175

تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي

تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي

ژانرها

تفسیر

فالإنسان - وهو في المرتبة السابقة من التسليم - ربما أخذته العناية الربانية فأشهدت له أن الملك لله وحده لا يملك شيء سواه لنفسه شيئا إلا به لا رب سواه، وهذا معنى وهبي، وإفاضة إلهية لا تأثير لإرادة الإنسان فيه، ولعل قوله تعالى: ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، وأرنا مناسكنا، الآية، إشارة إلى هذه المرتبة من الإسلام فإن قوله تعالى: إذ قال له ربه أسلم، قال، أسلمت لرب العالمين الآية ظاهره أنه أمر تشريعي لا تكويني، فإبراهيم كان مسلما باختياره، إجابة لدعوة ربه وامتثالا لأمره، وقد كان هذا من الأوامر المتوجهة إليه (عليه السلام) في مبادىء حاله، فسؤاله في أواخر عمره مع ابنه إسماعيل الإسلام وإراءة المناسك سؤال لأمر ليس زمامه بيده أو سؤال لثبات على أمر ليس بيده فالإسلام المسئول في الآية هو هذه المرتبة من الإسلام ويتعقب الإسلام بهذا المعنى المرتبة الرابعة من الإيمان وهو استيعاب هذا الحال لجميع الأحوال والأفعال، قال تعالى: "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون": يونس - 62، فإن هؤلاء المؤمنين المذكورين في الآية يجب أن يكونوا على يقين من أن لا استقلال لشيء دون الله، ولا تأثير لسبب إلا بإذن الله حتى لا يحزنوا من مكروه واقع، ولا يخافوا محذورا محتملا، وإلا فلا معنى لكونهم بحيث، لا يخوفهم شيء، ولا يحزنهم أمر، فهذا النوع من الإيمان بعد الإسلام المذكور فافهم.

قوله تعالى: وإنه في الآخرة لمن الصالحين، الصلاح، وهو اللياقة بوجه ربما نسب في كلامه إلى عمل الإنسان وربما نسب إلى نفسه وذاته، قال تعالى: "فليعمل عملا صالحا": الكهف - 110، وقال تعالى: "وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم": النور - 32.

وصلاح العمل وإن لم يرد به تفسير بين من كلامه تعالى غير أنه نسب إليه من الآثار ما يتضح به معناه.

فمنها: أنه صالح لوجه الله، قال تعالى: "صبروا ابتغاء وجه ربهم": الرعد - 22، وقال تعالى: "وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله": البقرة - 272.

ومنها: أنه صالح لأن يثاب عليه، قال تعالى : "ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا": القصص - 80.

ومنها: أنه يرفع الكلم الطيب الصاعد إلى الله سبحانه قال تعالى: "إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه": فاطر - 10، فيستفاد من هذه الآثار المنسوبة إليه أن صلاح العمل معنى تهيؤه ولياقته لأن يلبس لباس الكرامة ويكون عونا وممدا لصعود الكلام الطيب إليه تعالى، قال تعالى: "ولكن يناله التقوى منكم": الحج - 37، وقال تعالى: "وكلا نمد هؤلاء، وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان عطاء ربك محظورا": الإسراء - 20، فعطاؤه تعالى بمنزلة الصورة، وصلاح العمل بمنزلة المادة.

وأما صلاح النفس والذات فقد قال تعالى: "ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا": النساء - 69، وقال تعالى: "وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين": الأنبياء - 86، وقال تعالى حكاية عن سليمان: "وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين": النمل - 19، وقال تعالى: "ولوطا آتيناه حكما وعلما إلى قوله وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين": الأنبياء - 75، وليس المراد الصلاح لمطلق الرحمة العامة الإلهية الواسعة لكل شيء ولا الخاصة بالمؤمنين على ما يفيده قوله تعالى: "ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون": الأعراف - 156، إذ هؤلاء القوم وهم الصالحون، طائفة خاصة من المؤمنين المتقين، ومن الرحمة ما يختص ببعض دون، بعض قال تعالى "يختص برحمته من يشاء": البقرة - 105 وليس المراد أيضا مطلق كرامة، الولاية وهو تولي الحق سبحانه أمر عبده، فإن الصالحين وإن شرفوا بذلك، وكانوا من الأولياء المكرمين على ما بيناه سابقا في قوله تعالى: "اهدنا الصراط المستقيم": فاتحة الكتاب - 6 وسيجيء في تفسير الآية لكن هذه أعني الولاية صفة مشتركة بينهم وبين النبيين، والصديقين، والشهداء فلا يستقيم إذن عدهم طائفة خاصة في قبالهم.

صفحه ۱۷۶