تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
ژانرها
لاشتمالها على ما تنكره النفوس ولا تعرفه العقول على طريقة المنع مع السند باصطلاح فن المناظرة وهذه البينة هي المعجزة، بيان ذلك أن دعوى النبوة والرسالة من كل نبي ورسول على ما يقصه القرآن إنما كانت بدعوى الوحي والتكليم الإلهي بلا واسطة أو بواسطة نزول الملك، وهذا أمر لا يساعد عليه الحس ولا تؤيده التجربة فيتوجه عليه الإشكال من جهتين: إحداهما من جهة عدم الدليل عليه، والثانية من جهة الدليل على عدمه، فإن الوحي والتكليم الإلهي وما يتلوه من التشريع والتربية الدينية مما لا يشاهده البشر من أنفسهم، والعادة الجارية في الأسباب والمسببات تنكره فهو أمر خارق للعادة، وقانون العلية العامة لا يجوزه، فلو كان النبي صادقا في دعواه النبوة والوحي كان لازمه أنه متصل بما وراء الطبيعة، مؤيد بقوة إلهية تقدر على خرق العادة وأن الله سبحانه يريد بنبوته والوحي إليه خرق العادة، فلو كان هذا حقا ولا فرق بين خارق وخارق كان من الممكن أن يصدر من النبي خارق آخر للعادة من غير مانع وأن يخرق الله العادة بأمر آخر يصدق النبوة والوحي من غير مانع عنه فإن حكم الأمثال واحد فلئن أراد الله هداية الناس بطريق خارق للعادة وهو طريق النبوة والوحي فليؤيدها وليصدقها بخارق آخر وهو المعجزة.
وهذا هو الذي بعث الأمم إلى سؤال المعجزة على صدق دعوى النبوة كلما جاءهم رسول من أنفسهم بعثا بالفطرة والغريزة وكان سؤال المعجزة لتأييد الرسالة وتصديقها لا للدلالة على صدق المعارف الحقة التي كان الأنبياء يدعون إليها مما يمكن أن يناله البرهان كالتوحيد والمعاد، ونظير هذا ما لو جاء رجل بالرسالة إلى قوم من قبل سيدهم الحاكم عليهم ومعه أوامر ونواه يدعيها للسيد فإن بيانه لهذه الأحكام وإقامته البرهان على أن هذه الأحكام مشتملة على مصلحة القوم وهم يعلمون أن سيدهم لا يريد إلا صلاح شأنهم، إنما يكفي في كون الأحكام التي جاء بها حقة صالحة للعمل، ولا تكفي البراهين والأدلة المذكورة في صدق رسالته وأن سيدهم أراد منهم بإرساله إليهم ما جاء به من الأحكام بل يطالبونه ببينة أو علامة تدل على صدقه في دعواه ككتاب بخطه وخاتمه يقرءونه، أو علامة يعرفونها، كما قال المشركون للنبي: "حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه": إسراء - 93.
فقد تبين بما ذكرناه أولا: التلازم بين صدق دعوى الرسالة وبين المعجزة وأنها الدليل على صدق دعواها لا يتفاوت في ذلك حال الخاصة والعامة في دلالتها وإثباتها، وثانيا أن ما يجده الرسول والنبي من الوحي ويدركه منه من غير سنخ ما نجده بحواسنا وعقولنا النظرية الفكرية، فالوحي غير الفكر الصائب وهذا المعنى في كتاب الله تعالى من الوضوح والسطوع بحيث لا يرتاب فيه من له أدنى فهم وأقل إنصاف.
وقد انحرف في ذلك جمع من الباحثين من أهل العصر فراموا بناء المعارف الإلهية والحقائق الدينية على ما وصفه العلوم الطبيعية من أصالة المادة المتحولة المتكاملة فقد رأوا أن الإدراكات الإنسانية خواص مادية مترشحة من الدماغ وأن الغايات الوجودية وجميع الكمالات الحقيقية استكمالات فردية أو اجتماعية مادية.
فذكروا أن النبوة نوع نبوغ فكري وصفاء ذهني يستحضر به الإنسان المسمى نبيا كمال قومه الاجتماعي ويريد به أن يخلصهم من ورطة الوحشية والبربرية إلى ساحة الحضارة والمدنية فيستحضر ما ورثه من العقائد والآراء ويطبقها على مقتضيات عصره ومحيط حياته، فيقنن لهم أصولا اجتماعية وكليات عملية يستصلح بها أفعالهم الحيوية ثم يتمم ذلك بأحكام وأمور عبادية ليستحفظ بها خواصهم الروحية لافتقار الجامعة الصالحة والمدنية الفاضلة إلى ذلك ويتفرع على هذا الافتراض: أولا: أن النبي إنسان متفكر نابغ يدعو قومه إلى صلاح محيطهم الاجتماعي.
وثانيا: أن الوحي هو انتقاش الأفكار الفاضلة في ذهنه.
وثالثا: أن الكتاب السماوي مجموع هذه الأفكار الفاضلة المنزهة عن التهوسات النفسانية والأغراض النفسانية الشخصية.
صفحه ۴۶