189

تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي

تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي

ژانرها

تفسیر

وتخصيص رسول الله بالحكم أولا بقوله فول وجهك، ثم تعميم الحكم له ولغيره من المؤمنين بقوله وحيث ما كنتم يؤيد أن القبلة حولت، ورسول الله قائم يصلي في المسجد - والمسلمون معه - فاختص الأمر به، أولا في شخص صلاته ثم عقب الحكم العام الشامل له ولغيره، ولجميع الأوقات والأمكنة قوله تعالى: وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم، وذلك لاشتمال كتابهم على صدق نبوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو كون قبلة هذا النبي الصادق هو شطر المسجد الحرام، وأيا ما كان فقوله: أوتوا الكتاب، يدل على اشتمال كتابهم على حقية هذا التشريع، إما مطابقة أو تضمنا، وما الله بغافل عما يعملون من كتمان الحق، واحتكار ما عندهم من العلم.

قوله تعالى: ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية، تقريع لهم بالعناد واللجاج، وأن إباءهم عن القبول ليس لخفاء الحق عليهم، وعدم تبينه لهم، فإنهم عالمون بأنه حق علما لا يخالطه شك، بل الباعث لهم على بث الاعتراض وإثارة الفتنة عنادهم في الدين وجحودهم للحق، فلا ينفعهم حجة، ولا يقطع إنكارهم آية، فلو أتيتهم بكل آية ما تبعوا قبلتك لعنادهم وجحودهم، وما أنت بتابع قبلتهم، لأنك على بينة من ربك، ويمكن أن يكون قوله: وما أنت نهيا في صورة خبر، وما بعضهم بتابع قبلة بعض، وهم اليهود يستقبلون صخرة بيت المقدس أينما كانوا، والنصارى يستقبلون المشرق أينما كانوا، فلا هذا البعض يقبل قبلة ذاك البعض، ولا ذاك يقبل قبلة هذا اتباعا للهوى.

قوله تعالى: ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم، تهديد للنبي، والمعنى متوجه إلى أمته، وإشارة إلى أنهم في هذا التمرد إنما يتبعون أهواءهم وأنهم بذلك ظالمون.

قوله تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، الضمير في قوله يعرفونه، راجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دون الكتاب، والدليل عليه تشبيه هذه المعرفة بمعرفة الأبناء، فإن ذلك إنما يحسن في الإنسان، ولا يقال في الكتاب، أن فلانا يعرفه أو يعلمه، كما يعرف ابنه، على أن سياق الكلام - وهو في رسول الله، وما أوحي إليه من أمر القبلة، أجنبي عن موضوع الكتاب الذي أوتيه أهل الكتاب، فالمعنى أن أهل الكتاب يعرفون رسول الله بما عندهم من بشارات الكتب كما يعرفون أبناءهم، وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون.

وعلى هذا ففي الكلام التفات من الحضور إلى الغيبة في قوله يعرفونه، فقد أخذ رسول الله غائبا، ووجه الخطاب إلى المؤمنين بعد ما كان (صلى الله عليه وآله وسلم) حاضرا، والخطاب معه، وذلك لتوضيح: أن أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) واضح ظاهر عند أهل الكتاب، ومثل هذا النظم كمثل كلام من يكلم جماعة لكنه يخص واحدا منهم بالمخاطبة إظهارا لفضله، فيخاطبه ويسمع غيره، فإذا بلغ إلى ما يخص شخص المخاطب من الفضل والكرامة، عدل عن خطابه إلى مخاطبة الجماعة، ثم بعد الفراغ عن بيان فضله عدل ثانيا إلى ما كان فيه أولا من توجيه الخطاب إليه وبهذا يظهر نكتة الالتفات.

قوله تعالى: الحق من ربك فلا تكونن من الممترين، تأكيد للبيان السابق وتشديد في النهي عن الامتراء، وهو الشك والارتياب، وظاهر الخطاب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعناه للأمة.

قوله تعالى: ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات، الوجهة ما يتوجه إليه كالقبلة، وهذا رجوع إلى تلخيص البيان السابق، وتبديل له من بيان آخر يهدي الناس إلى ترك تعقيب أمر القبلة، والإكثار من الكلام فيه، والمعنى أن كل قوم فلهم قبلة مشرعة على حسب ما يقتضيه مصالحهم وليس حكما تكوينيا ذاتيا لا يقبل التغيير والتحويل، فلا يهم لكم البحث والمشاجرة، فيه فاتركوا ذلك واستبقوا الخيرات وسارعوا إليها بالاستباق، فإن الله سيجمعكم إلى يوم لا ريب فيه، وأينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير.

واعلم أن الآية كما أنها قابلة الانطباق على أمر القبلة لوقوعها بين آياتها كذلك تقبل الانطباق على أمر التكوين، وفيها إشارة إلى القدر والقضاء، وجعل الأحكام والآداب لتحقيقها وسيجيء تمام بيانه فيما يخص به من المقام إن شاء الله.

صفحه ۱۹۰