تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
ژانرها
على أن أصل هذه الأمور أعني المعجزات ليس مما تنكره عادة الطبيعة بل هي مما يتعاوره نظام المادة كل حين بتبديل الحي إلى ميت والميت إلى الحي وتحويل صورة إلى صورة وحادثة إلى حادثة ورخاء إلى بلاء وبلاء إلى رخاء، وإنما الفرق بين صنع العادة وبين المعجزة الخارقة هو أن الأسباب المادية المشهودة التي بين أيدينا إنما تؤثر أثرها مع روابط مخصوصة وشرائط زمانية ومكانية خاصة تقضي بالتدريج في التأثير، مثلا العصا وإن أمكن أن تصير حية تسعى والجسد البالي وإن أمكن أن يصير إنسانا حيا لكن ذلك إنما يتحقق في العادة بعلل خاصة وشرائط زمانية ومكانية مخصوصة تنتقل بها المادة من حال إلى حال وتكتسي صورة بعد صورة حتى تستقر وتحل بها الصورة الأخيرة المفروضة على ما تصدقه المشاهدة والتجربة لا مع أي شرط اتفق أو من غير علة أو بإرادة مريد كما هو الظاهر من حال المعجزات والخوارق التي يقصها القرآن.
وكما أن الحس والتجربة الساذجين لا يساعدان على تصديق هذه الخوارق للعادة كذلك النظر العلمي الطبيعي، لكونه معتمدا على السطح المشهود من نظام العلة والمعلول الطبيعيين، أعني به السطح الذي يستقر عليه التجارب العلمي اليوم والفرضيات المعللة للحوادث المادية.
إلا أن حدوث الحوادث الخارقة للعادة إجمالا ليس في وسع العلم إنكاره والستر عليه، فكم من أمر عجيب خارق للعادة يأتي به أرباب المجاهدة وأهل الارتياض كل يوم تمتلىء به العيون وتنشره النشريات ويضبطه الصحف والمسفورات بحيث لا يبقى لذي لب في وقوعها شك ولا في تحققها ريب.
وهذا هو الذي ألجأ الباحثين في الآثار الروحية من علماء العصر أن يعللوه بجريان أمواج مجهولة إلكتريسية مغناطيسية فافترضوا أن الارتياضات الشاقة تعطي للإنسان سلطة على تصريف أمواج مرموزة قوية تملكه أو تصاحبه إرادة وشعور وبذلك يقدر على ما يأتي به من حركات وتحريكات وتصرفات عجيبة في المادة خارقة للعادة بطريق القبض والبسط ونحو ذلك.
وهذه الفرضية لو تمت واطردت من غير انتقاض لأدت إلى تحقق فرضية جديدة وسيعة تعلل جميع الحوادث المتفرقة التي كانت تعللها جميعا أو تعلل بعضها الفرضيات القديمة على محور الحركة والقوة ولساقت جميع الحوادث المادية إلى التعلل والارتباط بعلة واحدة طبيعية.
فهذا قولهم والحق معهم في الجملة إذ لا معنى لمعلول طبيعي لا علة طبيعية له مع فرض كون الرابطة طبيعية محفوظة، وبعبارة أخرى إنا لا نعني بالعلة الطبيعية إلا أن تجتمع عدة موجودات طبيعية مع نسب وروابط خاصة فيتكون منها عند ذلك موجود طبيعي جديد حادث متأخر عنها مربوط بها بحيث لو انتقض النظام السابق عليه لم يحدث ولم يتحقق وجوده.
وأما القرآن الكريم فإنه وإن لم يشخص هذه العلة الطبيعية الأخيرة التي تعلل جميع الحوادث المادية العادية والخارقة للعادة على ما نحسبه بتشخيص اسمه وكيفية تأثيره لخروجه عن غرضه العام إلا أنه مع ذلك يثبت لكل حادث مادي سببا ماديا بإذن الله تعالى، وبعبارة أخرى يثبت لكل حادث مادي مستند في وجوده إلى الله سبحانه والكل مستند مجرى ماديا وطريقا طبيعيا به يجري فيض الوجود منه تعالى إليه.
قال تعالى: "ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا": الطلاق - 3، فإن صدر الآية يحكم بالإطلاق من غير تقييد أن كل من اتقى الله وتوكل عليه وإن كانت الأسباب العادية المحسوبة عندنا أسبابا تقضي بخلافه وتحكم بعدمه فإن الله سبحانه حسبه فيه وهو كائن لا محالة، كما يدل عليه أيضا إطلاق قوله تعالى: "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان": البقرة - 186، وقوله تعالى: "ادعوني أستجب لكم": المؤمن - 60، وقوله تعالى: "أليس الله بكاف عبده": الزمر - 36.
ثم الجملة التالية وهي قوله تعالى: "إن الله بالغ أمره": الطلاق - 3، يعلل إطلاق الصدر، وفي هذا المعنى قوله: "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون": يوسف - 21، وهذه جملة مطلقة غير مقيدة بشيء البتة فلله سبحانه سبيل إلى كل حادث تعلقت به مشيته وإرادته وإن كانت السبل العادية والطرق المألوفة مقطوعة منتفية هناك.
صفحه ۴۰