فؤاد زكريا
يوليو 1956م
خصائص الفن الموسيقي وعناصره
طبيعة الفن الموسيقي
ليست المكانة الرفيعة التي تحتلها الموسيقى وليدة التطورات الحديثة التي مر بها هذا الفن، بل لقد كان القدماء يؤمنون بأن للموسيقى في النفس تأثيرا يتجاوز تأثير سائر الفنون فيها. وآية ذلك تلك القصص والأساطير العديدة التي نسبت إلى الموسيقى قوى خارقة تؤثر على الطبيعة، فتحرك الجبال مثلا، أو على النفس الإنسانية، فتجعلها تنقاد لإغراء عرائس البحر مع أن في ذلك حتفها. وفي عالم العقائد كان للموسيقى أهمية كبرى، تتبدى إيجابيا وسلبيا في آن واحد؛ فمن العقائد ما كانت تستعين بالموسيقى في بث الإيمان بها في نفوس الناس، ويكفي دلالة على ذلك أن الموسيقى الأوربية خلال العصور الوسطى كانت مرتبطة بالكنيسة ارتباطا أساسيا، بل كانت بعض أسرارها وقفا على رجال الدين الذين يتوارثونها دون أن يحاول أحدهم أن يبوح بها! ومن العقائد ما كانت تحرم الموسيقى أو تراها أقرب إلى الحلال البغيض، وكان في ذلك اعتراف ضمني بما للموسيقى من تأثير على النفوس، وإن يكن التأثير هنا يعد خطرا أخلاقيا ينبغي تجنبه.
وفي الفكر القديم حفظ لنا التاريخ أثرا ربما كان هو أول وثيقة تثار فيها مشكلة التأثير الأخلاقي والاجتماعي للفنون بوجه عام، والموسيقى بوجه خاص، أعني جمهورية أفلاطون، التي يوصي فيها بالعناية بالتعليم الموسيقي، ويعده عنصرا أساسيا في تربية النشء، ويدعو إلى استبعاد مقامات موسيقية معينة؛ لما لها من تأثير أخلاقي ونفسي ضار.
ولكن، هل تغير موقف المدنية الحديثة من الموسيقى، بعد أن تخلصت الأذهان فيها من آثار السحر والخرافة، واتخذت موقفا مستقلا عن العقائد في نظرتها إلى الفنون بوجه عام؟ الحق أن مكانة الموسيقى بين سائر الفنون لم تتغير، وكل ما في الأمر هو أن تقدير الموسيقى قد أصبح واعيا، بعد أن تكشفت الأسباب التي من أجلها نظر إلى الفن الموسيقي في بداية الأمر نظرة يحوطها جو صوفي خفي، ويغلفها السحر والغموض.
فالموسيقى هي بطبيعتها أكثر الفنون استقلالا؛ هي ليست فنا تصويريا أو تشكيليا لموضوعات يمكن الإشارة إليها، ولا فنا تستمد عناصره من الواقع الخارجي مباشرة، كما أنها لا يمكن أن تفهم عن طريق ترجمتها إلى وسيلة أخرى من وسائل التعبير. ولنتحدث عن كل من هذه الصفات على حدة:
فالموسيقى تتميز عن سائر الفنون بأنها لا تصور أو تقلد شيئا. فبينما نجد الرسم فنا تصويريا، والنحت له صلة بتصوير الواقع الخارجي عن طريق أبعاده الثلاثة، والأدب يمثل الواقع عن طريق الرموز اللغوية؛ فإن الموسيقى لا تقلد ولا تمثل شيئا، وهي في هذا نمط فني مستقل بذاته. على أن قولنا هذا ينطبق - إذا شئنا الدقة - على الأطوار القديمة للفنون الأخرى أكثر مما ينطبق على طورها الحالي؛ ذلك لأن الرسم والنحت - بل بعض مدارس الأدب - تنزع في اتجاهاتها الحديثة إلى التخلي عن مهمة التصوير والتقليد، وتكتفي بأن توحي بمعان معينة، دون أن نجد بين العمل الفني وبين الواقع الذي يمثله علاقة محاكاة مباشرة. ونستطيع أن نقول: إن مثل هذا الاتجاه إنما هو تقريب للشقة بين الموسيقى وبين سائر الفنون، ولكنه بينما يتخذ صفة التطور الحديث في هذه الفنون، نراه طبيعة أصيلة في الموسيقى من أول عهدها. أما إذا قيل: إن الموسيقى تسعى في بعض الأحيان إلى تقليد أصوات الطبيعة، ففي وسعنا أن نرد على ذلك بأن هذا التقليد - كما هو الحال في تصوير أصوات العواصف أو الرياح في كثير من القطع الموسيقية ذات الموضوع - هو في واقع الأمر إيحاء بعناصر الطبيعة هذه، وليس تقليدا لها؛ إذ إن الأصوات الطبيعية - كما هو معروف - ليست موسيقية؛ لعدم انتظام ذبذباتها، فمن المحال أن تقلدها الموسيقى مباشرة، بل هي تهذبها وتصقلها، ثم توحي بها من بعيد، ولا يتيسر لها أن تقلد إلا أصواتا طبيعية بسيطة في أحوال نادرة، كما في الحركة الثانية لسيمفونية بيتهوفن السادسة؛ حيث تقلد أصوات بعض الطيور على سبيل الحلية، لا رغبة في التقليد المباشر ذاته.
وهذه المسألة الأخيرة تؤدي بنا إلى الصفة الثانية للموسيقى؛ فقد قلنا: إن أصوات الطبيعة لها ذبذبات غير منتظمة، وإنها تبعا لذلك أصوات غير موسيقية، ومعنى ذلك أن المادة التي يستخدمها الفن الموسيقي، ويبني عليها تركيباته المعقدة - وأعني بها الأصوات الموسيقية المفردة والأنغام - لا تستمد من الطبيعة مباشرة، وإنما هي مادة لا بد لها من وسائل مصنوعة، هي الآلات الموسيقية التي تصقل الأصوات وتنظم ذبذباتها، أو الغناء المدرب الذي يختلف كل الاختلاف عن أصوات الكلام أو الصياح المعتاد. ونستطيع أن نقرب هذه الفكرة إلى الأذهان إذا أشرنا إلى استحالة تقليد الآلات الموسيقية لأصوات الكلام الإنساني؛ إذ إن انتظام ذبذبات الأصوات الصادرة عن هذه الآلات يحول دون ذلك. وفي هذه الصفة تختلف الموسيقى اختلافا واضحا عن سائر الفنون ؛ فالرسم يستمد مادته، وهي الألوان والخطوط، من الطبيعة مباشرة، أو هو يجد فيها نظيرا لهذه المادة، كذلك الحال في الكتل التي يستخدمها فن النحت، والكلمات التي يستخلصها الأدب من الحديث البشري المعتاد.
صفحه نامشخص