا توبتك، ولعل ذلك يخفف من عقوبتك. - وثانيهما؟ - أن تبتعد عن طريقي بالوسيلة التي تختارها.
ضحك رمضان ضحكة هازئة ولاذ بالصمت. انتظر عثمان مليا، ثم تمتم: الحق أني لم أتوقع خيرا. - إذن فلم دعوتني؟ - لكي أبرئ ذمتي.
قطب رمضان غاضبا، وقال: طالما رغب كلانا في القضاء على الآخر! - هذا حق فيما يتعلق بك. - وفيما يتعلق بك أيضا، ولكن كان لك أسلوبك الخاص. - لا جدوى من الجدل، والأفضل أن تفكر فيما عرضته عليك. - لن تظفروا بدليل ضدي ولا شاهد. - أنصحك بألا تطمئن إلى ذلك. - جرب حظك إذا شئت. - سأجربه بلا أدنى تردد.
بدهتني حقيقة طريفة. إنهما كانا يقتتلان طيلة العمر ومذ كانا في المهد، لم يجد جديد سوى أنهما سيتلاقيان وجها لوجه، سيكتشف كلاهما عما قريب أنه كان يقاتل شقيقه أو جزءا من نفسه.
نهض رمضان قائما، لوح بيده محييا، ومضى عابسا عصبي الخطوات. •••
بدأت المعركة بين الشقيقين عقب ذلك الاجتماع بأيام، دهمت قوات الأمن جميع الأماكن المشبوهة في المدينة والجبل والخلاء. قبض على جميع من ظن أن لهم بالرجل علاقة من الرجال والنساء، واستجوبوا بعنف فتتابعت الاعترافات، وتضاعف عدد المقبوض عليهم بعد أن ثبت أن أعوانه منبثون في أماكن لا حصر لها كالملاهي والأندية والمقاهي والمصالح الحكومية، حتى أماكن العبادة لم تخل منهم. وتدفقت القوات بكل ثقلها في مطاردة عنيفة جللت المدينة بطابعها الإرهابي؛ فذكرت الناسين بأيام الطوارئ وليالي الغارات، فتشت العيون السيارات والتاكسيات والناقلات، ومسحت الكشافات زوايا الجسور ومنعطفات الطرق والخرابات، وطوفت القوارب الشراعية فوق سطح النيل، واقتحمت الخلوات على العاشقين. ومكالمة تليفونية عابثة كانت خليقة بأن تحرك فرقة كاملة من الشرطة وتزلزل عمارة آمنة، وندبة في أنف رجل بريء أو بروز غير عادي في جبهته قد تجر عليه من الويلات ما لم يكن يحلم به. ولم يكن من النادر أن تند عن ركن من الطريق صيحة، تعقبها أصوات أقدام راكضة، ثم تنطلق رصاصات، فيخلو الطريق في ثوان، وتنقض على أديمه مطاردة عنيفة لا تنتهي إلى شيء. وأظلت المدينة سحابة قاتمة تقطر رعبا. •••
تابعت أخبار المعركة باهتمام لم أشعر بمثله من قبل، وكنت على يقين من الخسران الشخصي مهما تكن نتيجة المعركة، فلا مفر من أن أفقد أحد أحب رجلين إلى قلبي، وموقف الحياد بينهما لا يهضمه ضميري؛ فلا بد من الانحياز إلى عثمان، غير أن عواطفي تمردت علي واقتتلت بمرارة ومزقتني تمزيقا؛ فكلما أحرز رجال الأمن انتصارات حاسمة داخلتني كآبة، وأشفقت من خلو عالمي من رمضان ومرحه وأساطيره ومغامراته في دنيا الجنس والتحدي، وكلما فاز الرجل في مطاردة ونشر الرعب من حوله وهدد أخاه انقبض قلبي، واستشعرت خوفا من تسلط قوى الهدم والعربدة وتمكنها من تقويض دعائم الأمن والحضارة، وانبهم أمري على نفسي، ولم أعد أدري أي رجل أكون! ولا ماذا أروم؟ ولا كيف أبلغ التوازن المنشود؟ هكذا تابعت أنباء المعركة باهتمام وانفعال وخجل وحيرة. •••
وانتهت المعركة إلى خاتمتها المحتومة، وطلعت علينا الصحف ذات صباح بصورة رمضان وقد خر صريعا مضرجا بدمه. انقضت المطاردة الجهنمية وأيام القلق ولياليه، رنوت إلى الصورة طويلا حتى شعرت بالدمع يدب في أعماق عيني. وحنقت، امتلأت بالحنق، ولكني لم أدر علام أحنق، وازدحمت مخيلتي بالقوى الكونية المدمرة كالزلازل، والبراكين، والأعاصير، والشهب، والفياضانات، والجراثيم. ولم أدر هل أتذكرها على سبيل التشفي أو لأعرف موضعها بين الخير والشر؟
وزارني عثمان بعد ذلك بأيام، كان كل شيء في الدنيا قد انقلب رأسا على عقب، في دنياي على الأقل، وبخلاف العهد وجدت نحوه نفورا مرضيا بذلت قصاراي لأروضه وأهذبه. وشعرت في ذاتي بعديد من الشخوص تتصارع وتتجاذب بعنف جنوني، جلسنا على مقعدين متقاربين وهو يطالعني بنظرة ثقيلة تنم عن روح ميت. وفصل بيننا صمت غامض لا يريد أن ينقشع، وأخيرا تململ في مجلسه قائلا: إرادة الله، ولا راد لإرادته.
فقلت - أو قال لساني بلا وعي: إني أرمل وحيد، وقد امتلأ البيت بالأشباح.
تفحصني بقلق، ثم قال: إنك لا تبدو كما عهدتك. أأنت مريض؟! - لا أشكو إلا من الأشباح. - أنت لا تعني ما تقول!
فقلت - وأنا أضحك ضحكة رجل نسي تماما كيف يسيطر على نفسه: عشت عمري متوهما أن سلوكك كان المثل الذي قادني إلى طريق النجاح حتى تبوأت مكاني المرموق في عالم التربية! - لعلك تبالغ. - فعلا، إني نجحت بفضله هو، هذه هي الحقيقة. - هو؟ - الرجل الذي عبأت قوى الأمن لقتله! - حديثك يقلقني! - شبح من الأشباح أكد لي ذلك! - عزيزي! - صه ... وقال لي أيضا: إن رمضان انطلق من قاعدة لا يمكن الدفاع عنها، ولكنه اتبع أسلوبا رائعا، أما نحن - أنا وأنت - فلنا قاعدة لا يمكن الهجوم عليها، ولكننا نتبع أسلوبا سمجا ميتا. - لا أفقه لقولك معنى! - من العسير فهم لغة الأشباح. - صديقي .. إنك في حاجة إلى نوم عميق. - إني في حاجة إلى يقظة مجنونة. هكذا قالت الأشباح! - جئتك بعد أن أضناني الغم. - وسقوني جرعات ضخمة من شراب الأعاصير .. وقالوا: لي إن من يهدم مدينة خير ممن يحافظ على جدار قديم.
ونهضت فجأت ورحت أتمشى في الحجرة متوكئا على عصا، فهتف بي: إنك تعرج!
فأشرت إلى ركبتي، وقلت: التهاب أصابني صباح اليوم المشئوم! - زرت طبيبك؟ - كلا سأجد دوائي عند الأشباح.
اربد وجهه باليأس، فهتفت متشفيا: سأنبذ التربية والقواعد والطقوس، ابتعت لوحة وعلبة ألوان وأقلاما وفرشاة، سأعمل مصورا؛ مصورا أعرج، وقد جئت بامرأة عارية كنموذج!
وأزحت الستار عن باب الحجرة المجاورة فتبدت عارية، وهي تنظر إلينا بهدوء وتحد! ردد عينيه عثمان بينها وبيني في ذهول، فصحت ضاحكا: لعلك تسألني عما أدراني بقواعد الرسم وأصوله؟ حسن، لن يعرقلني شيء، سأقبض على الأدوات وأدمر كل شيء.
ورميت عينيه المحملقتين بنظرة متحدية، وقلت بهوس: لقد أضعت أيامي في صحبة العقلاء، سألهو بالأشياء العميقة، سأنصب شراعي في مهب العاصفة، سأسحق مقتنياتي، وأقذف بها للرياح، سأعرض عن العقلاء الشرفاء، وليجرفني الدوار، فليكونوا سعداء نافعين، ولأكن مجنونا مخربا، وليتقبلني الشيطان، وتسألني عن القواعد والتقاليد فأقول لك: إنه لن يعرقلني شيء، سأقبض على الأدوات وأدمر كل شيء.
ومضيت بعزم نحو الفتاة العارية، وأسدلت الستار ورائي.
الحاوي خطف الطبق
قالت لي أمي: آن لك أن تكون نافعا.
ودست يدها في جيبها وهي تقول: خذ هذا القرش واذهب لتشتري الفول، لا تلعب في الطريق، وابتعد عن العربات.
تناولت الطبق ولبست قبقابي، وذهبت وأنا أترنم بأغنية. وجدت زحاما أمام بياع الفول؛ فانتظرت حتى عثرت على منفذ إلى الطاولة الرخامية، وهتفت بصوتي الرفيع: بقرش فول يا عم.
سألني بعجلة: فول خالص، بزيت، بسمن؟
لم أجد جوابا، فقال لي بخشونة: وسع لغيرك.
تراجعت مسحوبا بخجلي وعدت إلى البيت خائبا، فصاحت بي أمي: راجع بالطبق فارغا، دلقت الفول أم ضيعت القرش يا شقي؟
فتساءلت محتجا: فول خالص، بزيت، بسمن، لم تخبريني! - يا خيبة، ماذا تأكل كل صباح؟! - لا أعرف! - خيبة .. خيبة، قل له فول بزيت!
مضيت إلى البياع، وقلت له: بقرش فول بزيت يا عم.
سألني مقطبا نافد الصبر: زيت حار، زيت طيب، زيت زيتون؟
بهت فلم أحر جوابا أيضا، فصاح بي: وسع لغيرك.
رجعت مغيظا إلى أمي، فهتفت داهشة: عدت كما ذهبت، لا فول ولا زيت.
فقلت بغضب: زيت حار .. زيت طيب .. وزيت زيتون .. لم لم تخبريني؟ - فول بزيت يعني فول بزيت حار. - إيش عرفني؟ - انت خيبة، وهو رجل متعب، قل له بزيت حار.
ذهبت مسرعا، وهتفت بالبياع وأنا على مبعدة أمتار من دكانه: فول بزيت حار يا عم.
وقفت ورأسي بحذاء الطاولة الرخامية وأنا ألهث. وكررت بانتصار: فول بزيت حار يا عم.
دس المغرفة في القدر قائلا: ضع القرش على الرخامة.
وضعت يدي في جيبي فلم أعثر على القرش، فتشت عنه بقلق. قلبت الجيب ظهرا لبطن ولكني لم أجد له أثرا؛ استرد الرجل المغرفة فارغة وهو يقول بقرف: ضيعت القرش، أنت ولد لا يعتمد عليك.
نظرت فيما تحت قدمي وحوالي وأنا أقول: لم أضيعه .. كان في جيبي طول الوقت. - وسع لغيرك، وقل يا فتاح يا عليم.
عدت إلى أمي فارغا، فصرخت في وجهي: يا خبر أسود، أنت يا ولد عبيط؟ - القرش. - ما له؟ - ليس في جيبي. - اشتريت به حلوى؟ - أبدا والله. - كيف ضاع؟ - لا أعرف. - تقسم على المصحف أنك لم تشتر به شيئا؟ - أقسم ... - جيبك مثقوب؟ - أبدا. - ربما تكون أعطيته للبياع في المرة الأولى أو الثانية؟ - يمكن. - ألست متأكدا من شيء؟ - أنا جائع.
ضربت كفا بكف، وقالت: أمري لله، سأعطيك قرشا آخر، ولكني سآخذه من حصالتك، وإذا عدت بالطبق فارغا سأكسر رقبتك!
وذهبت جريا وأنا أحلم بفطور لذيذ، وعند المنعطف المفضي إلى حارة البياع رأيت حلقة من الصبيان والأطفال، وسمعت تهليل أفراح. ثقلت قدماي وشد قلبي إليهم، على الأقل ألقي نظرة عابرة. اندسست بينهم، فإذا بالحاوي يطالعني، غمرتني فرحة مذهلة، نسيت نفسي تماما، استمتعت بكل قوة بألعاب البيض والأرانب والحبال والثعابين، ولما اقترب الرجل ليجمع النقود تراجعت هامسا: «لا نقود معي.» انقض علي متوحشا، تخلصت منه بصعوبة، جريت ولكمته تشق ظهري ، ولكني سعدت للغاية، وذهبت إلى البياع وأنا أقول: بقرش فول بزيت يا عم.
جعل ينظر إلي ولا يتحرك، فكررت الطلب، فسألني بغيظ: هات الطبق. - الطبق! أين الطبق؟ سقط مني وأنا أجري؟ خطفه الحاوي؟ - أنت يا ولد عقلك ليس في رأسك!
عدت أفتش في الطريق على الطبق المفقود؛ وجدت موضع الحاوي خاليا، ولكن أصوات الأطفال دلتني عليه في حارة قريبة. درت حول الحلقة، لمحني الحاوي، فصاح بي مهددا: ادفع أو فاذهب أحسن لك.
فهتفت بيأس: الطبق! - أي طبق يا ابن الشياطين؟ - رد إلي الطبق. - اذهب وإلا جعلتك طعاما للثعابين.
إنه سارق الطبق، ولكني ابتعدت عن مرمى عينيه اتقاء لشره، ومن القهر بكيت، وكلما سألني مار عما يبكيني قلت له: «خطف الحاوي الطبق.» وانتبهت من كربي على صوت يقول: «اتفرج يا سلام.» نظرت خلفي فرأيت صندوق الدنيا قائما، ورأيت عشرات من الأطفال تهرع إليه. وتتابع وقوف المشاهدين أمام عيني الصندوق، وراح الرجل يشرح الصور بإغراء: «عندك الفارس الهمام، وست الكل زينة البنات.» جفت دموعي وتطلعت إلى الصندوق بشغف، نسيت الحاوي تماما والطبق، لم أستطع مقاومة الإغراء، دفعت القرش ووقفت أمام العين إلى جانب بنت وقفت أمام العين الأخرى، تسلسلت أمام ناظري صور الحكايات الخلابة. ولما عدت إلى دنياي كنت فقدت القرش والطبق ولم يعد للحاوي من أثر، لم أفكر فيما فقدت، واستغرقتني صور الفروسية والحب والصراع، نسيت جوعي، حتى المخاوف التي تتهددني في البيت نسيتها. تراجعت خطوات لأستند إلى جدار أثري كان يوما ما مبنى لبيت المال ومقرا للقاضي، واستسلمت بكليتي للأحلام. حلمت طويلا بالفروسية وزينة البنات والغول، وتكلمت في حلمي بصوت يسمع، ولوحت بيدي بأكثر من دلالة، وقلت وأنا أدفع بالحربة الخيالية: خذ يا غول في قلبك.
وجاءني صوت رقيق قائلا: ورفع زينة البنات خلفه فوق الحصان.
نظرت إلى يميني فرأيت الصبية التي زاملتني في الفرجة؛ تبدت في فستان متسخ وقبقاب ملون وهي تعبث بضفيرتها الطويلة، وفي يدها الأخرى حبات بيضاء وحمراء من «براغيث الست» تستحلبها على مهل. تبادلنا النظر، مال قلبي إليها، فقلت لها: نجلس لنستريح.
بدت مستسلمة لاقتراحي، فأخذتها من ذراعها ودخلنا من بوابة الجدار الأثري، فجلسنا على درجة من سلمه الذي لا يفضي إلى شيء؛ سلم يرتفع درجات حتى ينتهي إلى بسطة تلوح وراءها السماء الزرقاء والمآذن. جلسنا صامتين جنبا إلى جنب، قبضت على يدها، وجلسنا صامتين لا ندري ماذا نقول. وتناوبتني مشاعر غريبة وجديدة ومبهمة، قربت وجهي من وجهها، فشممت رائحة شعرها الطبيعية تخالطها رائحة ترابية وعبير أنفاس ممزوج بشذا الحلوى. قبلت شفتيها. ازدردت ريقي الذي اقتبس مذاقا حلوا من ذوب براغيث الست، أحطتها بذراعي دون أن تنبس بكلمة، وأقبل خدها وشفتها، فتسكن شفتاها عند تلقي القبلة ثم تعودان إلى استحلاب الحلوى. وقررت أخيرا أن تقوم، قبضت على ذراعها بجزع وأنا أقول: اجلسي.
فقالت ببساطة: أنا ذاهبة.
فسألتها بضيق: إلى أين؟ - إلى أم علي الداية.
وأشارت إلى بيت يقيم أسفله كواء بلدي. - لماذا؟ - لأقول لها أن تأتي بسرعة. - لماذا؟ - أمي تصرخ في البيت، قالت لي اذهبي إلى أم علي الداية، وقولي لها أن تأتي بسرعة ... - وستعودين بعد ذلك؟
فهزت رأسها بالإيجاب وذهبت. تذكرت بذكر أمها أمي؛ انقبض قلبي، غادرت السلم الأثري عائدا إلى البيت، بكيت بصوت مرتفع وهي طريقة مجربة أدافع بها عن نفسي. توقعت أن تجيئني ولكنها لم تأت، تنقلت بين المطبخ وحجرة النوم فلم أعثر لها على أثر! أين ذهبت الأم؟ ومتى ترجع؟ وضقت بالبيت الخالي، وخطر لي خاطر طيب، أخذت من المطبخ طبقا، ومن حصالتي قرشا، وذهبت من فوري إلى بياع الفول. وجدته نائما على أريكة أمام الدكان مغطيا وجهه بذراعه، اختفت قدر الفول، وأعيدت قوارير الزيت إلى الرف وغسلت الرخامة، اقتربت منه هامسا: يا عم ...
فلم أسمع إلا شخيره، لمست كتفه فرفع ذراعه في انزعاج، وطالعني بعينين حمراوين: يا عم ...
انتبه إلى وجودي وعرفني، فسألني بخشونة: ماذا تريد؟ - بقرش فول بزيت حار. - هه؟ - معي القرش ومعي الطبق.
صرخ في وجهي: أنت مجنون يا ولد، اذهب وإلا كسرت دماغك.
ولما لم أتحرك؛ دفعني بيده دفعة قوية ألقتني متقهقرا على ظهري. نهضت متألما وأنا أقاوم البكاء الذي يلوي شفتي، ويداي قابضتان إحداهما على الطبق والأخرى على القرش. رميته بنظرة غاضبة، فكرت في عودة خائبة يائسة، ولكن أحلام الفروسية عدلت من خطتي، صممت واتخذت قرارا سريعا. وبكل قوة ساعدي رميته بالطبق، طار الطبق فأصاب رأسه. ركضت بسرعة لا ألوي على شيء. وملأني اليقين بأنني قتلته كما قتل الفارس الغول، ولم أتوقف عن الجري إلا على مقربة من الجدار الأثري، نظرت خلفي وأنا ألهث فلم أر أثرا لمطاردة. وقفت حتى تمالكت أنفاسي، ثم ساءلت نفسي ما العمل وقد ضاع الطبق الثاني؟ وشيء يحذرني من العودة المباشرة إلى البيت. وما لبثت أن استسلمت إلى موجة من الاستهانة تحملني إلى حيث تشاء، هي علقة لا أكثر ولا أقل، وسأنالها لدى العودة، فلنؤجل العودة إلى حينها، وها هو القرش في يدي، ويمكن أن أحظى بمتعة لا بأس بها قبل العقاب. قررت أن أتناسى جريمتي، ولكن أين الحاوي؟ وأين صندوق الدنيا؟ فتشت عنهما هنا وهناك بلا ثمرة. أرهقني البحث العقيم، فمضيت إلى السلم الأثري وراء الميعاد. جلست أنتظر وأتخيل اللقاء. تاقت نفسي إلى قبلة أخرى معبقة بشذا الحلوى، واعترفت فيما بيني وبين نفسي بأن الصبية وهبتني مشاعر لم أجرب أطيب منها من قبل. وفيما أنتظر وأحلم ترامى إلي همس من الجهة الخلفية، رقيت في الدرج بحذر، وعند البسطة الأخيرة انبطحت على وجهي لأرى ما وراءها دون أن يلمحني أحد. رأيت خرابة مطوقة بسور عال، وهي آخر ما بقي من بيت المال ومقر قاضي القضاة، وتحت السلم مباشرة جلس رجل وامرأة. هما مصدر الهمس؛ أما هو فأشبه بالمتشردين، وأما هي فغجرية ممن يرعين الأغنام. صوت باطني مريب قال لي بأنهما يجتمعان في «ميعاد» كالذي جاء بي. بذلك تنطق الشفاه والنظرات والأعين، ولكنهما على خبرة مدهشة، ويفعلان أمورا لا يحيط بها الخيال. شد بصري إليهما مشدوها في استطلاع ودهشة ولذة، ولم يخل من انزعاج.
وجلسا أخيرا جنبا إلى جنب، لم يعد يهتم أحدهما بالآخر. وبعد فترة ليست بالقصيرة قال الرجل: النقود.
فقالت بضيق: أنت لا تشبع.
بصق على الأرض، ثم قال: أنت مجنونة. - أنت لص.
بظهر يده لطمها لطمة قوية، قبضت حفنة تراب وقذفتها في وجهه؛ انقض عليها بوجه مغبر فأنشب أصابعه في زمارة رقبتها. بدأ صراع جهنمي مرير. ركزت قواها عبثا لتخليص رقبتها من يده، احتبس صوتها، جحظت عيناها، ضربت بقدميها الهواء. حملقت فزعا أخرس، حتى رأيت خيطا من الدم يتسلسل من أنفها، فرت من فمي صرخة. زحفت إلى الوراء قبل أن يرفع الرجل رأسه. هبطت السلم وثبا وعدوت كالمجنون إلى حيث تحملني قدماي، لم أتوقف عن العدو حتى انقطعت مني الأنفاس، جعلت ألهث دون أن أرى شيئا مما حولي، ولما انتبهت إلى نفسي وجدتني تحت قبو مرتفع يتوسط مفترق طرق، لم تطأه قدماي من قبل، ولا فكرة لي عن موقعه بالنسبة لحينا. وكان يقتعد جانبيه شحاذون لا يبصرون، ويعبره في شتى نواحيه أناس لا يلتفتون إلى أحد، أدركت بخوف أنني ضللت الطريق، وأن متاعب لا حصر لها تتربص بي حتى أهتدي إلى سبيلي. هل ألجأ إلى أحد المارة لأسترشد به؟ ولكن ما العمل لو ساقني الحظ إلى رجل كبياع الفول أو متشرد الخرابة؟ هل تقع معجزة فأرى أمي مقبلة فأهرع إليها بكل قلبي؟ هل أجرب السير وحدي فأتخبط حتى أعثر على أثر أستدل به على طريقي؟
وقلت: إن علي أن أحزم أمري، بسرعة ودون تردد، فقد أخذ النهار يولي، وعما قليل سيهبط الظلام من مجاهله.
ثلاثة أيام في اليمن
(1)
الأديب
ها هي السيارة تنطلق والقاهرة تبتعد، تطايرت الهموم وخفقت القلوب في طريق السويس. وقال في صوت حنون: لن نفترق زهاء أسبوعين، كم تمضي أيام طويلة دون أن يرى أحدنا الآخر!
أحدقت بنا لا نهائية الصحراء من الجانبين، فأهدت إلينا هواء منعشا رغم حرارة يوليو. وصلنا إلى ميناء الأدبية مع المساء، تعلقت أعيننا بالسفينة الراسية عند الشاطئ حينا، ثم أخذنا سبيلنا بين صفوف من الجند وأكوام من المؤن والذخيرة، مضى بنا المرشد إلى مركز التشهيلات، تم التعارف بيننا وبين الضابط، ثم جلسنا ننتظر. إنه ليس بضابط، كلا! إنه دوامة مكهربة، يحرك الجنود والموظفين بأصابعه العشرة وبحاجبيه وأنفه وشفتيه، ويتكلم من خلال عشرة تليفونات. وكلما مر بنا بصره تفحصنا باسما، وهز رأسه هزة تدعو للتساؤل والفضول. آلو ... ليتقدم حملة صناديق الذخيرة، يا عم حسنين، أنت مسئول عن توصيل البطاطس .. هات الساركي، اسمعني يا يسري السطح الأمامي من الدور الأول للسرية الثالثة، عليوة راجعت شهادات التطعيم؟ مرحبا بضيوفنا الأدباء مرحبا! سمعت عبد الوهاب وهو يغني قصيدتك يا أستاذ، انتهيتم من التيفود؟ والكوليرا؟ آلو ... انتهى التطعيم؟ أما مقالاتك أنت يا أستاذ فهي السحر الحلال، آلو ... أرسل شخصا لتطعيم الأدباء. - تم تطعيمنا ضد الكوليرا والجدري. - والتيفود؟ - أكدوا في البلدية ألا ضرورة لذلك. - التيفود مهم جدا .. دعوني أتصرف؛ فأنا منذ الساعة مسئول عن الحركة الأدبية في مصر. - ولكنكم تعطون الحقن بطريقة عسكرية .. أعني ... - يا رب السماوات! أيخاف من الحقن أصحاب «البيداء تعرفني!» و«علو في الحياة وفي الممات»؟!
استسلمنا. اجتزنا فترة عصيبة لم تخل من التأوهات. ولما انتهى التطعيم قال: انتهينا من الكوليرا والجدري والتيفود ...
ثم وهو يتفحص وجوهنا بنظرة غامضة: أما بقية الحميات هناك فلم يكشف الطب سرها بعد!
تبادلنا نظرات ارتياب وتوجس على حين انصرف عنا في غير مبالاة. وجرى التهامس بيننا في إشفاق: أحق ما يقول؟ - يبدو الأمر جدا. - إذن ما معنى هذه الرحلة؟ - لننفعل بالأحداث. - أليس من الأسلم أن ننفعل في القاهرة؟ - وهؤلاء الجنود أليسوا بشرا مثلنا؟ - ولكنهم جنود. - لعله يمازحنا.
وإذا به يلتفت نحونا هاتفا: ستنفعلون أولا وقبل كل شيء بالحميات المجهولة.
وضحكنا طويلا، ضحكنا وكأننا نتسول تكذيب الظنون، ضحكات هي الأصوات المسموعة للقلق المتطاحن في أعماقنا، ولكنه استقبل هدنة راحة في زحمة العمل فرمقنا بنظرة جادة حقيقية لأول مرة؛ جادة وودودة. ثم قال بنبرة أخوية: أهلا بكم فرصة طيبة وسعيدة، وهنيئا لكم زيارة بلد شقيق ثائر، ستجدون له مذاقا خاصا، وجمالا ذا سحر غير منكور، فاذهبوا بسلام آمنين.
شددنا على يده بامتنان، وذهبنا وراء حقائبنا المحمولة إلى السفينة. ودعانا القبطان إلى العشاء. وطيلة الوقت ترامى إلينا غناء الجنود من سطح السفينة الأمامي، ودار حديث عن ميعاد الإبحار والجو. وأعلمنا الرجل الكريم الظريف بأننا سنكون ضيوفه طوال الرحلة.
وفي أثناء ذلك اختفى من الصحاف الدجاج والشواء والملوخية والبطاطس والسلطة الخضراء والمش والبطيخ. ودعانا إلى قضاء السهرة في جناحه المطل على البحر، ثم مضى إلى عمله. أطفأنا المصباح واهبين الليل أنفسنا. أنعشنا شراب البرتقال ونسمة معبقة بجو الميناء، وما زالت أغنية تتردد متهادية إلينا من معسكر الجنود فوق مقدم السفينة. - ترى فيم يفكرون حول بنادقهم؟ - الحرب .. إنها الحرب. - أقدم حرفة في الوجود. - لكنها تنشب هذه المرة في سبيل التحرير والحرية. - إنها الحرب، وهي ككل حدث خطير تدفعنا إلى مواجهة لغز الوجود، وجها لوجه!
وتذوقنا حينا النسمة الملاطفة، استسلمنا بكل قوانا للحظة طيبة خالية من الكدر، ثم تفرق الحديث واختلف كأنما يدور بين أجيال، وأوشك أن يستقل كل اثنين بفكرة ما. - ستكون الحرب القادمة خاتمة الحروب. - ولكن هل تستمر الحضارة بلا حروب؟ ••• - الحق أن العالم مقبل على عصر عليه أن يخلق فيه كل شيء من جديد. - وربما وجد أن عليه أن يعتاد الحياة بلا معنى ولا آمال كبيرة! ••• - أظنه بسكال الذي قال: إننا مبحرون في هذا العالم، ليس لنا خيار في أمر السفر فلم يبق لنا سوى اختيار السفينة. - ولكن كيف نختار سفينة مناسبة إذا لم يكن لدينا فكرة عن الرحلة؟
الأفكار مغلقة، ولكن الأصوات راضية تند عنها غبطة المستمتع بعشاء لذيذ وشراب منعش. والغناء لا يتوقف، يحمل إلينا أنغام حماس وحنين، وثمة تساؤلات عما ينتظرنا هناك عند المأكل والمشرب والمنام، ومخاوف أوشكت أن تتضخم لولا أن ارتفع صوت قائلا: ما هي إلا أيام ثم تنقضي بسلام؛ دعونا نشارك الجنود حياتهم ولو بدون قتال.
شعرت برغبة في الحركة، غادرت جناح القبطان إلى السطح ماضيا حتى الشرفة المطلة على مقدم السفينة. رأيت الجنود على ضوء الكلوبات ما بين مستلقين وواقفين وجالسين. جال بصري بينهم في جد وانفعال، اجتاحني طوفان من الذكريات الوطنية حماسية وأليمة على السواء، لكنه طوفان حمل في النهاية هذه السفينة التي تحمل بدورها هؤلاء الجنود ثملة بنشوة النصر والأمل، ملوحة براية الأخوة والكرامة، فأيقنت أن تاريخنا الطويل المثقل بأحلك الذكريات يتكشف عن صفحة جديدة بيضاء. وخيل إلي أن اسمي يتردد في نداء صاعد من بين أمواج الغناء. حقا! أجل إن صوتا يناديني، تحرك رأسي هنا وهناك حتى رأيت جنديا يشق طريقه نحو أسفل الشرفة ملوحا بيده. أمعنت النظر فيه بدهشة، تذكرته، انحنيت من فوق السور في غاية من الابتهاج، لوح لي بيده تحية، فلوحت له بيدي.
الجندي
دعتني للجلوس فجلست، توقفت عن الكتابة على الآلة الكاتبة، وقالت لي مجاملة: شكلك ظريف في البدلة العسكرية.
نفخني السرور، رحب بي الزملاء القدماء في الإدارة. على مكتبي السابق المجاور لمكتب خطيبتي جلس شاب جديد هو الذي حل محلي بعد تجنيدي، سألتني: هل اعتدت الآن على الهبوط بالبارشوت؟
همست في أذنها: عندما أقذف بنفسي أبسمل وأتذكر وجهك، فيتم الهبوط على أحسن حال.
وناقشنا بعض المشكلات التي تلابس زواجنا كالأثاث والمسكن، فاتفقنا على الإقامة «مدة» في بيت والديها، وبذلك نؤجل مشكلة المسكن ونكتفي بتأثيث حجرة واحدة. وتركتها واعدا بزيارتها في القريب في بيتها، مضيت من فوري إلى الثكنة بمنشية البكري. ولم أكد أمكث ساعة هناك حتى صدرت أوامر بتجهيز سفريات الميدان؛ تجمعنا في الحال. سألت جاري عما هناك، فقال لي: علمي علمك. اصطفت سريتنا الثالثة، وزعت علينا البنادق، انتقلنا إلى السيارات فانطلقت بنا إلى هايكستب. كان ثمة قطار في انتظارنا، وثمة حركة نشيطة لنقل الذخيرة. همست في أذن صاحبي: اليمن؟
هز رأسه فخيل إلي أنه يوافقني على رأيي, تحرك القطار، اجتاحني شعور بالغربة والحيرة. لم أودع خطيبتي، ولم أودع أمي. منذ عام كنت موظفا، مجرد موظف على مكتب، وبفضل شبابي وصحتي أحببت وخطبت ثم جندت. ها هو القطار يحملنا إلى الميدان، سنهبط من الطيارات إلى ميدان حرب حقيقية .. لا تمرين ولا مناورة. يوم دعيت إلى التجنيد قال لي رئيس السكرتارية: «ها أنت ذاهب .. وها هو تدريبنا لك يضيع في الهواء .. ساء حظ الرئيس الذي يوظف شابا قبل تجنيده بعد اليوم!» كنت موضع ثقته، وكنت بذلك فخورا. أنا طول عمري من المتوكلين على الله المعتمدين على دعاء الوالدين. والحب عجيب كالقدر نفسه، فذات يوم عهد إلي بتدريب موظفة جديدة، لم تكن أول فتاة أدربها في السكرتارية، ولكنها كانت الأولى في حياتي. - ساءلت زميلي مرة أخرى: اليمن .. أليس كذلك؟ - أظن ذلك. - متى نعرف؟ - كل آت قريب.
إذن هي الحرب، كما نراها أحيانا على شاشة السينما، وحتى في السينما لم أشاهد معركة بارشوت؛ إذ إنني أفضل عادة أفلامنا الغنائية. كانت الأولى في حياتي فلم أعرف الحب قبلها بصفة جدية، وقلت لها: عليك بالانتباه فإن رئيس القلم يمزق أي خطاب لأقل هفوة. ما أحلى ارتباكها إذا ارتبكت! ما أجمل نظرتها وهي ترنو إلى مدربها، وهي تستهديه المعونة والثقة فيهدي إليها قلبه ومستقبله!
وقال زميلي: القطار يهدئ من سرعته، ستعرف كل شيء.
وقف القطار، أكثر من صوت ردد اسم الأدبية. أجل .. أجل. غادرنا القطار، انتظمنا الصف، سرنا إلى الميناء، جرى تطعيمنا ضد الكوليرا والجدري والتيفود. وكل حمل لوازمه ومضى نحو سفينة راسية بالميناء، تناولنا العشاء؛ أناس استغرقهم النوم، وآخرون راحوا يغنون. الحق أنني لم أركب سفينة من قبل؛ لا في البحر ولا في النيل، بل إنني لم أر البحر قط، ولم أستطع أن أرى منه شيئا في الظلام. - أين الأمواج التي يقال إنها كالجبال؟ - نحن في الميناء يا رجل يا طيب.
لفحني هواء لطيف فملأت صدري، ثم سألته: وماذا تعرف عن دوار البحر؟
فسألني بدوره: لماذا لا نغني مع من يغنون؟
تمشيت مستطلعا، لاحت مني نظرة إلى أعلى، رأيت على ضوء كلوب وجها ينظر إلي أو بدا كذلك. من؟ أستاذي القديم! أستاذي بمدرسة مكارم الأخلاق الإعدادية بشبرا. هو دون غيره. ترى ماذا جاء به إلى سفينتنا .. وجعلت أنادي وألوح بيدي وأنا أشق طريقي بين البنادق والنيام. وأخيرا عرفني فلوح لي بيده. التقينا عند منتصف السلم تماما فتصافحنا بحرارة. - أنت جندي؟ ما تصورت ذلك. - جندي منذ عام، فتركت وظيفتي إلى حين. - متزوج؟ - كلا، ولكني خاطب. - مبارك (ثم وهو يتفحص ملابسي) لا أعرف لغة ملابسكم. - من قوة المظلات يا فندم. - فرصة طيبة، أتمنى لك حظا سعيدا. - وماذا جاء بك يا أستاذي؟ - رحلة .. زيارة .. في ضيافة الجيش. - أهلا، أهلا .. إني أقرأ مقالاتك. هل تركت التعليم؟ - نعم.
وتصافحنا مرة أخرى وهو يقول: أرجو أن أراك كثيرا.
انفصلنا. عدت إلى مقدم السفينة وصعدت إلى السطح. (2)
الأديب
أخيرا تراءت لنا ميناء الحديدة.
تهادت سفينتنا في الممر المائي الذي شقه الروس في الصخر. عقب رحلة طويلة أذابتنا فيها الحرارة وأنهكتنا الأحاديث، فوق سطح بحر كظيم صامت، تحت سماء باهتة تترامى في الآفاق بلا تعبير، بين جماعات متواثبة من الدرافيل، لا تسلية لنا إلا الكلام والسجائر والذكريات، ولا عمل لنا إلا الاستجمام وتجفيف العرق.
أخيرا تراءت لنا ميناء الحديدة.
تطلعنا بشغف نحو الأرض التي ظلت دهرا طويلا متقوقعة، حتى ثارت ثورتها فحطمت القشرة الصلبة التي تحبسها فيما وراء التاريخ. - تذكروا أن وطننا تلقي موجات في إثر موجات من مهاجري هذا البلد. - لا يبعد أن نصادف أجدادا وأصولا ونحن لا ندري.
قلبت وجهي في مجموعتنا فرأيت وجوها تشي بأكثر من أصل، تتراوح جذورها ما بين البلقان والسودان مارا بالشام ومصر. قلت لنفسي إن أضمن وأعرق أصل للإنسان هو الأرض. •••
استقبلنا مندوبا القيادتين العربية واليمنية، انتقلنا إلى مركز قائد الميناء حيث قدمت لنا المرطبات؛ قائد ضخم كتمثال، وطراز من الرجال يضيف أصلا جديدا إلى مجموعتنا المتعددة الأصول. دعانا لمشاهدة خريطة لليمن. - أرض مجهولة لا يعرفها إلا المرشدون.
انتقل المؤشر من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب. - جميع هذه المدن ثائرة وموالية، أما الجبال فلا تخلو من جيوب. - اعتقدنا أن الحرب قد انتهت. - هي كذلك بالمعنى العسكري، ولكن علينا أن نطهر الجبال من المتسللين.
دعانا إلى جولة في المدينة؛ زرنا المستشفى، تجولنا في أحياء ردتنا بقدرة قادر إلى أزقة القاهرة وحاراتها القديمة . شاهدنا دكاكين حافلة بسلع من جميع أنحاء المعمورة، طالعتنا وجوه صامتة مغلقة غامضة، لا ينظرون نحونا، وإذا نظروا لم يرونا. - يا حضرة القائد .. أهم يكرهوننا؟ - كلا يا أستاذ، ولكننا في عز وقت التخزين.
أجل .. إنه القات! الدنيا تنساب في حلم كبير يرفرف فوق المدينة، ولم نعد إلا أشباحا لا حقيقة لها. وثمة تاجر مستلق على أريكة أمام دكان سأله القائد عن مكان ما، ولكنه لم يبد حراكا، ولم ينبس بكلمة .. ما فعل إلا أن رفع يده ببطء شديد مشيرا نحو المكان، كأنما هي صورة متحركة مصورة بالتصوير البطيء، أما ظاهر الرجل اليمني فيتلخص في لحية وخنجر وبندقية. والتجول بين الحوانيت مثير للغاية، وكان مدعاة للتساؤل عن بدل السفر ومتى يصل. وقال القائد: ستجدون في صنعاء سلعا أطرف وأجمل، أما تعز فحدث عنها.
ولفتت الأنظار الحقائب والأقمشة، ثم احتكرتها الهرمونات والمقويات. وتسلل من القائد إلى النفوس إعجاب ودود، تضاعف عندما دعانا إلى العشاء في مقر القيادة اليمنية، اجتمعنا هناك بكهول وشبان من اليمن، منهم من يرتدي البدلة، ومنهم من يرتدي الزي الوطني. تبادلنا الأحاديث عن الحرب والثورة والتاريخ والأدب. كشفت الروح اليمنية عن كنوزها؛ فاستعدنا شعورنا بالأنس والألفة، وتفتحت قلوبنا بلا حدود. وملت نحو زميل هامسا: أشعر كأنما رأيت هذا المكان من قبل.
فرد علي هازئا: هذه نتيجة عقدة نفسية سأحدثك عنها فيما بعد.
وضعت الموائد حول بركة كانت مسبحا للجواري ذات يوم. وعزفت لنا جوقة موسيقية وغنى لنا مهرج الإمام. وقال لنا القائد ونحن عائدون: ستبيتون الليلة في الباخرة، وغدا صباحا تذهبون إلى صنعاء.
وتساءلنا عن وسيلة المواصلات، فقال: ثمة طريق جديدة شقها الصينيون في الجبل، تقطعها السيارة في ثماني ساعات، وسوف ترافقكم قوة مسلحة.
ولدى سماع هذه العبارة الأخيرة ساورنا القلق، وسأله سائل: وما الداعي لمرافقة القوة المسلحة لنا؟
فأجاب مواريا ابتسامة: تعرضت الطريق لهجمة عدوانية فاشلة منذ أسابيع.
وأكثر من صوت قال في نفس واحد: حدثنا يا قائد عن وسيلة مواصلات أخرى.
فضحك ضحكة عظيمة، وقال: ستأخذون الطيارة ، وستصل بكم في ساعة أو أقل.
عدنا إلى الباخرة. سهرنا في جناح القبطان في جو حار رطب، خرق المألوف لنا، ولما أويت آخر الليل إلى القمرة قلت لزميلي فيها: أشعر من الحر والرطوبة بأنني سأموت عما قليل.
فأجابني بصوت ملؤه النعاس: لكل أجل كتاب.
الجندي
السفينة تقترب من الشاطئ، جمهور ضخم ينتظرنا، ولكن أي جمهور؟ نساء! أجل نساء لا حصر لهن في أزياء مزخرفة بالحمرة والزرقة. ما الذي أخرجهن من البيوت؟ وفي لهفة حزم كل جندي متاعه وعدته وحمل بندقيته. ورأينا ضيوفنا من الأدباء وهم يهبطون وراء حقابهم، وبحثت عيناي عن أستاذي السابق حتى رأيته، وددت أن أودعه ولكن الزحام والنظام حالا دون ذلك. وصدرت لنا الأوامر بالنزول فسرنا نحو السلم في ترتيب عسكري. ها أنا أستقبل بلدا غريبا بعد أن ركبت السفينة لأول مرة. وفوق الأرض تكشفت لي حقيقة المتجمهرين. إنهم رجال لا نساء كما توهمت من بعيد. يرتدون لباسا كالجونلة ويطلقون اللحى. تنغص حماسي وفتر؛ فرحت أتمشى فوق رصيف الميناء, وتذكرت أمي التي لم أودعها، وتذكرت خطيبتي التي زرتها ولم أودعها أيضا. وقلت لو أنني ودعت أمي لتلقيت من دعواتها ما ينفعني. ونودي علينا فهرعنا إلى الصف، ثم اتجهنا إلى سيارات معدة لتوصيلنا إلى صنعاء. وخرجت السيارات من حارات متربة حتى اجتزنا بوابة كبيرة، وإذا بنا ندخل في طرق ممهدة، تأخذ في الارتفاع كلما تقدمنا. وسألت زميلي: أين مملكة سبأ؟
فسألني بدوره دون اهتمام بسؤالي: أنحن ذاهبون إلى الميدان؟
وجذبت الجبال المتشابكة عيني. ألقيت بنظرة إلى أسفل؛ فأدركت مدى الارتفاع الذي نصعد إليه بلا توقف. ومضت الحرارة تخف، والجو يلطف، والدنيا تتغير، وتساءلنا حتى متى نواصل الصعود؛ فأجاب دليلنا اليمني: سنصعد فوق الجبل.
لا فرق بين السيارة والطيارة في هذا البلد. ودار بنا طريق دائري فتطالعنا الشمس المائلة حينا، وتغيب عنا حينا آخر، ويبهرنا السحاب وهو يزحف نحونا حتى روعنا، ودخلنا فيه فغاب الوجود وبتنا من أهل السماء، حتى أنفسنا غابت عنا. وارتفعت الأصوات، وتبادلنا الألقاب الضاحكة. ولما خرجنا من السحاب استوى الجبل إلى يسارنا على هيئة مدرجات تكسوها الخضرة المتألقة فهتفنا في دهشة. لم أكن رأيت من الجبال إلا المقطم فيما وراء مسجد الحسين رضي الله عنه فتلوت فاتحة الكتاب. أما إلى اليمين فينحدر الجبل صانعا مدرجات واسعة من السهول تنبت في جنباتها القرى، وتتناثر الأكواخ، وتهيم القطعان والأطفال، من تحتها خضرة ومن فوقها قطع من السحب متفاوتة الشفافية تتلاقى في احتدام، وتنتشر كقبة هائلة، ثم تلاطم سفح الجبل تحتنا فتفور كالأبخرة، وها نحن ننطلق فوق السحاب كأنما تقلنا إليوشن المظلات. قال الزميل: ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
فقلت بوجد: صدق الله العظيم.
قبيل الغروب اجتزنا بوابة صنعاء، وعلمنا أننا ذاهبون إلى كلية الطيران للمبيت فاستبشرنا خيرا، ومنينا أنفسنا بليلة نوم ناعمة. غادرنا السيارات، ومضينا نحو الكلية دون أن نتبين المبنى من الخارج لغلبة الظلام على الدنيا. ولكننا وجدنا أنفسنا في مكان هو أشبه ما يكون بالإصطبل؛ لا مقعد، ولا فراش، ولا حتى حصيرة. وقفنا ذاهلين نتبادل النظرات، وأمرنا أن ننام كيفما كان الحال حتى الصباح. نمنا ليلتنا على الأرض بكامل ملابسنا، وفي الصباح صدرت أوامر بأن ننشئ معسكرا حول مطار صنعاء فانهمكنا في العمل. ولم يكن بين أيدينا من الطعام إلا القليل، ومن الماء إلا النادر، وندرة الماء أزعجتنا بصفة خاصة. ونمنا ليلتنا في المعسكر، وفي الصباح صدرت الأوامر بالتوجه إلى مدينة عمران. خرجنا من بوابة صنعاء الخلفية، وترامى أمامنا طريق صخري يتنقل بين جبال عاتية، إني أغوص في المجاهل. أصبح الماضي بعيدا جدا، ترى هل علمت أمي بأمري؟ وهل علمت به خطيبتي؟ إنهما أعز ما يشدني إلى عالمي القديم. أما العالم الصخري المكفهر المترامى أمامي فلا أدري شيئا عما يخبئ لي من أقدار الغيب. ورأيت عن بعد سيارة مدرعة تقود قافلتنا؛ فتطلعت نحوها بثقة، ولكني قلت لنفسي إن الله وحده يحفظنا ويرعانا. - كل شيء غريب هنا. - وقافلتنا العسكرية تسير كما كنا نشاهد في السينما. - ولكن الفرجة شيء، وخوض المعارك شيء آخر. - لا يوجد إنسي. - ولا جان.
وأخيرا تراءت لنا عن بعد بوابة حجرية، تقوم على مبعدة منها إلى اليسار قلعة ذات أسوار وأبراج للمراقبة، تبودلت كلمات لم نسمعها بين السيارة المدرعة ورجال الأبراج فتح على أثرها باب البوابة، فتهادت منه قافلتنا. - مدينة عمران؟ - أجل .. لعلنا نجد مقهى أو ملهى.
وجدنا قرية كقرانا في الريف. تقع وسط سهل ومراع، تطوقها سلسلة من الجبال الصخرية من ثلاث جهات. - مدينة عمران. - مدينة عمران!
غادرنا السيارات، تناولنا الطعام من العلب، وشربنا بحيطة وحذر. أحاط بنا الغلمان والأطفال شبه عرايا، حملقوا في وجوهنا بأعين داهشة ثم تبادلنا الابتسام، ومرح الأطفال حول السيارات وتحتها. رغم البؤس أطل علينا من الأعين البريئة جمال فطري ونظرات ذكية، ترى من من هؤلاء تربطني به صلة قربى ترجع في تاريخها إلى ألف عام؟
ولم نمكث في عمران إلا ساعات، ثم صدرت الأوامر بالذهاب إلى حجة. تحركت القافلة دون أن تترك وراءها ذكريات، دخلنا في السحاب مرة أخرى حتى غاب عنا كل شيء. وندت أصوات متفرقة في المسيرة الطويلة. - أهي أرض عدوة أم صديقة؟ - ربما انهال علينا المطر أو الرصاص. - قريب من هنا هبط سيدنا آدم إلى الأرض.
تلوت الفاتحة والصمدية، ولما انجاب السحاب عنا ترامى أمامنا الطريق الصخري مرة أخرى، ثم انفسح فيما يشبه الدلتا عن أرض رملية تغطي الحشائش بعض رقعات منها متباعدة. وتوقفت القافلة فجأة فاشرأبت القلوب. دارت السيارة المدرعة في حركة مناورة. وجرى التهامس من سيارة إلى أخرى كمين ... كمين. تناولنا البنادق في حركة استعداد، برز علم أبيض من وراء أكياس الرمل المطوقة للكمين. خرج جندي يمني ملوحا ومرحبا، نزل إليه من السيارة المدرعة ضابط فتصافحا، زار الكمين ثم عاد إلى السيارة. دخلنا حجة، القرية الجديدة، يا للقرى! إن قلبي يحلم بشيء لا يتحقق. التقينا بجنود مصريين من المشاة، تفرقنا في الخلاء والشمس على وشك المغيب، الجو مائل للبرودة كأيام الخريف يا مصر. - جنود مظلات؟ - نعم. - صرواح! - صرواح. - هبط الجنود في واد ضيق تكتنفه الجبال. - في صرواح؟ - نعم .. ثم انهال عليهم الرصاص من الجبال. - في أي وقت؟ - الفجر. - وقت يسهل فيه الاختفاء، هل وقع ضحايا كثيرون؟ - غير قليلين، ولكنهم طهروا المنطقة. - ليرحم الله الشهداء.
بلد كأنه شبكة من الجبال المتقاطعة، من كان يتصور ذلك؟ كحارات خان الخليلي، كحجرة جحا، كالتعليمات المالية والإدارية. السحاب يركض وعما قليل تختفي السماء. وقيل إن المطر سينهمر، وارتفع النداء داعيا إلى إقامة المعسكر. (3)
الأديب
استيقظت بعد نوم ساعتين، غادرنا السفينة إلى مطار الحديدة، اتخذنا مجالسنا في طيارة إليوشن ناقلة للجنود. سنرى اليمن من فوق؛ صحراء وجبال ومراع، أما المنظر الجديد حقا فهو منظر الوديان الخضراء في سفح الجبل. وقال أحدنا للمرافق لنا: الجبال عالية جدا. - وتنطلق الطيارة بحذاء بعض القمم أحيانا. - لو أن عدوا ربض فوق جبل فلن يتعذر عليه إصابة الطيارة بالبندقية العادية؟
فضحك قائلا: ولا يخلو بعض طياراتنا من آثار عديدة للرصاص.
ولما رأى وجومنا استطرد: لا تزيد نسبة الإصابة القاتلة عن واحد في الألف.
أسلمت ناظري إلى الجبال تحتنا؛ القرى الخضراء والفجاج المتلوية. حتى لاحت صنعاء، من الجو بدت مدينة عمران ومجمع أحياء ومقر قباب ومآذن. وعندما حملتنا السيارة من المطار إلى الفندق خاضت بنا زمنا موغلا في القدم، تراصت على جوانب الطرقات المتربة بيوت غريبة مزركشة، زركشتها أيدي أطفال فنسجتها من خيوط الأحلام، وألقت بها في قلب مدينة سحرية. انشق سطح الأرض عن دنيا عابرة تطوف بها القلانس والوزرات والخناجر والبنادق واللحى. لفحتنا غربة، لاطفتنا نسمة، تجاذبتنا عواطف مبهمة، ثم لذنا أخيرا بأطيب المشاعر البشرية التي جئنا بها. وفي الفندق ارتددنا إلى ذكريات الطفولة، درجات السلم العالية، رائحة الكلس العطنة، الأسقف العالية. فندق قديم كقلعة بالية يديره غلام ذكي. جلسنا على الأسرة في عنبر جمعنا، وتبادلنا أحاديث لا نهاية لها؛ وإذا بالغلام يجلس على كرسي عند باب العنبر بلا استئذان، جعل يقلب عينيه اللماحتين فينا بهدوء عجيب. ولما تركزت الأبصار عليه قال: أنتم مصريون؟ - نعم يا أخا اليمن. - أتريدون فطورا؟ عندي بيض من اليمن، وفول من مصر، ومربى من أوروبا ... - أأنت صاحب الفندق؟ - ابن صاحبه، ولكني مديره. - كم عمرك؟ - اثنا عشر عاما. - إذا غالطناك في الحساب؟ - إني أغالط الجن. - عفارم عليك، وما رأيك في الثورة؟ - كلنا متجمهرون وثوار، واللعنة على الأعداء!
ودخل رجل غامق السمرة، مترنح المشية، يرتدي بدلة، ويطالعنا بنظرة مسطولة من عينين جاحظتين. قدمه الغلام باعتباره عمه ثم ذهب تأدبا. وقال الرجل إنه من عدن، ولكنه في الأصل يمني، وإنه شريك في ملكية الفندق. وجلس على الكرسي الذي أخلاه الغلام. - حضرتك مقيت؟ - كلا. - مسطول؟
فضحك وأجاب بالنفي. سرعان ما أغرانا مظهره بممازحته فأثبت أنه أوسع صدرا مما تصورنا. - إن كنت حقا من عدن فهل تعرف لغة أجنبية؟ - عشت في عدن ومصر وسوريا وإنجلترا وفرنسا. - هل تستعمل القات؟ - كلا فإنه يضعف القوة الجنسية. - إذن فأنت حريص على قوتك الجنسية؟ - إن قرة عيني في التجارة والفسق.
ضحكنا طويلا، وانطلق يتكلم عن الفسق في شتى أشكاله وألوانه ومتناقضاته، وعقد مقارنات عنه في البلاد التي عاش بها، ولكي يقيم الدليل لنا على صحة مراجعه حدثنا عن مصر حديث العارف الدائر، حتى قال له شيخنا: إنك معجم فسق البلدان.
غادرنا الفندق لزيارة القائد العام ورئيس الجمهورية. طفنا بمخازن الإمام وبيت الرهائن، ثم شهدنا في المساء ندوة أدبية بالقصر الجمهوري. وقابلنا بعض الموظفين المصريين المنتدبين لعمل أول ميزانية للجمهورية اليمنية، وإقامة نظام مالي كأساس لحياتها الاقتصادية. وقد دعوني لزيارة جناحهم في القصر؛ فذهبت معهم وأنا أداعبهم قائلا: إذن فأنتم أول من بشر بالروتين في أرض اليمن.
وجلسنا نتحدث وأصوات الشعراء في الندوة تترامى إلينا. وقال أحدهم: لقد أغلقت اليمن الأبواب على نفسها ألف سنة فلم يختف منها الشعر، ولكن المشكلة الحقيقية هي متى يغزوها العلم؟
الجندي
على السرية الأولى أن تستعد وتتجهز بأدوات الميدان. شملتنا حركة نشاط متدفقة وعصبية. - لماذا؟ - للقفز في مدينة صعدا.
أمرت أن أذهب مندوبا عن ف 2 للتعيين، ذهبت إلى مركز التعيين، تسلمت مجموعة كافية من الفانلات والكلسونات وطواقي صوف وجرابات وأحذية وعلب سردين وبلوبيف. إلى صعدا، وما صعدا؟ مدينة أم قرية ؟ غزو أم إمداد؟ لن يكون القفز هذه المرة في ميدان تدريب كالمرات السابقة. - لندع الله أن تكون صعدا خيرا من صرواح.
هتفت مقطبا لأتمالك أعصابي: الأعمار بيد الله. - معي أربعة وعشرون ريالا وهي ثقيلة. - لفها حول وسطك كما فعلت.
ذهبنا إلى مبنى المطار لتسلم المظلات، أخذت مظلة أساسية بدون احتياطي. ليكن طريقا سهلا آمنا حتى نهبط فوق الأرض، لبست ما يلزمني في الحرب من بدلة مموهة، وبدلة اسموكس فوق بدلة كاكي قفز، والخوذة والبندقية، وحقيبة خزن، ومحفظة قنابل، وحقيبة الجراية وبها ذخيرة ومطواة. وانهمكت في إعداد أشرطة المظلة. وإذا بيد تساعدني، رفعت رأسي فرأيت زميلي بمدرسة مكارم الأخلاق بشبرا، تعانقنا .. عانقت فيه مصر وأهلها. - سأكون معك في الطيارة. - جان مستر؟ - نعم وسأساعدك على القفز. - أشكرك، هل تتذكر شبرا؟
فضحك ويداه لا تكفان عن مساعدتي. وقبل أن أسترسل في الذكريات دعينا إلى طابور، استعرضنا القائد العام وقائد المظلات. وكان القائد يقف أمام كل جندي ويسأله: ألك أي طلبات؟
رأيته لأول مرة عن قرب، ذكرني وجهه بوجه ستالين. وسرحت رغما عني، فلما عدت إلى الحاضر سمعته وهو يعطي إرشادات عن المنطقة. واصطفت الفصيلة أمام طائرة إليوشن رقم 14، الضابط أول الأستك يمين، وأنا آخر الأستك شمال. وهذا يعني أنني سأكون أول القافزين، ولكن ألا يستوي الأول والأخير أمام القدر؟ وصعدنا إلى الطيارة واحدا في إثر واحد، بدأت محركات الطائرة تدور، كان معنا اثنان من جان ماستر الذين يساعدون على القفز. وانطلقت الطيارة فلم تتحول أفكاري عن مصر. ولما استوينا فوق السحاب أشعلت سيجارة، ظلت أفكاري منغرسة في مصر؛ النيل والخضرة والأم والفتاة. ولمحت طائرات تطير إلى جانبنا، وإذا بجرس النور الأحمر يدق معلنا وصول الطائرة إلى صعدا. وظهر النور الأخضر داعيا إلى القفز في الحال. - ستهبطون في منطقة إسقاط بالمطار، توجد طائرة بيضاء في وسط المطار، على كل فرد أن يتجه إليها.
تقدمت من باب الطائرة، توثبت للقفز بقلب خافق، دفعني الزميل القديم بشدة ليبعدني عن جسم الطائرة، لم أنتبه لنفسي إلا وحبال المظلة تشدني في الجو، نظرت إلى أعلى فرأيت المظلة مفتوحة بيد أن حبالها التفت حول بعضها البعض. درت حول نفسي بسرعة فائقة حتى استقامت الحبال، مضيت أهبط في الظلام وحركة انسيابية هادئة تسري في أعصابي وأنا في غاية من اليقظة والترقب، ولمحت شبح جبل غير بعيد، ما لبثت أن صرت في كنفه، وجعل يرتفع كلما أمعنت في الهبوط. اخترقت أذني أصوات طلقات نارية، اجتاحني القلق وشدت يدي على الحبال، ضرعت إلى الظلام أن يخفيني عن أعين الصائدين، وأنا أتوقع رصاصة تصيبني في أي لحظة. انتهت الرحلة التي أعتبرها أطول رحلة في حياتي، فاصطدمت بالأرض صدمة شديدة، ورحت أتدحرج منقلبا على نفسي مرات حتى استقر بي المكان. غرزت ركبتي على أرض معشوشبة مصمما على النجاة، فتحت قفل المظلة فأخليتها بسرعة، ثم انبطحت على بطني. وبحذر شديد تخللت الظلام بعيني، وإذا بي أجد شبحا على مقربة مني، فسددت نحوه بندقيتي في ذات الوقت الذي صاح بي: «يا أخي المصري ... أنا من الحرس الوطني.»، أنهضني وهو يعانقني. حدثته عن الطلقات النارية فأكد لي أن الجبل بعيد نسبيا، نظرت حولي فميزت مجاميع من أشجار التين الشوكي، انطلقت في الجو إشارة خضراء فمضينا نحوها، وانضممت مرة أخرى إلى السرية، نادى الضابط علينا فتبين غياب اثنين من السرية. - أصيبا؟ - أو هبطا في أرض العدو.
لاحظت وجود جنود من غير سريتنا، وعلمت أن ثمة قوة سبقتنا إلى هنا ولكنها حوصرت؛ فطلبت نجدة فأرسلنا إليها من السماء، ولم يكن بصعدة أحد سوى الجنود. ولم نسترح دقيقة فتوزعنا في أماكن من السور المحيط بالبلد، وسرعان ما اشتركنا في إطلاق النار. واستمر الضرب من ناحيتنا حتى توقف الضرب الآتي من الناحية الأخرى.
وصدر أمر بالاستعداد للهجوم على الجبل الأسود المطوق لجانب كبير للمدينة. حصل تجمع لا أعرف مداه، وترامى إلينا أزيز طياراتنا وهي تهاجم الجبل وترميه بقنابلها. تواصل الضرب ساعة ثم صدر الأمر بالتحرك، تقدم سريتنا ضابط حاملا مدفعا رشاشا فتبعناه في حركة انتشار. تقدم الضابط لنا، بث فينا روحا عاليا فأخذنا في الصعود ونحن نطلق النار، وقد شعشع ضوء النهار الباكر، وتساقط رذاذ في أثناء تقدمنا ثم لم يلبث أن انهمر المطر. وصوت صاح: يجب أن نصعد قبل أن تعيقنا السيول.
الحق أزعجنا المطر وتسلل منا إلى الأجساد، على حين غاصت أقدامنا في الوحل. لم نكف عن الضرب حتى كف العدو عنه مما يقطع بتقهقره، ومضينا في صعود عسير تكاد تجرفنا السيول حتى بلغنا القمة. أعلن الضابط احتلال الجبل، تسلينا دقائق بمشاهدة آثار قنابل الطائرات.
تلقينا أنباء عن فقد شهداء؛ منهم ثلاثة من المجموعة التي استقلت معي الطيارة رقم 14، تذكرت وجوههم وبخاصة أحدهم الذي كان يحدثنا في أوقات الفراغ بالفصحى متفكها. - ماذا يصنعون بالجثث؟
فسمعت إجابة مقتضبة لا تخلو من أسى: يدفنونها.
ولكن الميت يظل حيا في وجدان أهله بمصر حتى يبلغهم خبره. وفكرت في مصر بكل وجداني الحزين، من فوق قمة الجبل الأسود وتحت سيل من المطر المنهمر فكرت فيك يا مصر. وسمعت نداء باسمي، وقفنا ثلاثة أمام الضابط: كونوا نقطة إنذار على بعد كيلو ونصف.
حددنا الموضع بالقياس الدقيق، حفرنا حفرة سرعان ما امتلأت بمياه المطر، غصنا فيها حتى الرقاب ومعنا جهاز لاسلكي صغير
R/06 . - راقبوا جيدا وعند أي اشتباه نبلغه، ثم ننسحب في ثوان قبل إطلاق النار. - قد يلمحنا العدو ونحن ننسحب. - أي تأخير معناه الموت بقنابل جنودنا.
اختص كل منا بناحية والمطر يكاد يجرفنا. - لكن الجبل طهر، أليس كذلك؟ - الزم الصمت!
ركزت عيني في المراقبة، والمطر ينهل بغزارة وقوة لم أتخيلها من قبل. (4)
الأديب
غادرنا صنعاء بالطيارة إلى مأرب؛ من مطار استقللنا سيارة روسي في حجم لوري متوسط، في مقدمتها مدفع، لتحملنا إلى القلعة والآثار. قطعت بنا طريقا وعرة متلاحقة العقبات، وكان في هندستها مرونة لتواجه بها المرتفعات والمنخفضات، ولكن لم يكن بنا مثل مرونتها. تأرجحنا بقوة وتصادمنا فخففنا البلوى بالفكاهة ما أمكن. اخترقنا أرضا فضاء إلى ما لا نهاية، قاحلة جرداء إلا من نباتات شوكية موسومة بطابع الهلاك والفناء. - مكان الجنتين خال. - أجل، أين العمران والخضرة أين؟ - وجه الأرض يتغير كوجه الإنسان. - لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان. - فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم.
زرنا الآثار القليلة الباقية؛ عرش سبأ ومقاعد مجلس الحاشية، تكشف عنها وجه الأرض، ثم تركت وحيدة وسط يباب يكتنفها من جميع الجهات. وقفنا ننعم النظر، وثارت رومانسية الشعراء، ولكن ماذا يعني أي أثر لقوم آتين من بلاد الآثار؟
وذهبنا إلى القلعة، وجدنا حامية مصرية معزولة عن العالم بآلاف السنين، حفروا بئرا ليشربوا، وأقاموا فرنا ليخبزوا وبدوا كأسرة مستقلة، مكتفية بذاتها، ضائعة في الفراغ. قابلونا بمرح وقدموا لنا الشاي. ولم يكن يصلهم بالدنيا إلا راديو وبعض أفلام قصيرة من مصر، وأشاروا إلى مدينة صامتة مقامة فوق هضبة، مدينة غارقة في الجمود والصمت. - مدينة مهجورة، هجرها أهلوها في أثناء المعارك.
ميتة لا حركة فيها ولا صوت ولا خيال لحي، كانت مقاما للأشراف، وخارج أسوارها عاش الرعاة. - ثمة مفاوضات معهم وسوف يعودون. - يا له من منظر؛ منظر المدينة الخالية! حتى المقابر توحي بطريقة ما بالراقدين داخلها. - وكيف حال مصر؟ - عال، قلوبها تخفق معكم. - وكيف حال الأدب؟
وضحكنا. وفي أثناء ذلك جاءونا بنسخ من كتبنا تهرأت من كثرة التداول. - أنتم لا تتصورون مدى الأثر الذي يحفره في نفوسنا قراءة بضعة أسطر عن وصف مكان أو عادة أو زمان في مصر.
حقا لا يمكن أن نتصور. وقال أحدنا: ولكن عددكم قليل، ومراكز المراقبة معدودة. - لا يهم .. أصبحت المنطقة موالية.
تخيلت نفسي مقيما في هذا الخلاء، يوما بعد يوم بلا عمل ولا تسلية، وكلما تخيلت عجبت للمرح البسيط الصادق الذي يطالعنا في الوجوه. وغزاني شعور بالإكبار لا يقاوم.
رجعنا إلى اللوري الروسي، كابدنا الطريق في الإياب كما كابدناه في الذهاب، عدنا إلى صنعاء. دعينا إلى زيارة مندوب الحكومة المصرية. جلسنا في بهو استقبال فخم وشربنا المرطبات. وتكلم أهل العلم عن مستقبل اليمن الواعد بكل خير؛ عن الشباب الثائر المؤمن بالتقدم، عن التأخر الأسيف المتراكم من أبعد العصور. إيمان المسئولين اليمنيين بوجوب سير الإصلاح جنبا إلى جنب مع الحرب ودون تأجيل. ولدى عودتنا إلى الفندق وجدنا في انتظارنا وفدا من الأدباء الثائرين، جالسونا على الأسرة فشرق بنا الحديث وغرب، وكان لكل منهم مغامرة مع الإمام فراح يروي مغامرته.
الجندي
غادرنا الجبل على أثر قدوم قوة من المشاة لتحتله، نمت نوما عميقا في المعسكر، في الصباح منحنا عطلة قصيرة فقصدت قرية غراز. سرت في طرقاتها الضيقة فاستقبلني أهلها ببسمات إنسانية كنت في نهم إليها، لاعبت الأطفال حيثما وجدتهم، وشربت القهوة في مقهى ريفي كالكوخ. أذهلني جمال النساء؛ جمال العيون بصفة خاصة يبعث الدفء في القلوب التي أذابها المطر. صادفت في تجوالي بئرا وقفت حولها أم وابنتاها يملأن الجرار. تلكأت عندهن؛ فنظرت إلى الأم بحنان ذكرني بأمي التي لم أودعها. - مصري؟ - نعم يا خالة. - يخليك لأمك.
سررت وابتسمت الفتاتان، اجتاحني شعور عائلي وتذكرت قريتنا بإسطنها. قلت: نحن نحبكم.
وإذا بصوت عال يقول في غير جدية: ما شاء الله!
أديت التحية للضابط، فقال مقطبا: ماذا تفعل؟ ألا تعرف التعليمات؟
وابتعدت من فوري والمرأة تقول له شبه غاضبة: أفزعته يا رجل!
عند الظهر صدرت الأوامر بالتحرك إلى قرية البيضا على بعد ثلاثة كيلومترات من صعدة، ولدى مشارف الموقع الجديد هاجمناه على شكل كماشة تتقدمنا ثلاث عربات مدرعة، وثار الضرب من الجانبين كأعنف ما يكون، اشتد الضرب علينا بغزارة وشت بضخامة القوة التي تتصدى لنا. انطلق الرصاص من مركز المراقبة، من أسوار القلعة، ومن أكثر من كمين، انفجرت قنابل وراءنا وبين صفوفنا، وصدر الأمر بالانسحاب ونحن نقاتل، انسحبنا مقاتلين بعنف، انغرزت إحدى سياراتنا المدرعة في حفرة وتعذر عليها المسير. انهمر عليها الرصاص كالمطر فلم يجرؤ أحد ممن فيها على رفع رأسه وتوقف الدفاع، أحاط بها العدو من كل جانب ونحن نقاتل مقهقرين لا نستطيع أن نمد لها يدا، ثم أطبق عليها الأعداء بالبلط والخناجر.
ساعات مرت دون أن تتوقف العملية دقيقة واحدة، أنهكنا التعب. قل زادنا من الطعام والذخيرة والماء، وضاعف من إرهاقنا إحساسنا بالقذارة ونحن نتقلب في الطين. الساعات تمر بثقلها فوق أجسادنا وأرواحنا، وساءلت نفسي حتى متى أحتمل العناء الذي يفوق البشر؟
وهتف صوت: صوت دبابات! - وطائرات!
هل جاءت نجدة حقا؟
ارتفعت روحي المتهافتة، اشتد إطلاق النار، دارت الدبابات من حولنا وهي تقذف بقنابلها. ثم دوت انفجارات قنابل الطائرات، تراخت القبضة الخانقة لرقابنا. تحولنا من الدفاع المتقهقر إلى الهجوم، اقتحمنا البيضا ونحن نتساقط من الإعياء، علمت باستشهاد أحد زميلي بنقطة الإنذار فوق الجبل الأسود. تذكرت أحاديثنا منذ ساعات عند مشارف قرية غراز. قال إنه رأى وجوها تشبه بعض أفراد أسرته بدرجة مذهلة، اقتنع بأنه ينحدر من أصل يمني. وقال لي: لا تدهش إذا قررت - بعد الحرب - الإقامة في اليمن إلى الأبد! (5)
الأديب
طارت بنا الطائرة إلى تعز، ودون توقع أحد منا وجدنا أنفسنا في جنة؛ تهادت بنا السيارة من المطار إلى القصر الجمهوري في جنة. - ماذا ترون أيها الإخوة؟ - سويسرا .. لبنان .. حلم الخيال.
الحقول خضراء، المراعي خضراء، الطرقات مجللة بالأشجار، الحدائق أكثر من البيوت عدا، سلسلة من الجبال كالأنغام المتموجة مكسوة بالزمرد مزركشة بالأزهار، الجو لطيف يريق السحر معبقا بشذا الورود والثمار. وصاح صائح مشيرا إلى القمة: يا له من فندق سياحي!
إنه يلوح كوكر نسر فوق قمة جبل وسيط بين التموجات الجبلية! غير أن الدليل قال مصححا بهدوء: بيت الرهائن، وهو اليوم خال.
وضحكنا ونحن نتأمله في أسى، واخترت شاعرا من بين الزملاء وهمست له: ألا تعذرني إن طلبت الإقامة في تعز؟
فأجاب بشيء من الامتعاض: دلني على ملهى واحد.
ولما آنس مني دهشة استطرد: دفء الجمال الحقيقي إنما ينبعث من المرأة.
ثم بعد دقيقة صمت: والويسكي .. لا يجوز أن ننسى الوقود.
استرحنا في القصر الجمهوري ساعة. دعا الداعي إلى التسوق. ذهبنا إلى السوق كل يحمل بدل سفره، وتساءل صوت في براءة: أليس من الأفضل أن نحتفظ بالعملة الصعبة لوطننا؟
انهالت عليه مختارات من السباب شعرا ونثرا، تجولنا في السوق؛ الوجوه ناضرة جميلة، الحوانيت يديرها غلمان هم آيات في النشاط والذكاء. اخترنا محلا متوسطا فانقضضنا عليه كمجموعة من الفئران. زاغت الأبصار بين لعب الأطفال والساعات الأتوماتيكية والأغطية والمفارش والبلوزات والإشاربات والشالات، من جميع بلاد المعمورة. وابتاع كل حقيبة متوسطة ليودع بها هداياه. عدنا ولا عملة معنا صعبة ولا سهلة، ذهبنا - عقب الغداء - إلى ميدان الشهداء لشهود ندوة أدبية، استقبلنا بهتاف، واتخذنا مجالسنا وراء مائدة مستطيلة، ازدحم الميدان بالجمهور، استبق الشعراء إلى الترحيب بنا والإشادة بثورتنا، وألقى شعراؤنا قصائد عن العروبة والجهاد والثورة والاشتراكية. وجدتني طيلة الوقت أقارن بين أحاديثنا الفردية وكلماتنا أمام الجمهور، بين تجوالنا في السوق وموقفنا وراء المنصة. إن الصوت الذي يتحدث أمام الجماهير هو صوت الجماهير، وخيل إلي أنني أدركت شيئا مما ينقصنا. لعله محور التناقض بين ما يقال وما يجب أن يقال، أن نتبنى في خلوتنا صوت الجماهير. ها هي أشداق مستقبلينا متكورة بالقات؛ إذ قامت الحفلة في وقت التخزين. هكذا اجتمع خازنو القات بخازني الهدايا في سباق الحماس لتقرير المبادئ المثالية للأمة العربية. وعند إبداء ملاحظة من هذا النوع ستسمع من يرد عليك قائلا: «يا أخي .. نحن بشر .. لم نرتكب شرا .. ونحن مخلصون.» ولكن أين الروح التي تشعل القلوب؟ أين لحظات الانتصار على النفس التي تخلق المعجزات على مدى التاريخ؟ ماذا ينقصنا؟ لماذا نبقى كأننا متفرجون حسنو النية أمام فيلم يموج بجليل الأحداث؟ وخيل إلي أن شيئا يتحرك عند ساقي تحت المائدة. طويت طرف الغطاء، ونظرت إلى أسفل فرأيت صبية في الثامنة أو دون ذلك، متلفعة بشال أبيض، تتفرج على الحفل من تحت المائدة، شعرت بعيني فأدارت نحوي عينيها، فرأيت وجها صغيرا نقي البشرة يحدق في بعينين سوداوين كأجمل ما رأيت في حياتي من عيون؛ وجب قلبي ممتنا لرؤيتها، وفاض به نبع من الحنان والحب. ورفعت عيني إلى قطع السحاب الأبيض المشعشع بنسائم مخضلة برذاذ يجيء قليلا وينقطع قليلا فاطمأن القلب إلى وجود شيء صغير على هامش الجمع عند ساقي، ولكنه كامل الصدق والنقاء. وسهرنا في حديقة القصر حتى الهزيع الأخير من الليل؛ الهواء بارد دسم، ولكنه مفعم بالأمان، والسحب تبهر العين بضياء القمر. وقال محدثنا: المدن معنا، أما الجبال فمارقة ولا سبيل للتفاهم بين الاثنين.
وقلب عينيه في وجوهنا مستطلعا، ثم واصل: فإما أن نلتزم موقف دفاع إلى الأبد، وإما أن نبيد العدو إبادة.
وقال قائل: الإبادة!
وقال آخر: الحضارة .. نغزوهم بالحضارة!
وثالث قال: نعترف بالواقع!
وتواصل الحديث تحت ضوء القمر، وتجلت لنا الحقيقة صخرية صلبة مستقلة بذاتها عن الأحلام.
الجندي
إلى وادي نشوز.
تحركنا بالعربات المدرعة
R + R
شارفنا الوادي، تقدمت دبابتان للاستكشاف تتبعهما مدرعتان للحراسة، دخلنا ممرا ضيقا تقوم على جانبيه هضبتان صخريتان وكنا في المدرعة عشرة. بعد توغل نصف كيلومتر انهمر علينا الرصاص، تصدت دروع السيارة للرصاص، واستمرت عملية الاستكشاف. انحشرت سيارتنا في مطب أو التحمت بشيء مرتفع فتوقفت، عجزت عن التحرك وضاع كل جهد لتخليصها. - على دبابة أن تدفعنا من الخلف. - ليذهب أحدنا إلى إحدى الدبابتين.
وقعت القرعة على زميل فغادر السيارة ليزحف على بطنه في الظلام، انتظرنا في غاية من القلق. وبعد دهر رجع إلينا وهو يقول: دبابة المقدم مشتبكة في قتال على بعد خمسة كيلومترات. أما الأخرى فقد تعطلت.
صعقنا الخبر. وهمس صوت: نحن عشرة والعدو آلاف. - والعمل؟ - مصير سيارة البيضا!
من داخل السيارة رأينا الأشباح تهبط في حذر من الجبل، فتحنا سقف السيارة وأخذنا أهبتنا بالبنادق والقنابل اليدوية. طلبنا النجدة باللاسلكي ولكن الاتصال انقطع، أمرنا أقدمنا في الخدمة بمغادرة السيارة، مرت لحظات رهيبة ممزقة بالخوف، قاومت موجة من الضحك تريد أن تجتاحني. وثب أحدنا؛ تبعناه بلا تردد، نفر من الموت إلى الموت. انهال الضرب، انبطحت على وجهي، استعملت البندقية والقنابل اليدوية. في هنيهة صمت، رفعت رأسي فلم أجد أثرا لأحد من زملائي. دعوت القمر أن يختفي، لم أدر أين أتجه! ولا كيف تفرق الزملاء! خيل إلي أنني محاصر، اتجهت وجهة بلا خطة ولا علم لي بما ينتظرني، دهمتني لحظة مباغتة فوجدتني حيال ثلاثة أشباح من العدو بلا تدبر أو وعي، فتحت الأمان وضغطت على الزناد، فانطلقت مطرة من الرصاص خر على أثرها الثلاثة. انطلقت أعدو على غير هدى تحت ضوء القمر. سمعت صوتا يناديني فاتجهت نحوه بلهفة من يفلت من قبضة الموت. وجدتني مع مجموعة من الزملاء ماضية في حذر نحو شبح الدبابة المعطلة، ولما بلغناها صحنا معا: افتحوا .. نحن مصريون.
لم نتلق من الداخل استجابة من أي نوع كان، كررنا النداء بلا أمل. يئسنا فدفعنا أنفسنا في الحشائش متفرقين وأصوات الرصاص لا تنقطع، وأخذ الضرب يخف حتى سكت، نهضت في حذر مقتربا من الدبابة، وهتفت بتوسل: افتحوا .. إني مصري .. ألا تسمعون؟
ظلت الدبابة غارقة في صمت متحد مرهق رهيب حتى تطايرت اللعنات من فمي، ثم رجعت مغيظا يائسا إلى قبر الحشائش؛ وإذا بالضرب يتركز على الدبابة كالسيل. مست رصاصة خوذتي فتشهدت، ترقبت الرصاصة التالية بيأس وقهر، هاتف قال لي: إنني سأعود إلى مصر. أقسم لي على ذلك.
اشتد الضرب لدرجة غير محتملة، ثم يهدأ ويخف لسبب لا أدريه. لم يبق منه إلا طلقات متباعدة، وأنا مغروز بكل قوتي بين الحشائش. وخيل إلي أن الظلام يخف ويبهت رويدا. أجل، الظلام يخف رغم اختفاء القمر وراء الجبل، سوف تلوح تباشير الضياء، وينقشع الظلام الذي يخفيني عن عين العدو المتربص، سيجدني صيدا سهلا، وسينهال الرصاص الحانق الغاضب علي من جميع الجهات. الصباح يقترب ولا مكان للمعجزات، لعل أمي تصلي في هذه اللحظة، ولكن لا أمل في المعجزات. واشتد الضرب فجأة، اشتد أكثر من أي وقت مضى. أصبح الضوء يسمح بالرؤية، أقدام العدو تتراجع نحو الجبل، والضرب يجيء من الناحية الخلفية. ترامى إلى سمعي صوت دبابة أو دبابتين، جاءت النجدة، إن القذائف تطير فوقي لتنفجر خلف سفح الجبل. لم تدم فرحتي إلا ثانية واحدة، ثم تساءلت كيف أعلن عن حقيقتي المدفونة لبني وطني؟ كيف أتجنب الموت برصاصهم أو شظايا قنابلهم؟ أطلقت النار نحو العدو المتقهقر، وتركز الخوف من الموت فيما ورائي. أثقلني التعب، وثقل علي بصفة خاصة فوق كتفي اليسرى. وغاصت الأرض بلا سبب واضح، إلى أين تغوص الأرض ولماذا؟ إنني أهبط في هوة ثم يرفعني شيء مجهول إلى أعلى. وعاد ضوء الصباح يضعف بسرعة عجيبة حتى غاب كل شيء في الظلام. (6)
الأديب والجندي
غادرنا القصر الجمهوري في الصباح الباكر، والسيارة تميل بنا نحو طريق المطار، اعترض سبيلنا قطيع غنم ترعاه فتاة؛ فتاة جميلة لخص وجهها وقوامها جمال تعز بكافة أشكاله وألوانه. اهتز الشاعر وجعل يهلوس بها بقية الرحلة. عدنا إلى الحديدة، إلى الحرارة الذائبة في الرطوبة الخانقة. قال: الارتفاع في المكان يحدث المعجزات، كذلك الروح فإنها إذا شاءت أن ترتفع فإنها تعانق المعجزات، ما رأيك في هذه الفكرة؟
قلت: لخيرك ولخير الشعر لا تكتب إلا عن المرأة!
ودعانا القائد إلى العشاء فوق سطح مسكنه على شاطئ البحر الأحمر. لطف الجو على شاطئ البحر، طاب السمر حول المائدة الحافلة بما لذ وطاب من طعام وشراب. تجاوبت في الفضاء ضحكاتنا. هل سمعتم نكتة الرجل الذي ...؟ هل تعرفون حكاية الزوجة التي ...؟ هل وهل وها وها وها. وتنوع الحديث واختلط جده بهزله، وتعدد المتحدثون في وقت واحد، وانقسموا إلى وحدات مستقلة. - الجبليون أشداء، عندما يحكم على أحدهم بالموت يتقدم إلى السياف مطلق اليدين على مشهد من أهله، لو خاف أو صرخ ركبهم العار إلى الأبد؛ يحني رأسه بثبات، يهوي عليه السيف دون بادرة خوف من ناحيته، ينفصل رأسه عن جسده وكأنه رأس رجل آخر. - رجال أشداء حقا، من سلالة غزت العالم ذات يوم، وقوة مدخرة للخير مستقبلا! •••
ترى أين تلميذي القديم، جندي المظلات، ماذا يفعل الآن؟ وماذا يفعل غدا؟ ••• - وينفذون أوامر شيخ القبيلة بلا تردد، في المعقول وفيما يجاوز أي معقول، حتى الموت نفسه يهجمون عليه دون مبالاة، ويؤمنون بأنهم من طينة غير طينة البشر، وأن الدنيا جميعا تحت وأنهم فوق، كالجبال التي تؤويهم. ••• - ستعود فرقة من الجنود معنا على ظهر الباخرة. - ما أجمل أن تؤدي واجبك في حرب ثم تعود إلى الوطن سالما! - الإنسان يحارب منذ وجد على ظهر الأرض، ومن خلال الحرب خلق الحياة والحضارة. - متى انقلبت إلى مارد فلسفي؟ - لا فلسفة ولا دياولو، فكرة تذهب بي وأخرى تجيء بي. - سبق أن قلت : إنك لم تحارب ولن تحارب. - والحمد لله على ذلك. - ومرة تزوج جندي دون إذن فقدم للمحاكمة، وحكم عليه بالحبس سبعة أشهر، ثم أرسل إلى مصر لتنفيذ الحكم ولكنهم أرسلوا معه زوجته اليمنية. ••• - دماغي يدور ويجب أن نتبادل الرأي. - سيتسع المجال فوق ظهر السفينة. - العالم غريب مليء بالمتناقضات، ولا معنى لشيء إذا لم نعرف لماذا نعيش! - شربت أكثر مما ينبغي. - إني أشرب زجاجة كاملة، وأستطيع بعد ذلك أن أحاضر إذا شئت. - متى تجمع محاضراتك في كتاب؟ •••
ترى أين ضابط الشئون العامة لأسأله عن جندي المظلات؟ ••• - وتلاقينا مع قوة معادية، ولكن حجز بيننا صخرة كبيرة في ممر جبلي، تحصنت كل جبهة في مكانها واستحال علينا القتال، دخلنا معركة كلامية، قلنا لهم: يا عبدة الإمام، يا أعداء الإصلاح. فقالوا لنا: يا كفرة، يا فجرة، يا عبدة الشيوعية. ثم تمادينا في السب والقذف. ••• - لا أعرف مكانه الآن، اكتب له خطابا وأعدك بإيصاله إليه في أي مكان في الميدان. ••• - هل جربت مواجهة الموت؟ - الحياة كلها كفاح وليس الجندي وحده الذي يحارب. - ولكن ... - سأقص عليك قصة حب عانيتها زمنا، بطلتها فتاة متمردة وحشية، وسوف تقتنع بأن ما كان بيني وبينها لا يختلف عن القتال في شيء. •••
هل ثمة فرصة لأكتب كلمة سريعة؟
أخي العزيز ...
كم وددت أن أودعك قبل الرحيل، أذكرك بالحب والإكبار وأنا على وشك العودة إلى أرض الوطن، ستعود إليه ذات يوم منتصرا راضيا بإذن الله. اهنأ الآن بأنك تحارب في سبيل قضية عادلة، قضية التقدم للإنسان العربي، ومهما تكن العوائق ومهما تكن العواقب فإنك بذرت في الأرض بذرة من طبيعتها النمو والازدهار. أستودعك الله وإلى اللقاء.
المخلص
يميت ويحيي
المسرح منقسم إلى قسمين: قسم أمامي وهو حوالي ثلثي المساحة وهو مضاء واضح المعالم. في وسطه نخلة مغروسة، وفي جانب منه ساقية صامتة، القسم الخلفي مرتفع الدرجات على هيئة مصطبة، تغشاه الظلمة، وتلوح به أشباح راقدة، نيام أو موتى، الطابع طابع تجريدي.
يرفع الستار، على المسرح فتاة جميلة تسير ذهابا وجيئة بين النخلة والساقية ، ثوبها يناسب الجو التجريدي حيث يصعب تحديده على أساس جغرافي، وكذلك ثياب جميع من سيظهرون على المسرح.
ومع ارتفاع الستار تترامى أصوات معركة بين اثنين آتية من ناحية اليسار؛ شتائم وتهديدات وأصوات ضرب.
الفتاة :
يا رب السماوات .. متى تختفي هذه الأصوات من الوجود؟ متى تشرق شمسك على أرض ناعمة البال، قريرة العين؟ (تصغي إلى الأصوات بقلق متزايد ثم تقول)
ترى هل أكفر عن ذنب قديم؟ أو إنه بلاء مركب في دمي؟ أو إنها أخطاء تقع فلا تلقى إرادة صادقة لإصلاحها؟ (يتقهقر شخص مندفعا بعنف، نتيجة لدفعة قوية تلقاها في الخارج، ثم يسقط تحت النخلة مغمى عليه. الفتاة تنحني فوقه باهتمام وتربت على خده بحنان. يفتح عينيه. ينظر إليها ثم يغمض عينيه مرة أخرى مغمغما.)
الفتى :
أبي! (تربت على خده بحنان، يفتح عينيه لحظات ثم يغمضهما مغمغما)
أمي! (تربت على خده بحنان، يفتح عينيه لحظات ثم يغمضهما مغمغما)
زوجتي!
الفتاة :
شد حيلك. (تدلك خديه، يفتح عينيه مفيقا، ينظر إليها طويلا ثم يتمتم.)
الفتى :
أنت!
الفتاة :
حمدا لله .. قم .. اعتمد على ذراعي، (تقيمه .. تمسح بمنديل جبينه وتسوي له شعره، وهو يأخذ في التماسك شيئا فشيئا )، لعلك أحسن. (الفتى لا يرد ولكنه يعاود حالته الطبيعية)
تنفس بعمق فالجو اليوم طيب.
الفتى :
لا شيء طيب على الإطلاق.
الفتاة :
الجو طيب على الأقل، هدئ خاطرك.
الفتى :
هيهات أن يطيب بعد اليوم جو أو خاطر. (تشده برقة إليها في دلال.)
الفتاة :
تعال إلي، أنا لا أعرف اليأس. (تحتد في عيني الفتى نظرة، ولكنه يتراجع في حياء أمام نظراتها الحنونة.)
الفتى :
لست على حال أهنأ معها بعطفك، معذرة.
الفتاة :
ليتك تقنع بصدري ملاذا لك من متاعب الدنيا.
الفتى :
ليت ذلك في الإمكان.
الفتاة :
إنه ممكن إذا أردته.
الفتى (متحسسا رأسه وعنقه في تألم.) :
إنه مستحيل أردت أم لم أرد.
الفتاة :
إنها اللعنة القديمة التي تطارد التعساء.
الفتى :
الحق إنها تطارد الأحياء.
الفتاة :
وعلى الأحياء أن يحذروها، إني أدعوك إلى السعادة الحقيقة في الوجود.
الفتى :
حتى السعادة تنقلب أحيانا بين أيدينا ترابا وخجلا.
الفتاة :
يا لك من جاحد!
الفتى :
لا أنكر عهدك، ولكني أخشاه؛ أخشاه في لحظة اندحاري الراهنة، وأراه من موقفي الدامي ذا جاذبية مخيفة تعمي البصر.
الفتاة :
أهذا شعورك نحو تفتح القلب، وتألق الأزهار، وجني الثمر؟
الفتى :
بل إني أذكر مع الأسى ثقل الجنون، وترهل العضلات، واسترخاء الهمم.
الفتاة :
دعني أكرر أن ليتك تقنع بصدري ملاذا لك من متاعب الدنيا.
الفتى :
يا له من جمال دافئ قهار. أقوى من الموت نفسه، ولكن تلاشت في أحضانه أحلامي.
الفتاة :
إنه أنفع من أحلامك.
الفتى :
سيظل الجبن أكبر منغص لصفو الرجال.
الفتاة :
من عجب أن تحن إلى فظاظة الخلاء!
الفتى :
أحن حقا إلى توهج مصباح الحياة على حافة هاوية الخطر الداهم.
الفتاة :
والدم والتشرد والغبار.
الفتى :
بل قوة الاعتداد المسخرة للرياح.
الفتاة :
ولدي زلة قدم يهال التراب على رجل من الرجال.
الفتى :
والصرخات المدوية تتوارى في أعقابها الفئران في الجحور، ولذة التساؤل المفعم بالقلق أمام احتمالات الحياة والموت.
الفتاة :
ووجهك الملطخ بالدماء المثير للرعب.
الفتى :
ونبض القلب بزهو النصر المؤسس على الحق والكرامة.
الفتاة :
أنت أناني، زهدت في بعد شبع، وشاقتك رائحة الدماء.
الفتى :
إني أحبك، ولكني أكره أن أتمرغ في التراب.
الفتاة :
هذا يعني أنك لا تحبني. (الفتى يشير إلى المصطبة المسربلة في الظلام حاملة الرقود من الأشباح.)
الفتى :
ليكن لي قدوة في الغابرين.
الفتاة :
لا أحب النظر نحو الموت.
الفتى :
لكنهم أحياء ما دمنا أحياء.
الفتاة :
فراغ وراءك وفراغ أمامك، ولا حقيقة في الوجود سواي.
الفتى :
كم استنمت إلى هذا الكلام الآسر حتى داستني الأقدام!
الفتاة :
لقد أشعلت غضبه بمزاحك.
الفتى :
المزاح من آداب حياتنا، فكيف يكون جزائي ضربا أليما موجعا!
الفتاة :
طالما حذرتك من المغالاة فيه.
الفتى :
ولما أردت الدفاع عن نفسي خذلتني يداي.
الفتاة :
الرجل المهذب خير عندي من الرجل القوي.
الفتى :
صدقت حتى وهنت مني القبضة.
الفتاة :
كان علي أن أنتشلك من حياة التشرد في الخلاء.
الفتى :
وهكذا هزمني وهو يسخر من ضعفي.
الفتاة :
لا تمزق عشرتنا بالكبرياء.
الفتى :
إنها تتمزق بالمهانة كما تتمزق بالموت.
الفتاة :
لا شيء كالموت.
الفتى :
إنه ليس شر ما في الحياة.
الفتاة :
صدقني فإنه العدو الأول للحياة.
الفتى :
أيسرك أن أرضى بالهزيمة؟
الفتاة :
ارض بأي شيء إلا الموت.
الفتى :
وأعود إلى اللعب السعيد وقلبي يحترق بنار الهزيمة؟
الفتاة :
للزمن بلسم يشفي كل شيء إلا الموت.
الفتى (مشيرا إلى المصطبة) :
تعامل أجدادنا مع الموت بعقيدة أخرى فوهبوا الخلود.
الفتاة :
لقد ماتوا وشبعوا موتا.
الفتى (مخاطبا المصطبة وأهلها) :
قولوا إنكم خالدون.
صوت من المصطبة كالصدى : إنكم خالدون.
الفتاة :
لا تخاطب الفراغ كالمجانين.
الفتى :
ألا تسمعين؟
الفتاة :
إنك تصرخ في الأموات تبريرا لسفك الدماء.
الفتى :
يا له من صوت رهيب!
الفتاة :
متى كان للتراب صوت؟
الفتى (مخاطبا المصطبة) :
هل تسمعون ما يقال؟
الصوت-الصدى (بعد قليل) :
هل تسمعون ما يقال؟
الفتى :
ماذا فعلتم بالموت وماذا فعل بكم؟
الصوت-الصدى :
ماذا فعلتم بالموت، وماذا فعل بكم؟
الفتى (لا يزال متطلعا إلى المصطبة وكأنما يخاطب نفسه) :
إنهم يرددون قولي .. أجل .. ولهذا معنى عميق لا يخفى على لبيب .. وها هم يتحركون. (يظلون رقودا طيلة الوقت ودون حركة)
إنهم يهدون إلي صورة عزيزة غابرة. ها هو القتال يحتدم .. الشهداء يسقطون .. الجنود يتسلقون جدار الحصن كالنمل .. ها قد سقط الحصن .. وهذا هتاف النصر يدوي مخترقا جدار المئين من السنين. (ثم ملتفتا نحو الفتاة)
أرأيت؟ أسمعت؟
الفتاة :
لا شيء يرى ولا يسمع!
الفتى :
لقد زلزلني هتاف النصر فوق جثث الشهداء.
الفتاة :
ما هي إلا هواجس رغباتك الجامحة في القتل؟
الفتى :
سحقا للخمول في خمائل الورد!
الفتاة :
يا حسرتاه على حكمة الأيام الناعمة!
الفتى (مشيرا إلى المصطبة) :
لقد لفحتني أنفاسهم المحترقة حزنا علي.
الفتاة :
ليس للأموات أنفاس تحترق.
الفتى :
إذا مات الأموات أدرك الفناء كل شيء.
الفتاة :
إذا أردت الحياة حقا فلا تنظر إلى الوراء.
الفتى :
ولكن الوراء هو الأمام.
الفتاة :
ولا تنظر إلى الأمام. (الفتى يقطب محتجا حائرا.)
الفتاة :
فلتغرق في عيني توهب خلودا بين الظلمتين! (قهقهة ساخرة وحشية تترامى من ناحية اليسار.)
الفتى :
أتسمعين استفزازه الساخر؟
الفتاة :
ريح هوجاء يعربد خلالها الشقاء.
الفتى :
إنه يتحداني!
الفتاة :
سأغني لك أغنية ترقص لها الحمائم فاستمع لي أنا.
الفتى :
فلتطرب العصافير.
الفتاة :
فلتهنأ بك شهوة الدماء.
الفتى :
إن قهقهته الساخرة تحيل الهواء في صدري ترابا.
الفتاة :
خير ما تفعل أن تصم أذنيك.
الفتى :
ولكني خلقت بأذنين.
الفتاة :
لتسمع بهما مناجاتي الدافئة.
الفتى :
يا لها من مناجاة أجهضت همتي! الوداع.
الفتاة :
لن تستغني عني أبدا.
الفتى :
فلتكوني الأمل المؤجل حتى يطيب كل شيء.
الفتاة :
لن يطيب شيء بعيدا عن ذراعي. (القهقهة الساخرة تترامى من بعيد.)
الفتى :
الوداع.
الفتاة :
انعم بالنوم رغم الضوضاء.
الفتى :
بل أقضي على الضوضاء قبل أن أنعم بالنوم.
الفتاة :
كلمة أخرى .. لا أريد أن يدركني اليأس. (الفتى يضع أصبعيه في أذنيه، تنظر إليه مليا، ثم تمضي إلى الجهة اليمنى.) (الفتى ينظر نحو المصطبة.)
الفتى :
لا يمكن أن يدلني على حقيقة الحياة إلا شخص أدركه الموت.
الصوت-الصدى :
الموت.
الفتى :
ذهبت .. ولكنها لن تذهب بعيدا .. محال أن أتحرر منها كلية .. ولا رغبة لي في ذلك .. ولا قدرة لي عليه .. ولكني أريد الحقيقة.
الصوت-الصدى :
الحقيقة.
الفتى :
أفصحوا .. لا تتكلموا كما تتكلم الصخور.
الصوت-الصدى :
الصخور.
الفتى :
حدثوني عن الموت والحياة.
الصدى :
الحياة.
الفتى :
من هو البطل؟
الصدى :
البطل.
الفتى :
أهو المحارب؟
الصدى :
المحارب.
الفتى :
أهو المسالم؟
الصدى :
المسالم.
الفتى :
اللعنة .. اللعنة .. اللعنة. (يتحول الفتى عن المصطبة .. صائحا)
علي أن أستعد .. إلي بالطبيب .. أيها الطبيب. (يدخل الطبيب .. بنفس الثياب التجريدية، ولكنه ذو لحية، وبيده حقيبة.)
الطبيب :
لا تصرخ اتقاء للمضاعفات.
الفتى :
وهل تأكدت من مرضي حتى تحذرني من المضاعفات؟!
الطبيب :
إننا لا ندعى للأفراح.
الفتى :
بل يبدو لي أني مريض.
الطبيب :
إنني أعمل يومين في اليوم الواحد.
الفتى :
ياه!
الطبيب :
إنه الوباء.
الفتى :
هل يوجد وباء؟
الطبيب :
كأنك تعيش في قمقم.
الفتى :
قمقم من الغم.
الطبيب :
وهم ينتشر رغم المقاومة الفنية المنتظمة.
الفتى :
لعلكم ازددتم به ثراء على ثراء.
الطبيب :
نحن نثري بفضل الأمراض لا الأوبئة.
الفتى :
لكن الوباء ما هو إلا مرض كبير.
الطبيب :
الوباء ينتشر انتشارا أعمى فيهدد كبار رجال الدولة؛ ولذلك فهم يسخرون الأطباء لمقاومته فلا نفيد من ورائه خيرا يذكر.
الفتى :
أمر يدعو للأسف، ولكننا ندفع ثمن إهمالنا للبيئات الفقيرة القذرة.
الطبيب :
الوباء وفد من الخارج كالعادة دائما.
الفتى :
ربما ولكنه يستفحل في البيئات الفقيرة.
الطبيب :
استفحل هذه المرة في البيئات الراقية.
الفتى :
ظاهرة غريبة تستحق الدراسة.
الطبيب :
لكنك استدعيتني لأمر أهم من التزود من الثقافة الصحية العامة.
الفتى :
عندك حق، إني أعتقد أني مريض.
الطبيب :
إني مصغ إليك يا سيدي.
الفتى :
لا أعراض خاصة تستحق الذكر.
الطبيب :
لعلك ترغب في إجراء كشف عام؟
الفتى :
تقريبا.
الطبيب :
إما أنك تريد أو لا تريد، فما معنى قولك «تقريبا»؟
الفتى :
لا مؤاخذة، فهذا ما قصدته بالدقة.
الطبيب :
ولم لم تذكر ما تقصد بالدقة من أول الأمر؟
الفتى :
لا تشتد في محاسبتي على أسلوبي في الكلام.
الطبيب :
هل يجرى كلامك على هذا النحو القلق عادة؟
الفتى :
تقريبا.
الطبيب :
عدنا إلى تقريبا!
الفتى :
فلنفترض أن الجواب بالإيجاب.
الطبيب :
فلنفترض! .. ألا تستطيع أن تعبر عما تريد بدقة؟
الفتى :
طيب، إني أرغب في إجراء كشف عام.
الطبيب :
أسلوبك في الكلام لا يخلو من دلالة مريبة.
الفتى :
عدنا إلى الأسلوب.
الطبيب :
إنه أول عرض.
الفتى :
عرض؟
الطبيب :
إنك تحاور وتداور، ولا تقصد إلى هدفك رأسا.
الفتى :
معذرة.
الطبيب :
وهذا من أول أعراض الوباء.
الفتى :
الوباء!
الطبيب :
أما بقية الأعراض فيمكن استنتاجها.
الفتى :
لا أفهم شيئا.
الطبيب :
غير مهم.
الفتى :
ولكنه مرضي أنا.
الطبيب :
إنه وباء فهو ملكية عامة.
الفتى :
فليكن، علينا أن نفهمه على أي حال.
الطبيب :
بل عليك أن تتداوى منه.
الفتى :
حسن، فلتحدثني عن بقية الأعراض.
الطبيب :
بل عليك أن تحدثني أنت.
الفتى :
ولكنك قلت إن بقية الأعراض يمكن استنتاجها.
الطبيب :
أتريد أن ترسم لي خطتي في العلاج؟
الفتى :
أنا تحت أمرك.
الطبيب :
هذا هو العرض الثاني.
الفتى :
أين هو؟
الطبيب :
بعد المحاورة والمداورة تصدر جملة واضحة محددة وهي «أنا تحت أمرك».
الفتى :
ولكنها مجرد مجاملة!
الطبيب :
هذا ما يخيل إليك، أما الواقع فإنه العرض الثاني.
الفتى :
بهذه الطريقة يمكن أن نعتبر أي عبارة عرضا من أعراض الوباء.
الطبيب :
قولك هذا يقطع بعدم ثقتك في العلم.
الفتى :
ولكني من المتحمسين للعلم. (الطبيب يهز رأسه في شك وهو صامت.)
الفتى (وهو يشير نحو المصطبة المسربلة بالظلام) :
إني من أصل عريق كان أول من أحرز في ميدان العلم نصرا.
الطبيب :
الإشارة نحو الظلام مقرونة بالمباهاة عرض ثالث من أعراض الوباء.
الفتى :
لست من هؤلاء .. إني بصفة عامة متعصب للعصر الحديث.
الطبيب :
متعصب؟!
الفتى :
أقصد أنني متحمس للعصر الحديث، ولا ألتفت نحو الأسلاف إلا تحت ضغط ضرورة ملحة.
الطبيب :
وهاك عرضا من أعراض الوباء.
الفتى :
إذن فأين يقع السلوك الصحيح؟
الطبيب :
إنك لا تدري عنه شيئا فيما أرى.
الفتى :
إني أجد دوارا في رأسي!
الطبيب :
الصراحة تحدث لك دوارا؟ عرض خامس!
الفتى :
لعلي بالغت في التعبير.
الطبيب :
من الدوار إلى المبالغة .. عرض سادس!
الفتى :
خير ما أفعل أن ألزم الصمت.
الطبيب :
من الدوار إلى المبالغة إلى الصمت .. عرض سابع!
الفتى :
ها .. ها .. ها!
الطبيب :
دوار، مبالغة، صمت، ضحك بلا سبب .. عرض ثامن!
الفتى :
ها .. ها .. ها .. ها .. ها!
الطبيب :
إغراق في الضحك رغم التأكد من أعراض الوباء .. عرض تاسع! (الفتى يخفي وجهه بين كفيه.)
الطبيب :
وتخفي وجهك، ولكن أعراض الوباء لا تختفي.
الفتى :
وماذا يمكن أن أفعل؟
الطبيب :
وهذا هو التساؤل الذي يمثل أخطر أعراض الوباء.
الفتى :
الحق أنك لا تشخص مرضا، ولكنك مصمم على إثبات وجود الوباء.
الطبيب :
ها أنت تبدأ بالتهجم علي، ومعنى ذلك أنك تهادن من يتحرش بك وتتحرش بمن يحسن معاملتك .. وهذا هو العرض العاشر.
الفتى :
إنك تثير غضبي.
الطبيب :
وتغضب حيث يجب الحلم .. العرض الحادي عشر.
الفتى (هازئا) :
لولي لا بم.
الطبيب :
هذيان لفظي .. العرض الثاني عشر.
الفتى :
سيدي الطبيب، ألم تعالج في حياتك رجلا من أصحاب النفوذ؟
الطبيب :
حصل.
الفتى :
وهل صارحته بما تصارحني به الآن؟
الطبيب :
كلا.
الفتى :
وكيف تصرفت معه؟
الطبيب :
تجنبت ذكر أي عرض يسيء إليه.
الفتى :
ولكنك عرضت حياته للخطر؟
الطبيب :
هذا على أي حال خير من تعريض حياتي للخطر.
الفتى :
أليس ذلك بعرض من أعراض الوباء؟
الطبيب :
بلى.
الفتى :
إذن فأنت مصاب أيضا.
الطبيب :
طبعا لم يسلم من الوباء أحد!
الفتى :
ألا تتداوى من الداء؟
الطبيب :
بنفس الدواء الذي سأصفه لك.
الفتى :
وهو؟
الطبيب :
إنه دواء واحد لا بديل له، وهو أن تسير إذا سرت على يديك، أن تسمع بعينيك، أن ترى بأذنيك، أن تتذكر بعقلك، وأن تعقل بذاكرتك.
الفتى :
يا له من دواء غريب وشاق!
الطبيب :
ولكنه ناجح وفعال ومجرب!
الفتى :
شكرا لك.
الطبيب :
عفوا آن لي أن أذهب.
الفتى :
مصحوبا بالسلامة. (الطبيب يتجه نحو الناحية اليسرى. صوت القهقهة الساخرة يرتفع، الطبيب يتوقف عن السير، يستدير ذاهبا إلى الناحية التي جاء منها ويختفي)
آن لهذا الصوت الكريه أن يخمد، ولا حل إلا أن أؤدبه!
صوت من الجهة اليمنى :
بل يوجد حل آخر. (يدخل رجل عملاق بادي الاعتداد بالنفس مبتسما بمودة.)
الفتى :
من أنت؟
العملاق :
صديق.
الفتى :
ولكني لا أعرفك.
العملاق :
نحن في عالم لا نعرف إلا أعداءنا.
الفتى :
ولكني لم أرك من قبل.
العملاق :
ها أنت تراني، وفي هذا الكفاية.
الفتى :
لا حول ولا قوة إلا بالله!
العملاق :
تذكر هذه اللحظة جيدا فسوف تؤرخ بها السعادة في عمرك.
الفتى :
وماذا تريد؟
العملاق :
أن أساعدك.
الفتى :
في أي شيء؟
العملاق :
في قهر عدوك.
الفتى :
ولكني لم أطلب مساعدة أحد.
العملاق :
وهذا يجعل من تقدمي إليك سلوكا جديرا حقا بالصداقة.
الفتى :
ومن الذي أرسلك؟
العملاق :
قل إنها العناية الإلهية.
الفتى :
هذه إجابة عامة ولا تشفي.
العملاق :
إذن اعتبر أنني جئتك بحكم وظيفتي.
الفتى :
وما وظيفتك؟
العملاق :
أن أقيم ميزان العدالة.
الفتى :
ومن قلدك هذه الوظيفة؟
العملاق :
الفرد هو الذي يختار الوظيفة التي تناسبه.
الفتى :
ولكنني لم أسألك المعونة.
العملاق :
ربما لأنك لم تكن تعلم بوجودي على كثب منك. وربما ...
الفتى :
وربما؟
العملاق :
وربما لأنك تبالغ في تقدير قوتك.
الفتى :
هذا شأني على أي حال.
العملاق :
كلا.
الفتى :
كلا؟!
العملاق :
إنه يدخل ضمن اختصاص وظيفتي، علي أن أنقذك ولو من نفسك.
الفتى :
ولكن مرجع الأمر في النهاية إلي أنا.
العملاق :
ويرجع إلي بحكم وظيفتي.
الفتى :
إني أشكرك، أرجو ألا تغالي في اختصاص وظيفتك. ثمة رجل وقح اعتدى علي، ولا مفر من أن أؤدبه بنفسي.
العملاق :
ولكنه يفوقك قوة، ولا دافع لشره سواي.
الفتى :
لست في حاجة إلى مساعدتك.
العملاق :
بل إنك في مسيس الحاجة إليها.
الفتى :
أكرر الشكر، ولكنني لا أعرفك ولا تربطني بك صلة حقيقية.
العملاق :
إني جزء لا يتجزأ من المكان، لي فيه رزق وصهر، وتربط أسرتي بأجدادك أواصر مودة قديمة.
الفتى :
أجدادي؟! .. إني أشك في ذلك.
العملاق :
من أين لك هذا الشك؟
الفتى :
إني أعرف من كانوا على صلة بهم.
العملاق :
لا بد أن تفوتك معرفة البعض، وأسرتي كانت ضمن ذلك البعض.
الفتى :
حتى لو صح ذلك، فإنني لا أعتبره ملزما لي بقبول مساعدتك.
العملاق :
إني أذكر ذلك التاريخ باعتباره مسوغا للقبول لا ملزما له.
الفتى :
إذن لا إلزام هناك.
العملاق :
أما الإلزام فيجيء من طبيعة وظيفتي.
الفتى :
إني أرفض مبدأ الإلزام!
العملاق :
عجيب أن تقف هذا الموقف العنيد من مساعد السماء!
الفتى :
أنا الذي تلقيت الضربة وأنا الذي علي ردها.
العملاق :
لن تستطيع ذلك وحدك.
الفتى :
هذا لا يعنيك في شيء.
العملاق :
بل هو كل شيء عندي، هو وظيفتي في الحياة.
الفتى :
لا شأن لي بوظيفتك.
العملاق :
لا تجعلني أشك في قواك العقلية.
الفتى :
انصرف من فضلك، ودعني أتصرف كما أشاء.
العملاق :
فكر .. فكر طويلا .. لا ترفض هبة العناية الإلهية.
الفتى :
أنا الذي تلقيت الضربة وأنا الذي علي ردها. (الفتاة ترجع وتتخذ مكانها بين الرجلين، العملاق يحني لها رأسه فترد التحية.)
العملاق :
لي عظيم الشرف بلقاء ربة الدار.
الفتاة :
شكرا يا سيدي.
العملاق :
كنت أذكره بالصلة القديمة التي ربطت بين أسرتي وأجداده.
الفتاة :
سمعت كل شيء.
العملاق :
إنه ينكر تلك الصلة.
الفتاة :
لا يمكن إنكار أي صلة قديمة أو حديثة.
العملاق :
مرحبا بصوت الحكمة.
الفتاة :
كن رفيقا به فهو غاضب.
العملاق :
ألا يحق لي أن أتمسك بأداء وظيفتي؟
الفتاة :
مباركة الوظيفة التي تصون الحياة.
العملاق :
مرحبا بصوت الحكمة.
الفتى (مخاطبا الفتاة) :
مؤامرة!
الفتاة :
معاذ الله!
الفتى :
مؤامرة.
الفتاة :
افتح له صدرك.
العملاق :
أشكرك يا صوت العقل.
الفتى (للفتاة) :
إني أطالبك بالاحترام.
الفتاة :
قلبي ملؤه الاحترام والحب.
العملاق :
لم تعاند محبيك؟
الفتى :
الحب قد يدفع إلى الهلاك.
الفتاة :
الحب لا يتعامل إلا مع الحياة.
الفتى :
إني أطالبك بالانسحاب.
العملاق :
غريب أن تعامل الجمال والحكمة بهذه الفظاظة.
الفتى (للعملاق) :
لا تتدخل في شئوني الخاصة.
العملاق :
سمعا وطاعة.
الفتاة :
إني ذاهبة ما دمت ترغب في ذلك، ولكني أتوسل إليك أن تفتح له صدرك. (الفتاة تذهب .. فترة صمت يتبادل فيها الرجلان النظرات، العملاق باسما والفتى غاضبا.)
العملاق :
الجو أصبح أصلح للمناقشة.
الفتى :
ألم تستنفد المناقشة.
العملاق :
كلا بعد، افتح لي صدرك، واتخذ بعد ذلك قرارك. (الفتى يتنهد صامتا.)
العملاق :
أريد أن أساعدك.
الفتى :
خبرني صراحة عما تريد ثمنا لذلك؟
العملاق :
إني صديق ولست بتاجر.
الفتى :
حدثني عما تريد.
العملاق :
لا شيء ألبتة.
الفتى :
ألبتة؟
العملاق :
إلا ما تتطلبه ظروف العمل طبعا.
الفتى :
ظروف العمل؟
العملاق :
لكي أؤدب عدوك فلا بد من استدراجه إلى هنا.
الفتى :
إلى مكاني هذا؟
العملاق :
نعم.
الفتى :
لا يجوز أن يدنس مقامي بقدمه.
العملاق :
لا تعط المكان أهمية أكثر مما يستحق.
الفتى (مشيرا إلى المصطبة) :
إنه مقامي مذ كان مقاما لهؤلاء.
العملاق :
ولا تعط للأموات أهمية أكثر مما يستحقون.
الفتى :
إذن هذا هو رأيك عن الأجداد؟
العملاق :
إن باطن الأرض مليء بالعظام، وهيهات أن تعرف أين عظام أجدادك بينها.
الفتى :
هذا رأي من لا أصل له.
العملاق :
لا تغضب .. ما أردته هو أن أبين لك خطتي في العمل.
الفتى :
ولم لا تذهب إليه حيث يقهقه؟
العملاق :
إني أعرف ما أريد.
الفتى :
سأجاريك في أفكارك، فهل إذا وافقت على رأيك تشرع في العمل؟
العملاق :
ولكن ليس هذا بكل شيء.
الفتى :
ثمة شروط أخرى؟
العملاق :
لا تردد كلمة «شروط» فما أبغضها في مقام الصداقة.
الفتى :
طيب .. ماذا تريد أيضا؟
العملاق :
في فترة التأهب للمعركة أحتاج لرعاية خاصة.
الفتى :
مثال ذلك؟
العملاق :
تقدم لي الطعام والشراب والترفيه الضروري.
الفتى :
جميل، ولكن يخيل إلي أن مطالبك لم تنته بعد؟
العملاق :
ما أجمل أن تدعو الفتاة الجليلة لمجالستنا!
الفتى :
فتاتي؟
العملاق :
إنها قلب كبير يتسع للجميع.
الفتى :
ولعله يتسع أيضا لعدونا المشترك؟
العملاق :
أعني أنني في حاجة إلى الحنان قبل المعركة.
الفتى :
وماذا أيضا؟
العملاق :
بما أنني سأكون يدك عند الحاجة فمن الإنصاف ألا تتورط في فعل قبل مشاورتي.
الفتى :
منطق سديد!
العملاق :
ولا أن تصادق شخصا قبل موافقتي؛ فقد يكون لي عدوا.
الفتى :
واحد وواحد يساويان اثنين.
العملاق :
ولا أن تعادي شخصا قبل الرجوع إلي؛ فقد يكون لي صديقا.
الفتى :
من يجادل في ذلك؟
العملاق :
هل نبدأ!
الفتى :
أود أن أسألك سؤالا، هل يمكن أن يفعل بي عدوي أكثر من ذلك؟
العملاق (مستنكرا) :
ولكن الفعل يتغير معناه بتغير فاعله.
الفتى :
فاعله؟!
العملاق :
قبلة من زوجك غير قبلة من بنت هوى، وصفعة من والدك غير صفعة من غريب!
الفتى :
وأنت تعتبر نفسك الوالد والزوجة لي؟
العملاق :
بدأنا نتفاهم فيما أعتقد.
الفتى (غاضبا) :
اغرب عن وجهي.
العملاق :
ماذا جرى لك؟
الفتى :
اذهب .. اذهب بلا تردد.
العملاق :
أين أذهب؟
الفتى :
ابعد عن مقامي.
العملاق :
ولكنه مقامي أنا أيضا.
الفتى :
ماذا قلت؟
العملاق :
يا سيدي، مضى وقت طويل ونحن نتبادل الحديث، وقت يعطيني الحق في الإقامة، وبالإضافة إلى ذلك نشأت علاقة إنسانية صميمة مع فتاتك الحكيمة، بل مع هؤلاء الأجداد أنفسهم.
الفتى :
أنت بلطجي.
العملاق :
فليسامحك الله.
الفتى :
اذهب بعيدا، لا أريد مساعدتك، وسألقى عدوي وحدي!
العملاق :
عليك في هذه الحال أن تقاتل اثنين!
الفتى :
كيف؟
العملاق :
إنك تناصبني العداء، وسأضطر إلى الدفاع عن نفسي.
الفتى :
تهاجمني لأنني أرفض مساعدتك؟
العملاق :
لأنك تريد أن تطردني من مقامي، وتعطل وظيفتي الأساسية في الحياة.
الفتى :
لا تستهن بي، لست عملاقا مثلك، ولكنني مصمم على منازلة الموت نفسه.
العملاق :
ما دمت تريد الموت فلتمت.
الفتى :
سأموت إذا مت وأنا أقاتل.
العملاق :
إذن فلتقاتل ولتمت. (تعود الفتاة مسرعة.)
الفتاة :
أردت أن تفتح صدرك للتفاهم لا للموت.
الفتى :
إنه شر من الآخر.
العملاق :
إنه أحمق.
الفتى :
إنه من النوع الآخر ولكنه شر منه.
الفتاة :
يا للأسف!
الفتى :
لا منفذ إلى حياة طيبة مع وجودهما.
الفتاة :
متى أسمع كلمة جميلة تتردد؟
الفتى :
عندما يختفيان هما وأمثالهما.
الفتاة :
كلام قديم معاد.
الفتى :
ولكنه حق.
الفتاة :
متى أسمع كلمة جميلة تتردد؟
العملاق :
إني أردد هذه الكلمة المنشودة ولا من سميع.
الفتاة (للعملاق) :
ألا يمكن أن تقيم ميزان العدالة بلا شروط؟
العملاق :
إني أبغض كلمة «شروط».
الفتاة :
ألا يمكن أن تقيم ميزان العدالة دون أن تطالب بشيء؟
العملاق :
لن يكون هذا من العدل في شيء.
الفتاة :
متى أسمع كلمة جميلة تتردد؟ (صوت القهقهة الهازئة يترامى من بعيد، العملاق ينصت إلى الصوت باهتمام ودهشة.)
العملاق :
رباه .. إني أعرف هذا الصوت.
الفتاة :
إنه صوت عدوه.
العملاق :
عدوه!
الفتاة :
نعم.
العملاق :
يا لعجائب المصادفات!
الفتاة :
هذا هو الرجل الذي قصدت بتقديم مساعدتك القضاء عليه.
العملاق :
ها .. ها .. ها.
الفتاة :
ماذا يضحك؟
العملاق :
إنه قريبي من ناحية الأم.
الفتاة :
قريبك؟
العملاق :
نعم، يا لذكريات الطفولة السعيدة التي لا تنسى!
الفتى :
ظننتك تعرف العدو الذي جئت متطوعا لضربه.
العملاق :
ها .. ها .. ها.
الفتى :
ألا زلت عند رأيك في مساعدتك؟
العملاق :
ولكنك رفضت مساعدتي!
الفتى :
هبني قبلتها فهل تقدمها؟
العملاق :
مع كافة الشروط التي اشترطتها؟
الفتى :
لكنك تبغض كلمة «شروط»!
العملاق :
نعم أم لا؟
الفتى :
نعم.
العملاق :
في هذه الحال ألعب دور رسول السلام بينكما.
الفتى :
رسول السلام؟
العملاق :
إكراما لهذه الفتاة الحكيمة ولك.
الفتى :
وتعهداتك السابقة؟
العملاق :
للقربى حقوق، وإني لا أوفيها حقها الكامل بموقفي هذا.
الفتى :
ولكنه هو المعتدي.
العملاق :
ولو!
الفتى :
وهو في الأصل قاطع طرق ليس إلا؟
العملاق :
ولو!
الفتى :
إنه وحش ذميم.
العملاق :
إنك لا تراه على حقيقته.
الفتى :
ألم تسمع قهقهته الساخرة؟
العملاق :
هذه هي طريقته في المزاح، يا له من شاب خفيف الروح حقا!
الفتى :
ولكني أعرفه حق المعرفة، من خلال المعاملة والجوار والصراع عرفته.
العملاق :
صدقني إنه لا يكشف عن مكنون كنوزه إلا لمن يحبه ويفهمه.
الفتى :
بل لا تلين عريكته إلا لمن يشكمه بالتأديب والضرب.
العملاق :
أحمد الله على أنك لم تتمكن من ضربه.
الفتى :
ولم؟
العملاق :
كنت سأهرع إلى نجدته.
الفتى :
ها أنت تهددني.
العملاق :
للقرابة حقوق.
الفتى :
تجلت الحقيقة، فما أنت إلا بلطجي كقريبك.
العملاق :
يا له من تفكير خليق بأن يقود إلى الهلاك.
الفتى :
لا تضيع وقتي هباء.
العملاق :
تصرف بوقتك كما تشاء.
الفتى :
سأسوي حسابي بنفسي.
العملاق :
أنت تعلم أن هذا الكلام لا معنى له، وقد وضحت لك أهداف وظيفتي.
الفتى :
اللعنة!
العملاق :
إني صديقك أردت أم لم ترد، وإني قريبه قبلت ذلك أم لم تقبله، وأنا أكبر منكما سنا وأعظم قوة، فواجبي أن أجمع بين ثلاثتنا بعهد صداقة دائمة جديرة بهذا المكان الذي يؤاخي الأحياء والأموات أنفسهم.
الفتى :
كلام طيب، ونية لئيمة، وفعل غشوم.
العملاق (مخاطبا الفتاة) :
تكلمي أنت.
الفتاة :
لم يعد عندي من جديد أقوله.
الفتى :
اعترفي بأنني على حق.
الفتاة :
أعترف بأنه لا يهمني في هذا الوجود إلا الحب.
العملاق :
كم أنك حكيمة!
الفتى :
كم أنك أنانية!
الفتاة :
الحب عطاء بلا حدود ولا نهاية.
الفتى :
الوحش يأخذ ولكنه لا يعرف العطاء.
الفتاة :
ليتك تؤمن بالحب.
الفتى :
لا حياة للحب بين الوحوش.
الفتاة :
الحب أقوى قوة في الوجود، بيد أنه سلاح لا يسلس إلا لمن يؤمن به.
الفتى :
للوحوش لغة أخرى.
الفتاة :
أخشى أن تنقلب وحشا مثلهم.
الفتى :
الكرامة أهم من الحياة نفسها.
الفتاة :
الفضائل الحقيقية ثمار لا تنبت إلا فوق شجرة الحب.
العملاق (مخاطبا الفتى) :
من المؤسف أنك تحب الموت أكثر مما تحب فتاتك الجميلة الحكيمة.
الفتى :
الموت أحب إلي من الخضوع لإرادتك. (القهقهة الساخرة تترامى من بعيد.)
العملاق :
يا له من فتى ضحوك، يحب المزاح بقدر ما يحب الحياة الآمنة!
الفتى :
إنك لئيم بقدر ما أنت قوي.
العملاق :
أمامك عملاقان، ووراءك حياة طيبة، فارجع إلى الوراء.
الفتى :
إلى الأمام.
العملاق (للفتاة) :
أقترح أن ندعه لنفسه ليفكر بهدوء فإن الجدل يغريه بالعناد والمكابرة. (العملاق والفتاة يخرجان من بابين متقاربين في الناحية اليمنى.) (الفتى يتفكر قليلا ... ينظر ناحية المصطبة المسربلة في الظلام.)
الفتى :
آن لكم أن تنطقوا.
الصدى :
تنطقوا. (الفتى يلوح بيده غاضبا .. يذهب ويجيء متفكرا .. يدخل رجل أعمى يتحسس طريقه بعكاز، يتنصت مائلا برأسه نحو الفتى.)
الشحاذ :
هل يوجد أحد هنا؟
الفتى :
نعم.
الشحاذ :
أنت الذي ناديتني؟
الفتى :
كلا.
الشحاذ :
لكنه صوتك، وأذني لا تخطئ.
الفتى :
خبرني عما تريد.
الشحاذ :
ماذا تريد أنت؟
الفتى :
ألست شحاذا؟
الشحاذ :
بلى.
الفتى :
لعلك تريد إحسانا؟
الشحاذ :
رزقت اليوم بما فيه الكفاية، فماذا تريد أنت؟
الفتى :
لا أريد شيئا.
الشحاذ :
كذب!
الفتى :
شحاذ ووقح.
الشحاذ :
لم تشتمني؟
الفتى :
كيف تجرؤ على رميي بالكذب؟
الشحاذ :
لأنك كذاب! (الفتى يرفع يده ليضربه، ولكنه يتراجع أمام عجزه.)
الفتى :
اذهب قبل أن أكسر رأسك.
الشحاذ :
لا أذهب حتى أعرف لماذا ناديتني؟ وماذا تريد مني؟
الفتى :
اذهب أحسن لك.
الشحاذ :
ليس قبل أن أعرف ماذا تريد؟
الفتى (ساخرا) :
وهل عندك ما تعطيه؟
الشحاذ :
اطلب ما تشاء.
الفتى (ضاحكا رغما عنه) :
إني مدين لك بأول ضحكة في يومي.
الشحاذ :
هذا قليل من كثير مما عندي.
الفتى :
يخيل إلي أنك غني.
الشحاذ :
جدا.
الفتى :
ماذا تملك؟
الشحاذ :
عالم الظلام الذي لا نهاية له.
الفتى :
أنت خفيف الروح رغم سلاطة لسانك، وكان ينبغي أن تجد ملجأ يؤويك.
الشحاذ :
التحقت ذات يوم بملجأ.
الفتى :
ولم تركته؟
الشحاذ :
رفتت!
الفتى (ضاحكا) :
أسمع أول مرة عن رفت الشحاذين!
الشحاذ :
كان ناظر الملجأ فظا غليظا، ولصا لا حياء له.
الفتى :
وتوقع أن تسبحوا بحمده على أي حال؟
الشحاذ :
ولكن بعضنا تمرد، وكنت على رأس المتمردين.
الفتى :
وفضلت أن تهيم على وجهك بلا مأوى؟
الشحاذ :
نعم.
الفتى :
ولكن أليس الملجأ بكل عيوبه أفضل من التسول والتشرد؟
الشحاذ :
الحرية أفضل من الأمن نفسه.
الفتى :
يخيل إلي أنك شحاذ مثقف!
الشحاذ :
أعرف أشياء كثيرة.
الفتى :
مثل ماذا؟
الشحاذ :
أن أرى بأذني.
الفتى :
وماذا أيضا؟
الشحاذ :
وأن أسير على يدي!
الفتى :
أنت ترى بأذنيك وتسير على يديك!
الشحاذ :
وصادفني في تجوالي بعض الرسميين فقادوني مرة أخرى إلى الملجأ.
الفتى :
إلى الوحش؟
الشحاذ :
كلا، كان قد خلفه ناظر جديد عادل وأمين ورحيم.
الفتى :
وكيف تركته بعد ذلك؟
الشحاذ :
هربت.
الفتى :
غير معقول.
الشحاذ :
كان عادلا وأمينا ورحيما، ولكنه مغرم بالنظام لدرجة الهوس، ويطبقه بدقة فلكية، ولا يقبل مراجعة.
الفتى :
ولكنك نعمت بالغذاء والكساء والراحة والنظافة.
الشحاذ :
الأكل بميعاد والشرب بميعاد و«ولا مؤاخذة» بميعاد والنوم بميعاد، فكدت أن أجن!
الفتى :
وتمردت مرة أخرى؟
الشحاذ :
حتى التمرد حرمت منه، فلم يطاوعني ضميري على التمرد على رجل عادل أمين رحيم.
الفتى :
كان عليك أن ترضى.
الشحاذ :
حتى التمرد حرمت منه!
الفتى :
التمرد ليس خيرا في ذاته.
الشحاذ :
ولكنه خير من أن تكون حجرا.
الفتى :
وهكذا هربت؟
الشحاذ :
هكذا هربت.
الفتى :
إلى التراب والحشرات واللقمة العفنة!
الشحاذ :
إلى سعادتي الحقيقية.
الفتى :
حديثك مثير وعجيب.
الشحاذ :
فتك بعافية. (الشحاذ يتحرك.)
الفتى :
انتظر، (الشحاذ يستمر في سيره) . ألا تريد أن تسمعني؟ (يمضي الشحاذ حتى يختفي.) (يعود العملاق .. تعود الفتاة.)
الفتاة :
قلبي طيلة الوقت معك.
العملاق :
لعلك اقتنعت برأيي.
الفتى :
أيها السيد الذي يحب الشر، ويحب الخير أحيانا لحساب الشر. أيتها السيدة التي تحب الخير، وتحب الشر أحيانا لحساب الخير. إليكما رأيي النهائي. سأصون كرامتي حتى الموت. (الفتاة تخفي وجهها بين يديها، وستظل كذلك إلى ما قبيل النهاية.)
العملاق :
شعار الوباء الذي فتك بملايين الحمقى.
الفتى :
ينابيع الحياة الحقة مهددة بالجفاف، أشواق القلب الخالدة يساومها الضياع، سحقا للوحشة التي تذبل فيها معاني الأشياء، إني ذاهب. (القهقهة الساخرة ترتفع)، (الفتى يتحول نحوها في تصميم ويتقدم، العملاق يثب نحوه، الفتى يدفعه. العملاق يقبض على كتفيه ويدفع به نحو المصطبة، الفتى يندفع حتى يغيب في الظلمة، الفتى يرتد كأنه كرة ارتطمت بجدار منقلبا على وجهه ثم يقف مترنحا، وكأن حركته أيقظت الرقود وشدتهم من رقادهم. يتدحرج أولهم حتى يصل إلى مقدم المسرح، وينهض في تثاقل كمن يقوم من نوم، يتبعه آخر مكررا نفس الحركة، ويتتابع كثيرون؛ رجالا ونساء مكررين نفس الحركات حتى يكتظ بهم المسرح. العملاق يتزحزح رويدا رويدا حتى يغيب في المدخل المفضي إلى القهقهة الساخرة، تتم يقظة الجميع، تنتصب قاماتهم، يرتسم العزم في وجوههم. يجري ذلك في تمثيل صامت. يسير الفتى نحو ناحية عدوه وهو يضرب الأرض ضربات مسموعة منتظمة. يمضون خلفه في عزم صلب حتى يختفوا جميعا، ضربات أقدامهم ما زالت تترامى.) (الفتاة ترفع يديها عن وجهها .. تصغى بحزن .. وترمي بنظرها إلى بعيد.)
التركة
(حجرة انتظار في بيت ولي الله؛ حجرة ذات طابع عتيق، في الصدر كونصول؛ باب إلى اليمين وآخر إلى اليسار، تصطف بجوانبها كنبات تفصل بينها كراسي، ثمة حصر مزركشة معلقة على الجدران في مواضع محددة. يدخل فتى وفتاة، يتفحصان الحجرة باستطلاع من يراها لأول مرة، ثم يقفان في الوسط.)
الفتى :
البيت صامت كأنه قبر.
الفتاة :
صفق لتشعرهم بوجودك.
الفتى :
إنه يكره ذلك، ما زلت أذكر طبعه. (صمت قصير.)
الفتاة :
بيتكم قديم، والحواري المفضية إليه شقت فيما يبدو من عهد نوح.
الفتى :
لا تنسي أصلك وأنت تتكلمين عن الحواري كسائحة.
الفتاة :
تأدب، المفروض أننا مهذبون. (صمت قصير.)
الفتى :
لم دعاني يا ترى؟
الفتاه :
هو أبوك مهما يكن من أمر.
الفتى :
ظننت أن الماضي لن يعود.
الفتاة :
الحاضر يمضي والماضي يعود، ولا ينبغي لرجل مذنب أن ييئس، فأي ذنب يغفر ما دام المذنب رجلا.
الفتى :
ألم تحلمي يوما بأن يدعوك أبوك ليغفر لك؟
الفتاة :
لو رآني ساعة احتضاره لغالب الموت حتى يفتك بي. (الفتى يبتسم من خلال ثوان من الصمت.)
الفتى :
ترى لماذا دعاني بعد ذلك الفراق الطويل؟
الفتاة :
إنك وحيده وللقلب حنينه، ومن يدري فلعلك ...
الفتى :
لعلي؟
الفتاة :
لعلك تذهب مكرما بثروة لم تخطر لك على بال!
الفتى :
طردني يافعا ولا مليم في جيبي!
الفتاة :
ماذا كنت تتوقع جزاء لسلوكك المشين؟
الفتى :
تشردت وجعت ولولا ...
الفتاة :
ولولا فجورك لمت جوعا.
الفتى :
اقطعي لسانك يا بنت الأبالسة.
الفتاة :
ولأنك رجل فكل ذنب مغفور لك.
الفتى :
ولأنك امرأة فكل ذنب مرجعه إليك.
الفتاة :
أنت صعلوك ولكن تخافه الشياطين.
الفتى :
فلنتأدب ولو ساعة من الزمان.
الفتاة :
حتى تضحك على الرجل.
الفتى :
العبي دور الزوجة بإتقان.
الفتاة :
كان عليك أن تجيء وحدك وتتركني في سلام.
الفتى :
لأن أتقدم إليه مصحوبا بزوجتي خير من الحضور وحدي كرجل أعزب محوط بشبهات العزاب.
الفتاة :
لعله يعرف عنك أكثر مما تتصور.
الفتى :
لو صح ذلك لما دعاني بإعلان في الجرائد.
الفتاة :
ولكنه ولي من أولياء الله؛ فكيف لم يعرف أنك صاحب خمارة وأنك مغامر؟
الفتى :
على أي حال فإنه لم يدخل السجن، فهو خير من أبيك المرحوم.
الفتاة :
تدفعني إلى استعمال حذائي في هذه الحجرة العتيقة المباركة.
الفتى :
استعمليه، وسأرد بكسر رأسك، ونقدم بذلك الدليل على صدق علاقتنا الزوجية. (صمت.)
الفتاة :
آه لو يتحقق حلم الثروة!
الفتى :
وتتحول الخمارة الصغيرة إلى ملهى ليلي عالمي.
الفتاة :
والمغامر الهاوي إلى قواد دولي! (يكور لها قبضة يده مهددا فتتراجع خطوة وهي تضحك دون إحداث صوت.)
الفتاة :
الحق أن أباك ذو سمعة طيبة كرائحة الورد.
الفتى :
أجل.
الفتاة :
ما سألنا أحدا عن بيته إلا ولهج بالثناء عليه.
الفتى :
أناس هذه الأحياء طيبون!
الفتاة :
ولكنهم يؤكدون خوارقه.
الفتى :
إنهم يرون في الحاوي معجزة.
الفتاة :
وينوهون بالطمأنينة التي يزرعها في القلب.
الفتى :
جميع هؤلاء يجيئون إلى هنا، ويجودون بنقودهم عن طيب خاطر.
الفتاة :
ربما لأنهم يأخذون ما هو أقيم مما يعطون.
الفتى :
إن قلبك لا يخلو من موطن للخرافة رغم اكتنازه بالشر الباهر.
الفتاة :
وأنت، ألا تذكر يوم تأزمت بالمغص الكلوي؟
الفتى :
كفي عن الثرثرة، الرجل مليونير ما في ذلك من شك.
الفتاة :
لندع الله أن يكون ذلك صحيحا.
الفتى :
هنا .. هنا ثروة طائلة!
الفتاة :
هنا؟
الفتى :
أولياء الله لا يتعاملون مع البنوك.
الفتاة :
وعند حلول الأجل يمكن استخلاص التركة بعيدا عن قبضة الضرائب.
الفتى :
ولكن ثمة خطرا أفظع من الضرائب.
الفتاة :
ماذا تعني؟
الفتى :
أعني من يقومون بخدمته.
الفتاة :
من يخدم أولياء الله؟
الفتى :
الشياطين!
الفتاة :
هل تعني ما تقول؟
الفتى :
أعني شياطين الأرض.
الفتاة :
من حسن الحظ أنك شيطان وبوسعك أن تتعامل مع الشياطين، هل لك امرأة أب؟
الفتى :
ماتت من زمن بعيد.
الفتاة :
أهو طاعن في السن؟
الفتى :
جدا.
الفتاة :
هذا يبشر بالخير.
الفتى :
لا تحلمي، ماتت أجيال وهو حي يمارس عمله.
الفتاة :
لم تعد أعصابي تتحمل الصبر أكثر من ذلك، عليك أن تقابله.
الفتى :
بل علينا أن ننتظر، إني أعرف طبعه. (صمت، يمشيان ذهابا وجيئة) (يفتح الباب إلى اليسار، يدخل غلام حاملا مبخرة؛ غلام جميل يلبس جلبابا وطاقية ومركوبا، يدور في الحجرة حارقا البخور دون أن يلتفت إلى الفتى والفتاة، ودون أن ينبس بكلمة. يقف الفتى والفتاة جنبا لجنب وهما يتابعانه بعينيهما)
يا غلام! (الغلام يكف عن الدوران ويقف قبالتهما)
هل أنت من يقوم على خدمة الشيخ؟
الغلام :
الناس جميعا يقومون على خدمته.
الفتى :
وماذا تفعل أنت؟
الغلام :
إني خادم البيت.
الفتى :
أنا ابن مولاك.
الغلام :
أعرف ذلك يا سيدي.
الفتى :
وكيف عرفتني؟ (الغلام لا يجيب)
لم لا تجيب؟
الغلام :
لقد أجبت يا سيدي.
الفتى (باسما) :
طيب .. لقد جئت ملبيا دعوته.
الغلام :
أعرف ذلك يا سيدي.
الفتى :
ألا تدري متى يدعوني إلى لقائه؟
الغلام :
لقد كلفني مولاي أن أخبرك ...
الفتى (مقاطعا) :
إني أسألك متى يلقاني؟
الغلام :
لقد ذهب.
الفتى :
أين؟ ومتى؟
الغلام :
غادر البيت عقب صلاة الفجر.
الفتى :
ومتى يعود؟
الغلام :
لن يعود.
الفتى :
أنت تهذي يا غلام.
الغلام :
سامحك الله يا سيدي.
الفتى :
ولم لن يعود؟
الغلام (محنيا رأسه من الحزن) :
لقد ذهب إلى لقاء ربه.
الفتاة : (جزعة) ماذا تعني يا شاطر؟
الغلام :
قال إنه يشعر بدنو الأجل ثم ذهب.
الفتى :
ولم لم يبق في فراشه؟
الغلام :
نذر من قديم أن يلقى ربه في الخلاء.
الفتى :
ولكنك تعرف مكانه؟
الغلام :
كلا.
الفتى :
ولماذا دعاني؟
الغلام :
دعاك لتعود إلى بيتك القديم.
الفتى :
وهل حملك رسالة إلي؟
الغلام :
قال: دنا الأجل، آن لي أن أدعو ابني الضال لعله يصلح لأن يرث التركة.
الفتى :
التركة؟
الغلام :
أمرني أن أسلمك التركة لعلك تثوب إلى رشدك.
الفتى :
ليرحمه الله .. أعني ليمد الله في عمره.
الفتاة :
وأين التركة يا شاطر؟
الغلام :
قال سيجيء غارقا في الضلال ساحبا معه قرينة سوء. (صمت مع تبادل نظرات.)
الفتاة :
هذا يعني أنها أيضا في حاجة إلى نصيب من تركته.
الفتى :
ومتى تسلمنا التركة؟ (الغلام يشير إلى حصيرة معلقة على الحائط إلى يمين الكونصول.)
الغلام :
التركة في خزانة وراء الحصيرة .. هاك المفتاح يا سيدي. (يتناول الفتى المفتاح ويمضي إلى الحصيرة، يهم الغلام بمغادرة الحجرة، الفتاة تهرع إليه فتقبض على يده.)
الفتاة :
ابق حتى نتسلم التركة. (الفتى يزيح الحصيرة، يفتح الخزانة، يأخذ في إخراج كتب صفراء، ويقرأ بعض العناوين وهو يخرجها ويرصها فوق الكنبة.)
الفتى :
الحق .. مدارج الروح .. سلام للقلب. (يستمر في إخراج الكتب التي تتراكم فوق الكنبة، ويتهاوى بعضها على الأرض.)
الفتى :
أين التركة؟
الفتاة (للغلام) :
أنت سرقتها!
الغلام :
سامحك الله.
الفتى (مواصلا إخراج الكتب) :
أين التركة؟
الغلام :
لا علم لي بما في الخزانة.
الفتى :
كان المفتاح معك.
الغلام :
أعطانيه قبل أن يغادر البيت. (الفتى يواصل إخراج الكتب، ثم يصيح بفرح جنوني.)
الفتى :
التركة! (يخرج رزما من الأوراق المالية ويرصها فوق خوان.)
الفتاة :
ثروة طائلة.
الفتى :
ما أكرمك يا أبي وما أبرك!
الغلام :
إنه يوصيك بألا تنفق منها مليما واحدا قبل أن تستوعب ما في هذه الكتب.
الفتاة :
الأوفق أن نبدأ باستيعاب هذه النقود.
الغلام :
تلك كانت وصيته.
الفتى :
شكرا يا غلام، يمكنك أن تنصرف إذا شئت.
الغلام :
والتركة؟
الفتى :
هل ثمة تركة أخرى؟
الغلام (مشيرا إلى الكتب) :
إنما أعني هذه التركة.
الفتى :
ستنفذ الوصية بأمانة. (الفتاة في سيرها تدوس على بعض الكتب .)
الغلام :
ارفعي قدمك.
الفتاة :
تفضل بسلام وكف عن إلقاء الأوامر.
الغلام :
فلأعيدها إلى الخزانة إذا لم تكن بكما من حاجة إليها.
الفتى :
خير ما تفعل أيها الغلام الأمين. (الغلام يعيد الكتب إلى الخزانة، يحملها باحترام وهو يبكي صامتا، ولما ينتهي يقول بنبرة حزينة.)
الغلام :
إني ذاهب.
الفتى :
مصحوبا بالسلامة. (ثم مستدركا) ، انتظر، أنت غلام طيب، تحب أن تشتغل عندي؟
الغلام :
أي شغلة يا سيدي؟
الفتى :
أدربك لتعمل جرسونا ماهرا.
الغلام :
في مقهى؟
الفتى :
خمارة، وهي أربح للجرسون من عشرة مقاه.
الغلام :
إني ذاهب يا سيدي.
الفتاة :
مع السلامة. (الغلام يذهب) ، ألا ترى أن نفتشه قبل أن يرحل؟
الفتى :
لو كان لصا لما أخبرنا عن التركة.
الفتاة :
علينا أن نجد حقيبة لنضع فيها النقود.
الفتى :
سنجد حقيبة أو بقجة في هذا البيت العتيق.
الفتاة :
وعليك أن تفكر في استغلاله.
الفتى :
الأفضل بيعه، إنه قديم حقا، ولكنه يدر ذهبا لو بيع أرضا.
الفتاة :
واشتر بالثمن عمارة، ولنبع الخمارة أيضا لنعيش أحرارا كأبناء الذوات.
الفتى :
أفكار طائشة، سوف أنشئ ملهى ليليا يضاهي الأوبرج. (يظهر رجل عند الباب الأيمن، يلبس جلبابا ومعطفا، وهو ذو قامة ضخمة، وطابع رسمي كالمخبرين، يتقدم خطوات حتى يصير على مبعدة قصيرة من الفتى والفتاة اللذين يطالعانه بدهشة، يجيل في المكان نظرة فاحصة، ويرى النقود المكدسة، ثم يعود لينظر إلى الفتى والفتاة.)
الفتى :
من حضرتك؟
الرجل :
هل أنت ابن ولي الله؟
الفتى :
نعم ولكن من حضرتك؟
الرجل :
مخبر من قوات الشرطة.
الفتى :
أكنت على موعد مع الشيخ؟
الرجل :
الشيخ يرقد الآن إلى جوار ربه.
الفتى :
كيف عرفت ذلك؟
الرجل :
أسلم الروح في الخلاء، فيما وراء مسكني، في الموضع الذي كان يتعبد فيه.
الفتى :
وأين جثمانه؟
الرجل :
في المثوى الذي سنمضي إليه جميعا، لم يعد في حاجة إلى عنايتك، ويبدو أنك مشغول عنه بما هو أهم عندك.
الفتى :
وماذا تريد حضرتك؟
الرجل :
جئت لأذهب بك إلى القسم.
الفتى :
لماذا؟
الرجل :
أنت متهم بقتل أبيك!
الفتى :
دعابة ولكنها ثقيلة!
الفتاة :
إنه لم يره منذ عمر مديد.
الرجل :
أنت متهم بقتل أبيك.
الفتى :
كف عن ترديد هذا السخف!
الرجل :
شهدته وهو يحتضر، وأنا أعرفه منذ قديم، صرح لي قبل صعود روحه بأنك قتلته!
الفتى :
محض افتراء وهذيان.
الرجل :
الميت لا يكذب، وهو ولي من أولياء الله.
الفتى :
لعلك لم تسمعه بوضوح أو لم تفهم ما يريد قوله.
الرجل :
قال: «إني أموت مطعونا بيد ابني الوحيد.»
الفتاة :
كان يعرب عن حزنه لفراق ابنه الطويل له.
الفتى :
هل وجدت في جسده طعنة واحدة؟
الرجل :
لنترك ذلك إلى التحقيق.
الفتى :
أي تحقيق يا رجل؟ إني لم أره منذ عشرات السنين.
الرجل :
وكيف سولت لك نفسك أن تنهب أمواله قبل أن تراه؟
الفتى :
المال ميراثي الشرعي.
الرجل :
هل علمت بوفاته؟
الفتى :
كلا.
الرجل :
فكيف تمد يدك إلى ماله وهو حي في ظنك؟
الفتى :
وهبه لي قبل مغادرته البيت كما أخبرني غلامه.
الرجل :
أين غلامه؟
الفتاة :
ذهب.
الرجل :
استدعه ليدلي بأقواله.
الفتى :
لا أدري أين ذهب.
الرجل :
هلم معي إلى القسم.
الفتى :
لا جريمة هناك ألبتة!
الرجل :
قتلت أباك وسرقت الدولة!
الفتى :
الدولة؟
الرجل :
ألا تعلم أنه لا يجوز التصرف في هذا المال حتى تأخذ الدولة حصتها منه؟
الفتى :
لم يكن في نيتي أن أتصرف في مليم قبل أن تأخذ الدولة حصتها كاملة، والله على ما أقول شهيد!
الرجل :
براعتك في التنكيت تفوق براعتك في القتل والنهب.
الفتى :
أؤكد لك أن التحقق سيسفر عن براءتي.
الرجل :
ولكن سيسبق ذلك القبض عليك والتحفظ على المال.
الفتاة :
أهكذا تعامل شخصا يوم وفاة أبيه؟
الفتى :
الشيخ الطيب الذي طالما ثبت القلوب بالطمأنينة!
الرجل :
إنك رجل شرير.
الفتى :
أنت متحامل وسيئ الظن.
الرجل :
كلفت بمهام كثيرة في مواطن الشبهات؛ فعرفت الكثيرين من أمثالك.
الفتى :
أنا تاجر شريف.
الرجل :
هلم معي، ولا تدفعني إلى الضحك في بيت ميت.
الفتاة :
كن لطيفا ودعه في حاله.
الرجل :
إنك تدافعين عنه كأنك بعيدة عن التهمة!
الفتاة :
أنا؟!
الرجل :
أنت شريكته في الجريمتين.
الفتى :
أنا بريء. (يتناول رزمة من النقود ويضعها في يد الرجل)
وهذا المال مالي.
الرجل :
أترشوني يا رجل مرتكبا بذلك جريمة ثالثة؟
الفتى :
معاذ الله، ولكنني أؤدي حق الدولة علي.
الرجل :
حق الدولة يمثل ربع التركة. (الفتى يعطيه رزمة أخرى.)
الفتى :
إليك رزمة أخرى دون تعرض لمناقشة المقدار المستحق.
الرجل :
والقضية وتكاليفها؟ والتحفظ على المال وتعرضه للضياع؟
الفتى :
أعتقد أنني أعطيت ما فيه الكفاية.
الرجل :
أتعاب المحاماة .. الرسوم .. سجنك .. تعرض عملك الذي ترتزق منه للخسران؟ (الفتى يعطيه رزمة ثالثة.)
الفتى :
تذكر أنني أعطيتك ثروة.
الرجل :
لعل هذا يكفي بالنسبة لك. (صمت وتبادل نظرات حائرة)
الرجل :
ولكن هذه السيدة لم تدفع مليما بعد؟
الفتاة :
إني زوجته.
الرجل :
قلت إنني عملت طويلا في مواطن السوء فلا تحاولي الضحك على ذقني.
الفتى :
لقد أعطيت فدية لكلينا.
الرجل :
بل فدية لك وحدك!
الفتى :
ماذا تريد؟
الرجل :
الأتعاب الخاصة بالسيدة. (يعطيه رزمة رابعة.)
الفتى :
هاك رزمة رابعة.
الرجل :
كن كريما كسائر القتلة واللصوص.
الفتى :
أتريد أن تستولي على نصف التركة؟
الرجل :
الأمر يتوقف على مدى تقديرك لحريتك. (يقطب الفتى في قهر، ثم يسلمه رزمة جديدة.)
الفتى :
تفضل مصحوبا بالسلامة. (الرجل يدير ظهره ليذهب، الفتى يسل من ملابسه مطواة فيفتح نصلها ويهجم على الرجل. الرجل حذر وكان يتوقع حركة غادرة فيتفادى من الطعنة، ويقبض على معصمه فيلويه، ثم يلكمه فيسقط على الأرض. يجيء بكرسي فيجلسه عليه ويخرج من ملابسه حبلا ويكبله بمهارة قبل أن يفيق من اللكمة، وهو يهدد الفتاة بأنها إذا ندت عنها حركة أو صوت فسوف يساقان إلى القسم. ثم يجيء بكرسي آخر ويأمر الفتاة بالجلوس مهددا ويكبلها بحبل آخر. يتجه نحو النقود على الخوان فيستولي عليها، ثم يلفها في الحصيرة، يلقي عليهما نظرة ثم يذهب.) (الفتى يفيق من أثر اللكمة، ينظر فيما حوله، يتذكر ما وقع، يحاول تخليص نفسه ولكن عبثا.)
الفتى :
ذهب؟
الفتاة :
بعد أن استولى على النقود كلها.
الفتى (غاضبا) :
لم لم تصوتي؟ كان يجب أن تصوتي بأعلى صوتك.
الفتاة :
خفت أن يرجع فيضربنا أو يقتلنا. (يحاول تخليص نفسه مرة ثانية دون فائدة.)
الفتى :
سأقتله ولو اختفى في بلاد الواق.
الفتاة :
تهورك هو المسئول عما حل بنا، لم حاولت الهجوم عليه؟
الفتى :
ليس من مبادئي أن أسمح لإنسان باستغفالي.
الفتاة :
ها هو قد ذهب بالثروة كلها.
الفتى :
سيكون التنكيل به هو هدفي الأول في الحياة.
الفتاة :
وقد تحقق هدفك ولكن الحلم السعيد تبدد.
الفتى :
سأقبض على عنقه عاجلا أو آجلا.
الفتاة :
ولا شاهد أو دليل لدينا عما حصل.
الفتى :
المهم الآن أن نتحرر من قيدنا.
الفتاة :
نحن مقيدان في بيت مغلق النوافذ والأبواب.
الفتى :
ويعز علي أن أتصور أن الثروة حقا ضاعت.
الفتاة :
هي الحقيقة الأليمة، وربما تقتله ولكنك لن تسترد مليما من ثروتك.
الفتى :
لم يعبث بي أحد من قبل.
الفتاة :
ها قد عبث بك كأنك لا شيء.
الفتى :
أين المفر؟ إنه يعمل في دائرة هذا القسم.
الفتاة :
إذا كان حقا مخبرا.
الفتى :
ولم لا يكون مخبرا؟
الفتاة :
كان يجب أن تطالبه بإبراز بطاقته الشخصية.
الفتى :
أعترف بأنني لم أحسن التفكير ولا التدبير.
الفتاة :
أنت مغرور، تتوهم أنك إله، ثم تقع كالرطل.
الفتى :
كيف أصدق ما حصل؟
الفتاة :
قلبي يحدثني بأنه ليس مخبرا.
الفتى :
هو مجرم محترف على أي حال.
الفتاة :
ويخيل إلي ... ربما لم يكن إنسانا أيضا!
الفتى :
ماذا تعنين؟
الفتاة :
أعني أننا في بيت ولي، وهو وكر للأرواح والشياطين.
الفتى :
أنت حمقاء، لا يسرق النقود إلا إنسان عاقل.
الفتاة :
تذكر كيف اقتحم علينا المكان وكيف ذهب!
الفتى :
جاء كما يجيء المجرم، وذهب بما يذهب به المجرمون.
الفتاة :
أنت لا تحسن الرؤيا عند الانفعال.
الفتى :
أنت حمقاء، هذه حقيقة مفروغ منها.
الفتاة :
لنفكر في حالنا، نحن مقيدان بطريقة جهنمية، البيت محاط بفناء واسع يعزله عن الحارة فلن يسمع صوتنا أحد، الجو هنا لا أرتاح إليه. فثمة روح ميت لعله لم يدفن بعد، وثمة أرواح كثيرة لا علم لنا بها، ولا سيطرة لنا عليها.
الفتى :
يا مجنونة، يا مخرفة، ما هذا الهذيان؟
الفتاة :
أنا خائفة.
الفتى :
عهدتك دائما عربيدة ساخرة، فكيف خانتك جرأتك الداعرة؟
الفتاة :
إنه بيت مهجور ألا تدرك ذلك؟ جثة أبيك الآن في المشرحة، وستدفن كجثة رجل مجهول، ولم ينبس المخبر - إذا كان حقا مخبرا - بكلمة، وسيظل البيت مغلقا مهجورا زمنا غير قصير، ولكنه يكفي لقتلنا جوعا وعطشا، وهناك الأرواح.
الفتى :
الأرواح!
الفتاة :
أنا خائفة!
الفتى :
كيف قيدنا بهذا الإحكام؟ لقد جاء مبيتا النية على فعل ما فعل.
الفتاة :
وقد يرجع للإجهاز علينا.
الفتى :
فليرجع. (صمت تتخلله محاولة منه يائسة لفك قيده ولكن دون جدوى.)
الفتاة :
كأننا في حلم.
الفتى :
ولكنه أسخف من الحقيقة.
الفتاة :
أحيانا يكاد يغلبني الضحك.
الفتى :
اضحكي إن استطعت.
الفتاة :
حتى حياتنا المألوفة بين المغامرين والمنافسين والأعداء أخف وطأة من هذا السجن في بيت أبيك.
الفتى :
ليرحمه الله.
الفتاة :
ادعه أن ينقذنا.
الفتى (ساخرا) :
أبانا الذي في المشرحة .. أنقذ ابنك الوحيد.
الفتاة :
ماذا كان رأيك في أبيك؟
الفتى :
كان دجالا كوحيده.
الفتاة :
حدثونا في كل موضع عن كراماته.
الفتى :
حارة مخبولة مسطولة.
الفتاة :
لكن الطمأنينة التي بثها في القلوب حقيقية.
الفتى :
ردي إلي ثروتي وأنا أغرقك في بحر من الطمأنينة.
الفتاة :
لم نكن فقراء، ولكننا لم نعرف الطمأنينة.
الفتى :
وما سبيل الطمأنينة إلى خمارة هي ملتقى للمغامرين، واقعة بين عشرات من الخمارات المنافسة، في حي مكتظ بالأعداء، ووراء ذلك كله إحساس ثابت بالمطاردة؟ كنا سنرتفع بالثروة فوق ذلك كله. (دقيقة صمت.)
الفتاة :
سيجيء الظلام ونحن مكبلون بالحبال في هذا البيت المسكون.
الفتى :
لا فرق بين النور والظلام.
الفتاة :
كيف نخرج من هذا المأزق؟
الفتى :
اصرخي .. صوتك أحد من الرصاصة.
الفتاة :
لن يسمعنا أحد.
الفتى :
علينا أن ننتظر حتى يجيء إنقاذ من حيث لا ننتظر، أو يجيء الموت. (صمت تتخلله محاولات فاشلة لفك القيود.)
الفتاة :
لم دعاك أبوك؟
الفتى :
مات سره معه.
الفتاة :
ماذا ظننت؟
الفتى :
قلت لعله حنين قلب عجوز.
الفتاة :
لم تقل كل الحق.
الفتى :
وحلمت بثروة!
الفتاة :
وقد وهبك ثروة.
الفتى :
وضاعت!
الفتاة :
ولكنه أراد أن ترث عمله.
الفتى :
فكرة سخيفة.
الفتاة :
كان يجب أن تجاريه ولو في الظاهر.
الفتى :
لم يكن ليغير من الأمر شيئا.
الفتاة :
ربما لم يكن حدث الذي حدث.
الفتى :
أراهن على أنك فقدت عقلك.
الفتاة :
هل حاول أن يلقنك سره وأنت صغير؟
الفتى :
نعم.
الفتاة :
ولكنك عصيته؟
الفتى :
لو أطعته ما صادفتني في طريقك أبدا. (الفتاة تضحك ولا تنبس.)
الفتى :
حاول معي كثيرا، لم أفهم كلمة من كلماته، واتخذت من سلوكي المشين سبيلا لتحديه حتى طردني.
الفتاة :
واحترفت المغامرة بدلا من الطمأنينة.
الفتى :
ورثت عنه الدجل لأستثمره في مجاله الطبيعي.
الفتاة :
لم أسمع أحدا يثني عليه مثلك.
الفتى :
إني أعاشر مغامرين، وكان يعاشر مغفلين.
الفتاة :
رأسي يدور.
الفتى :
الحياة الحقة نقيض الراحة، والرجوع إلى الخرافة تفكير مضحك، لعله ينقصنا شيء، ولكن لا بد من مواصلة حياتنا، ماذا تريدين؟
الفتاة :
أن أخرج من هنا سالمة.
الفتى :
سنخرج عاجلا أو آجلا.
الفتاة :
عما قليل سيجيء الظلام.
الفتى :
فليجئ الظلام.
الفتاة :
أنت المسئول عما وقع.
الفتى :
أنت جبانة.
الفتاة :
وأنت وغد.
الفتى :
فلنتسل بتبادل الشتائم حتى تنكشف عنا هذه الغمة.
الفتاة :
أو حتى يحل بنا الموت.
الفتى :
أو حتى يحل بنا الموت. (الفتاة تبكي من القهر، وهو يضحك ضحكة عصبية.)
الفتاة :
إنه يؤدبك.
الفتى :
من؟
الفتاة :
أبوك.
الفتى :
لم يستطع أن يؤدبني وهو حي، وهو أعجز عن ذلك وهو ميت.
الفتاة :
بين حدث وحدث توجد أسباب خفية.
الفتى :
بين حدث وحدث لا يوجد شيء.
الفتاة :
وها قد وقعنا في الفخ.
الفتى :
فخ لم ينصبه أحد ولكنا وقعنا بسوء تصرفنا. (النور ينخفض منذرا باقتراب المساء، لحظات من الصمت ومحاولات فاشلة لفك القيد.)
الفتاة :
بدأ الليل يهبط!
الفتى :
ليس في وسع شيء أن يمنعه.
الفتاة :
كان في وسعنا على الأقل ...
الفتى (مقاطعا في تهكم) :
كان يا ما كان.
الفتاة :
أكره الظلام، أكره الأغلال، وسوف أجن.
الفتى :
جربي الجنون فهو أكرم من الشعوذة على أي حال.
الفتاة :
يا لك من وغد قاس كأنك لم تنعم عمرا بحبي .
الفتى :
عودي إلى توازنك لنتفاهم كما تفاهمنا دائما.
الفتاة :
حتى حبك ما هو إلا حب مغامر، نوبة من نوبات الأعصاب بلا قاعدة ثابتة.
الفتى :
لم يكن ثمة فردوس في الماضي، ولن يكون ثمة فردوس في المستقبل، علينا أن نتقبل الحياة كما هي.
الفتاة :
الظلام يتمادى في الاقتراب.
الفتى :
فليأت الظلام.
الفتاة :
إنك تداري خوفك باللعب بالألفاظ.
الفتى :
اللعنة .. في هذا الوقت من اليوم يبدأ النشاط في الخمارة.
الفتاة :
يا لها من نهاية رخيصة! (يستمر انخفاض النور حتى يحتوي الظلام الحجرة، ويختفي الفتى والفتاة. الفتاة تصرخ مستغيثة ثم يسود الصمت.)
الفتاة :
ألا تحفظ تلاوة ندفع بها الشياطين بعيدا؟
الفتى :
لا أحفظ شيئا.
الفتاة :
إني خائفة!
الفتى :
لا يوجد هنا سبب حقيقي يبرر الخوف.
الفتاة :
ولكني خائفة.
الفتى :
أنا قريب منك.
الفتاة :
ولكني لا أراك.
الفتى :
فلنغن أغنية بذيئة لنهزأ بالظلام. (الفتاة تصرخ، صمت يتخلله بكاء خافت، ضوء يتسرب إلى الحجرة آتيا من شراعة الباب إلى اليسار.)
الفتاة :
ألا ترى .. نور في الداخل، يوجد شخص، البيت مسكون!
الفتى (بصوت مرتفع) :
من بالداخل؟
الفتاة :
مفاصلي سابت.
الفتى :
من بالداخل؟ (يفتح الباب، يظهر الغلام وبيده مصباح، يتقدم ثم يتوقف عندما يرى الفتى والفتاة)
أنت .. أكنت بالداخل طيلة الوقت؟!
الغلام :
ظننت أنكما ذهبتما.
الفتاة :
ألا ترانا مكبلين بالحبال؟
الغلام :
ولم فعلتما ذلك بنفسيكما؟
الفتاة :
هل تسخر منا يا غلام!
الفتى :
أكنت موجودا بالداخل؟ أعني ألم تغادر البيت؟
الغلام :
رجعت مع المساء لأشعل المصابيح.
الفتى :
لماذا؟
الغلام :
إكراما لروح الشيخ يوم وفاته.
الفتى :
ضع المصباح وتقدم لحل عقدتنا. (الغلام يمضي إلى الكونصول فيضع المصباح ويتجه راجعا نحو الباب)
يا غلام، (الغلام يتوقف)
تعال!
الغلام :
ماذا تريد يا سيدي؟
الفتى :
كيف لا تدري ماذا نريد؟
الغلام :
أمرني الشيخ قبل ذهابه بألا أقدم لك أية مساعدة إذا أهملت تركته.
الفتى :
ولكنه غير معقول أن تتركنا على هذه الحال.
الغلام :
لا أستطيع أن أخالف لمولاي أمرا.
الفتاة :
لا يمكن أن تعني ما تقول، إنك غلام طيب ونبيل!
الفتى :
وأنا ابن مولاك يا شاطر، ولا يرضيك أن تتركنا في هذا المأزق.
الغلام :
لن أعصي لمولاي أمرا.
الفتى :
مولاك لم يتصور أننا سنقع في هذه الورطة.
الغلام :
سامحك الله.
الفتاة :
لص أثيم نهب ثروة مولاك وكبلنا بالحبال.
الغلام :
علي أن أذهب.
الفتى :
لا تغضب مولاك في قبره.
الغلام :
مولاي ارتفع إلى السماء.
الفتى :
لا تغضب مولاك في سمائه.
الغلام :
ما دمت لا أعصيه فلن يغضب.
الفتى :
أتعتقد أنه يرضيه أن نترك هكذا بدون مساعدة؟
الغلام :
لا أدري.
الفتى :
أؤكد لك أن ذلك سيحزنه غاية الحزن.
الغلام :
لا أدري.
الفتى :
أقدم ولا تخف.
الغلام :
لن أعصي لمولاي أمرا.
الفتاة :
من أجل خاطري، لا يمكن أن تمتنع عن مساعدة امرأة.
الغلام :
إني ذاهب.
الفتى :
انتظر .. ألا ترى؟ إني أريد تركة أبي الحقيقية.
الغلام :
أنت تعلم بمكانها.
الفتى :
ولكني لا أستطيع الانتقال إليها.
الغلام :
سبق أن نبذتها.
الفتى :
أنا نادم على ذلك!
الغلام :
لن أعصي لمولاي أمرا. (الغلام يستأنف السير.)
الفتاة :
على الأقل بلغ الأمر إلى الشرطة. (الغلام يواصل السير دون مبالاة.)
الفتى :
هل ستبلغ الشرطة؟
الغلام :
كلا. (الغلام يختفي ثم يغلق الباب.)
الفتى :
ملعون ابن ملعون! (الفتاة تعاود البكاء.)
الفتى :
كفى .. كفى وإلا ...
الفتاة :
قضي علينا بالهلاك.
الفتى :
لقد رجع الغلام، وربما رجع مرة أخرى، ولعل غيره يجيء. (صمت قصير ثم يواصل حديثه)
يخيل إلي أن العجوز استدرجني إلى بيته لينكل بي. الطيبة كانت حرفته لا طبيعته، وآي ذلك أنني منحدر من صلبه، غير معقول أن تكون أمي مسئولة وحدها عن دمي العربيد، ولبيت نداءه وأنا في غفلة من مكره فتتابعت الأخطاء.
الفتاة :
كفاك قذفا فالبيت مسكون!
الفتى :
مسكون بأرواح أسرتنا العريقة في الشر.
الفتاة :
ليس الغلام غلاما ولا المخبر مخبرا .. وسوف تقع كوارث ليست في الحسبان.
الفتى :
فلتقع الكوارث بغير حساب. (صمت .. ثم ينزل الستار.) ••• (يرفع الستار. ضوء النهار يملأ الغرفة رغم أن المصباح ما زال مشتعلا، الفتى والفتاة نائمان ورأساهما مطروحان على مسندي الكرسيين، يسمع صوت الباب الخارجي وهو يفتح ثم وهو يغلق. يدخل رجل ضخم أنيق الملبس ولكنا نعرف فيه المخبر في ملبس جديد وهيئة جديدة، يتبعه سكرتير وضابط من الشرطة. الفتى والفتاة يستيقظان، يبدو عليهما الإرهاق، ينظران إلى القادمين بذهول فلا يعرفان حقيقة الشخص الفخم.)
الضابط :
من أنتما؟ ومن فعل بكما ذلك؟
الفتى :
من حضرتك؟
الضابط :
ضابط النقطة.
الفتاة :
أنقذنا من فضلك. (الضابط يحل وثاقهما، يقفان وهما يتأوهان، يحركان أعضاءهما ليستعيدا توازنهما.)
الضابط :
من أنتما؟
الفتى :
أنا ابن صاحب البيت، أعني ولي الله المتوفى.
الفتاة :
وأنا الزوجة.
الضابط :
ماذا حدث لكما؟
الفتى :
هاجمنا مجرم غدرا ثم سرقنا وذهب.
الضابط :
سأفتح لكما محضر تحقيق بعد قليل.
الفتى :
هل أبلغك الغلام عنا؟
الضابط :
أي غلام؟
الفتى :
غلام الشيخ المتوفى.
الضابط :
كلا، لقد جئت في صحبة المهندس لمعاينة البيت الذي يرغب في شرائه ظنا منا بأنه بيت خال ولا وريث له. (الفتى والفتاة ينتبهان لأول مرة للمهندس فتلوح في وجهيهما الدهشة والانزعاج، يتبادلان النظرات ثم يحدقان في المهندس بذهول.)
الضابط :
مالك؟
المهندس :
لماذا تنظران إلي هكذا؟
الفتى :
أنت!
الفتاة :
هو .. جسمه وصوته ووجهه!
المهندس :
ماذا تعنيان؟
الفتى :
أنت دون غيرك، أيها المجرم! (ينقض عليه ولكن الضابط والسكرتير يحولان بينهما، المهندس يتراجع دهشا مستنكرا.)
الضابط :
أي مجرم تعني؟ المهندس أكبر مقاول في الجمهورية.
الفتى :
هو المخبر .. هو اللص .. هو الذي سرقنا. (المهندس والسكرتير والضابط يضحكون.)
الضابط :
اضبط لسانك.
السكرتير :
يا لها من نكتة!
الفتاة :
هو المخبر.
الفتى :
هو المجرم.
الضابط :
كفى هذيانا!
المهندس :
ترفق بهما يا حضرة الضابط، تذكر كيف قضيا ليلتهما في هذا البيت.
الفتى :
لا تحاول خداعي.
الضابط :
إنك تهين رجلا ولا كل الرجال، رجل أدى لوطنه أجل الخدمات في ميدان الهندسة. (الفتى والفتاة يتبادلان النظرات الحائرة.)
الفتى :
خبرني يا حضرة الضابط، هل عندك مخبر يشبهه؟
الضابط :
كلا على وجه اليقين.
المهندس :
تمالك نفسك من فضلك، لقد عانيت ليلة غاية في السوء، وغير بعيد أن المجرم الذي اعتدى عليكما يماثلني في بعض الصفات والخصائص، وأنت نفسك تماثل المرحوم أباك في بعض ملامحه رغم تناقض منهجكما في الحياة فيما يبدو لي، وسوف يقبض الضابط على المجرم ويرد إليك مالك، هل فقدت مالا كثيرا؟
الفتى :
أنت أدرى بمقداره.
الضابط :
رجع إلى الهلوسة مرة أخرى!
الفتى :
أؤكد لك أن هذا الرجل هو المجرم الذي اعتدى علينا.
الضابط :
كف عن هذيانك، من صالحك أن تكف عنه.
السكرتير :
ثمة أحقاد غريبة تستقر في نفوس الشباب، فإذا تعرض أحدهم لهزة نفسية استمد من حقده الدفين آراء هدامة وراح يرمي بها كبار ذوي النشاط الناجح من الرجال الممتازين في المجتمع.
الضابط :
هل أنت من هؤلاء الشبان؟
الفتى :
إني ضحية، وقد حللت بنفسك وثاقي.
الضابط :
ولكنك لم تسترد عقلك بعد.
المهندس :
يجب أن تسترد عقلك سريعا لأتمكن من إنجاز مهمتي. (صمت قصير.)
الفتاة :
وما مهمتك؟
المهندس :
إني أرغب في شراء هذا البيت القديم لأقيم مكانه مصنعا للأجهزة الإلكترونية.
الفتاة :
ألم تحاول الاتفاق مع صاحبه قبل وفاته؟
المهندس :
حاولت وعرضت عليه بيتا جديدا في مطلع الحي، ولكن كان لكل منا لغة يستعصي على الآخر فهمها!
الفتى :
إذن فأنت تعرف البيت، وكنت تعرف صاحبه؟
المهندس :
وكان أبي رحمه الله من مريديه أيضا.
الفتى :
أنت إذن ... (الفتاة تجذبه من ذراعه مانعة إياه من تكملة كلامه، وتنتحي به جانبا.)
الفتاة :
تمالك نفسك.
الفتى :
لكنه هو عينه.
الفتاة :
لندع ذلك للتحقيق، المهم الآن بيع البيت.
الفتى :
سيشتري بمالي.
الفتاة :
لا يجوز أن تخرج من المولد بلا حمص.
الفتى :
الجن الأحمر نفسه لا يستطيع خداعي!
الفتاة :
انس شطارتك الآن وأجل مشروعاتك. (يعودان إلى الجماعة)
اغفر له تهوره يا سيدي المهندس إكراما لذكرى أبيه الطيب.
المهندس :
ليرحمه الله رحمة واسعة.
الفتى :
أكنت تؤمن به؟
المهندس :
كنت أحبه.
الفتى :
هل شهدت احتضاره؟
المهندس :
لكنني مشيت في جنازته، أين كنت أنت؟
الفتى :
كنت موثقا بحبال المجرم الأثيم.
المهندس :
حضرة الضابط كفيل باسترداد ثروتك الضائعة، وما عليك الآن إلا أن تتقبل وضعك بالطمأنينة التي بشر بها أبوك.
الفتى :
ولكنك لم تؤمن به؟
المهندس (ضاحكا) :
كان يقول لي «الطمأنينة هي هدف النفس البشرية.» فأقول له «بل التقدم يا مولانا ولو بالجهد والقلق.»
الفتى :
ولو بالاعتداء والنهب!
الفتاة :
لنعد إلى مشروع المصنع!
المهندس :
ثبت الآن أن للبيت وريثا، وعليه فلا بد من انتظار الإجراءات الخاصة بإثبات الوراثة.
الفتاة :
إنه بيت كبير وذو موضع ممتاز على مشارف الصحراء، ولا تنس أثاثه القديم النادر.
المهندس :
لا حاجة بي إلى الأثاث.
الفتاة :
والكتب التي صنعت المعجزات.
المهندس :
لدي ما أحتاج من كتب ومعجزات.
الفتاة :
أظن آن لنا أن نتكلم عن الثمن.
المهندس :
لن أبخسكم حقكم، وسنتكلم عن ذلك في حينه. (المهندس يستأذن في الانصراف، وقبل أن يذهب يلتفت إلى الفتى ويسأله:) وأنت .. ما مهنتك؟
الفتى :
صاحب خمارة.
المهندس (ضاحكا) :
لست مقطوع الصلة بأبيك، فالناس يقصدون الخمارة طلبا للطمأنينة أيضا. (المهندس وسكرتيره يذهبان.) (يقترب الضابط من الفتى والفتاة.)
الضابط :
آن لنا أن نبدأ التحقيق. (ستار)
النجاة
(حجرة جلوس، في الوسط مدفأة حائط مشتعلة، إلى اليمين من المدفأة باب حجرة النوم، وإلى اليسار منها باب حجرة المكتب. في نهاية الجانب الأيمن لحجرة الجلوس باب هو باب الشقة، إلى اليسار يوجد بار وتليفزيون. رجل يجلس على مقعد كبير أمام المدفأة، يرتدي روبا ويطالع في كتاب.) (جرس الباب الخارجي يرن بغتة رنينا متواصلا.) (يقوم الرجل إلى الباب، يفتحه، تندفع إلى الداخل امرأة جميلة مرتدية معطفا وبيدها حقيبة؛ تندفع وكأنها تجري ثم تقف وهي تلهث. الرجل ينظر إليها بدهشة ودون أن يغلق الباب .. واضح من نظراته أنه لا يعرفها ولم يكن ينتظرها.)
الرجل (بتردد وارتباك) :
ولا مؤاخذة .. حضرتك ...؟
المرأة (بلهفة) :
أغلق الباب! من فضلك أغلق الباب! (الرجل يغلق الباب بذهول.)
الرجل :
وحدك؟
المرأة :
نعم. (يقفان وهما يتبادلان النظرات)
إني مرهقة، تسمح لي بالجلوس؟
الرجل :
تفضلي. (يجلسان على مقعدين متقاربين أمام المدفأة، تسند المرأة رأسها إلى يدها في إعياء، يعلو صدرها وينخفض بشكل محسوس. الرجل يتفحصها بدهشة، ويبدو - رغم غرابة الموقف - أن محاسنها أثرت فيه بعض الشيء)
أنا وحدي، ذهبت الخادمة عقب إعداد العشاء، ولكني سأجيئك بكوب ماء. (يقوم إلى البار فيملأ كوبا من دورق ثم يقدمه إليها، المرأة تشرب نصفه، ثم تضعه على خوان بين المقعدين.)
المرأة :
آسفة جدا لإزعاجك.
الرجل :
أنا في خدمتك.
المرأة :
شكرا.
الرجل :
يلزمك شيء؟
المرأة :
أكرر الأسف، الواقع أنني لا أدري ماذا أقول. (صمت.)
المرأة :
سلوكي يتطلب تفسيرا، ولكني لا أدري ماذا أقول.
الرجل :
استردي أنفاسك أولا.
المرأة :
ماذا أقول؟ مهما يكن فإني أتوسل إليك أن تكرمني.
الرجل :
وهل في ذلك شك؟
المرأة :
أعني أن تعاملني معاملة تليق بامرأة في أشد حاجة إلى ...
الرجل :
إلى؟
المرأة :
الحماية.
الرجل :
ماذا يهددك؟ (صمت.)
الرجل (مستدركا) :
لكني لم أتشرف بعد؟
المرأة :
لا يهم هذا على الإطلاق.
الرجل :
ولكنه ضروري فيما أعتقد.
المرأة :
كلا، لن يقدم ولن يؤخر!
الرجل :
لن أضايقك، ولكن ثمة سؤال آخر، هل قصدتني بالذات؟ هل تعرفينني؟
المرأة :
بابك أول باب فتح لي، هذا كل ما هنالك.
الرجل :
هل طرقت أكثر من باب؟
المرأة :
نعم.
الرجل :
ماذا يهددك؟
المرأة :
أكرمني بألا تخبر أي طارق عني!
الرجل (بقلق) :
هل يتوقع مجيء من يتعقبك؟
المرأة :
نعم.
الرجل :
رجل أم امرأة؟
المرأة :
رجل.
الرجل (بعد تردد) :
زوجك؟
المرأة :
كلا.
الرجل :
صديق؟ .. قريب؟
المرأة :
ألا تتكرم بحمايتي دون تحقيق؟
الرجل :
ولكن ...
المرأة (مقاطعة) :
لعلك تعمل حساب أهل بيتك؟
الرجل :
لا يوجد في البيت سواي.
المرأة :
ولكن عما قليل سترجع زوجتك؟
الرجل :
لست متزوجا.
المرأة :
تنتظر ولا شك أحدا ممن يقيم معك؟
الرجل :
إني أقيم هنا بمفردي.
المرأة :
عظيم، ستكون المهمة سهلة لو تكرمت بالموافقة.
الرجل :
ولكن يلزمني بصيص نور.
المرأة :
لن يمسك سوء.
الرجل :
ولكني أود أن أعرف المسئولية التي سأتحملها!
المرأة :
لن تمضي ساعات حتى أغادر مسكنك إلى الأبد كأني شيء لم يكن.
الرجل (مداريا ارتباكه بابتسامة) :
ستظلين شيئا لا يمكن نسيانه.
المرأة :
غزل أم تحقيق؟
الرجل :
كنت أفضل أن يكون غزلا خالصا. (صمت.)
الرجل :
إذا شرفتني وقتا ثم ذهبت دون أن يعلم أحد فلا حرج، ولكن إذا جاء أحدهم يتعقبك فيلزمني بصيص نور قبل أن أنكر وجودك .
المرأة :
لن تقع عليك مسئولية ما.
الرجل :
بل قد أجر إلى متاعب لا تخطر ببال!
المرأة :
لا تهول.
الرجل :
لا تتركيني في ظلام. (صمت.)
الرجل :
أرجوك، لا تضطريني إلى ...
المرأة :
إلى تسليمي لأول طارق!
الرجل :
أرجوك أن تفهمي موقفي جيدا.
المرأة :
إني أتعلق بأمل وحيد؛ ببقية من الشهامة البطولية القديمة.
الرجل :
من المؤسف أن عهد الفروسية والملاحم قد ولى.
المرأة :
في حالة اليأس يفزع القلب إلى زمن الأساطير.
الرجل :
أنا يا سيدتي رجل لا أسطورة. (صمت.)
الرجل :
فكري من فضلك وأجيبي.
المرأة :
لكني عاجزة تماما.
الرجل :
قبل أن تفوت الفرصة؟
المرأة :
كن كريما إلى النهاية.
الرجل (غاضبا) :
إني أشم رائحة مقلقة للأعصاب.
المرأة :
أي رائحة؟
الرجل :
جريمة ما!
المرأة :
لا تدفعني إلى الانتحار!
الرجل :
ماذا فعلت؟ (جرس الباب يرن، المرأة تقف فزعة، تهرع إلى باب حجرة النوم، تدخل ثم تغلق الباب من الداخل، الرجل يحاول فتح الباب فلا يستطيع، الجرس يرن مرة أخرى)
افتحي.
المرأة :
كن كريما.
الرجل :
لا تجريني إلى مأزق.
المرأة :
كن رحيما.
الرجل :
سأتصرف كما ينبغي لي.
المرأة إذا اعترفت بوجودي هنا رميت بنفسي من النافذة.
الرجل :
أنت مجنونة!
المرأة :
أنا عاقلة جدا.
الرجل :
إنك تجازيني خير جزاء.
المرأة :
إني آسفة ولكنني مضطرة.
الرجل :
انتظري .. لا تتعجلي. (يذهب إلى الباب لاعنا متسخطا، يفتح الباب، يدخل رجل ضاحكا ثم يرد الباب.)
الصديق :
كنت نائما؟
الرجل :
أنت! عليك اللعنة!
الصديق :
يا له من استقبال! (يتجهان نحو المدفأة) . ماذا حدث في العمارة؟
الرجل :
لا شيء.
الصديق :
وأنا قادم إلى زيارتك وجدت الشرطة تحاصر العمارة، لم أستطع المرور إلا بعد س و ج.
الرجل :
حقا! ماذا حدث؟
الصديق :
لم أفهم شيئا، لم يرد على أسئلتي أحد، ولكن ثمة حادث أو جريمة، والأمر المؤكد أنهم يبحثون عن امرأة هاربة.
الرجل :
أين؟
الصديق :
في مكان ما بالعمارة، العمارة محتلة بالقوات، ألم تشعر بشيء؟
الرجل :
أبدا. (يجلسان، الصديق يجلس في مكان المرأة، يتشمم الجو بدهشة.)
الصديق :
رائحة امرأة.
الرجل :
ترى أي جريمة؟ وأي امرأة ؟
الصديق :
لا تشغل بالك، ستعرف كل شيء صباح الغد، ولكني أقول إنه توجد رائحة امرأة.
الرجل :
رائحة امرأة؟!
الصديق :
رائحة زكية، هل عندك حبوبة؟
الرجل :
كلا.
الصديق :
وهذه الرائحة؟!
الرجل :
كان ثمة صديقة تزورني ...
الصديق :
مبارك عليك، ولكن مالك؟
الرجل :
على خير ما يرام.
الصديق :
كلا، لست كعادتك.
الرجل :
لعله البرد.
الصديق (مشيرا إلى المدفأة) :
إنك تنعم بفردوس في هذا الشتاء القاسي. (صمت.)
الصديق :
أهي ممن أعرفهن؟
الرجل :
من تعني؟
الصديق :
المرأة التي كانت هنا.
الرجل :
كلا.
الصديق :
ولم انصرفت مبكرة؟
الرجل :
يكفي تحقيق واحد في العمارة.
الصديق :
ذكرتني، ترى ماذا حدث؟
الرجل :
أجل ماذا حدث؟
الصديق :
إنك تعرف عن فيتنام أكثر مما تعرف عن شقة مجاورة في عمارة حديثة.
الرجل :
أي جريمة؟ وأين اختفت المرأة؟
الصديق :
لا تشغل بالك، الجرائم وجبات يومية.
الرجل :
والمرأة؟
الصديق :
قاتلة .. شريكة في جريمة قتل .. سر جريمة ما.
الرجل :
وأين يمكن أن تختفي؟
الصديق :
لعلهم عثروا عليها، إلا إذا كانت أصلا من سكان العمارة.
الرجل :
فكرة.
الصديق :
أو تكون لجأت إلى شقة ما.
الرجل :
لا أحد في اعتقادي إلا إذا كان له ضلع في الحكاية. (الرجل يقوم، يبتعد إلى جناح الحجرة البعيدة عن حجرة النوم، يشير إلى صاحبه أن يتبعه فيلحق به) (هامسا)
أنا واقع في مشكلة.
الصديق :
أي مشكلة؟ (جرس الباب يرن)
هل تنتظر أحدا؟ (الرجل يمضي إلى الباب بعد تردد، يفتح.)
صوت من الخارج :
تسمح لي بالدخول؟
الرجل :
تفضل. (يدخل ضابط، يقدم نفسه.)
الضابط :
نحن نبحث عن امرأة هاربة في العمارة. (الرجل يتظاهر بالدهشة ويتساءل.)
الرجل :
أية امرأة؟
الضابط :
امرأة هاربة، ويهم الأمن العام القبض عليها.
الرجل :
لم يلجأ إلى شقتي أحد.
الضابط :
حضرتك رب الأسرة؟
الرجل :
إني أقيم بمفردي هنا، (ثم مشيرا إلى صديقه) هذا صديق زائر.
الضابط :
تسمح بالبطاقة الشخصية (الرجل يذهب إلى حجرة المكتب، ثم يعود بالبطاقة، الضابط يقرأها بعناية، ثم يقدم له ورقة مكتوبة ويقول) هذا إقرار بأن المرأة لم تلجأ إلى شقتك هذا المساء، وقعه بإمضائك، وأود أن أذكرك بخطورة الأمر إذا ثبت ما يخالفه. (الرجل يوقع الإقرار، الضابط يتناوله وينصرف، الرجل يغلق الباب، يعود إلى صديقه حيث كان يقف في وسط الحجرة.)
الصديق :
الظاهر أن الجريمة أخطر مما نتصور.
الرجل :
ليست إلا إجراءات روتينية.
الصديق :
لا تشغل بالك، كنت تتحدث عن مشكلة.
الرجل :
مشكلة؟
الصديق :
الضابط شتت عقلك.
الرجل :
ربما.
الصديق :
لنعد إلى مشكلتك. (صمت.)
الصديق :
ألا تريد أن تحدثني عن مشكلتك؟
الرجل :
جد ما هو أهم.
الصديق :
لا تشغل بالك بهموم لا تخصك.
الرجل :
أليس من الجائز أن تستصدر الشرطة أمرا بالتفتيش العام إذا لم تعثر على المرأة؟
الصديق :
جائز.
الرجل :
وقد يفتشون شقتي!
الصديق :
إنه احتمال ضعيف على أي حال.
الرجل :
ولكنه جائز.
الصديق :
عندك فرصة للتخلص من الأشياء المحرجة.
الرجل :
كيف؟
الصديق :
النافذة.
الرجل :
العمارة محاصرة.
الصديق :
النار.
الرجل :
ليست جميع الأشياء قابلة للاحتراق.
الصديق :
أنت مجنون. طالما حذرتك، ولكن احتمال التفتيش احتمال ضعيف، إنها امرأة وليست إبرة وسيعثرون عليها عاجلا.
الرجل :
تستطيع أن تقدم لي خدمة.
الصديق :
اسمع، أنت تعلم أنه لا شأن لي بهذه الأمور الخطرة، دع صداقتنا في المنطقة البريئة.
الرجل :
نحن في زمن الخوف من الشرطة، أما شهامة الأساطير فقد ولى زمانها!
الصديق :
الخوف من شيء حقيقي، أما الأساطير ... (صمت.)
الصديق :
أود أن أطمئن عليك.
الرجل :
دون أن تقدم خدمة ما.
الصديق :
كلانا يعرف الحدود التي يتحرك فيها الآخر.
الرجل :
إني في حاجة إلى الانفراد بنفسي، وكل ما أطلبه منك أن توافيني بأية معلومات جديدة بالتليفون.
الصديق :
بمجرد عودتي إلى مسكني. (يتصافحان، يوصله حتى الباب الخارجي، يغلق الباب، ثم يعود مسرعا إلى باب حجرة النوم.)
الرجل :
سيدتي .. تعالي .. لا أحد بالشقة سواي. (تفتح الباب، تخرج، يقفان وجها لوجه) إنك تلقين بيأسك فوق رأسي.
المرأة :
جئت باندفاع لا اختيار فيه، ثم وقعت في فخ.
الرجل :
سيعودون للتفتيش.
المرأة :
لا تهتم بي فإني أعرف كيف أتصرف.
الرجل :
إني لا أهتم إلا بنفسي في الواقع.
المرأة :
هذا حقك، وإني آسفة لحد الموت .
الرجل :
إنك تخلفين لي مشاكل ومضاعفات.
المرأة :
لم تعد بيدي حيلة.
الرجل :
لم تبحث الشرطة عنك؟ (صمت.)
الرجل :
لم تبحث الشرطة عنك؟
المرأة :
إنهم يبحثون عن كثيرين!
الرجل :
شركائك؟
المرأة :
وغيرهم.
الرجل (محتدا) :
ماذا تعنين؟
المرأة (باسمة) :
سمعت ما دار بينك وبين صديقك. (صمت وهو ينظر إليها غاضبا.)
الرجل :
تهددينني؟
المرأة :
ربما كنا في الهوى سوا.
الرجل :
افتراء.
المرأة :
آسفة.
الرجل :
أنا رجل محترم.
المرأة :
وأنا امرأة محترمة.
الرجل :
هذا يتوقف على مضمون الاحترام عند كلينا.
المرأة :
بمعنى آخر فكلانا غير محترم.
الرجل :
هل نمضي الوقت في جدل وسمر؟
المرأة :
إني آسفة وحزينة.
الرجل :
فاتني أن أعترف للضابط بالحقيقة.
المرأة :
لم لم تفعل؟
الرجل :
أعترف بأنني لم أحسن التصرف.
المرأة :
بل أحسنت التصرف وإلا لأثرت الشبهة في وجود علاقة بينك وبين المرأة المنتحرة.
الرجل :
كانت الحقيقة ستظهر على أي حال.
المرأة :
ربما، ولكن بعد تفتيش غير مرغوب فيه، ترى ماذا تحوي شقتك الأنيقة من أسرار خطيرة؟
الرجل :
سخريتك تقطع بأنك معتادة للإجرام.
المرأة :
أو غاية من اليأس.
الرجل :
ماذا ارتكبت؟
المرأة :
محض فعل مألوف في التاريخ، ولكن الشرطة تصفه بأنه جريمة، وأنت؟
الرجل :
لا أسمح بالتحقيق معي، ولكن خبريني أي جريمة ارتكبت؟
المرأة :
ما أهمية ذلك؟ أي تحسن يمكن أن يضيفه إلى موقفنا؟
الرجل :
هل عرفوا شخصك؟
المرأة :
محتمل جدا.
الرجل :
ليس مؤكدا؟
المرأة :
لا يوجد في هذه الليلة شيء مؤكد.
الرجل :
جربي أن تغادري شقتي بوصفك امرأة أخرى.
المرأة :
لن يدعوني أمر دون تحقيق، وغالبا يوجد مخبر في الطرقة الخارجية، وسيجرونك للتحقيق، وسوف تنكشف الحقيقة.
الرجل :
أية حقيقة؟
المرأة :
حقيقتي وحقيقتك.
الرجل (غاضبا) :
لا تدفعيني للخروج عن حدود اللياقة.
المرأة :
معذرة.
الرجل :
أنت تؤجلين الخطر ليس إلا.
المرأة :
لا حيلة لي.
الرجل :
لو كنت مكانك!
المرأة :
لو كنت مكاني؟
الرجل :
لسلمت نفسي إلى الشرطة.
المرأة :
هذا حل طبيعي ومعقول لمشكلتك.
الرجل :
ولمشكلتك أيضا ما داموا سيجيئون في النهاية حتما.
المرأة :
ليس حتما!
الرجل (غاضبا) :
ولكنك تراهنين بحياتي!
المرأة :
أمر مؤسف حقا، ولكنني أفضل الانتحار على التسليم.
الرجل :
افعلي بنفسك ما تشائين ولكن بعيدا عني.
المرأة :
ليته ممكن!
الرجل :
أي قدر قذفني بك.
المرأة :
هو الذي رماني إليك. (تضحك ضحكة عصبية.)
الرجل :
تمزحين كما لو كنت في حفل استقبال.
المرأة :
إذا انقطع الأمل فعلينا أن نعاشر اليأس معاشرة حسنة.
الرجل :
ولكن الأمل لم ينقطع بعد.
المرأة :
حقا؟
الرجل :
أستطيع أن أطردك.
المرأة :
سأحاول الانتحار كآخر وسيلة دفاع في يدي.
الرجل :
تهددينني؟
المرأة :
موقف مؤسف مخجل، ولكنني لم أخلقه بإرادتي.
الرجل :
أنت مجرمة بالسليقة.
المرأة (باسمة) :
لعلنا من سليقة واحدة.
الرجل (ثائرا) :
لتنشق الأرض وتبلعك.
المرأة :
أول مرة يعاملني رجل بهذه المعاملة. (الرجل ينقض عليها فاقدا أعصابه ليشدها ناحية الباب، هي تقاوم بيأس، يقوم بينهما شد وجذب.
يختل توازنه فيقعان على ديوان ويستمر الصراع بينهما. وبالاستمرار لا تكاد تختلف حركاتهما عن مبادلات العشق، ويتغير مذاق الصراع وحدته، ويخلق جو جديد لم يكن في الحسبان؛ فتستغله الأعصاب المتوترة اليائسة، وإذا به يضمها بين ذراعيه، وينهال عليها تقبيلا.
ينخفض الضوء رويدا حتى يسود الظلام، ثم يعود رويدا رويدا حتى يبلغ حاله الأولى.
الآن كلاهما يجلس على مقعد كما كانا أول الأمر.
هي تنظر إلى السقف وهو يرنو إلى نيران المدفأة.)
الرجل :
ترى ماذا يحدث في الخارج الآن؟ (صمت)
ترى ماذا يحدث في الخارج؟
المرأة :
كما يحدث في الداخل.
الرجل :
ماذا تعنين؟
المرأة :
جرائم ترتكب باهتمام، وجنس يمارس بلا اهتمام.
الرجل :
وبلا حب؟
المرأة :
لحظات عناق تنتزع من بين الكلمات ولي الأذرع. (صمت.)
الرجل :
والعمل؟
المرأة :
هل تحاول طردي مرة أخرى؟ (صمت.)
الرجل :
وما جريمتك؟
المرأة :
وما جريمتك؟
الرجل :
من حقي أن أسألك، وليس ذلك من حقك.
المرأة :
من واجبي ألا أتكلم.
الرجل :
لست على أي حال من الشرطة.
المرأة :
على سكوتي تتوقف سلامة آخرين.
الرجل :
تزييف نقود؟ .. مخدرات؟ .. دعارة؟ سياسة؟
المرأة :
جميعها ظاهرات اجتماعية. (صمت.)
الرجل :
متزوجة؟
المرأة :
لا أجيب على هذا السؤال بعد ما كان.
الرجل :
هل كانت أول مرة تخونينه؟
المرأة :
ألا ترى أنني أفضل الموت على الخيانة؟
الرجل :
إذن سلمت حبا وكرامة؟
المرأة :
حالة هستيرية ليس إلا.
الرجل :
نادمة؟
المرأة :
لا وقت للندم.
الرجل :
هبيني دعوتك مرة أخرى؟
المرأة :
مرت فترة كافيه لبلوغ سن الرشد.
الرجل :
هل نفترق كغريبين؟
المرأة :
كما التقينا!
الرجل :
لا شيء يجمعنا؟
المرأة :
الجريمة هي ما يجمعنا. (صمت)
هل أنت أعزب؟
الرجل :
نعم.
المرأة :
لم لم تتزوج؟
الرجل :
لم أطعن في السن بعد.
المرأة :
ومتى تطعن في السن؟
الرجل :
لعلي أنتظر أن تجرفني امرأة إلى الزواج، ولكن ألا ترين أننا نسمر كأننا نستمتع بسهرة طيبة؟!
المرأة :
هو خير من الصمت.
الرجل :
الأغلال تقترب من أعناقنا.
المرأة :
لا تذكرني بذنبي حيالك.
الرجل :
ثمة فرصة لتجربة الحظ.
المرأة :
وهي؟
الرجل :
أن تخاطري بالذهاب.
المرأة :
لو كان الأمر يتعلق بي وحدي لفعلت.
الرجل :
تدوسينني في طريقك بلا رحمة.
المرأة :
كما داسني آخرون.
الرجل :
ما لي أنا وذلك كله! (يتملكه غضب مباغت، ينهض قائما بعنف، يقبض على ساعدها ليشدها، ولكنها تخلص ساعدها بهدوء.)
المرأة :
كلا .. لا يتكرر شيء واحد مرتين بطريقة واحدة.
الرجل :
أنت .. أنت (جرس التليفون يرن، ينتقل إليه حيث يوجد على حامل قرب البار) آلو. : ...
الرجل :
تأخرت .. أين كنت؟ : ...
الرجل :
ماذا تقول؟ : ...
الرجل :
غير معقول، ألم تعرف السبب؟ : ...
الرجل :
شيء عجيب حقا! : ...
الرجل :
بخير كما تركتني. : ...
الرجل :
لست وحدي .. أقصد أنني منفرد بهمومي! : ...
الرجل :
أبدا، أبدا .. وحدي كما تركتني. : ...
الرجل :
أنت مجنون .. أي أفكار جنونية تساورك؟ : ...
الرجل :
لا موجب لإساءة الظن، إلى اللقاء. (يضع السماعة ثم يعود إلى مقعده، يتبادل مع المرأة نظرات حائرة)
إنه الصديق الذي كان هنا.
المرأة :
وماذا قال لك؟
الرجل :
ماذا حصل للدنيا؟ الشوارع المحيطة بنا غاصة بالجنود! من أنت؟
المرأة :
لست إلا امرأة سيئة الحظ كما ترى!
الرجل :
بيدك حل هذا اللغز.
المرأة :
يستوي لدينا أن يضرب الحصار حول العمارة أو حول الحي كله.
الرجل :
ولكن لا يجمعهم بهذه القوة إلا شيء خطير.
المرأة :
لست هذا الشيء.
الرجل :
لعلك الخيط الذي يوصل إليه .
المرأة :
جنبنا مناقشة عقيمة.
الرجل :
لن أسمح لك بالقضاء علي.
المرأة :
ضيعت فرصة الاعتراف بالحقيقة، وهي غلطتك.
الرجل :
لن أضيع بسبب غلطة.
المرأة :
لماذا تعود إلى الغضب ولم يجد جديد على الموقف؟
الرجل :
الهلاك بات أقرب مما نتصور.
المرأة :
نحن مقامرون، والمقامر العاقل يجب أن يوطن نفسه على الهلاك.
الرجل :
أنت امرأة مقامرة.
المرأة :
وأنت أيضا، لا سبيل إلى النكران.
الرجل :
لم أتوقع أبدا أن أضيع بمثل هذه الطريقة السخيفة.
المرأة :
جميع طرق الضياع سخيفة.
الرجل :
أود أن أقتلك ولو اضطررت إلى قتل نفسي.
المرأة :
هاك طريقة سخيفة أخرى.
الرجل :
كل هذا وأنا لا أعرف من أنت، ولا أدرك شيئا مما يقع حولي.
المرأة :
لا أهمية للتفاصيل، حسبك أن تعرف أننا مطاردون، وأن حولنا وفوقنا وتحتنا أعداء مصممون! (صمت)، (وهي تبتسم متوددة)
لا تضخم سوء الحظ بالغضب. (صمت)
عندي اقتراح (ينظر نحوها بامتعاض ودون أن ينبس)
نحن في حاجة إلى ترفيه.
الرجل :
ترفيه؟
المرأة :
لم لا؟ .. إنهم يسألون المحكوم عليه بالإعدام عن رغبته الأخيرة.
الرجل :
أنت مجنونة!
المرأة :
لنشرب كأسين.
الرجل :
وما حولنا وفوقنا وتحتنا؟
المرأة :
أنا أعتبر نفسي منتهية، وأعترف لك بكل أمانة أن جانبا مني راض كل الرضا، ويخيل إلي أنك تماثلني إلى حد كبير، وأمامنا وقت غير محدود، فإما أن نقضيه في تبادل السباب، وإما أن نرفه عن أنفسنا، ما رأيك؟
الرجل :
كيف تتحمل أعصابك الترفيه وهي تتوقع الموت بين لحظة وأخرى؟
المرأة :
هي حال الإنسان بصفة عامة مع فارق بسيط هو أننا أعظم وعيا بالنهاية. (صمت)
فلنجرب! (المرأة تقوم إلى البار فتجيء بزجاجة وكأسين، تملأ الكأسين، ترفع إحداهما إلى فم الرجل وتمسك بالأخرى)
صحة لقائنا دون تعارف سابق. (تشرب وتدفع بالشراب إلى فيه فيتقبله بفتور، ثم تملأ الكأسين مرة ثانية)
صحة افتراقنا القريب بعد تعارف عميق! (تشرب، تنظر إليه بتوسل حتى يشرب كأسه أيضا، ثم تملأ الكأسين للمرة الثالثة)
صحة أسباب الهلاك التي لا حصر لها. (تشرب، يشرب، تملأ الكأسين للمرة الرابعة)
صحة الأحلام التي تقود إلى الهلاك. (تشرب، يشرب، تنبسط أساريرهما بتأثير الخمر، يملأ هو الكأسين للمرة الخامسة)
صحة الجنس الذي يمارس وسط العنف والشجار. (تشرب، يشرب، يتأكد أثر الخمر، يملأ الكأسين للمرة السادسة.)
الرجل :
صحة الشرطة عدوة الأحلام. (تشرب، يشرب، يتأكد أثر الخمر، يملأ الكأسين للمرة السابعة.)
المرأة :
صحة أول من اخترع حروف الهجاء. (تشرب، يشرب، يتضح أثر السكر في الحركة والصوت، يملأ الكأسين للمرة الثامنة.)
الرجل :
صحة أول رجل اخترع آلة للزينة. (تشرب، يشرب، يملأ الكأسين للمرة التاسعة.)
المرأة :
صحة أول من كتب رسالة غرامية. (تشرب، يشرب، يملأ الكأسين للمرة العاشرة.)
الرجل :
صحة الحلقة المفقودة.
المرأة :
صحة المخبر الواقف بالطرقة خارج الشقة.
الرجل :
صحتك.
المرأة :
صحتك. (يغرقان في الضحك، يقفان وهما يترنحان.)
الرجل :
لننس العمر الذي عشناه فينتهي كل شيء.
المرأة :
انتهى كل شيء.
الرجل :
ولكني لن أنسى أول أمنية داعبت فؤادي وأنا طفل.
المرأة :
ما هي؟
الرجل :
أن أكون بياع كسكسي! (يغرقان في الضحك.)
المرأة :
لنستمتع بشيء من الفن.
الرجل :
فكرة. (يذهب إلى التليفزيون، يديره، يظهر موقف من فيلم رعاة بقر يشتد فيه تبادل إطلاق النار، المرأة تصرخ متراجعة محتجة فيطفئ الرجل التليفزيون)
هلمي نرقص. (يرقصان بلا موسيقى، يتعمد ضمها إلى صدره، يقبلها من آن لآن، يتوقف عن الرقص ويرفعها بين يديه ليمضي بها، ولكن توازنه يختل فيسقطان وهما يضحكان، ينطرحان جنبا لجنب وهما يضحكان، وهو يقبلها كلما سكت عن الضحك، لا مقاومة من ناحيتها، ولكنها تزحف قليلا وتمد يدها فتتناول سماعة التليفون تطلب رقما، وفي أثناء الحديث يتابعها الرجل بانتباه قليل لشدة سكره، ولا يكف عن تقبيلها.)
المرأة :
آلو. : ...
المرأة :
مساء الخير، أنت قلق طبعا، آسفة. : ...
المرأة :
شربت كأسين تحت ظروف اضطرارية. : ...
المرأة :
لا وقت للإجابة، ليس الظرف مناسبا، ستعرف كل شيء من الصحف. : ...
المرأة :
لا تنتظرني .. ولكن ثق من إخلاصي .. حتى آخر لحظة .. أستودعك الله. (تغلق السكة.)
الرجل :
تخونيني جهارا؟
المرأة :
الماضي يستحق أن نودعه.
الرجل :
عفريتة.
المرأة :
سأكون لك إلى الأبد.
الرجل :
حتى الموت.
المرأة :
حتى الموت.
الرجل :
ولو امتد بنا العمر ساعة كاملة؟
المرأة :
ولو امتد ساعة وربعا! (جرس الباب يرن، ينظران نحو الباب بانزعاج رغم سكرهما، ينهضان بصعوبة وتعثر. تمضي نحو المقعد حيث تركت حقيبتها)
سيجدونني جثة هامدة منتصرة.
الرجل :
لن أفتح الباب.
المرأة :
سيكسرونه.
الرجل :
فلنتفق على الاعتراف بأننا زوجان.
المرأة :
قلت للضابط خلاف ذلك.
الرجل :
نعترف بأننا تزوجنا عقب ذهابه!
المرأة :
هذه فترة كافية لموتنا، أما الزواج فيستغرق عاما على الأقل. (الجرس يرن متقطعا ولكن في إصرار.) (الرجل يلتفت نحو الباب موليا المرأة ظهره، المرأة تتناول من الحقيبة أنبوبة، تستخرج منها حبة، تزدردها ببقية كأسها. تترنح ثم تسقط فوق الديوان منكفئة على وجهها، جثة هامدة، الرجل لم ينتبه إلى ما حدث، يتردد بين الوقوف وبين الذهاب إلى الباب، ينظر وراءه فيرى المرأة منكفئة على وجهها.)
الرجل :
غلبك السكر؟ نمت؟ (يتأملها دون مبالاة بجرس الباب)
يا لك من شابة جميلة حقا! (الجرس يرن)
أضعنا في الخصام وقتا لا يعوض. (الجرس يرن)
استريحي، تخاصمنا كغرباء على حين تجمعنا طبيعة واحدة. (يقترب منها، يميل فوقها كأنما ليقبلها، وإذا بصوت صديقه ينادي من وراء الباب صائحا «افتح»، يمضي مسرعا نحو الباب فيفتحه ضاحكا، الصديق يدخل ويغلق الباب وراءه)
سيبت ركبنا عليك اللعنة.
الصديق :
من المرأة التي عندك؟
الرجل :
الغيرة رجعت بك رغم الحصار، يا لك من أحمق! ما فكرت في خيانتك قط. (الصديق ينظر إلى المرأة ويضحك عاليا.)
الصديق :
بعض الظن إثم.
الرجل :
أنت أحمق.
الصديق :
متى جاءت هذه الحبوبة؟
الرجل :
كانت هنا من قبل زيارتك الأولى.
الصديق :
ولم أخفيتها عني؟
الرجل :
إنها المرأة التي تبحث عنها الشرطة.
الصديق :
كم كأسا شربت؟
الرجل :
لم أفكر في حصرها.
الصديق :
وهل الحبوبة نائمة؟
الرجل :
من السكر والتعب .. ولكن ما حال الحصار؟
الصديق :
القيامة قائمة.
الرجل :
وحبيبتي نائمة.
الصديق :
إنها جميلة .. من هي؟
الرجل :
المرأة التي قامت القيامة من أجلها.
الصديق :
أنت سكران.
الرجل :
السكران لا يكذب. (صمت.)
الصديق :
لو صح هذا ...
الرجل :
تعاهدنا على الحب إلى الأبد.
الصديق :
كنت تعرفها؟
الرجل :
عرفتها منذ ساعة هجرية.
الصديق :
وما جريمتها؟
الرجل :
جريمة قامت لها القيامة.
الصديق :
قتل .. مؤامرة؟
الرجل :
سألتها فاعترفت لي بحبها.
الصديق :
لعنة الله على البار الأمريكاني .. خبرني من هي؟
الرجل :
امرأة.
الصديق :
اسمها، أسرتها، مهنتها؟
الرجل :
لا اسم، ولا أسرة، ولا مهنة لها.
الصديق :
ألا تعرف عنها أي شيء؟
الرجل :
عرفنا أهم شيء، وهو أننا سنموت بعد ساعة أو ساعتين.
الصديق :
إنك مضجر ولا خير فيك.
الرجل :
نحن ننتظر الشرطة فلا تفسد علينا ساعة الانتظار.
الصديق :
لا سبيل إلى التفاهم معك، سأذهب، أستودعك الله.
الرجل :
مع ألف سلامة. (يتحرك الرجل للذهاب، جرس الباب يرن رنينا متواصلا) أخيرا.
الصديق (في اضطراب) :
ماذا أنت فاعل؟
الرجل :
سأفتح الباب قبل أن يحطموه. (أصوات من الخارج تصيح «افتح .. افتح.» الرجل يذهب إلى الباب، يفتحه، تندفع إلى الداخل قوة من الشرطة المسلحة على رأسها ضابط غير الضابط الأول.)
الضابط :
أين الحجرة المطلة على الطريق العمومي؟ (الرجل يشير إلى حجرة النوم، الضابط والقوة يهرعون إلى الحجرة ويختفون داخلها.)
الصديق :
ما معنى هذا؟
الرجل :
علي اللعنة إن كنت أفهم حرفا مما يقع حولي.
الصديق :
يستحسن أن توقظ المرأة، أي نوم هذا؟
الرجل :
رد فعل طبيعي للإنهاك والاضطراب والسكر، دعها تنعم بآخر هدوء يتاح لها في حياتها. (فجأة تترامى من الحجرة أصوات طلقات نارية كثيرة، تستمر وتتزايد، الرجلان ينحطان على ركبتيهما بحركة قاسية وهما في غاية من الذعر.)
الصديق :
إنها معركة.
الرجل :
إنها معركة بكل معنى الكلمة.
الصديق :
هل العدو في الطريق؟
الرجل :
ولكنك رأيت الطريق محاصرا.
الصديق :
لعله في العمارة القائمة على الجانب الآخر.
الرجل :
لا أفهم شيئا.
الصديق :
يجب أن نغادر الشقة فورا قبل أن نصرع بالرصاص. (الصديق يزحف على أربع حتى يغادر الشقة. الضابط يظهر في باب الحجرة. يرى المرأة لأول مرة.)
الضابط :
هل أصيبت السيدة؟
الرجل :
كلا .. إنها .. إنها مريضة.
الضابط :
الشقة معرضة للخطر .. غادرها بلا تردد! (الضابط يرجع إلى الحجرة، الضرب في تصاعد مستمر، رصاصة تصيب المصباح الكهربائي فيسود الظلام، شبح الرجل يزحف نحو المرأة، يهزها ليوقظها.)
الرجل :
استيقظي .. يجب أن تستيقظي. (يهزها بشيء من الشدة) ، سأحملك بين يدي وأمري لله. (يحملها بين يديه ويمضي بها نحو الباب بتعثر ومشقة وبطء)
لم يجيئوا للقبض عليك ولا للتفتيش. لقد نجوت يا حبيبتي .. ونجوت أنا أيضا .. نجونا معا. سيمسي اليأس في خبر كان .. نجوت ونجوت .. وستكونين لي إلى الأبد. (يغادر الشقة بحمله، الضرب مستمر.)
مشروع للمناقشة
(حجرة الإدارة بمسرح، في الجانب الأوسط من الحجرة يوجد مكتب، أمام المكتب مقعدان كبيران متقابلان؛ إلى اليسار مكتبة، وباب مغلق يؤدي إلى الخارج، في الجانب الأيمن كنبة ومقعدان وخوان، على الكنبة يجلس الممثل والممثلة. على المقعدين يجلس المخرج والناقد، الجميع في أواسط العمر مع تفاوت.)
المخرج :
يجب أن نفتتح الموسم بعمل باهر.
الممثلة (متنهدة) :
الحق أن الفن جمال وعذاب.
الممثل (ناظرا في ساعة يده) :
متى يحضر الأستاذ؟
الناقد :
إنه في الطريق إلينا.
المخرج :
كثرت المسارح واشتدت المنافسة بينها لدرجة الوحشية.
الممثل :
وعلينا يقع عبء المحافظة على القمة.
الممثلة :
هذا ما قصدته بالعذاب.
الناقد :
ترى هل انتهى الأستاذ من كتابة المسرحية؟
المخرج :
لا أظن، ولكنه سيحدثنا عن الفكرة العامة.
الممثلة :
لن يبدأ الموسم قبل أشهر. (يفتح الباب إلى اليسار ويدخل السكرتير.)
السكرتير :
الأستاذ. (يدخل المؤلف، يخرج السكرتير ويغلق الباب، المؤلف متقدم في السن ولكنه من النوع الذي يتعذر تحديد سنه، وهو أنيق المظهر وبادي الصحة والعافية رغم تقدمه في السن، ينهض المخرج والناقد والممثل لمصافحته، يذهب لمصافحة الممثلة في مجلسها. يمضي إلى المكتب فيقف مستندا إلى مقدمته، ينتقل المخرج والناقد إلى المقعدين المتقابلين أمام المكتب، يعود الممثل إلى مجلسه إلى جانب الممثلة.)
الناقد (للمؤلف) :
صحتك عال.
المؤلف :
شكرا.
المخرج :
الجو فظيع ولكن ضاحيتك مرتفعة الموقع ومعتدلة الجو.
المؤلف :
التفكير من شأنه أن يرفع الحرارة.
الناقد :
إلى أي حد يمكن أن نقول إن عملك اكتمل؟
المؤلف :
سينتهي على أي حال في موعده.
الناقد :
إذا أردنا أن نحدد روايتك الجديدة فأي اسم يمكن أن نطلقه عليها؟
المؤلف :
إنك ناقد لا تخلو من داء النقاد في غرامهم بالأسماء، أنا لا تهمني الأسماء، إنما أبدأ من انفعال معين ثم أترك الاسترسال لوحي القلم.
الناقد :
ولكن المسرحية بناء، ولا يسع البناء أن يضرب في الأساس ضربة واحدة ما لم تكن الصورة النهائية متبلورة بشكل ما.
الممثل (في شيء من العصبية) :
سنصل في نقاش غير محدود، أريد أن أطمئن إلى وجود بطولة حقيقية.
الممثلة :
وأضيف إلى قول زميلي أن خير دور تمثله المرأة هو الحب. (ثم موجهة الحديث إلى المخرج) ، تكلم فأنت المخرج.
المخرج :
لكل رواية أسلوب خاص لإخراجها.
الممثلة :
ولكن الحب ضرورة لا غنى عنها.
المخرج :
إنه ضرورة حقا، ولكن لا يمكن فرضه على المؤلف.
المؤلف :
هذا كرم منك إذا تذكرنا محاولاتك السابقة للوثوب فوق رأسي.
المخرج (ضاحكا) :
أنت تؤلف وأنا أفسر، فأنت حر في تأليفك، وأنا حر في تفسيري.
المؤلف :
ولكني أعرف ما أريد قوله.
المخرج :
بل إني أعتبر ذلك من اختصاصي.
الناقد :
الأمر يتوقف على نوع العمل، ثمة عمل لا يختلف في تفسيره أحد، وآخر تتعدد في تفسيره وجهات النظر.
الممثل :
ما يهمني حقا هو دور البطولة، أريد أن أكون بطلا لا مهرجا.
المخرج :
ولكن المهرج يمكن أن يكون بطلا أيضا.
الممثل :
إني أرفض ذلك كل الرفض.
المخرج :
ثمة زمن يخلق الأبطال وآخر يخلق المهرجين.
الممثل :
مهرجون لا أبطال.
المخرج :
المسألة نسبية.
الممثلة :
سنضل في متاهة الآراء، حددوا أفكاركم.
الممثل :
حسن، أريد بطولة بالمعنى التقليدي.
الممثلة :
وأريد أن ألعب دور حب لا ينسى.
الناقد :
ويلزمني الوضوح الذي يمكنني من نقد العمل وتقديمه.
المخرج :
أطالب بالحرية الكاملة للتفسير.
المؤلف :
ماذا يبقى لي أنا؟
الممثل :
أن تحقق لنا مطالبنا الفنية العادلة في صيغة ناجحة تستحوذ على إعجاب الجمهور.
المؤلف :
إنكم بحاجة إلى سكرتير لا إلى مؤلف.
الممثلة :
بل نريد تفاهما وتعاونا. (المؤلف يغادر موقفه متمشيا حتى منتصف الحجرة وهو مقطب، ثم يعود إلى موقفه مستندا إلى مقدم المكتب.)
المؤلف :
إني أحب الصراحة، والحق أقول لكم إنه لا وجود لكم قبل أن توجد الفكرة التي تنجزونها .
الممثل (في حدة) :
بل نحن موجودون قبل أي فكرة.
المؤلف :
إذا لم توجد القصة فأنتم مجرد أشخاص لا معنى فني لهم.
الناقد :
ألا يؤثر في خيالك وأنت تؤلف أشخاص الممثلين مثلا؟
المؤلف :
كلا، إني أستغرق في عملية الخلق فحسب، ثم يختار العمل بعد ذلك ممثليه ومخرجه.
الناقد :
هذا فرض مثالي، ولكن الواقع أن المؤلف إنما يتعامل مع زمان ومكان وجمهور وممثلين وممثلات ومخرجين ونقاد أيضا!
المؤلف (ضاحكا في سخرية) :
يا لها من أفكار غريبة عن عملية الخلق!
الناقد :
لا يمكن أن تترك لخيالك العنان ما دمت مرتبطا بمسرح ما، وجمهور ما، وإمكانيات فنية محدودة.
المؤلف :
أو في كلمة واحدة هي فبركة بلا زيادة.
الناقد :
إنها محاولة صادقة للتوفيق بين خيالك الخلاق والضرورات بفبركة لا محيص عنها لتقول في النهاية ما تريد قوله، وما يتطلبه الزمان والمكان مما يود الناس أن تقوله.
المؤلف (بلهجة مزدرية) :
أصدق وصف للفن التجاري.
الناقد :
الفن معاملة، والمعاملة نوع من التجارة، والنجاح وجه من وجوه المعاملة.
المؤلف :
هذا يعني أنكم المؤلف لا أنا.
الناقد :
التأليف جماعي وإن بدا فرديا.
الممثل :
لذلك أطالب ببطولة تقليدية وهو طلب عادل.
الممثلة :
وأطالب بالحب وهو مطلب طبيعي.
المخرج :
وأطالب بالحرية ليتم لعملك الكمال المنشود.
المؤلف (غاضبا) :
تمرد سخيف مضحك، ولولاي لما كنتم شيئا مذكورا!
الناقد (بلطف) :
ولولانا ما كنت مؤلفا على الإطلاق.
المؤلف :
أستطيع أن أكتب مسرحية لنفسي!
الناقد :
محض كلام، كيف يثبت أنها مسرحية إذا لم يقيض لها مخرج وممثلون وجمهور ونقاد؟
المؤلف (غاضبا) :
إن مهنتي الخلق لا الجدل، الجدل مهنة العاجزين عن الخلق.
الممثلة :
إني أكره الجدل وأخاف عواقبه، وسوف ينتهي بنا إلى خصام مرير بدلا من عرض مسرحي رائع.
الممثل :
ولكن لا خير في مصالحة تجيء على حسابنا.
المؤلف :
من الضروري أن أكتب مسرحيتي بلا قيد أو شرط.
الناقد :
لا يجوز أن تهمل الاعتبارات التي عددتها.
المؤلف :
إني ملزم باحترام الخلق الفني وحده.
الممثل :
والبطولة؟
الممثلة :
والحب؟
المخرج :
بعض الهدوء، إنه لم يحدثنا بعد عن قصته. (صمت )
أستاذنا العزيز، حدثنا عن قصتك.
المؤلف :
إنها مجرد مشروع وخطوط عامة.
المخرج :
ليكن.
المؤلف :
إنها قصة رجل وامرأة.
الممثل :
ثمة مجال لبطولة.
الممثلة :
ومكان أرجح للحب.
المؤلف :
يلتقيان في غابة.
الناقد :
غابة؟
المؤلف :
يلتقيان في غابة.
الناقد :
ولم غابة؟
المؤلف (محتدا) :
أنا حر.
المخرج :
أنا الحر.
الناقد :
أخشى أن ترجع بنا إلى عهد الرومانسية البائد؟
الممثلة :
هو مكان طريف على أي حال، والعري فيه لا يمكن أن يتهم بالافتعال.
الناقد :
اللقاء اليوم في الشارع، في البص، في ملهى ليلي.
المخرج :
ربما أراد من الغابة أن تهيئ له جوا موحشا حافلا بأخطار الإنسان والحيوان.
الناقد :
المدينة أحفل بكل ذلك من أي غابة.
المؤلف (ضاربا الأرض بقدمه) :
يلتقيان في غابة.
الممثلة :
بعض الحلم حتى يتم صورته.
المؤلف :
في الغابة أخطار لا حصر لها فهما يبحثان عن مأوى يحميهما.
الممثل :
ليس في ذلك شيء من البطولة.
الممثلة :
ولكنه مجال طيب للحب.
الممثل :
لا حب بلا بطولة.
الممثلة :
الحب في ذاته بطولة.
الممثل :
ليست هي ما أبحث عنه.
المخرج :
إنه يريد أن يقاتل؛ يقاتل الوحوش، يقاتل المجهول.
الممثل :
أحسنت.
المخرج :
ومن ثم يوجد الصراع وهو أساس الدراما.
الممثل :
أما مجرد البحث عن مأوى!
الممثلة :
لعله يكتب قصة حب؟
الممثل :
الحب لا يكفي وحده موضوعا لمسرحية.
المخرج :
وأي مجال يترك لحريتي في مسرحية بحث عن مأوى؟
المؤلف :
أنا لا أعترف بحريتك المزعومة.
المخرج :
أنا أفسر فأنا حر.
المؤلف :
هل تستطيع بحريتك أن تغير النهاية؟
المخرج :
صدقني فإن حرية المخرج هي زينة العرض المسرحي.
المؤلف :
هل تستطيع أن تغير النهاية؟
المخرج :
لم تحدثنا عن النهاية.
المؤلف :
يجدان مأوى على درجة من الأمان.
الممثلة :
أراهن على أن الحب سيبدأ دوره الخالد.
المؤلف :
يحصنانه ضد أهوال لا حصر لها ولا عد.
الممثلة :
أكمل .. إني منتظرة.
المؤلف :
يمضيان أوقات الراحة في عناق حار.
الممثلة (تقف من الانفعال وتنتقل إلى جنب المؤلف) :
ألم أقل لكم؟
المؤلف :
وفي لحظة من لحظات العناق الحار يسقطان جثتين هامدتين. (صمت.) (يتبادلان النظرات، تمضي الممثلة إلى المكتبة على اليسار وتستند إليها مغمضة العينين.)
الناقد :
جثتين هامدتين؟
المؤلف :
نعم.
الناقد :
وهي النهاية؟
المؤلف :
ماذا تتوقع بعد ذلك؟
الناقد :
ولكن ما أسباب الموت؟
المؤلف :
أي سبب تفترضه، لنقل إنه العناق نفسه!
الممثلة (متقدمة خطوات) :
الحق أني لم أفهم شيئا.
المخرج :
وماذا عن الأخطار المحدقة بهما؟
المؤلف :
لم أتم دراستي لها بعد، ولكن يمكن القول بأنهما قد ينجحان في تحصين مأواهما.
الناقد :
ستكون نهاية متشائمة.
الممثل :
وبلا بطولة تخفف من وقعها.
الممثلة :
دور الحب غني، ولكن النهاية؟
المخرج :
من حسن الحظ أنه لم ينته من دراسته، وأنه لا بد أن تسبق النهاية سلسلة من صراعات شائقة.
المؤلف (متهكما) :
ربما تكون حرا في كيفية الوصول إلى النهاية التي أختارها، ولكن لا حرية لك في تغييرها.
المخرج (في شبه ثورة) :
يمكن أن أسدل الستار عند لحظة من لحظات النصر.
المؤلف :
في تلك الحال لن يزعم أحد بأن الرواية روايتي.
الممثل (وهو يهب واقفا) :
أنا البطل، أنا الجمهور، وإني أرفض الأدوار الهابطة!
المؤلف :
قدر للسانك قبل النطق موضعه من اللباقة.
الممثل :
إني ممثل قديم، لعبت أدوارا خالدة؛ صارعت القدر، صارعت الأبطال، صارعت المجتمع، اليوم يراد مني أن ألعب دور الهارب، وأن أموت مستهلكا في عناق حار، خبرني بالله أي نوع من الدراما تكون، تراجيديا؟ ملهاة؟
الناقد :
أجل .. النوع المسرحي غير واضح.
المؤلف :
أنا أقدم مسرحيات لا أسماء.
الناقد :
ولكنها تنكبت سبيل الجلال الحق.
المؤلف :
الجلال الحق، ما زلتم تحنون إلى القدر والأبطال الخرافيين وأسطورة المجتمع، ولكن القدر لم يعد إلا موضة بالية، والبطولة الخرافية مراهقة، وهل يتمخض المجتمع إلا عن لعبة يعبث بها أطفال شريرون لم تحسن تربيتهم؟! إني أعرف عملي تماما.
الممثل :
إني أرفض مسرحيتك.
الممثلة :
لكنها ما زالت قصة حب.
الممثل :
إنك مخطئة يا عزيزتي، تصوري أن نلتقي في غابة وأن نلوذ بمأوى! لا مجال للمناجاة أو الحب الحقيقي، ستكون أعصابنا متوترة طوال الوقت، الحب لا ينمو في هذا الجو، مجرد عناق عصبي، يروح عن نفسه بالشهوة، ثم نقع جثتين، ستكونين طيلة الوقت محدقة في فزع، مرتعشة الأطراف، مضطربة الأمعاء، دميمة الوجه، مجرد لبؤة ثائرة، ثم جثة هامدة.
الممثلة :
كلا .. كلا.
الممثل :
ولن يبقى لنا من الحوار إلا كلمات متشنجة، واستغاثات معربدة، وهذيان طويل عن الأخطار المحدقة بنا، ثم نقع جثتين هامدتين!
المؤلف (محتدا) :
لست إلا ممثلا فلا تجاوز حدك.
الممثل (في غضب وعجرفة) :
أنا المسرح .. أنا الجمهور!
المؤلف :
لست إلا ممثلا.
الممثل (وغضبه في تصاعد) :
وما أنت؟ كم من الجمهور رأوك؟ وكم ممن يرونك يعرفون من أنت!
المؤلف :
يا لها من وقاحة! (الممثل يرمي المؤلف بنظرة متوعدة، الممثلة تقترب منه بسرعة فتضع يدها على ذراعه ملاطفة.)
الممثلة :
لا يليق بكما الخصام.
الناقد :
ترى هل تحل بمسرحنا اللعنة؟
المؤلف :
ليلتزم كل بحدوده.
المخرج :
الحلم والهدوء، لا تدفعوني إلى اليأس.
الممثلة :
عليك بالتماسك، وإلا فشلنا وأعرض عنا الجمهور.
الممثل :
إن من يسلبني مجدي إنما يسلبني كرامتي وحياتي.
المؤلف :
لكل زمان مجده الخاص به.
الممثل :
العبث ببطولتي التي عشقها الجمهور محاولة لقتلي.
المؤلف :
مجدك الحق أن تلعب دورك بمهارة أيا كان دورك.
الممثل :
ولو كان الهرب والموت بين أحضان امرأة؟
المؤلف :
ولو كان.
الممثل :
سينصرف عنكم الجمهور ولن ينفع الندم.
المؤلف :
الجمهور يود أن يرى نفسه.
الممثل :
لا كما هي ولكن كما يجب أن تكون.
المؤلف :
على أساس من واقعها الحقيقي.
الممثل :
أهذه هي الكلمة الأخيرة في البطولة؟
المؤلف :
لا يمكن التنبؤ بالمسرحية التالية.
الممثل :
إذا تجهمني زماني فعلي أن أعتزل.
المؤلف (متهكما) :
ها أنت تفكر في الهروب في حياتك رغم ثورتك عليها فوق خشبة المسرح.
الممثل :
إني أرفض مسرحيتك.
الناقد (للمؤلف) :
فكرتها طيبة ولكن أعد النظر في النهاية.
المؤلف (بكبرياء) :
كلام لا يليق أن يوجه إلى مؤلف.
الناقد :
هل نسيت تاريخك القديم؟ هل نسيت روائعك؟
المؤلف :
آخر مسرحية خير ما ألفت حتى اليوم.
الممثل :
حتى هذه المسرحية الشاذة؟
المؤلف :
ستكون خير ما ألفت حتى اليوم.
الممثل (صائحا في غضب وموجها كلامه للجميع) :
إنه يضمحل وهو لا يدري.
المؤلف (في غضب ) :
لست أهلا لمناقشتي. (الممثل يرميه بنظرة غاضبة متوعدة مرة أخرى، ولكن الممثلة تأخذه من ذراعه إلى مجلسها السابق فوق الكنبة)، (صمت)، (محادثا نفسه) ، تعب وعذاب وها هي النهاية، من يدري بمتاعب الخلق إلا من يعانيه؟ ثم لا يكفيه ذلك فتتمرد عليه مخلوقاته، وأي تمرد! تعيب خلقه، تعيبه بكل جهل وقحة، تذكره بعمله القديم كأنه عاجز عن تكرار نفسه، تتهمه بالكسل وهي الخامة العاجزة عن تفهم الجديد، وتبين مزاياه، هل يكمل الخلق إذا جاء على هوى المخلوق؟ وقد تدرجت معهم من البسيط إلى المعقد، وها هم ينعتون البسيط بالجلال والمعقد بالتفاهة، عقول قاصرة فكيف يمكن أن يتموا الرحلة الطويلة معي؟
الممثل (مخاطبا نفسه أيضا تجنبا للخصام) :
الخلق شيء عظيم أما الغرور فلا عظمة له، لسنا مخلوقات ولكننا شركاء، هو يعرف ذلك وإن أنكره حين الغضب، المسرحية لا تحيا وحدها، يلزمها مخرج وممثلون ونقاد وجمهور، ما قيمة النصر بغير هؤلاء؟ هل تبقى الرواية هي هي إذا تغير الممثلون؟ هل تبقى هي هي إذا تغير المخرج؟ الحق أننا خالقون أيضا، وهو مخلوق لنا بمعنى من المعاني، وجميعنا معذبون بالخلق، والجزاء ليس عادلا، إننا نعيش فترة ثم نختفي كالفقاعات، أما كلماته فتبقى على مدى الأيام. (صمت.)
الناقد :
نريد أن نصفي الجو، وبالاحترام المتبادل نصفيه لا بالتفاخر.
الممثل (آتيا بحركة تدل على الحسرة) :
إني أبكي الأيام السعيدة الماضية، أخاف ألا تعود مرة أخرى، كنت أخطر على خشبة المسرح رمزا للإنسان في ذروة نبله ونضاله، وعلى المسرح كانت تتواجه قوى الخير والشر وبينهما تقوم الإرادة الحرة المتوثبة، والخير لم يكن ينهزم وإن حاقت به هزيمة، والشر لا ينتصر وإن أحرز نصرا، ذلك أن خشبة المسرح لم تكن تخلو من إله عادل.
الممثلة (تتأثر فتقوم تتمشى وهي تتكلم) :
أجل، المرأة كانت وحيا، الحب كان دينا، النور يهزم جيوش الظلام بنصله اللامع، الأمومة مقدسة، الوفاء مقدس، الرذيلة شيطان، لا شيء لهو ولعب.
الممثل :
أين الآلهة؟ أين البطولة؟ أين الحب؟ أين الأمل؟ لم تبق إلا غابة مليئة بالوحوش، وآدميان هاربان لائذان بكهف، لم يبق إلا الخوف والتوجس والهستيريا والموت، أي دور هذا؟ (الممثل يقف منفعلا ثم يهتف بصوت مرتفع)
إني أرفض مسرحيتك.
المؤلف :
لا تتخط حدودك.
الممثل :
لم أتخط حدودي.
المؤلف :
لا تحلم كالمراهقين.
الممثل :
لا تتخط حدود اللياقة. (صمت.)
المؤلف :
هذا هو مشروع روايتي الجديدة، وإني مقتنع به.
الممثل :
إني أرفضها.
الممثلة (بصوت منخفض) :
على العين والرأس ولكن ...
المخرج :
عملي يبدأ بعد انتهاء عملك.
الناقد :
لا أدري هل يبكي المشاهد أو يضحك؟
المؤلف :
لم يكن أحد يجادلني فيما مضى.
الممثل :
كان العمل رائعا.
المؤلف :
المؤلف الحق يطالب بالطاعة والإعجاب.
الممثل (متهكما) :
الطاعة والإعجاب؟
المؤلف (منفعلا بالغضب) :
وإلا هدمت المسرح على من فيه.
الممثل :
إني أشهدكم على ما يقول.
المؤلف :
من حقي أن أقول ما أعتقده.
الممثل :
تحت شرط ألا تمس كرامة الآخرين.
المؤلف :
لقد خلقت منكم نجوما وكواكب، ولن يعجزني أن أخلق غيركم.
الممثل :
الحق أننا نحن الذين خلقناك.
المؤلف :
لو تخليت عنك لتسولت حتى الموت.
الممثل :
لولاي لما نجحت لك رواية واحدة ولبثت مؤلفا ناشئا! (الممثل يتقدم إلى الممثلة فيأخذ بيدها متجها في تحد إلى المؤلف) ، هل نسيت فضل هذه الفنانة؟ أو حسبت أن الجمهور يتدفق علينا من أجلك؟
المخرج (للمؤلف ممتعضا) :
وأنا يا أستاذ؟ هل نسيت عروضي الرائعة؟
الناقد (للمؤلف أيضا) :
سامحك الله، وقلمي الذي كرسته للإشادة بعبقريتك؟ إن الناس لا تثني عليك إلا بكلماتي.
الممثل (غاضبا) :
نحن الذين خلقناك.
المؤلف :
سأعهد بعملي إلى آخرين، اغربوا عن وجهي.
الناقد :
لكل مسرح رجاله، ونحن رجال هذا المسرح.
المؤلف :
إذن لن تقدم به مسرحيات بعد اليوم.
المخرج :
سيغلقه الظلام ويدركه العدم.
المؤلف :
لن أتضور جوعا، إني رجل لم تغره الحياة الدنيا مثلكم، ولكنكم ستتسولون في مجرى عام.
الممثل :
ولكن لن تخلق، وهو ألعن من التسول.
المؤلف :
حسن، فليمض كل إلى سبيله. (صمت.)
الناقد :
لقد حلت اللعنة بمسرحنا.
الممثلة :
قلبي يتمزق.
المؤلف :
أنتم المسئولون عن ذلك.
الممثل :
أنت وحدك المسئول.
المخرج :
مسرح عريق في القدم والنجاح.
الممثلة :
يئس من اللحاق به الأعداء.
المؤلف :
وبطرت نعمته أصحابه.
الناقد :
لا أصدق، لن يهون أمره على أحد منا (ثم موجها الخطاب للمؤلف) ، وأنت على وجه الخصوص، ليست أول مرة يعصف بك الغضب.
المؤلف (مشيرا إلى الممثل) :
جاوز حدود اللياقة باستهانة لا تغتفر.
الناقد :
ما تزال قابلة للغفران.
المخرج :
لن يدرك مسرحنا العدم ولو اضطررنا إلى إعادة تقديم الروايات القديمة.
المؤلف :
هذا هو الإفلاس، ولن يخفى على أحد. (صمت.)
الناقد :
لنكن إيجابيين في حوارنا، أصغوا إلي، يمكن استخلاص عنصر صراع بطولي من مجرى الرواية.
الممثلة (بلهفة) :
كيف؟
الناقد :
الرواية ما زالت مشروعا، وقد قال الأستاذ إن الرجل والمرأة سيلوذان بكهف، أليس كذلك؟
الممثلة :
بلى.
الناقد :
إنه كهف كبير، لاذ به كثيرون. (ينظرون إلى المؤلف مستطلعين فلا يعترض)
لدينا كهف وسط غابة مليئة بالوحوش والأخطار المجهولة، وهو في الوقت نفسه مكتظ بالناس، ثمة فرصة لقيام صراع ما بين بطلنا وبين أحد أو أكثر من الآخرين.
الممثل :
صراع سخيف، غير بطولي! إذا كانت الأخطار تحدق بالكهف من كل جانب، فكيف يجوز أن يقوم صراع بينهم؟!
الممثلة :
وكيف يطيب الحب في مثل ذلك الجو؟!
الناقد :
قد يكون صراعا غير منطقي، ولكنه ممكن إذا قيس بمقاييس الطبيعة البشرية، وبخاصة إذا توفرت أسبابه.
الممثلة :
أسبابه؟
الناقد :
المرأة، عدم وفرة الماء والغذاء.
الممثل :
الصراع الحق هو ما قام بين البطل والوحوش، أو بينه وبين المجهول. (ينظرون جميعا إلى المؤلف مستطلعين.)
المؤلف (بفتور) :
ثمة مجال لصراع في الداخل وآخر في الخارج.
الناقد :
يسعدني أن نعود إلى المناقشة.
المؤلف :
لم أفرغ من عملي بعد.
الناقد :
المناقشة تفتح الأبواب.
المؤلف :
ولكنها تفسح المجال للرغبات الشخصية التي لا تمت إلى الفن بصلة.
الممثلة :
رغباتي فنية وليست شخصية.
الممثلة (في رقة متناهية) :
النهاية مهمة جدا.
المؤلف :
المؤلف يكتب مسرحيات متتابعة، لكل مسرحية شخصيتها المستقلة، ولكنها في مجموعها مسرحية كبرى ذات نهايات متكاملة.
الممثل :
ما يهمنا الآن هي مسرحية الافتتاح.
المؤلف :
لم أفرغ من عملي بعد.
الممثلة :
ليكن صراع من أي نوع كان، ولكن يجب أن ينتهي بانتصار الحب.
المخرج :
كيف يمكن استخلاص إيقاع غرامي من ضجيج الغابة الموحشة؟
الممثلة (بحدة) :
إذن الأفضل ألا يكون للمرأة دور!
الممثل :
ما أجمل أن ينتهي الصراع في الداخل إلى القضاء على أسبابه، ومن ثم يتجهون جميعا نحو الخارج.
الناقد :
وماذا يقع في الخارج؟
الممثل :
صراع جديد فنصر جديد.
الممثلة :
وحب طيلة الوقت!
الناقد :
حلم جميل ولكن الجمهور لم يعد يستسلم للأحلام طويلا.
المخرج :
ثمة مشروع مضاد وهو أن يقضي الصراع على اللائذين بالكهف، ثم تقتحمه الوحوش فتلتهم الأحياء والجثث.
الناقد :
كئيب أكثر مما تحتمله الأعصاب.
المخرج :
لم يبق إلا أن يستمر الصراع بالداخل والتهديد في الخارج.
الناقد :
نهاية مفتوحة تدعو للبلبلة.
الممثلة (محتجة) :
تتكلمون عن الصراع ولا تذكرون الحب بكلمة.
المخرج :
أيا كان الحال فسوف تتخلله لحظات حب وغناء ورقص.
الناقد :
ولكن هل يتفق ذلك مع مرارة الصراع؟
المخرج :
هكذا تمضي الحياة، وبذلك نرضي جميع الأذواق. (ينظرون إلى المؤلف مستطلعين.)
المؤلف :
لم أفرغ من عملي بعد.
الناقد :
ما رأيك في الاقتراحات التي عرضت؟
المؤلف :
لا رأي لي الآن.
الناقد :
ولكننا استعرضنا كافة الاقتراحات المحتملة.
المؤلف :
لا حصر للاحتمالات الممكنة.
الممثل :
عدنا على الأقل بصراع بطولي من أي نوع كان؟
الممثلة :
وبحب يستحق هذا الاسم؟
المؤلف :
لا أعد بشيء.
الممثل :
ولكنك حر وبوسعك أن تعد وأن تفي بما تعد.
المؤلف :
لا تتحدث عني بخير أو شر.
الناقد :
حذار أن يعاودنا الخصام.
المخرج :
نحن في حاجة إلى استراحة قصيرة، بنا إلى البوفيه لنتناول بعض المرطبات. (ويذهب الناقد والمخرج والممثل. الممثلة تقف ولكنها لا تبرح مكانها، المؤلف يغادر موقفه عند المكتب ليتمشى ذهابا وجيئة، ثم يعود إلى موقفه مستندا إلى مكتبه، والممثلة تتابعه بعينيها طوال الوقت.)
المؤلف (كأنما يسأل نفسه) :
هل حقا حلت اللعنة بمسرحنا؟
الممثلة :
لن تحل بنا إلا إذا قررت أنت ذلك.
المؤلف :
ولكنه بمعنى ما مسرحي، إنه جزء من نفسي لا يتجزأ.
الممثلة :
ونحن عناصره التي لا يقوم إلا بها.
المؤلف :
عمل واحد وهدف واحد.
الممثلة :
بالحق نطقت .
المؤلف :
فيم الخلاف إذن؟
الممثلة :
لا خلاف حقيقي ولكنه الخوف، لقد أفسدت المنافسة المريرة أعصابنا.
المؤلف :
بالتالي ضقت بهم ذرعا.
الممثلة :
ليتسع لهم صدرك. (صمت)
هل يضايقك وجودي؟
المؤلف :
بل يسعدني.
الممثلة (في شيء من التردد) :
أود أن أخلو إليك بعض الوقت.
المؤلف :
بكل سرور، فرصة طيبة.
الممثلة :
لا قيمة لأكليشهات المجاملة لمن يتطلع للعاطفة الحقيقية! (ينظر إليها في تساؤل ودهشة) ، لم الآن؟ لم أختار هذه اللحظة لأفضي إليك بأسرار قديمة؟ ربما لأنني شعرت لأول مرة بأنك تهددنا حقا بالفراق الأبدي.
المؤلف :
أعترف بأنني ضقت بالعناء والمكابرة.
الممثلة :
عدني بألا تقرر الفراق مهما يكن من عنادهم ومكابرتهم.
المؤلف :
كيف يمكن أن أعد بذلك؟!
الممثلة :
عدني بلا قيد أو شرط؟
المؤلف :
بلا قيد أو شرط؟!
الممثلة :
بلا قيد أو شرط.
المؤلف :
إني أشكر لك عواطفك، ولكنه طلب غير عادل.
الممثلة :
لأنه مسرحك؛ لأنه مسرحنا، لأننا أسرتك، ولأنني ...
المؤلف :
ولأنك؟
الممثلة :
ولأنني .. ولأنني .. ولأنني لولاك ما عرفت طريقي إلى المسرح.
المؤلف :
حقا؟
الممثلة :
نعم.
المؤلف :
لم تحدثيني عن ذلك من قبل.
الممثلة :
لم أحدثك عن نفسي قط. (صمت، يتبادلان نظرات صامتة)
ألا تذكر أيام زمان؟
المؤلف :
بلى، حينما كنت طفلة.
الممثلة :
حينما كنت فتاة صغيرة لا طفلة.
المؤلف :
كنت ألمحك في الطريق أحيانا.
الممثلة :
أكنت تراني حقا؟
المؤلف :
من حي واحد كنا، إني أذكر تلك الأيام.
الممثلة :
اعتقدت أنك لم ترني قط.
المؤلف :
في الشرفة رأيتك وأمام باب البيت.
الممثلة :
وقلت لنفسي إما إنه إله أو إنه صخر.
المؤلف :
صخر؟!
الممثلة :
ذلك أنك لم تعرف سهر الليالي ولا الوسائد المبللة بالدموع. (يتبادلان نظرة طويلة، هي تلقيها إليه بثبات، وهو بدهشة)
وصممت على أن أكبر نفسي لعلي ألفت نظرك؛ انتعلت حذاء بكعب عال، غيرت التسريحة، ضيقت أعلى الفستان لأبرز صدري، ولكنك لم ترني.
المؤلف (باسما) :
آسف جدا، كنت صغيرة وكنت كبيرا.
الممثلة :
المسألة أنك لم تحبني. (صمت)
ولحبك أحببت المسرح، أحببت مسرحك، غيرت مجرى حياتي رغم معارضة أهلي الشديدة.
المؤلف :
إني أغبط نفسي على الخدمة التي قدمتها للمسرح دون تخطيط.
الممثلة :
ومضى حبي ينمو بلا حدود، ولما تخرجت في المعهد اتصلت بك تليفونيا، طالبة ناشئة تعرض نفسها على المؤلف الكبير.
المؤلف :
متى كان ذلك؟ إني لا أذكره.
الممثلة :
طبعا؛ فهو حديث يتكرر يوميا عشرات المرات.
المؤلف :
أكرر الأسف.
الممثلة :
وسد سكرتيرك الطريق في وجهي، ومن ناحية أخرى لم تكن تبرح ضاحيتك أغلب الوقت، ولا تزور المسرح إلا في أوقات نادرة وفي ظروف مجهولة لي، وهكذا وجدت بابك مغلقا بعد طريق طويل شققته بالجهاد والعناد والصبر.
المؤلف :
حكاية مؤسفة حقا.
الممثلة :
ما مضى قد مضى.
المؤلف :
ولكنك عرفت بالإصرار طريقك إلى مسرحنا.
الممثلة :
سلمت بتوجيه السكرتير فذهبت إلى المخرج.
المؤلف :
وسيلة ناجعة فيما يبدو.
الممثلة :
قابلته واقترحت عليه أن يختبرني في مكتبه ولكنه ...
المؤلف :
ولكنه؟
الممثلة :
اعتذر بضيق الوقت وكثرة الأعمال، ثم دعاني إلى مسكنه الخلوي! (المؤلف يبتسم، الممثلة تقطب)
غادرته متحدية، وغالبت ترددي حيالك حتى غلبته، فكتبت لك رسالة مطوية اعترفت لك فيها بحبي الذي أسرني منذ صباي. (صمت)
لا تتذكر شيئا؟!
المؤلف :
الحق ...
الممثلة (مقاطعة) :
الحق أنك تتلقى مئات الرسائل مثلها!
المؤلف :
لم تكن لي ثقة كبيرة في الرسائل.
الممثلة :
ذهبت إلى المسكن الخلوي. (صمت)
كثيرا ما يدفع الحب الخائب إلى المساكن الخلوية.
المؤلف :
الحياة سلسلة من التجارب المتناقضة.
الممثلة :
هكذا انضممت إلى مسرحك.
المؤلف :
مهما يكن من أمر فقد كسب بك نجمة لامعة.
الممثلة :
وعندما قدمت لك لأول مرة وضح لي أنك لا تتذكرني.
المؤلف :
ولكن سرعان ما تذكرتك.
الممثلة :
وثبت لدي أن حبك سراب مستحيل؛ فلذت بصمت الكبرياء. (صمت)
ودفعني حبك المستحيل من بيت خلوي إلى بيت خلوي.
المؤلف :
الحق أنك اشتهرت في الوسط بكثرة العشق!
الممثلة :
على حين أني لم أعرف من الحب إلا حبك.
المؤلف :
فنانة كبيرة وقلب كبير.
الممثلة :
تصورني الرسوم الكاريكاتورية امرأة شهوانية بينا أنني أعاف في أعماقي الشهوة والفساد.
المؤلف :
إني أصدقك.
الممثلة :
ولكنني أعبر من خلال علاقاتي العابرة بالآخرين عن تشوفي الخالد إليك.
المؤلف :
إني أحترم عاطفتك وأفهم سلوكك.
الممثلة :
ولكنك لا تحبني؟
المؤلف :
أحبك بقدر ما يستطيع شخص في سني أن يحب امرأة في سنك.
الممثلة :
إنك من الذين يتعذر تقدير أعمارهم، حتى قيل عنك إنك في سياحاتك الموسمية حول العالم تجدد شبابك وتنفق في ذلك عن سعة! (المؤلف يغرق في الضحك وهي لا تحول عنه عينيها.)
المؤلف :
هل تؤمنين بالأساطير؟
الممثلة :
نعم.
المؤلف :
أعترف أن حبك سيجدد شبابي.
الممثلة :
إنك تتكلم من بعيد، ولا ألومك فلا حق لي عليك، ولكن لم لم تتزوج؟
المؤلف :
لم يكن الزواج من أهدافي أبدا.
الممثلة :
عدو للمرأة؟
المؤلف :
لعلي لم أتزوج لشدة حبي للمرأة.
الممثلة :
لا خبرة لي بالمغالطات اللفظية.
المؤلف :
أعترف بأنني شيء غير مهضوم من وجهة نظر الطبيعة البشرية.
الممثلة :
على كل حال ما مضى قد مضى، وما يهمني الآن هو ألا تفكر في هجر مسرحنا. (صمت)
طالما أنت على رأسه فإني أشعر بأني أعمل في بيتي، وبأن حياتي رغم تمزقها وضياعها لم تفقد كل معنى لها، وبأني إذا كنت أخفقت في أن أكون خليلتك أو زوجك فإني على الأقل نجمة مسرحياتك.
المؤلف :
النجمة التي ساقت إلي الملايين.
الممثلة :
ولا تنس أن الحب هو الدور الذي خلدني.
المؤلف :
وشارك في تخليد أعمالي.
الممثلة :
وإنني أشعر وأنا أقوم به بأنني أمارس حبك الكبير الذي استحال علي خارج المسرح.
المؤلف :
إني مدين لك بالكثير.
الممثلة :
عدني إذن ألا تهجرنا مهما يكن من أمر. (صمت.)
ألا تريد أن تعدني؟
المؤلف :
بدا التفاهم اليوم مستحيلا.
الممثلة :
إنهم يحبونك أيضا، صدقني إنهم يحبونك أيضا، المسألة أنهم خائفون، المنافسة مرة ومزلزلة للأعصاب، وهم من طول ما مارسوا البغضاء في نزاعهم مع المسارح المحيطة بنا انطبعت البغضاء في أساريرهم وسلوكهم ونوازعهم، كأنما قد فقدوا القدرة على الحب، ألفوا التحدي والوقاحة والتهور، تصوروا في غضبهم أنه يمكن أن يوجد هذا المسرح بدونك، محض خيال مريض، تخيلوه بأخيلة هزيلة مريضة، ولو ضننت عليهم بوجودك لتقوضت الجدران فوق رءوسهم، وتلاشت فرص الندم.
المؤلف :
لا أوافق على أن أكرر نفسي بحال.
الممثلة :
سيدي .. هل حقا لم يبق للفن إلا غابة وكهف ورجل وامرأة يموتان في حومة هذيان؟
المؤلف :
إنني أعرف ما أصنع.
الممثلة :
ولكننا لم نعرفه بعد.
المؤلف :
علينا أن نواجه الحقائق، هذه مواجهة وليست هروبا.
الممثلة :
هبني قدرا من الحب ليستقيم دوري، ووفر له نصيبا من البطولة!
المؤلف :
ممثل متعجرف! .. أهو آخر عشاقك؟
الممثلة :
نعم.
المؤلف :
أيعاملك ببطولة؟
الممثلة (ضاحكة في امتعاض) :
معاملته لي تتم وراء جدران لا أمام الجمهور.
المؤلف :
إنه برمجي نساء كما هو معروف.
الممثلة :
ربما.
المؤلف :
لماذا ارتضيته عاشقا؟
الممثلة :
ليس أسوأ من غيره.
المؤلف :
إنه لا يمارس البطولة إلا فوق خشبة المسرح.
الممثلة :
والحب الحقيقي أين يمارس إلا فوق خشبة مسرحك!
المؤلف :
إنهم يكرهون مشروعي الجديد؛ لأنه يعكس بصدق خبايا نفوسهم.
الممثلة :
كنت رفيقا بهم في الزمان الأول.
المؤلف :
كانت دنيا أخرى، وكانوا ناشئين مبتدئين.
الممثلة :
أولهم بعض الاحترام الذي نعموا به قديما.
المؤلف :
أعترف لك بأنني أعاملهم دائما باحترام.
الممثلة :
حقا؟
المؤلف :
وروايتي الجديدة أكبر دليل على ذلك!
الممثلة :
لا أفهمك يا حبيبي.
المؤلف :
عليك أن تفهميني يا حبيبتي.
الممثلة :
ما أحلى هذا الحديث، نتحدث كما لو كنا حبيبين حقا.
المؤلف :
نحن كذلك.
الممثلة :
حقا؟
المؤلف :
كل بطريقته.
الممثلة :
ليس للحب إلا طريقة واحدة.
المؤلف :
بل له طرق كثيرة.
الممثلة :
وما طريقتك في الحب؟
المؤلف :
العمل. (تقترب منه خطوة، تمعن فيه النظر.)
الممثلة :
ألم تحب بطريقتي البسيطة؟
المؤلف :
ربما، ولكن بعيدا عن الوسط الفني.
الممثلة (متنهدة) :
تصور أنني لم أدخل الوسط الفني إلا سعيا وراء حبك. (صمت) . والآن هل تعدني؟
المؤلف :
أرجو أن تسير الأمور سيرا حسنا.
الممثلة :
شكرا.
المؤلف :
عفوا.
الممثلة (بعد تردد) :
أود أن أقبلك ولو قبلة واحدة. (الممثلة تقترب منه، يتعانقان متبادلين قبلة طويلة، في ذات اللحظة يدخل الممثل وفي أعقابه المخرج والناقد؛ المؤلف والممثلة يفترقان في كثير من الارتباك، الممثل يذهل لحظة، ثم يحاول الهجوم على المؤلف، ولكن المخرج والناقد يحولان دون ذلك.)
الممثل (صائحا) :
داعرة محترفة، وعجوز منحل .. سأحطم رأسك.
الممثلة :
اخرس .. لا تتكلم بغير فهم.
الناقد :
ما رأيناه لا يجوز أن نسيء فهمه، ما هو إلا عناق أبوي!
الممثل :
أبوي! أنت لا تعرف شيئا عن تدهور الشيوخ!
المؤلف :
تأدب.
الممثل :
سأحطم رأسك، لن تفلت من قبضتي.
الممثلة :
اخرس، قلت لك ألا تتكلم بغير فهم!
الممثل :
إني خير من يفهمك يا خنزيرة!
الممثلة :
ما أنت إلا حيوان غبي.
الممثل :
لا زلت بغيا تنتقلين من فراش إلى فراش.
الممثلة :
تأدب وإلا أسكتك بالحذاء.
الممثل :
ولكنك تنتقلين هذه المرة إلى نعش.
الممثلة (للآخرين) :
أسكتوا هذا الحيوان الأعمى.
الناقد (ضاربا جبينه بيده) :
لقد حلت بمسرحنا اللعنة.
الممثلة (بصوت مرتفع) :
لن تحل بمسرحنا اللعنة.
المخرج :
سوء فهم واضح، واضح البراءة.
الناقد (مخاطبا المؤلف) :
بوسعك أن تحسم سوء الظن بكلمة. (المؤلف يلزم الصمت في كبرياء.)
المخرج (للممثلة) :
لديك بلا شك ما تدافعين به عن نفسك.
الممثلة :
إني أرفض أن أقف موقف الاتهام.
الممثل :
لقد رأيناهما متلبسين!
المخرج :
يجب أن تخجل من نفسك.
الناقد :
حتى إن سوء الظن أمر مخجل.
المخرج (للمؤلف) :
تكلم يا أستاذ. (ثم للممثلة) . تكلمي أنت، علينا أن ننتهي من سوء التفاهم ونصفيه بسرعة لنستأنف مناقشة المشروع الجديد.
الممثل (للمخرج) :
يا للغرابة! إنك تتكلم عن أعمق العلاقات البشرية كما لو كانت عبث أطفال.
المخرج (للممثل) :
لقد وجدتني ذات يوم في مثل موقفك، وكانت حيال خيانة حقيقية لا مجرد سوء تفاهم بريء، وكان غريمي وقتذاك صديقنا الناقد، كيف تصرفت؟ كظمت غضبي وواصلت تدريباتي للمسرحية الجديدة.
الممثل :
أنت جبان.
المخرج :
أنت حيوان. (الممثل يوجه لكمة لرأس المخرج؛ المخرج يترنح واضعا يده على موضع الضربة، يمضي إلى الكنبة ويرتمي عليها، يسند رأسه إلى مسندها ويمد ساقيه في إعياء. الممثلة تثور وتلطم الممثل على خده فيعميه الغضب ويوجه لطمة إلى رأسها فتقع إلى جانب المخرج، الناقد يسرع إلى إجلاسها، ويهجم على الممثل، يتبادلان الضرب حتى يسقطا متتابعين. يقومان مترنحين ويلوذ كل منهما بمقعد حول الكنبة. الأربعة جالسون متقاربين وفي حالة إعياء شديد تقارب الإغماء. وطيلة الوقت لزم المؤلف موقفه وهو يراقب ما يحدث ببرود.) (صمت.) (يفتح الباب فيدخل السكرتير، يتجه نحو المؤلف دون أن ينتبه إلى الآخرين.)
السكرتير :
مندوب مجلة إيزيس. (يدخل مندوب المجلة، السكرتير يغادر الحجرة، المندوب يمضي إلى المؤلف فيصافحه، يتحول إلى الجالسين ولكنه يتوقف في ذهول، يردد بصره بينهم وبين المؤلف، يتراجع إلى قريب من المؤلف.)
المندوب :
آسف على مجيئي دون موعد سابق.
المؤلف :
إنها مفاجأة ولكنها سارة.
المندوب (مشيرا إلى الجالسين) :
ماذا حصل لهم؟
المؤلف :
فرغوا لتوهم من تدريبات الرواية الجديدة.
المندوب :
حقا! مجرد تدريبات؟
المؤلف :
مجرد تدريبات.
المندوب :
إنها رواية عنيفة فيما أرى؟
المؤلف :
لا تخلو من عنف.
المندوب :
إني أرى آثار كدمات، وألمس إعياء واضحا على وجوههم، كأنما هي رواية من روايات رعاة البقر!
المؤلف :
لا تخلو من حيوانات.
المندوب :
حتى فنانتنا الكبيرة تطرح رأسها في شبه إغماء، إنه لأمر غير معقول!
المؤلف :
لا تخلو من جنون.
المندوب :
إن عرض مسرحية بذاك العنف شهورا متواصلة يجب أن يعد معجزة!
المؤلف :
وهي لا تخلو من معجزات.
المندوب (مشيرا إلى الممثلة) :
هل أصيبت وهي تدافع عن شرفها؟
المؤلف :
أصيبت وهي تدافع عن شرف البطل.
المندوب :
ولكن المعتاد أن البطل يذود عن شرف الآخرين بالإضافة إلى شرفه هو؟
المؤلف :
هي لا تخلو من طرافة وجدة!
المندوب :
لعل المسرحية تميل إلى التشاؤم؟
المؤلف :
لا تخلو من تشاؤم.
المندوب :
ولكن موقف البطلة يدعو للتفاؤل فيما أعتقد؟
المؤلف :
لا يخلو من تفاؤل.
المندوب :
كيف تجمع مسرحية بين التشاؤم والتفاؤل وهما نقيضان؟
المؤلف :
لا تخلو من تناقض.
المندوب :
معذرة يا عميد المؤلفين ألا يعتبر ذلك ضعفا؟
المؤلف :
لا تخلو من ضعف.
المندوب :
ولم لم تبلغ بها الكمال المعهود منك؟
المؤلف :
الكمال للموت وحده. (المندوب يضحك عاليا، ثم يعقب ذلك صمت.)
المندوب :
جميع المسارح تتساءل عن عرضكم القادم، وقد بلغت المنافسة بينها ذروة المرارة، المؤامرات تدبر في الظلام، المرتزقة يستأجرون لإحداث الشغب، ألا يمكن أن يسود السلام بين المسارح؟ (صمت) . كثيرون من العقلاء يعقدون عليك الآمال بوصفك عميد المؤلفين لتقوم بخطوة حاسمة في هذا السبيل؟
المؤلف :
لا وقت عندي إلا للعمل.
المندوب :
هلا كرست لذلك يوم راحتك الأسبوعي؟
المؤلف :
يوم الراحة للراحة.
المندوب :
إنهم يحلمون بأن تجمع المسارح في وحدة متعاونة يسودها السلام الذي يسود مسرحك.
المؤلف :
لن أجد في سني هذه من يمكنه التفاهم معي. (المندوب يبتسم وهو يشد على ذراع المؤلف إعجابا وتقديرا.)
المندوب :
أعلم أنك لا تحب الحديث عن رواية جديدة قبل عرضها، ولكن لدي بعض أسئلة تقليدية يتابعها الجمهور عادة بشغف. (المؤلف يهز رأسه بالموافقة صامتا)
كم من الوقت استغرقت في كتابتها؟
المؤلف (حاسرا كم الجاكتة عن معصمه اليسرى) :
أنا لا أستعمل الساعات.
المندوب :
مم استلهمت فكرتها العامة؟
المؤلف :
شرعت في كتابتها عقب تفكير طويل في المغص.
المندوب (ضاحكا) :
هل يمكن إرجاعها إلى تجربة شخصية مرت بك في حياتك العامرة؟
المؤلف :
ربما أمكن إرجاعها إلى علاقة قديمة قد قامت بيني وبين مطرب أخرس.
المندوب :
مطرب أخرس؟
المؤلف :
نعم.
المندوب :
وكيف أمكنك معرفة تطريبه؟
المؤلف :
هذا ما ستجيب عنه المسرحية. (المندوب يضحك عاليا، يصافح المؤلف. يذهب. المؤلف يلقي نظرة على الجالسين، يسوي ربطة عنقه ومنديل جيب الصدر تأهبا للذهاب. الممثلة تنظر نحوه، تقاوم ضعفها فتعتدل في جلستها.)
الممثلة :
انتظر. (تدلك رأسها، تقوم بصعوبة، تمضي إلى أقرب المقعدين المتقابلين أمام المكتب لتعتمد عليه) متى نجتمع لنقرأ النص الجديد؟ (صمت) لا تهجرنا. (صمت) لقد وعدت بألا تهجرنا. (صمت) (مشيرة إلى الجالسين) ما وقع بيننا ليس الأول من نوعه، ولن يكون الأخير. (صمت) سوف تعود المياه إلى مجاريها. (صمت) (مشيرة إلى الممثل) سيكون أول من يعتذر، إني خير من يعرفه. (صمت) (يتبادلان نظرة طويلة، هي متطلعة في لهفة، وهو لا ينم وجهه عن شيء، فيتصافحان ثم يمضي على مهل إلى الخارج ويرد الباب وراءه. الممثلة تتابعه بعينيها ثم تظل رانية إلى الباب.)
المهمة
(بقعة صحراوية خالية، تقوم في وسطها هضبة صخرية، أمام الهضبة يتمشى شاب جيئة وذهابا وهو ينظر في ساعته من آن لآن. الوقت أصيل، الشاب أنيق بدرجة ملحوظة، والجو يوحي بأنه ينتظر موعدا غراميا.
يترامى من الخارج وقع أقدام ثقيلة، الشاب يرهف السمع في قلق، وباقتراب الأقدام يتجهم وجهه، ويتوقف عن المشي، فيلزم مكانه أمام الهضبة.
يدخل رجل في الخمسين، مهمل الهندام، ولكنه قوي البنية، يلقي على الشاب نظرة عابرة، ثم يمضي إلى يسار الهضبة فيقف متطلعا إلى الخلاء.
الشاب ينظر صوب الرجل مقطبا، ولكن الآخر يبدو وكأنه لا يشعر له بوجود، يقترب منه خطوة.)
الشاب (مخاطبا الرجل بصوت مرتفع لا يخلو من تحد وغضب) :
ماذا تريد؟ (يظل الرجل رانيا إلى الخلاء كأنما يسمع صوتا)، (بصوت أشد ارتفاعا)
إني أسألك عما تريد؟ (الرجل يبدو مستغرقا في الأفق، ويترنم مغنيا) . والله زمان، زمان والله. (بحدة حانقة) . لماذا تتبعني؟ (الرجل يواصل ترنمه في هيمان)
إنني أخاطبك وأنت تعلم ذلك، لا أحد سوانا في هذا الخلاء.
الرجل (ملتفتا في دهشة) :
حضرتك تخاطبني؟
الشاب :
دون سواك!
الرجل :
معذرة، ماذا قلت؟
الشاب :
إني أسألك عما تريد مني!
الرجل (متظاهرا بالدهشة) :
أنا؟
الشاب :
أنت، أنت دون سواك.
الرجل :
عجيب سؤالك يا سيدي، أنا لا أريد منك أي شيء.
الشاب :
لم إذن تتبعني بإصرار؟
الرجل :
أتبعك! إني أراك لأول مرة في حياتي.
الشاب (بعناد) :
إنك تتبعني منذ الصباح الباكر، ولم تكف عن تتبعي حتى هذه اللحظة من الأصيل.
الرجل :
أنت مخطئ في ظنك فأنا لم أرك؛ وبالتالي لم أتبعك.
الشاب :
لم أذهب إلى مكان إلا رأيتك قادما في أثري.
الرجل :
لا يحق لي أن أكذبك، ولكني لم أرك، ولم أتبعك.
الشاب (بنبرة لا تخلو من تهكم) :
أهي مجرد مصادفة؟
الرجل :
سمها كيفما شئت. (صمت، يعود الرجل إلى النظر صوب الأفق، أما الشاب فلا يبرح مكانه، ولا يكف عن النظر إليه.)
الشاب :
هل تتفضل بإخباري عن الجهة التي تنوي الذهاب إليها بعد هذه الوقفة؟
الرجل (ملتفتا نحوه في دهشة) :
بأي حق تسألني هذا السؤال الغريب؟
الشاب :
معذرة، أود التخلص من فكرة اتباعك لي.
الرجل :
أنا لا أعرفك، لم أتبعك، وفي هذا الكفاية!
الشاب :
ألم توجد في ميدان القلعة صباحا؟
الرجل :
بلى.
الشاب :
ألم تتناول فطورك في مطعم .. فلافل .. بشارع محمد علي؟
الرجل :
بلى.
الشاب :
ألم تذهب بعد ذلك إلى مقهى الشمس؟
الرجل :
بلى.
الشاب :
ألم تقم بزيارة قصيرة لدار الآثار؟
الرجل :
بلى.
الشاب :
ألم تشهد مزادا بصالة المعروضات بالدقي؟
الرجل :
بلى.
الشاب :
ألم تذهب بعد ذلك إلى عيادة الدكتور عرنوسي طبيب الأسنان؟
الرجل :
بلى.
الشاب :
ألم ...
الرجل (مقاطعا) :
أكنت تتبعني يا سيدي؟
الشاب (ضاحكا ضحكة جافة) :
أنا؟
الرجل :
أليس من الغريب أن تعرف تحركاتي طيلة اليوم بهذه الدقة؟
الشاب :
ولكنك كنت، لا مؤاخذة، كأنك كنت تتبعني!
الرجل :
لقد شغلت نفسك بي أكثر مما يتصور.
الشاب :
في كل مكان رأيتك قادما في أثري، حتى في هذه المنطقة النائية الخالية!
الرجل :
عجيب أنني لم أرك ولا مرة واحدة.
الشاب :
الحق أن عينينا التقتا أكثر من مرة.
الرجل :
لا يرى الإنسان جميع ما تقع عليه عيناه من أشياء.
الشاب :
إذن فأنت لا تتبعني؟
الرجل :
ولم أتبعك؟
الشاب :
لعلك تعذرني.
الرجل :
لك العذر.
الشاب :
مصادفة عجيبة.
الرجل :
هي بالقياس إلي لا شيء. (الشاب يضحك ضحكة عصبية، ثم يسود الصمت، وعندما يهم الشاب بالابتعاد يتكلم الرجل)
آسف جدا لأني أزعجتك بغير قصد.
الشاب :
أن تصدق أن شخصا ما يتبعك أمر مزعج حقا.
الرجل :
ليس في جميع الأحوال.
الشاب :
أعني إذا كنت تجهله وتجهل مقصده بالتالي.
الرجل :
ولكنك شاب مهذب بريء الساحة.
الشاب :
لا يكفي هذا لإسكات وساوسك ما دمت تجهله وتجهل مقصده.
الرجل (باسما) :
أيهما أبعث على الخوف؛ المجهول أم المعروف؟
الشاب :
الأمر يتوقف على السبب وعلاقته بنا.
الرجل :
الحق أننا نخاف أكثر مما ينبغي. (الشاب يصمت متجهما)
أكرر الأسف.
الشاب (بعصبية) :
الحق أنك أفسدت علي يومي كله!
الرجل :
عجيب أن نرتكب جريمة ونحن لا ندري.
الشاب :
وجئت إلى هذه البقعة الخالية النائية لأكتشفك وأحرجك!
الرجل :
لعل مجيئي يقطع ببراءتي.
الشاب :
ترى ما الذي دعاك إلى المجيء إلى هنا؟
الرجل :
إنها أحد الأماكن المختارة التي أشهد فيها الغروب.
الشاب :
أتحب الغروب؟
الرجل :
إنه أحب ساعات اليوم إلى نفسي.
الشاب :
ألم يزعجك أن تجدني هنا؟
الرجل :
أنا أحب الناس.
الشاب (بعد تردد واضح) :
هلا أخبرتني عن خطواتك التالية؟
الرجل :
أما زلت على ريب مني؟
الشاب :
كلا، ولكني أود أن أمتحن دهاء المصادفة.
الرجل :
الواقع أني سرت طيلة اليوم على غير هدى وبلا خطة موضوعة، إنه يوم عطلتي.
الشاب :
لا بد من فكرة تقودك في يوم عطلتك.
الرجل :
من طول خضوعي للتخطيط على مدى الأسبوع فإني أتحرر يوم العطلة من أي قيد.
الشاب :
أما أنا فسأبقى هنا بعض الوقت ثم أذهب إلى حانة «الأحمر والأبيض.»
الرجل (بحماس مفاجئ) :
حانة النبيذ الفاخر والسلطة الخضراء .. ما أجملها!
الشاب :
هل تقرر الذهاب إليها؟
الرجل :
أعترف بأنك ذكرتني بمكان أحب الجلوس فيه.
الشاب :
وبعد ذلك سأمضي إلى بيتي.
الرجل :
من يدري، ربما توثقت العلاقة بيننا في «الأحمر والأبيض» فنمضي إلى البيت معا. (يضحكان معا، ثم يسود الصمت، يلتفت الشاب إلى الناحية الأخرى فيعود الرجل إلى التطلع صوب الأفق، الشاب يتمشى غير خال من القلق، يختلس إلى ظهر الرجل النظرات، ينظر في ساعته، يتضاعف قلقه. تدخل فتاة جميلة متأنقة، ما إن ترى الشاب حتى تهرع نحوه متهللة، ولكنها تنتبه إلى وجود رجل غريب؛ فتتمالك مشاعرها وتلوح في وجهها خيبة، الشاب يمضي بها إلى يمين الهضبة، يتبادلان قبلة.)
الشاب :
لسنا وحدنا.
الفتاة :
ماذا يفعل؟
الشاب :
ينتظر الغروب!
الفتاة :
الغروب؟
الشاب (متهكما) :
أحب ساعات اليوم إليه.
الفتاة :
هل تعرفه؟
الشاب :
كلا.
الفتاة :
هل حادثته؟
الشاب :
نعم.
الفتاة :
لم؟
الشاب :
الواقع أنه لم يفارقني منذ الصباح الباكر.
الفتاة (بدهشة) :
كيف؟
الشاب :
ظننته يتبعني.
الفتاة :
ما دام لم يفارقك طوال اليوم.
الشاب :
ولكنه أكد لي أنه لم يرني.
الفتاة :
وهل صدقته؟
الشاب :
لم أكذبه.
الفتاة :
ألا ترى أنه يحسن بنا أن نذهب؟
الشاب :
إني ضنين باللقاء.
الفتاة :
ولكن قلبي غير مطمئن.
الشاب :
لعله ينتظر صديقة.
الفتاة :
ليتها تجيء لتحل المشكلة من أساسها. (يتبادلان قبلة طويلة) ، (مشيرة إلى الناحية الأخرى من الهضبة)
لم يفارقك طوال اليوم؟
الشاب :
بلى.
الفتاة :
لنذهب!
الشاب :
لماذا يتبعني؟
الفتاة (بقلق واضح) :
ترى هل يتعلق الأمر بي؟
الشاب :
هل سبق لك أن رأيته؟
الفتاة :
لا لم ألمح إلا ظهره، وبسرعة عابرة، لم يذكرني بأحد أعرفه.
الشاب :
لا داعي لكثرة الظنون.
الفتاة :
أرى أنه يحسن بنا أن نذهب.
الشاب :
لننتظر فإني ضنين باللقاء.
الفتاة :
أعترف بأنني بت أكرهه بقدر ما أخافه.
الشاب :
كيف تخافينه وأنت لم تري إلا ظهره!
الفتاة :
إنه ذو قصة مريبة تدعو للانزعاج.
الشاب :
بوسعنا أن ننساه تماما ونعبث بنواياه.
الفتاة :
نواياه؟!
الشاب :
أعني إن كان ثمة نوايا يضمرها حقا.
الفتاة :
ولكن كيف؟
الشاب (وهو يجذبها نحو صدره) :
هكذا. (يتعانقان وهما يتبادلان قبلة طويلة، يواصلان العناق والقبل كأنما قد نسيا الآخر تماما، في أثناء ذلك يجلس الآخر على الأرض كأنما أتعبته الوقفة، يمد ساقيه ويسند رأسه إلى حافة الهضبة، صوت غراب ينعق، الشاب والفتاة يفيقان من سكرة الحب، يتبادلان النظر في دهشة.)
الفتاة :
كم مضى من الوقت؟
الشاب :
لا أدري، ولن أنظر في الساعة؛ فما أحب أن أكدر صفونا بالزمن.
الفتاة (مشيرة إلى الناحية الأخرى) :
ترى هل ذهب؟
الشاب :
سيان عندي أن يذهب أو أن يبقى. لا يند عنه صوت، لعله مات. (صمت يتخلله تبادل قبل)
من الحماقة أن أخافه.
الفتاة :
ولكنك تجهله.
الشاب :
هو على أي حال كهل وبوسعي أن أصرعه بلكمة واحدة.
الفتاة :
ولكني وجدتك قلقا لدى حضوري.
الشاب :
لم أكن أفقت من فكرة مطاردته لي.
الفتاة :
لعله ... (وقبل أن تتم كلامها يترامى إليهما شخير منتظم من ناحية الرجل؛ يتبادلان نظرة ذاهلة)
نام؟
الشاب :
لعله شخير رجل آخر. (الشاب يمضي في حذر شديد نحو الرجل، تتبعه الفتاة، يلقيان عليه نظرة داهشة، الرجل يستيقظ لدى وقوع نظرتهما عليه كأنما رمي بطوبة، ينهض بسرعة ويحدق فيهما بانزعاج وتحد معا.)
الرجل (متجهما) :
من أنتما؟ .. ماذا تبغيان؟
الشاب :
لا مؤاخذة لم نقصد إزعاجك!
الرجل (مستعيدا تذكره وهدوءه) :
آه .. أنت .. (صمت وارتباك والرجل يردد بصره بينهما) (باسما)
وقعت أحداث جديدة في أثناء غفوتي!
الشاب :
أي أحداث؟
الرجل (ناظرا إلى الفتاة) :
كنت وحدك فيما أذكر!
الشاب :
ثم لحقت بي خطيبتي.
الرجل (مبديا دهشة سمجة) :
خطيبتك!
الشاب (بحدة) :
نعم خطيبتي.
الرجل (بقحة) :
وكيف تجيء بخطيبتك إلى هذه البقعة النائية المهجورة؟
الشاب (غاضبا) :
بأي حق تحاسبني على ما أفعل؟
الرجل (متراجعا) :
معذرة. لم أسترد تفكيري السليم بعد. (يهم الفتى والفتاة بالذهاب، ولكن الرجل يسارع باعتراض سبيلهما) . متى نذهب إلى حانة «الأحمر والأبيض»؟
الشاب :
نذهب؟
الرجل :
ألم نتفق على ذلك؟
الشاب :
كلا .. قلت لك إني ذاهب لا إننا ذاهبان، وقد عدلت عن قراري.
الرجل :
يا للخسارة!
الشاب :
اذهب أنت إذا شئت.
الرجل :
لعلك ضحكت علي حين كنت تنتظر خطيبتك؟
الشاب :
لا داعي للأخذ والرد.
الرجل :
إذن فلم تقصد هذا المكان لتحرجني كما قلت؟
الشاب :
لننه حديثا لا جدوى منه.
الرجل :
ولكننا وصلنا في الحديث إلى حافة الصداقة.
الشاب :
لندع ذلك إلى فرصة أخرى.
الرجل (راجعا إلى مكانه الأول) :
أتمنى لكما وقتا طيبا. (الرجل يعود إلى موقفه الأول ليرنو من جديد إلى الأفق، يعود الشاب بالفتاة إلى موقفهما إلى يمين الهضبة.)
الشاب :
ها قد عدنا إلى الجنة.
الفتاة :
ليتنا لم نغادرها.
الشاب :
لعنة الله على الفضول.
الفتاة :
دعني أذهب. (يضمها إلى صدره ويقبلها؛ فتستسلم دون استجابة.)
الشاب :
ابتسمي.
الفتاة :
يا له من رجل كريه.
الشاب :
لنلق به في النسيان. (يتعانقان حتى يغيبا عن الوجود، في أثناء ذلك يتسلل الرجل من موقفه حتى يقف قبالتهما ويبدو سعيدا بمشاهدتهما، ينتبهان إليه. ينفصلان في ارتباك وانزعاج، الشاب يرميه بنظرة غاضبة.)
الرجل :
ما أجمل هذا!
الشاب :
وقاحة!
الرجل :
استمرا في لعبكما الظريف.
الشاب (محتدا) :
ماذا جاء بك؟
الرجل :
بالله لا تغضب.
الشاب :
وقح!
الرجل :
إنك لا تقدر وقع كلمة قاسية على رجل يحب الناس.
الشاب :
ماذا جاء بك؟
الرجل :
أحب أن أرى الأشياء الظريفة.
الشاب :
احذر أن تدفع ثمن قحتك.
الرجل :
لقد تسللتما لتلقيا علي نظرة وأنا نائم، وها أنا أرد التحية.
الفتاة (وهي تهم بالذهاب فيمسك الشاب بها) :
إني ذاهبة.
الرجل (للفتاة) :
لا تذهبي، لم أقصد إزعاجك.
الشاب :
هذا سلوك غير لائق.
الرجل :
بل هو طبيعي وجميل.
الشاب :
اذهب!
الرجل :
ألا ترى أني أعرض مودتي بغير حساب؟
الشاب :
اذهب وإلا ...
الرجل :
يجدر بك ألا تهددني.
الشاب :
سأفعل أكثر من التهديد.
الرجل :
كلا، لا تدفعنا إلى عواقب غير محمودة.
الشاب :
لك.
الرجل :
ولك أيضا.
الشاب :
لا تحملني على تأديبك وأنت في سن أب.
الرجل :
لا تغتر بفوارق السن.
الفتاة :
دعني أذهب.
الرجل (للفتاة) :
محال أن تكدري صفوك بسببي.
الفتاة :
إذن فابتعد عنا.
الرجل :
إنها فرصة نادرة لمشاهدة الحب.
الشاب :
أنت مجنون؟
الرجل :
أنا رجل يحب مشاهدة الطرائف، جرب ذلك بنفسك إذا شئت.
الشاب :
ماذا تعني؟
الرجل (حانيا رأسه بأدب) :
دعني أحل محلك، وتفضل بمشاهدتنا أنت لتحكم بنفسك. (الفتاة تلطمه، الرجل يتلقى اللطمة باسما.) (صمت.)
الفتاة (هامسة للشاب) :
دعني أذهب.
الشاب (بعناد وكبرياء) :
كلا!
الفتاة :
بل يجب أن أذهب في الحال.
الشاب (بإصرار) :
لن تذهبي! (الرجل يبتعد خطوات، يتحسس خده مكان اللطمة وهو ما يزال يبتسم.)
الرجل : (مخاطبا الخلاء)
بنوايا طيبة أسير، ولكني أتلقى اللطمات، وكلمات أقسى من اللطمات، لماذا؟ لماذا يصر الناس على الوهم والحماقة؟ لم لا يقفون على أرض الواقع؟ كيف لا يفرقون بين العدو والصديق؟
الفتاة (للشاب) :
لا تكن عنيدا.
الشاب :
لن تذهبي!
الفتاة :
لا فائدة ...
الشاب :
ولكنك لن تذهبي.
الرجل : (مستمرا في مخاطبة الخلاء)
المتعلم والأمي في الجهالة سواء، لم يسيئون الظن بي؟ ماذا عليهم لو استمروا في لهوهم أمام وجودي البريء؟ أحب مشاهدة الأفراح، ولا عدو لي إلا الحماقة والأنانية.
الفتاة (للشاب) :
إنه مجنون.
الشاب :
ليكن.
الفتاة :
إني خائفة.
الشاب :
لست عاجزا عن حمايتك.
الرجل (مخاطبا الخلاء أيضا) :
يخلقون المتاعب من لا شيء ثم يلقون بها في وجهي، أهيم على وجهي باحثا عن أشياء ثمينة فلا ألقى إلا الصد، الخلاء يشهد بأنني ذو شأن ولكن اللعنة على الحماقة!
الفتاة :
إنه مجنون، لن أبقى دقيقة أخرى. (الفتاة تمضي نحو الخارج، الشاب يلحق بها فيمسك بيدها)
لا بد من ذهابي.
الشاب :
ولكن ...
الفتاة :
لا تكرهني على البقاء.
الشاب :
إذن فلأوصلك.
الفتاة (مانعة إياه بيدها) :
ابق هنا حتى لا يتبعنا. (يتصافحان، تغادر المكان، الشاب يتبعها عينيه، الرجل يقترب منه ولكنه يتجاهله.)
الرجل :
أقدم لك اعتذاري بقلب ملؤه الأسف. (الشاب يصر على تجاهله)
أي نحس يفسد علي مطالبي البريئة؟! (الشاب يمشي والرجل يتبعه كظله)
أكرر الأسف من كل قلبي.
الشاب (متوقفا عن المشي في مواجهته) :
ألا تخجل من نفسك؟
الرجل :
انظر إلى جزاء من يسعى إلى حب الناس!
الشاب :
أتسخر مني؟
الرجل :
صدقني فيما أقول، بيد أني رجل سيئ الحظ.
الشاب :
لقد ضيعت علي ثمرة يومي المرهق الطويل بلا حياء.
الرجل :
أنا؟
الشاب :
دون غيرك.
الرجل :
كلما سعيت إلى إنسان بقلب مفتوح رميت بهذه التهمة.
الشاب :
يخيل إلي أنك ذو تاريخ قديم في النحس.
الرجل :
لا ذنب لي على الإطلاق. (الشاب يغادره إلى يسار الهضبة فيتبعه على الأثر.)
الرجل :
أود أن تؤمن ببراءتي.
الشاب :
أمن الضروري أن تلاحقني لتحدثني عن نحسك؟
الرجل :
فرصة طيبة للحديث والتعارف. (الشاب يقطب ثم يسود صمت)
افتح لي صدرك.
الشاب :
أكنت تتبعني منذ الصباح كما ظننت؟
الرجل (باسما) :
بصراحة نعم.
الشاب :
إذن كذبت علي؟
الرجل :
بسبب نحسي المزمن أصبح الكذب وسيلتي المفضلة للدفاع عن النفس.
الشاب :
أكنت تعرفني؟
الرجل :
كلا.
الشاب :
لم تبعتني؟
الرجل :
إني أهيم على وجهي من مطلع الصبح فأتبع أول من يصادفني.
الشاب :
أيا كان؟
الرجل :
أيا كان.
الشاب :
كل يوم؟
الرجل :
كل يوم.
الشاب :
أليس لك عمل في الحياة؟
الرجل :
ليس لي عمل.
الشاب :
ثري؟
الرجل :
موفور الإيراد.
الشاب :
ما قصدك من مطاردتي؟
الرجل :
أتصيد لحظة للتعارف.
الشاب :
أليس لك أصدقاء؟ (صمت.)
الرجل :
وآمل من وراء التعارف أن أحطم أسطورة النحس.
الشاب (ضاحكا ضحكة مكفهرة) :
الآن وقفت على سر الحظ العاثر الذي لازمني طيلة يومي.
الرجل :
لا تكن كالآخرين.
الشاب :
في ميدان القلعة زلت قدمي فوقعت على ركبتي.
الرجل (باسما) :
كنت تنظر إلى امرأة في نافذة.
الشاب :
وفي المطعم شرقت حتى قذفت بما في معدتي.
الرجل :
كنت تأكل بسرعة كأنك في سباق!
الشاب :
وفي مقهى الشمس خسرت نقودي.
الرجل :
كنت تبلف باستمرار حتى كشف ورقك.
الشاب :
وفي دار الآثار وقعت على ركبتي المصابة للمرة الثانية.
الرجل :
كنت شارد اللب وتحادث نفسك.
الشاب :
وأخيرا أفسدت علي أجمل ثمرة في يومي.
الرجل :
ألم توقظني من النوم بنفسك؟ (الشاب يعاود ضحكته المكفهرة ثم يسود الصمت.)
الشاب :
أليس لك أصدقاء؟
الرجل (متنهدا) :
كلا.
الشاب :
ألست رب أسرة؟
الرجل :
جربت حظي مرات ولكني لم أوفق!
الشاب (يضحك رغما عنه) :
لا مؤاخذة.
الرجل :
العفو.
الشاب :
أظن آن لي أن أذهب.
الرجل (يتوسل) :
كلا.
الشاب :
ليس ثمة ما يدعوني إلى البقاء.
الرجل :
فلنشهد الغروب معا.
الشاب :
لا أحب الغروب.
الرجل :
ثم نذهب إلى حانة «الأحمر والأبيض».
الشاب :
لن أذهب!
الرجل :
إذا كنت مفلسا فلا يهمك.
الشاب :
لن أذهب.
الرجل :
تكره مرافقتي؟
الشاب :
نعم.
الرجل :
لا تجعل للخرافة سيطرة عليك.
الشاب (محتدا) :
إنك وراء ما فقدت من صحة ومال وحب!
الرجل :
أقلع عن الخرافات.
الشاب :
أقلع أنت عن نحسك.
الرجل :
أتوسل إليك أن تبقى ولو حتى ساعة الغروب فحسب.
الشاب :
وداعا. (الشاب يمضي صوب الخارج بعزم وصرامة، الآخر ينظر إليه بأسف، عند منتصف المسافة يتوقف الشاب فجأة، ويعلو صوته بالتأوه، ثم ينحني قابضا بيديه على ركبته، الرجل يلحق به متسائلا.)
الرجل :
مالك؟
الشاب :
ركبتي!
الرجل :
مد ساقك، دلكها.
الشاب :
نار .. نار موقدة! (يثب راجعا على قدمه الأخرى حتى يجلس في أسفل الهضبة، يمد ساقه السليمة ويثني الأخرى، ثم يتأوه من الأعماق.)
الرجل :
ماذا حدث؟ .. كنت في غاية الصحة!
الشاب :
الحق أنها لم تعد إلى حالتها الطبيعية أبدا!
الرجل :
لكنك لم تشك طيلة الوقت.
الشاب :
كان يعاودني ألم خفيف فظننته عابرا.
الرجل :
حالة طارئة لا تلبث أن تزول.
الشاب :
لعل وعسى.
الرجل :
من المفيد أن تدلكها.
الشاب :
لا أستطيع لمسها!
الرجل :
حال بسيطة فيما أعتقد.
الشاب (متأوها) :
قلبي يحدثني بأن الأمر أخطر مما تتصور.
الرجل :
لا تعتمد كثيرا على حديث قلبك.
الشاب :
صدقني فإن الحال خطيرة حقا.
الرجل :
أرجو أن تكون واهما.
الشاب :
أريد إسعافا عاجلا!
الرجل :
سأذهب لاستدعاء الإسعاف.
الشاب :
وتعود بسرعة من فضلك.
الرجل :
لا أظن؛ فإن أقرب تليفون يقع على مسيرة غير قصيرة.
الشاب (بقلق) :
لا تتركني وحدي طويلا.
الرجل :
ماذا تخاف؟
الشاب :
المساء قريب، وهذه بقعة غير مأمونة لإنسان عاجز.
الرجل :
وما الحل؟
الشاب :
هل يمكن أن أسير معتمدا عليك؟
الرجل :
سأضطر إلى حملك وهو ما أعجز عنه، جرب أن تسير على مهل.
الشاب :
الحال أخطر مما تتصور.
الرجل :
لا بد من حل، وبخاصة أنني لن أبقى بعد الغروب.
الشاب :
ولكنك لن تتركني وحدي!
الرجل :
أخشى أن أضطر إلى ذلك إذا لم تسعفني بحل. (صمت وتأوه.)
الشاب :
ولكنك لن تفعل ذلك.
الرجل :
لا يمكن أن أبقى هنا إلى ما شاء الله، ولكني سأتلفن للإسعاف في طريق العودة. (الشاب يرمقه بنظرة صامتة متألمة)
سأفعل من أجلك ما لا تنتظره من رجل لا تعرفه ولا يعرفك.
الشاب (بحياء) :
حدثتني عن رغبتك في الصداقة وأمامك فرصة لربطنا برباط المودة إلى الأبد.
الرجل (بشيء من الجفاف) :
ولكنك رفضت يدي!
الشاب :
اغفر لي غضبي الأحمق!
الرجل :
الحق أنك كرهتني طوال الوقت.
الشاب :
الإنسان عدو ما يجهله، ولكني سأعرفك من خلال سلوكك النبيل.
الرجل (بنبرة لم يعد بها أثر من الرقة القديمة) :
لا أقبل اصطياد صداقة تحت وطأة ظروف قاهرة.
الشاب (بضراعة) :
ولكنك إنسان كبير القلب.
الرجل :
أول كلمة طيبة أسمعها منك. (صمت.)
الشاب :
ماذا تنوي أن تفعل؟
الرجل :
سأشاهد المغيب ثم أذهب.
الشاب :
وتتركني عاجزا للخلاء والليل؟
الرجل :
لا حيلة لي في ذلك.
الشاب :
سيكون سلوكك غير إنساني.
الرجل :
لم ألق من السير وراء الناس إلا الصد والاتهام واللعنة! (الشاب يتأوه)
أأنا الذي خلقت النحس حقا؟! (الشاب يتأوه) كيف تعاملون التربي؟ .. إنه يواري جثتكم في التراب، يصون كرامتكم، يعرض نفسه لألوان شتى من المخاطر، ويستحق في أحاديثكم التقليدية الجنة بغير حساب، ولكنه لا يسعد في حياته بصديق واحد، ويمضي وحيدا كالوباء.
الشاب :
الوقت يمر والحال تزداد سوءا.
الرجل :
كم صددتني! كم أهنتني! ولم تصدق أنني إنسان إلا بعد إصابتك وقبيل الغروب.
الشاب :
يا لسوء حظي!
الرجل :
ها أنت تعود إلى اتهامي.
الشاب :
لم أقصد هذا ألبتة.
الرجل :
ألست النحس الذي سلبك المال والحب والصحة؟
الشاب :
سيدي!
الرجل :
أين فتاتك؟
الشاب :
لا سبيل إليها الآن.
الرجل :
أليست هي أولى بتمريضك مني؟
الشاب :
إنها لا تعلم بما حل بي.
الرجل :
زهدت لوجودي في وصالك نفسه.
الشاب : (متأوها) أريد إسعافا.
الرجل :
سأتلفن للإسعاف في طريق العودة.
الشاب :
لا تتركني.
الرجل (متأففا) :
إنك مزعج في مرضك كما كنت مزعجا في صحتك.
الشاب :
ألا ترى كم أنهكني المرض؟
الرجل :
ألا ترى كم أنهكني السير؟ (صمت.)
الشاب :
أليس لك خبرة بالإسعافات الأولية؟
الرجل :
لا خبرة لي بشيء.
الشاب :
ولكنك في سن الحكمة والخبرة.
الرجل :
أعرف كيف أسير على غير هدى، وأعرف كيف أسير في أعقاب إنسان أحمق، وأعرف كيف آمل دواما في علاقة لا تتحقق أبدا.
الشاب (بضراعة متأوهة) :
لا تذهب.
الرجل :
سأذهب عندما يجب الذهاب.
الشاب :
لا تذهب.
الرجل :
اعتدت أن يقال لي اذهب عندما أرغب في البقاء، وأن يقال لي لا تذهب عندما يجب الذهاب. (الشاب يتأوه، جو المغيب يهبط فيغطي الخلاء، الرجل يمضي إلى يسار الهضبة ليتطلع إلى الشمس الغاربة.)
الشاب :
لا تبتعد عن إنسان يتألم لتشاهد شمسا تغرب.
الرجل :
صه، لا تكدر صفو الساعة؛ الساعة الفريدة، الوحيدة التي تلمس فيها حركة الشمس، الوحيدة التي تنظر فيها إلى الشمس دون أن تصاب بالعمى، الوحيدة التي يرى فيها الظلام وهو يزحف، الوحيدة التي أسمع فيها التوسلات بدلا من اللعنات، ها هي الشمس تختفي تماما. (الرجل يتحول عن موقفه متجها نحو الشاب ويرنو إليه دقيقة.)
الرجل :
الوداع. (ثم يسير على مهل نحو الخارج.)
الشاب :
لا تذهب (يواصل السير غير ملتفت إليه)
أستحلفك بالله. (يواصل سيره)
انتظر! انتظر! (الرجل يختفي)
عليك اللعنة! (الشاب ينظر فيما حوله بخوف، الظلام يهبط رويدا رويدا حتى يختفي كل شيء)، (تمر فترة قصيرة على تلك الحال) (ثم تترامى أضواء من وراء الهضبة، ويسمع وقع أقدام قادمة. من يمين الهضبة ومن يسارها يجيء رجلان حاملين مشعلين، يرتدي كل منهما سروالا وصدارا أحمرين، يقفان على مبعدة من الشاب إلى اليمين وإلى اليسار، ويلازمان الصمت طوال الوقت. يبدو الشاب على ضوء المشعلين مستغرقا في النوم، ثم يتبعهما رجلان في أردية سوداء يحمل كل منهما سوطا وحبلا معقودا، يقفان عن يمين الشاب ويساره وهما يحملقان في وجهه، يوثقان يديه وقدميه بإحكام، ثم يعودان إلى وقفتهما ممعنين فيه النظر، الشاب يفتح عينيه، ينظر إلى الأمام في ذهول. يهم بالحركة فيدرك أنه مكبل بالحبال، ثم ينتبه إلى وجود الرجال الأربعة، يردد عينيه بينهم في دهشة ووجل)
من أنتم؟ وماذا تريدون؟
الرجل 1 (للرجل رقم 2 في تهكم) :
إنه لا يعرفنا!
الرجل 2 (في تهكم أيضا) :
طبعا. إنه يرانا لأول مرة.
الرجل 1 (للشاب) :
أليس كذلك أيها المخادع المارق!
الرجل 2 :
أنت لا تعرفنا، هه؟
الشاب :
آسف، لم أكن أفقت من النوم بعد. (يركلانه بقدميهما فيصرخ.)
الشاب :
الرحمة.
الرجل 1 (ضاحكا) :
ابن الأبالسة يطلب الرحمة!
الشاب :
لا تحكموا علي بالظواهر، أنا بريء ...
الرجل 2 :
نفس الكلمات، لا جديد، نفس الأكاذيب العفنة!
الشاب :
كنت دائما حسن النية، ولكن الزمن عنيد.
الرجل 1 :
الزمن، الزمن، ذلك المتهم الوهمي.
الشاب :
الرحمة.
الرجل 2 :
الرحمة؟
الشاب :
العدل.
الرجل 1 :
لا يدري ماذا يطلب!
الشاب :
الرحمة والعدل.
الرجل 2 :
قلت الرحمة ثم العدل، فماذا تطلب الرحمة أم العدل؟
الشاب :
الرحمة والعدل.
الرجل 1 :
لا تكن طماعا.
الرجل 2 :
نحن لا نعطي عادة إلا الموت.
الرجل 1 :
والرحمة والعدل لا يجتمعان.
الشاب :
ولم لا يجتمعان؟ (يركلانه مرة ثانية فيصرخ.)
الرجل 1 :
هذا التأديب عدل لأنك تستحقه، فكيف يمكن أن تعامل بالرحمة في الوقت نفسه؟!
الرجل 2 :
حدد أفكارك عما تريد، العدل أم الرحمة؟
الرجل 1 (بحدة) :
العدل أم الرحمة؟
الشاب :
الرحمة، لعل الرحمة هي ما أريد.
الرجل 1 :
ألست على يقين مما تريد؟
الشاب :
لست على يقين من شيء، لقد أنهكني التعب.
الرجل 2 :
ألم تبدد الوقت بغير حساب؟
الشاب :
يلزمني شيء من الراحة لأحسن الإجابة، فكوا قيودي لأحظى ببعض الحرية.
الرجل 1 (ضاحكا) :
ها هو ينادي بالحرية كمطلب جديد!
الرجل 2 :
الحرية بعد العدل والرحمة!
الشاب :
أليست جميعها أخوات لا يفترقن؟
الرجل 1 :
ابن الأبالسة عقد بينها أواصر القربى ليطالب بالدنيا والآخرة!
الرجل 2 :
استمر في الطلب إلى غير نهاية، وبلا حياء، ماذا تريد أيضا؟ ثورة؟ صحة؟ جاه؟ ما رأيك في الحب؟ الذرية؟ طاقية الاختفاء؟ جناحين للطيران؟ هرمونات لتجديد الشباب؟ مهضمات وملينات ومسهلات؟ فاتحات شهية؟ جواز سفر إلى جميع البلدان؟ ماذا تريد أيضا؟
الشاب :
بعض الرفق، نحن إخوة.
الرجل 1 :
إخوة! من ناحية الأب أم من ناحية الأم؟!
الشاب :
أعني أننا جميعا بشر.
الرجل 1 :
تريد أن تستغلنا باسم البشرية، هه؟ ولأنك تتكون من نفس العناصر التي يتكون منها الكون فسوف تحاول استغفال الكون كله، ماذا تريد أيضا؟
الشاب :
إني متألم فكوا قيودي.
الرجل 2 :
تريد الحرية؟
الرجل 1 :
إن كنت تريد الحرية فاختر بنفسك الوسيلة التي نقتلك بها.
الشاب :
لا تسخروا مني، لا تعارض يا سادة بين الحرية والعدل والرحمة!
الرجل 1 :
كذبت، كل واحدة منها تستورد من بلد غير البلد التي تستورد منه الأخرى.
الرجل 2 :
ويؤدى ثمنها الباهظ بالعملة الصعبة.
الشاب :
إني متألم لحد العجز.
الرجل 1 :
الحرية، أم العدل، أم الرحمة؟
الرجل 2 :
نريد جوابا صريحا غير متردد.
الرجل 1 :
جواب صريح لا رجعة فيه.
الرجل 2 :
إن أردت الرحمة قتلناك بلا تحقيق، وإن أردت العدل قتلناك بعد تحقيق، وإن أردت الحرية فاقتل نفسك بالوسيلة التي تفضلها!
الرجل 1 :
ماذا تريد؟ تكلم بوضوح وصراحة، العدل أم هرمونات تجديد الشباب؟ الرحمة أم جواز سفر إلى جميع البلدان؟ الحرية أم أملاح الفواكه الفوارة؟ ما طريقة القتل المفضلة لديك؟ ألك وصية بما يتعلق بجثتك؟ .. أترغب في دفنها؟ في حرقها؟ في تركها في الخلاء؟ في شحنها إلى بلد معين؟
الرجل 2 :
ماذا تريدنا على أن نفعل بالذرات التي يتكون منها جسدك؟ أن نتركها للديدان؟ أن نهبها للجمعية الطبية؟ أن نصنع منها قنابل مدمرة؟
الشاب :
لا سبيل إلى التفاهم فيما بيننا . (يركلانه فيصرخ.)
الرجل 1 :
لقد بددت وقتنا سدى، ألهذا أرسلناك؟
الشاب :
أرسلتموني؟ متى كان ذلك؟ لم يرسلني أحد!
الرجل 2 :
يا لك من كذاب مخادع! (يركلانه فيصرخ.)
الرجل 1 :
أحقا لم يرسلك أحد؟
الشاب :
معذرة، ضعفت ذاكرتي من المرض والإنهاك، معذرة.
الرجل 2 :
أم تريد أن تتنصل من المهمة التي كلفت بها؟
الشاب :
المهمة؟
الرجل 2 :
المهمة التي كلفت بها!
الشاب :
أي مهمة؟
الرجل 2 :
يا لك من كذاب مخادع! (يضربه بالسوط؛ الشاب يصرخ.)
الرجل 1 :
وإلا فلماذا أرسلناك؟
الشاب :
أنتم صادقون وأنا معذور؛ الزحام هناك شديد، والأصوات مزعجة، وعملي اليومي استغرق جل وقتي.
الرجل 1 :
وما عملك اليومي؟
الشاب :
مدرس تاريخ.
الرجل 2 :
حدثنا عن دروسك، ماذا فعل الإنسان القديم؟
الشاب :
اكتشف الزراعة، صنع التقويم، بنى الأهرام، هزم وانهزم ...
الرجل 1 :
ألم يذكرك شيء من ذلك بمهمتك؟
الشاب :
كنت مستغرقا طوال الوقت.
الرجل 1 :
ألم تخطر بذاكرتك ولو كالهمس؟ (الشاب يصمت، الرجل 1 يضربه بالسوط فيصرخ متوجعا.)
الرجل 2 :
اعترف.
الشاب :
اللعنة على ذاكرة لا تسعف صاحبها بما يجب أن يتذكره.
الرجل 1 :
كذاب!
الرجل 2 :
اعترف بأنك تجنبت ذكر ما يجر عليك المتاعب.
الرجل 1 :
مخادع جبان.
الشاب :
جربوني مرة أخرى!
الرجل 1 :
لتعبث بنا مرة أخرى.
الشاب :
أعطوني رسالة مكتوبة كي لا أنسى.
الرجل 2 :
وكيف نحيط بالظروف المتقلبة التي تواجهك؟
الشاب :
الزحام هناك شديد وهو خليق بأن يشتت الذاكرة. (الرجل 2 يضربه بالسوط، الشاب يصرخ.)
الرجل 1 :
ماذا فعلت بيومك الطويل؟ لم قصدت ميدان القلعة؟
الشاب :
كنت أسير على غير هدى.
الرجل 1 :
تسير على غير هدى وأنت لم ترسل إلى هناك إلا لمهمة؟
الشاب :
كان اليوم عطلة.
الرجل 2 :
ألم تقل لك القلعة شيئا يذكرك بمهمتك؟
الشاب :
زلت قدمي فوقعت على ركبتي. (الرجل 2 يضربه بالسوط فيصرخ الشاب.)
الرجل 2 :
ألم يوح المطعم لك بشيء؟ ولا المقهى؟ ولا دار الآثار؟ ولا صالة المزاد؟ ولا عيادة الطبيب؟ (الشاب يصمت في يأس.)
الرجل 2 :
وماذا جاء بك إلى الخلاء؟
الشاب :
فتاة.
الرجل 2 :
ولم اخترت للقاء مكانا هو أصلح لدفن الموتى؟ (صمت)
لم يذكرك اللقاء بشيء عن مهمتك؟
الشاب :
ثمة رجل كريه كان يتبعني طول الوقت فشتت فكري.
الرجل 1 :
حتى ذلك الرجل لم يذكرك بشيء!
الشاب :
هو النحس نفسه، وقد أفسد كل شيء. (الرجل 1 يضربه بالسوط فيصرخ الشاب.)
الرجل 1 :
ضيعت وقتك ووقتنا يا جبان.
الرجل 2 :
وكانت الفرص تناديك من كل جانب يا أعمى.
الرجل 1 :
ولم نبخل عليك بالتحذير تلو التحذير.
الشاب :
ما تلقيت تحذيرا قط.
الرجل 1 :
كذاب، غبي، أعمى.
الشاب :
الرحمة!
الرجل 2 :
الرحمة أم العدل أم الحرية؟
الرجل 1 :
أم فاتحات الشهية، أم هرمونات الشباب؟ (يضربان معا بالسوط وهو يصرخ متوجعا.) (الرجل 1 يشير إشارة خاصة إلى الرجلين حاملي المشعلين، الرجل 1 والرجل 2 يذهبان إلى مكانهما الأول وراء الهضبة.)
حامل المشعل (مخاطبا الشاب) :
لم تحن أسراب الطيور المهاجرة إلى أعشاشها التي تركتها في الجبل؟ (يحمل الشاب بين يديه ثم يقول له)
تذكر أن الطفل يبكي حين تنحيه أمه عن ثديها الأيمن، ولكنه يجد في اللحظة التالية سلوه في ثديها الأيسر. (يمضي حامل المشعلين في مشية متمهلة، والآخر يتبعه حاملا الشاب بين يديه.) (ستار)
صفحه نامشخص