وهكذا كان التداخل وثيقا بين التجريد العلمي - متمثلا في أعلى مظاهره وهي الرياضة - وبين الخيال الذي يسعى إلى كشف الجمال في كل شيء، وكان كل كشف جديد يثير لدى العالم حساسية جمالية متزايدة، بقدر ما يوسع نطاق معرفته ويؤكد سيطرة العقل على الطبيعة.
والحق أننا لا نحتاج إلا أن نذهب بعيدا لكي نؤكد وجود رابطة وثيقة بين العلم وملكة الخيال في الإنسان؛ ذلك لأن حالات الإبداع العلمي ذاته تؤكد هذا الارتباط تأكيدا قاطعا؛ فالطريقة التي يظهر بها الكشف العلمي في ذهن العالم قريبة كل القرب من تلك التي تظهر بها فكرة العمل الفني في ذهن الفنان، ولو رجعنا إلى ما كتبه العلماء أنفسهم عن حياتهم الخاصة، وعن الظروف التي توصلوا فيها إلى كشوفهم؛ لوجدنا أن الكثيرين منهم كانوا يهتدون إلى فكرة الكشف الجديد بصورة مفاجئة، وربما هبطت عليهم الفكرة أثناء النوم أو في غفوة أو حلم يقظة، وربما أثارها شيء بسيط لا يكاد يثير في الإنسان العادي أية فكرة ذات قيمة كما هي الحال في قصة التفاحة التي سقطت على نيوتن أثناء جلوسه ساهما في الحديقة، والتي أوحت إليه بقانون الجاذبية (إذا كانت هذه القصة صحيحة)، وهنا لا نكاد نجد اختلافا بين طريقة ظهور نظرية جديدة في ذهن العالم، وطريقة هبوط «الوحي» على الشاعر بأبيات قصيرة جديدة، أو ظهور لحن موسيقي جميل في ذهن الفنان.
بل إن التشابه لا يقتصر على هذا الانبثاق - الذي هو أشبه بالإلهام أو الاستنارة المفاجئة الكاشفة - وإنما يمتد العلمي ما هو أبعد من ذلك، فعلماء النفس يقولون: إن مثل هذا «الإلهام» لا يأتي عفوا، وهم على حق في ذلك؛ إذ إن الفواكه وغيرها كانت تسقط على رءوس الناس منذ ألوف السنين دون أن يستنتج أحد من ذلك شيئا. كما أن ملايين الناس قد غمروا أجسامهم في الحمامات وارتفعت المياه فيها دون أن يستخلصوا من ذلك أي قانون مثل قانون الطفو (كما تحكي القصة المشهورة الأخرى عن العالم اليوناني الكبير «أرشميدس»)، فلا بد لظهور هذا الإلهام المفاجئ من إعداد طويل، وانشغال دائم بموضوع معين، ومستوى معين من التفكير، وهذا يصدق على العالم وعلى الفنان معا؛ إذ إن القدرة التلقائية على الإبداع دون إعداد سابق مستحيلة في حالة العالم، كما أنها أصبحت الآن شبه مستحيلة في حالة الفنان بدوره.
وهكذا يمكن القول: إن المنبع الذي ينبثق منه الكشف العادي الجديد والعمل الفني الجديد هو منبع واحد، وإن الجذور الأولى والعميقة للعلم والفن واحدة؛ ومن ثم فإن العالم الذي ينمي في نفسه حاسة التذوق الفني أو الأدبي إنما يرجع - في الواقع - إلى الجذور الأصيلة لمصدر الإبداع في الإنسان، وربما كانت رعايته لملكة الخيال في ذهنه سببا من أسباب إبداعه في العلم، وخاصة لأن النظريات العلمية الكبرى تحتاج إلى قدر غير قليل من الخيال حتى تخرج بصورتها المتناسقة المترابطة. صحيح أن العالم يظل يلاحظ ويراقب ويسجل الظواهر ويجري التجارب عليها، ولكنه حين يبدع نظريته العامة يقوم بتلك «القفزة» المشهورة التي تتخطى الظواهر المشاهدة وتقتحم عالما كان مجهولا حتى ذلك الحين، وهو في تجاوزه للواقع الملاحظ يحتاج إلى كل ذرة من قدرته التخيلية، فلا عجب أن نجد أقطاب العلم يقتربون من الفن اقترابا شديدا في طريقة إبداعهم، وفي جرأتهم على استكشاف المجهول.
وبعد هذا كله، فإن وجود الفن بوصفه عنصرا من عناصر ثقافة العالم - مع ملاحظة أن كلمة «الفن» تستخدم هنا بأوسع معانيها؛ أي بالمعنى الذي يشتمل على الفنون المعروفة والشعر والأدب - يجعل من العالم إنسانا أفضل، وإحساس العالم بنبض الإنسانية، واكتسابه رقة المشاعر التي يبعثها الفن في النفوس، قد أصبح شيئا ضروريا في عصرنا الحاضر بوجه خاص، حيث يؤدي التخصص المفرط إلى جفاف في الروح لا تبلله إلا قطرات من نبع الفن، وحيث تهدد العالم قوى تريد أن تستغل كل إبداع علمي لأغراض معادية للإنسان، وهي قوى لا يستطيع أن يصمد أمامها إلا علماء يحرصون على حفظ روابطهم بكل ما هو شريف ورقيق وصاف في النفس الإنسانية.
خاتمة
حين نتأمل بعمق مسار التفكير العلمي عبر العصور، وحركته التي تزداد توثبا ونشاطا في عصرنا هذا على وجه التخصيص، وحين نمعن الفكر في السمات التي يكتسبها العقل البشري نتيجة للتقدم العلمي المتلاحق، ونحاول أن نستشف شكل العالم الذي سيؤدي إليه استمرار هذا التقدم في المستقبل، وإذا لم يقدر لعالمنا هذا أن ينتحر عن طريق العلم نفسه في حرب نووية أو بيولوجية لا تبقي ولا تذر؛ حين نمتد بأنظارنا إلى هذه الآفاق المقبلة للعالم في ظل التقدم العلمي، فإن المرء لا يملك إلا أن يرى أمامه - في المستقبل - صورة عالم متحد، تختفي فيه كثير من الفواصل التي تفرق بين البشر في وقتنا الحالي، وتجمعه أهداف وغايات واحدة، وإن لم تتلاش مظاهر التنوع الخصب التي لا بد منها لكي تكتسب حياة الإنسان ثراء وامتلاء.
وحين نقول: إن النتيجة التي يؤدي إليها مسار هذا التفكير العلمي - في رحلته الطويلة الشاقة - هي توحيد الإنسانية، فنحن نعلم تمام العلم أن هذه النتيجة ما زالت بعيدة عن أن تتحقق، ولكن الأمر الذي نود أن نؤكده هو أن كل العوامل التي تقف حائلا دون هذا التوحيد تتعارض مع الطبيعة الحقيقية للعلم؛ ومن ثم فإن تقدم التفكير العلمي ينبغي أن يزيحها جانبا آخر الأمر.
ولكن ما هي هذه العوائق التي تقف في وجه استخدام العلم لصالح الإنسانية جمعاء، بدلا من أن يستخدم - كما هو حادث في الوقت الراهن - أداة للتفرقة بين البشر، وزيادة قوة فئات أو مجتمعات معينة على حساب الباقين؟ إن من المعترف به أن العلم كان - منذ بداية تقدمه في العصر الحديث - يخدم شتى أنواع المصالح والجماعات البشرية، ولكننا اليوم نستطيع أن نشير إلى طريقتين واضحتين في استخدام العلم، تؤدي كل منهما - بطريقتها الخاصة - إلى إرجاء اليوم الذي سيصبح فيه العلم قوة موحدة تخدم أرجاء بلا تفرقة؛ هاتان هما: النزعة التجارية والنزعة القومية في استخدام العلم.
إن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن العلم في كثير من المجتمعات المعاصرة ما زال يستخدم استخداما تجاريا، وما زال البحث العلمي فيها يعد سلعة تخضع لمتطلبات السوق وتخدم أغراضه، بل إن بعض العلماء - ممن يقعون فريسة لأوهام «الاقتصاد الحر» على النحو الذي كان يدعو إليه آدم سميث في القرن الثامن عشر - ما زالوا يؤمنون بأن هذا الطابع التجاري للعلم هو خير وسيلة للنهوض به؛ إذ يؤدي إلى احتدام المنافسة بين المؤسسات التجارية التي تقوم بتشغيل العلماء، مما يوفر للعلماء شروطا أفضل تعينهم على التقدم في بحوثهم؛ ومن ثم تكون الحصيلة النهائية مزيدا من الكشوف العلمية الناتجة عن هذا التنافس.
صفحه نامشخص