تفسیر صدر المتألهین
تفسير صدر المتألهين
ژانرها
وتقرب منه العصمة، وهي عبارة عن جوهر إلهي يسنح في الباطن، يقوى به الإنسان على تحري الخير وتجنب الشر، حتى يصير كمانع من باطنه غير محسوس، وإياه عنى بقوله:
ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه
[يوسف:24].
فهذه هي مجامع النعم، ولن تستتب إلا بما يخوله الله من الفهم الثاقب، والذهنا الصافي، والسمع الواعي، والقلب البصير، والطبع المتواضع، والمعلم الناصح، والمال الزائد على ما يقصر عن المهمات بقلته، القاصر عما يشغل عن الدين بكثرته، والعز الذي يصونه عن سفه السفهاء وتسلط الأعداء، ويستدعي كل واحد من هذه النعم الستة عشر أسبابا، وتستدعي تلك الأسباب أسبابا، وهكذا إلى أن تنتهي بالآخرة إلى مسبب الأسباب ورب الأرباب، دليل المتحيرين ملجأ المضطرين.
وإذا كانت تلك الأسباب متسلسلة طويلة لا يمكن الاستقصاء فيها، فلنصرف عنان القلم عن ذكرها لخروجها عن الحصر والإحصاء، فإن صحة البدن من جملتها نعمة من النعم الواقعة في الرتبة المتأخرة، ولو أردنا أن نستقصي الأسباب التي بها تمت هذه النعمة، لم نقدر عليها، لأن الأكل مثلا، أحد أسباب الصحة، وهو متوقف على أسباب غير محصورة بها تتم نعمة الأكل، إذ لا يخفى ان الأكل فعل، وكل فعل من هذا العالم حركة إرادية، وكل حركة إرادية لا بد لها من جسم متحرك هو آلتها، ولا بد لها من قدرة على الحركة، ولا بد لها من إرادة والإرادة متوقفة على العلم بالمراد، والعلم صورة نفسانية ونقش باطني لا بد لها من قابل ومنقوش به، وهو لوح النفس، ومن فاعل ناقش، وهو ملك روحاني مستفيد من ملك فوقه، وهكذا إلى مالك الملكوت.
ثم لا بد للآكل من مأكول، وهو جسم مركب من أصول متخالفة الطبائع والأمكنة والأحوال، ولا بد لها من أسباب تجمعها وتجبرها على الالتيام، وتحفظها على مزاج تتهيأ صورة التمام، ولا بد لتلك الأصول من أمكنة تتكون فيها، وجهات تتوجه إليها عند خروجها، وأزمنة تتحرك فيها، ولا بد للأمكنة والأزمنة الموجودة للأجسام المستقيمة الحركة من محدد مطيف بها تتعين به جهات أمكنتها، وحدود أزمنتها، فيكون المحدد من جنس جملة الأجرام الأكرية الدائمة الحركة إلى أن يشاء الله.
ولا بد لها من أسباب محركة على سبيل المباشرة والمزاولة، ولأسبابها أسباب اخرى محركة على سبيل التشويق والامداد والعناية، إذ ليست حركتها شهوية أو غضبية لتكون حيوانية محضة، ولا مجازفة أو وهمية محضة طلبا لثناء أو حسن ذكر أو صيت، أو نفعا للسافل، بل حركة شوقية علوية، وخدمة إلهية، وطاعة ربانية، فلها ملائكة تديرها، وفوقها ملائكة أخرى تدبرها وتشوقها طلبا لبارئ الكل وتشوقا إليه، وطاعة له على وجه يلزمها رشح الخير الدائم على الأداني والأسافل.
ثم لا بد للمأكول من صانع يصلحه، ولا بد من أسباب لإصلاحه، من أرض ينبت فيها، وهواء يصلح لها، وحرارة تنضجها، وماء يسقيها، والماء لا يتحرك بنفسه من مكانه كالبحر، فلا بد لحركته من أسباب، بعضها طبيعية عنصرية، وبعضها نفسانية فلكية، وبعضها قدرية إلهية، كما يعلمه العلماء الإلهيون، ولذلك قال:
فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا المآء صبا
[عبس:24 - 25].
صفحه نامشخص