وبعدما رد سبحانه قول من قال: إن القرآن منزل من قبل الشياطين لا من الملائكة وأثبت أن إنزاله منه سبحانه، وإيصاله من الروح الأمين على الرسلو الأمين؛ إذ المناسبة بينهما مرعية، والمشاكلة مثبتة، أراد أن يشير سبحانه إلى أن تنزيل الشياطين وتسويلاتهم إنما هو لأوليائهم الذين كملت نسبتهم إليهم، وصحت مناسبتهم معهم.
فقال: { هل أنبئكم } وأخبركم أيها المسرفون المترددون في أمر القرآن وإعجازه وإنزاله من قبل الحق القادحون فيه بنسبته إلى تنزيل الشيطان، أو إلى الشعر الذي هو من جملة وساوسه وتخيلاته، مع أنه مشتمل على معارف وحقائق، ورموزات وشهودات لا يسع الإتيان بها والتعبير عنها إلا لمن هو علام الغيوب، مطلع على سرائر أرباب الكشف والشهود، أخبركم { على من تنزل الشياطين } [الشعراء: 221] للإضلال والوسوسة، والتحريف عن طريق الحق، والتغرير بالأباطيل؟.
{ تنزل على كل أفاك } مبالغ في الإفك والافتراء { أثيم } [الشعراء: 222] مغمور في الإثم والعصيان، وأنواع الفسوق والطغيان.
ليتحقق مناسبته مع الشياطين الذين { يلقون السمع } للملائكة، ويصغون منهم بعض المغيبات لا على وجهها؛ غرضهم من الإصغاء الإفساد والرد لا الإصلاح والقبول { و } لذلك { أكثرهم كاذبون } [الشعراء: 223] فيما يسمعون ويلقون؛ إذ هم يحرفونه ويزيفون ترويجا لما هم عليه من الفساد والإفساد، وتغريرا لأوليائهم بأنواع التغريرات.
{ و } من جملة أولياء الشياطين المنتسبون إليهم بالنسبة الكاملة الكاذبة: { الشعرآء } المذبذبون بين الأنام بأكاذيب الكلام وأباطيله؛ لذلك { يتبعهم الغاوون } [الشعراء: 224] الضالون من جنود الشياطين، المستتبعون لهم؛ لترويج أباطيلهم الزائفة.
{ ألم تر أنهم } ومن تابعهم من الغواة { في كل واد } من أودية الضلالة والطغيان { يهيمون } [الشعراء: 225] يترددون حيارى تائهين بلا ثبات ولا قرار، مترددين في معاشهم ومعاهدهم.
{ وأنهم } من غاية غفلتهم وسكرتهم في أمور معاشهم { يقولون } بأفواههم، ويخبرون بألسنتهم تلقفا { ما لا يفعلون } [الشعراء: 226] من الأخلاق و الحكم والمواعظ، والرموز والإشارات التي تصدر عنهم هفوة، وهم لا يمتثلون بها أصلا.
{ إلا } الشعراء { الذين آمنوا } بتوحيد الله، واتصفوا بالحكمة المعتدلة المودعة في قلوبهم، الظاهر أثرها من ألسنتهم، ومضوا على مقتضى الاعتدال المعنوي الذي جبلهم الحق عليه بلا تلعثم منهم، وتزلزل عن مقتضى فطرتهم { و } مع ذلك { عملوا الصالحات } من الأعمال المصلحة لمفاسدهم، المهذبة لأخلاقهم وأطوارهم { وذكروا الله } المستوي على صراط العدالة والاستقامة في أشعارهم وقصائدهم { كثيرا } في عموم أوقاتهم وحالاتهم؛ بل أكثر أشعارهم إنما هي لإثبات توحيد الحق ومعارفه وحقائقه ورموز أرباب الكشف والعرفان، والتذكيرات المتعلقة بترك المألوفات وقطع التعلقات المنافية لصفاء مشرب التوحيد.
وبعض أشعارهم متعلق بردع أهل الأهواء والآراء، وهتك محارمهم وأعراضهم وتعداد مقابحهم وزذائلهم { و } ذلك بأنهم { انتصروا } بأشعارهم هذه { من بعد ما ظلموا } من أيدي الجهلة، وألسنة الكفرة المتعنتين المستكبرين على أرباب المحبة والولاء من المنقطعين نحو الحق، السالكين في سبيل توحيده.
{ و } بالجملة: { سيعلم الذين ظلموا } على أهل الحق، وآذنوهم بالسنان واللسان وأنواع القدح والطغيان، ونسبوهم إلى الإلحاد والفساد، ورموهم بأنواع الفسوق والفساد مع أنهم على صرافة التوحيد متمكنون، ومن أمارات الكثرة والتقليد متنزهون، وسيعلم أولئك الرامون المفرطون المسرفون { أي منقلب } أي: مرجع ومآب { ينقلبون } [الشعراء: 227] ويرجعون، أيدخلون إلى حضرة النيران والخذلان منكوسين، أم إلى روضة الرضا مسرورين؟.
صفحه نامشخص