في هذه الآونة فترت الهمم، وتقاعست عن طرق باب الاجتهاد، وماتت في الناس روح الاستقلال الفكري، ورضوا لأنفسهم أن يكونوا أتباعًا لغيرهم، وأصبح العلماء عالة على فقه أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأضرابهم مما كانت مذاهبهم متداولة إذ ذاك، والتزم كل منهم لنفسه مذهبًا لا يتعداه. وصار مريد الفقه يتلقى كتاب إمام معين ويدرس طريقته التي استنبط بها ما دَوَّنه من الأحكام، فإذا تم له ذلك صار من الفقهاء. لذا قصر الاجتهاد عن مسايرة التطورات في المعاملات والوقائع، وكان ذلك نتيجة طبيعية للعوامل التي طرأت على الدولة الإسلامية فأصبحت دويلات يتناحر من أجلها ملوكها وولاتها.
والصحيح الذي لا ينكره أحد أنه كان لعلماء هذه المرحلة رغم تحجر الأفكار وسيطرة التقليد، وضعف روحا الابتكار والاستنباط، كانت لهم أعمال جليلة، تتضمن جمع الآثار، والترجيح بين الروايات، وتخريج علل الأحكام، كما استخرجوا من شتى المسائل والفروع أصول أئمتهم وقواعدهم التي بنوا عليها فتاويهم وقد أفتى هؤلاء العلماء في مسائل كثيرة لم يكن لأئمتهم فيها نص ولكن حسب أصولهم، وبالقياس على فروعهم، كما قاموا بالترجيح بين أقوال أئمتهم والتنبيه على مسالك التعليل ومدارك الأدلة، وبيان تنزيل الفروع على الأصول.
ويمكن أن نقسم المرحلة التي تلت هذا العهد إلى مرحلتين:
١ - مرحلة تبدأ من عصر التقليد هذا إلى نهاية القرن العاشر، ونلمح في هذه المرحلة ظهور عدد من الفقهاء الأعلام؛ كالسبكي، والرملي، والكمال بن الهمام، وابن الرفعة، والسيوطي وغيرهم وكان لهؤلاء الأعلام ملكات استنباطية وجّهوها للتأليف والتحرير، ونحا أغلبهم منحى الاختصار وجمع الفروع الكثيرة في عبارات تشبه الألغاز، مما احتاجت إلى شروح لإيضاح مبهمها، وغلبت روح الاختصار على تلك الشروح، فمست الحاجة إلى التعليق عليها، وهكذا اشتغل الناس في حل العبارات والألفاظ مما أبعدهم عن لب العلم وجوهره، ففسدت الاستعدادات وماتت المواهب.
٢ - المرحلة الثانية تبدأ من القرن العاشر إلى الآن، وفيه ساءت حال الفقه كثيرًا؛ لأن العلماء صرفوا جهودهم إلى دراسة الكتب السابقة وقطعوا صلتهم بتلك الكتب النفيسة القيمة التي خلفها المتقدمون. وقد انقطعت الصلة في هذا العهد بين علماء الأمصار الإسلامية، وقلت الرحلات العلمية لملاقاة العلماء في مختلف البلدان، كما أن كثرة التآليف والتصانيف أدى إلى الاشتباه والاختلاط، وعاق طلاب العلم عن الاجتهاد، وادعاه من هو ليس بأهله، وتصدى له جهال، عبثوا بنصوص الشريعة ومصالحهم.
وبالجملة، فقد أقفل باب الاجتهاد، وطغى التقليد والجمود، حتى ضجَّ الناس من
1 / 32