ولكن مثلما تبين - بعد وقت غير طويل - أن نظام «الاقتصاد الحر» إذا ترك يسير تلقائيا دون ضابط، يؤدي إلى عكس الغرض الذي كان يتصوره «مفكروه وفلاسفته الأوائل»، يوقع الإنسان فريسة للاستغلال بدلا من أن يخدم مصالحه المادية، فكذلك اتضح أن للاستخدام التجاري للعلم عيوبا فادحة، أوضحها تشتيت جهود العلماء وتبديدها؛ ذلك لأن المشكلة العلمية الواحدة قد تصبح عندئذ موضوعا للبحث في عدة مؤسسات تتنافس فيما بينها، وتسعى كل منها إلى أن تسبق الأخريات، فتضيع بذلك جهود عدد كبير من العلماء في بحوث متقاربة وربما متكررة. ولو كان هناك تخطيط موحد لأمكن تركيز الجهود على نحو أفضل من أجل الوصول إلى أفضل وأسرع حل للمشكلة، وفضلا عن ذلك فإن العلم - في ظل الاستغلال التجاري - يمكن أن يصبح موضوعا للاحتكار؛ فنظام براءات الاختراع يعطي المؤسسة - التي تشتري حق استغلال كشف معين - الحرية في استخدام هذا الاختراع أو عدم استخدامه، وقد يظهر كشف علمي أو تكنولوجي هام، دون أن يعلن على الملأ ودون أن ينتشر بين الناس؛ لأن في نشره إضرارا بمصالح تجارية ضخمة، وهكذا تحدد المؤسسات التجارية توقيت الانتفاع من عدد كبير من الكشوف الجديدة، وربما اشترت حق الانتفاع بها كيما تحجبها نهائيا عن الظهور إذا كانت تهدد استثماراتها الكبرى؛ أي إنها تشتري الاختراع لكي تخنقه، إلى أن تعلنه في الوقت الذي تقتضيه مصالحها هي، لا حاجة المجتمع إليه؛ ومن هذا القبيل ما أشيع وقتا ما من أن محركا جديدا للسيارات - أبسط وأقل تكلفة بكثير من المحركات الحالية - قد اخترع واشترته شركة كبرى لكي تحجبه وتحمي استثماراتها الهائلة المبنية على نظام المحركات الحالي.
على أن العيب الأكبر في الاستغلال التجاري للعلم هو المبدأ نفسه؛ أعني إخضاع البحث العلمي للاعتبارات التجارية؛ ذلك لأن العمل العلمي الكبير شيء أعظم وأشرف من أن يقوم ويخضع للمقاييس التجارية بالمال، بل إن هذا التقويم المالي يكاد يكون - من الوجهة العملية - مستحيلا؛ ذلك لأن كل عمل علمي لا يقتصر الفضل فيه على صاحبه فحسب، بل إنه يرتكز في الواقع على جهد جميع العلماء السابقين في ميدانه، ولو حاولنا أن نحصره في شخص مكتشفه لاعترضتنا في هذه الحالة صعوبات أخرى؛ إذ إن العمل العلمي الجاد لا يستغرق من حياة العالم أوقاتا معينة، هي تلك التي يقضيها في معمله أو مكتبه، وإنما يستغرق تفكيره كله، وربما حياته السابقة بأكملها التي كانت كلها إعدادا وتهيئة لهذا الكشف. ومن هنا كان من العسير حساب وقت العمل اللازم له، على عكس الحال في أنواع الإنتاج الأخرى التي تخضع للتقويم المادي.
إن من الصحيح بالفعل - دون أية محاولة للكلام بلغة إنشائية أو لتملق المشاعر بطريقة بلاغية - أن هناك أمورا أسمى وأرفع من أن يعبر عنها بلغة التجارة والمال؛ فالكشف العلمي الذي تعم نتائجه الإنسانية كلها، شأنه شأن العمل الفني الرفيع الذي يسعد الإنسان ويسمو به في كل مكان، هي نواتج للعبقرية البشرية لا يصح أن تقاس بالمقاييس المادية. ومع ذلك فإن الحقائق المريرة في عالمنا المعاصر تقول بعكس هذا، وتؤكد أن العلم يستغل ويقوم تجاريا، وأنه يستخدم لتحقيق أرباح لمؤسسات معينة، تجني منه أضعاف أضعاف ما أنفقت عليه، وتستخدمه لتحقيق أهداف مضادة لتلك التي يتجه إليها عقل العالم، ذلك العقل الذي لا يحركه إلا السعي لخدمة البشرية كلها لتحقيق مصلحة فئة واحدة من فئاتها.
أما النزعة القومية في العلم فربما كانت أشد خفاء من النزعة التجارية التي تعلن عن نفسها صراحة وبلا مواربة؛ ذلك لأن دول العالم المعاصر وأوساطها العلمية لا تكف عن ترديد القول: إن العلم لا وطن له، وإنه يتخطى الحدود القومية، مثلما يتخطى الحواجز السياسية والعقائدية؛ فمن المستحيل أن نتصور - مثلا - كيمياء رأسمالية أو فيزياء اشتراكية، مثلما أن علم الأحياء الإنجليزي لا يمكن أن يكون - في أسسه الرئيسية - مختلفا عن علم الأحياء الصيني؛ فالحقيقة العلمية تفرض نفسها على العقل - في أي مكان أو زمان - بقوة المنطق والبرهان وحدها؛ أي إن هذه الحقيقة بطبيعتها عالمية، ولا مجال فيها للتفرقة القائمة على أسس قومية.
ولكن إذا كان هذا هو ما يعلنه الجميع، فإن الممارسات الفعلية تختلف عن ذلك في كثير من الأحيان اختلافا بينا؛ ففي نفس الوقت الذي يؤكد فيه الناس عالمية العلم، تظهر لديهم اتجاهات تتحدى هذا الاعتقاد الأساسي، وتؤكد أن النزعة القومية ما زالت مسيطرة على عقول الناس في هذا المجال بدوره، ويظهر ذلك بوضوح قاطع حين نقرأ الكتب التي تصدر عن مؤلفين ينتمون إلى الدول المتقدمة علميا؛ فالأمثلة التي يضربها المؤلف الفرنسي لعلماء أو لاكتشافات علمية هامة، نجد أغلبها مستمدا من علماء فرنسيين، وحين يتحدث الإنجليزي عن تاريخ العلم فكثيرا ما يبدو للقارئ كما لو كان هذا التاريخ قد كتب على أيدي العلماء الإنجليز. وقل مثل هذا عن الألمان وربما عن الأمريكيين وهلم جرا. وكثيرا ما لاحظت أن علماء ومؤرخي الدول الغربية حين يتحدثون عن الهندسة اللاإقليدية، يبرزون دور «ريمان
Riemann » الألماني، ويقللون من دور «لوباتشفسكي
Lobatchevsky »، على حين أن الروس يرفضون حتى أن يوضع هذا الأخير على قدم المساواة مع الأول؛ لأن مواطنهم كان أسبق من زميله زمنيا؛ ومن ثم فإن له في نظرهم الفضل الأول في وضع هذه الهندسة.
وكم من مرة قرأت كتابا فرنسيا فوجدته - حين يعرض لنظرية التطور - يتحدث عن بيفون
Buffon
ولامارك
صفحه نامشخص