مقدمة
خصائص الفن الموسيقي وعناصره
طبيعة الفن الموسيقي
اللغة الموسيقية
المعنى في الموسيقى
التطور الموسيقي
التعبير في الموسيقى الشرقية
مشكلة الموسيقى الشرقية
مشكلة الموسيقى في مصر
مقدمة
خصائص الفن الموسيقي وعناصره
طبيعة الفن الموسيقي
اللغة الموسيقية
المعنى في الموسيقى
التطور الموسيقي
التعبير في الموسيقى الشرقية
مشكلة الموسيقى الشرقية
مشكلة الموسيقى في مصر
التعبير الموسيقي
التعبير الموسيقي
تأليف
فؤاد زكريا
مقدمة
تدور في صحفنا اليوم معركة أدبية حول طبيعة الفن وغايته، وهل ينبغي أن يكون فنا هادفا، أم يكون فنا «من أجل الفن» فحسب. وعلى الرغم من أن هذه المعركة قد طال أمدها، دون أن يبذل أحد الطرفين جهدا لتفهم وجهة نظر الآخر، وإدراك الدلالة التي تكمن وراء تشبثه بها؛ فليس من شك في أن من صميم مهمة أي باحث في فن من الفنون، ألا ينعزل عن هذه المعركة الدائرة، بل ينبغي عليه - إذا شاء أن يكون بحثه مرتبطا بالمشاكل الفكرية للعالم الذي نعيش فيه - أن يحدد موقفه منها، ويحلل معانيها المختلفة، ومدى صلتها بالمشاكل التي يناقشها.
وأول ما أود أن أنبه إليه، هو أن مشكلة الفن الهادف، والفن لأجل الفن، قد أصبح لها معنى باطل عند الكثيرين ممن يعالجونها؛ فالقضية التي يدافع عنها أنصار فكرة الفن لأجل الفن، هي قضية تلقائية الفنان: أعني أن الفنان ينبغي ألا يفرض عليه هدف من الخارج، بل يجب أن يترك ليعبر عما يحس به فحسب. والخطأ الذي يقع فيه كثيرون من أنصار فكرة الفن الهادف - وأكون متجنيا لو قلت: كلهم - هو أنهم يصورون دعوتهم كأنها تفرض على الفنان أهدافا معينة، يتحتم عليه أن يجعل من فنه أداة للتعبير عنها. وهذا الخطأ هو أخطر ما يصيب قضيتهم، وهو الذي يستغله خصومهم، ويستمدون منه قوتهم. فلا جدال في أن حرية الخلق، وتلقائيته، شرط أساسي لكل إنتاج فني سليم، فإذا ضاع هذا الشرط بدا العمل الفني متكلفا، لا روح فيه.
على أن في الدعوة القائلة بالفن لأجل الفن نقطة ضعف أساسية، تكاد تقضي على مذهب أصحابها بأسره ؛ تلك هي تماديهم في فكرة الحرية والتلقائية إلى الحد الذي يتركون الفنان فيه ينتج كما يشاء، حتى لو كان إنتاجه هادما لمقومات الإنسانية، أو الجماعة التي يعيش فيها، وحتى لو كانت أعماله تبعث في المجتمع روح التخاذل والانحلال، أو تتجاهل المشاكل الحقيقية لهذا المجتمع أصلا. فلا جدال في أن الفن مسئولية كبيرة، ومجرد كون الفنان قد أخذ على عاتقه مهمة نشر فنه بين الناس، ولم يكتف بجعله مسلاة لشخصه هو وحده، يعني أنه قد تحمل هذه المسئولية، أي: تحمل العواقب الناجمة عن انتشار فنه بين الناس، ومن هنا كان من الضروري أن نحاسبه على الآثار التي تجلبها أعماله الفنية على المجتمع الذي يعيش فيه.
وإذن، ففي موقف كل من الطرفين نقطة ضعف ينبغي التخلص منها، وميزة ينبغي الاحتفاظ بها. أي إن الوضع السليم للفن هو أن يكون تلقائيا حرا، ويكون في نفس الوقت عاملا من عوامل النهوض بالمجتمع نحو مستقبل مشرق مضيء. فكيف نوفق بين هذين الشرطين، اللذين يبدو كل منهما متعارضا مع الآخر؟
لست أشك في أن الفنان الصحيح إذا ترك دون أن تفرض عليه أهداف معينة، سوف ينتج من تلقاء ذاته فنا هادفا. ولا جدال في أن المجتمع الذي يكون عليه أن يفاضل بين فنان يتجاوب معه وفنان ينعزل عن مشاكله، سوف يفضل الأول حتما. بل إن الناقد العالم ينبغي بدوره أن يفضله؛ ذلك لأن الفن يفترض قبل كل شيء حساسية مرهفة، والفنان الذي يصل به جمود الحس إلى حد عدم الشعور بمشاكل الجماعة المحيطة به - كأن يقصر هذه المشاكل مثلا على الحرمان الجنسي، في الوقت الذي يكون المجتمع فيه زاخرا بالمشاكل الحيوية التي تتعلق بتوفير ضرورات الحياة لأبنائه - مثل هذا الفنان لا يستحق الاسم وحده؛ فالمقياس المعترف به للمفاضلة بين فنان وآخر - أعني دقة الحس وسرعة التأثر - هو ذاته الذي يحتم علينا إيثار الفنان الذي يشارك مجتمعه مشاكله، ويعينه على حلها، على ذلك الذي ينعزل عما حوله، أو يغرق الناس في مشاكل لا تمس شخصا سواه من حيث هو فرد.
وإذن فتلقائية الفن لا تتعارض على الإطلاق مع كونه هادفا، ولا أشك في أن وضع المشكلة على هذا النحو يوفر علينا كثيرا من المناقشات التي دارت حول هذا الموضوع، والتي تمسك كل فريق فيها بموقفه دون أن يحاول تفهم وجهة نظر الآخر؛ فظن فريق الفن الخالص، أو الفن لأجل الفن، أن خصومهم يرمون إلى تقييد حرية الفنان وفرض موضوعات معينة عليه (وإذا حللنا أقوال بعض دعاة الفن الهادف وجدنا أن لهؤلاء بعض العذر في ظنهم هذا)، بينما ظن فريق الفن الهادف أن الحرية والتلقائية ترتبط حتما بالانعزالية والفردية (ولهم بدورهم العذر في ذلك). ولو حلل كل من الفريقين موقف الآخر على حقيقته لوجد أنه لا تعارض بينهما على الإطلاق، وذلك إذا استبعدنا من الموقفين ما يشوبهما من تفسيرات باطلة.
وفي هذا البحث تطبيق مفصل لهذا الرأي على مشكلة نحس في مجتمعنا الحالي إحساسا واضحا بضرورة معالجتها؛ هي مشكلة التعبير الموسيقي. فالحل النهائي، الذي تتقدم به في نهاية الكتاب، يتمشى مع ما قلناه من أن أحوال المجتمع تنعكس على الفنان، وتضفي على أعماله صبغتها الخاصة، ومن أن هذا الانعكاس ينبغي أن يترك حتى يظهر من تلقاء ذاته بحرية، دون أن تفرضه على الفنان أية قوة خارجية. وبهذا وحده ترتفع موسيقانا إلى المستوى الذي بلغته الموسيقى العالمية، ويكون في وسعنا أن نقول: إن لدينا موسيقى ذات قدرة معبرة بحق.
فؤاد زكريا
يوليو 1956م
خصائص الفن الموسيقي وعناصره
طبيعة الفن الموسيقي
ليست المكانة الرفيعة التي تحتلها الموسيقى وليدة التطورات الحديثة التي مر بها هذا الفن، بل لقد كان القدماء يؤمنون بأن للموسيقى في النفس تأثيرا يتجاوز تأثير سائر الفنون فيها. وآية ذلك تلك القصص والأساطير العديدة التي نسبت إلى الموسيقى قوى خارقة تؤثر على الطبيعة، فتحرك الجبال مثلا، أو على النفس الإنسانية، فتجعلها تنقاد لإغراء عرائس البحر مع أن في ذلك حتفها. وفي عالم العقائد كان للموسيقى أهمية كبرى، تتبدى إيجابيا وسلبيا في آن واحد؛ فمن العقائد ما كانت تستعين بالموسيقى في بث الإيمان بها في نفوس الناس، ويكفي دلالة على ذلك أن الموسيقى الأوربية خلال العصور الوسطى كانت مرتبطة بالكنيسة ارتباطا أساسيا، بل كانت بعض أسرارها وقفا على رجال الدين الذين يتوارثونها دون أن يحاول أحدهم أن يبوح بها! ومن العقائد ما كانت تحرم الموسيقى أو تراها أقرب إلى الحلال البغيض، وكان في ذلك اعتراف ضمني بما للموسيقى من تأثير على النفوس، وإن يكن التأثير هنا يعد خطرا أخلاقيا ينبغي تجنبه.
وفي الفكر القديم حفظ لنا التاريخ أثرا ربما كان هو أول وثيقة تثار فيها مشكلة التأثير الأخلاقي والاجتماعي للفنون بوجه عام، والموسيقى بوجه خاص، أعني جمهورية أفلاطون، التي يوصي فيها بالعناية بالتعليم الموسيقي، ويعده عنصرا أساسيا في تربية النشء، ويدعو إلى استبعاد مقامات موسيقية معينة؛ لما لها من تأثير أخلاقي ونفسي ضار.
ولكن، هل تغير موقف المدنية الحديثة من الموسيقى، بعد أن تخلصت الأذهان فيها من آثار السحر والخرافة، واتخذت موقفا مستقلا عن العقائد في نظرتها إلى الفنون بوجه عام؟ الحق أن مكانة الموسيقى بين سائر الفنون لم تتغير، وكل ما في الأمر هو أن تقدير الموسيقى قد أصبح واعيا، بعد أن تكشفت الأسباب التي من أجلها نظر إلى الفن الموسيقي في بداية الأمر نظرة يحوطها جو صوفي خفي، ويغلفها السحر والغموض.
فالموسيقى هي بطبيعتها أكثر الفنون استقلالا؛ هي ليست فنا تصويريا أو تشكيليا لموضوعات يمكن الإشارة إليها، ولا فنا تستمد عناصره من الواقع الخارجي مباشرة، كما أنها لا يمكن أن تفهم عن طريق ترجمتها إلى وسيلة أخرى من وسائل التعبير. ولنتحدث عن كل من هذه الصفات على حدة:
فالموسيقى تتميز عن سائر الفنون بأنها لا تصور أو تقلد شيئا. فبينما نجد الرسم فنا تصويريا، والنحت له صلة بتصوير الواقع الخارجي عن طريق أبعاده الثلاثة، والأدب يمثل الواقع عن طريق الرموز اللغوية؛ فإن الموسيقى لا تقلد ولا تمثل شيئا، وهي في هذا نمط فني مستقل بذاته. على أن قولنا هذا ينطبق - إذا شئنا الدقة - على الأطوار القديمة للفنون الأخرى أكثر مما ينطبق على طورها الحالي؛ ذلك لأن الرسم والنحت - بل بعض مدارس الأدب - تنزع في اتجاهاتها الحديثة إلى التخلي عن مهمة التصوير والتقليد، وتكتفي بأن توحي بمعان معينة، دون أن نجد بين العمل الفني وبين الواقع الذي يمثله علاقة محاكاة مباشرة. ونستطيع أن نقول: إن مثل هذا الاتجاه إنما هو تقريب للشقة بين الموسيقى وبين سائر الفنون، ولكنه بينما يتخذ صفة التطور الحديث في هذه الفنون، نراه طبيعة أصيلة في الموسيقى من أول عهدها. أما إذا قيل: إن الموسيقى تسعى في بعض الأحيان إلى تقليد أصوات الطبيعة، ففي وسعنا أن نرد على ذلك بأن هذا التقليد - كما هو الحال في تصوير أصوات العواصف أو الرياح في كثير من القطع الموسيقية ذات الموضوع - هو في واقع الأمر إيحاء بعناصر الطبيعة هذه، وليس تقليدا لها؛ إذ إن الأصوات الطبيعية - كما هو معروف - ليست موسيقية؛ لعدم انتظام ذبذباتها، فمن المحال أن تقلدها الموسيقى مباشرة، بل هي تهذبها وتصقلها، ثم توحي بها من بعيد، ولا يتيسر لها أن تقلد إلا أصواتا طبيعية بسيطة في أحوال نادرة، كما في الحركة الثانية لسيمفونية بيتهوفن السادسة؛ حيث تقلد أصوات بعض الطيور على سبيل الحلية، لا رغبة في التقليد المباشر ذاته.
وهذه المسألة الأخيرة تؤدي بنا إلى الصفة الثانية للموسيقى؛ فقد قلنا: إن أصوات الطبيعة لها ذبذبات غير منتظمة، وإنها تبعا لذلك أصوات غير موسيقية، ومعنى ذلك أن المادة التي يستخدمها الفن الموسيقي، ويبني عليها تركيباته المعقدة - وأعني بها الأصوات الموسيقية المفردة والأنغام - لا تستمد من الطبيعة مباشرة، وإنما هي مادة لا بد لها من وسائل مصنوعة، هي الآلات الموسيقية التي تصقل الأصوات وتنظم ذبذباتها، أو الغناء المدرب الذي يختلف كل الاختلاف عن أصوات الكلام أو الصياح المعتاد. ونستطيع أن نقرب هذه الفكرة إلى الأذهان إذا أشرنا إلى استحالة تقليد الآلات الموسيقية لأصوات الكلام الإنساني؛ إذ إن انتظام ذبذبات الأصوات الصادرة عن هذه الآلات يحول دون ذلك. وفي هذه الصفة تختلف الموسيقى اختلافا واضحا عن سائر الفنون ؛ فالرسم يستمد مادته، وهي الألوان والخطوط، من الطبيعة مباشرة، أو هو يجد فيها نظيرا لهذه المادة، كذلك الحال في الكتل التي يستخدمها فن النحت، والكلمات التي يستخلصها الأدب من الحديث البشري المعتاد.
ولما كانت مادة الفن الموسيقي لا تستخلص مباشرة من أي مصدر سوى الوسائل التي أعدت لأجل التعبير عن هذا الفن، أي: الآلات أو الغناء المدرب؛ فقد بلغ هذا الفن حدا من الاستقلال جعل له كيانا قائما بذاته، ويستحيل أن يرد إلى غيره. فبينما نجد الشعر مثلا قابلا - في معانيه على الأقل - لأن يفهم إذا ترجم إلى لغة أخرى، هي لغة النثر، وبينما نجد الفنون المقلدة تفهم بالرجوع إلى الأصول التي تقلدها؛ نجد الموسيقى لا تقبل أن تترجم إلى أية لغة أخرى؛ فتجربة الموسيقى تجربة لا نظير لها، وتذوقها يتم عن طريق عملية فريدة لا تفهم إلا من خلال سياقها الداخلي وحده. والانفعال الذي تثيره الموسيقى يستحيل أن يعبر عنه بلغة أخرى، أو بوسيلة أخرى من وسائل التعبير، ولا يمكن تصوره إلا بسماع هذه الموسيقى ذاتها. ومن هنا قيل: إن الموسيقى لغة مستقلة، مكتفية بذاتها.
ولكن هل الاستقلال هو الصفة الوحيدة التي يتميز بها الفن الموسيقي؟ الحق أن الموسيقى تنفرد عن سائر الفنون بصفتين أساسيتين: صفة العمومية، والذاتية:
أما العمومية، فترجع إلى ما تبيناه في الفن الموسيقي من استقلال واكتفاء ذاتي. فلما كانت لغة الموسيقى لا ترتبط بموضوعاتها أي ارتباط مباشر، ولما كانت لا تستمد عناصرها من الطبيعة مباشرة، بل تخلقها في مجالها الخاص؛ فقد استحال على الموسيقى أن تقدم وصفا مباشرا لأي موضوع خاص، وإنما تصور دائما انفعالات وأحاسيس عامة. ومهما حاول المرء أن يأتي بروابط بين المؤلفات الموسيقية وبين موضوعات معينة، فلا بد أن يعترف بأن الموسيقى لا تصور في هذه الموضوعات جوانبها الجزئية، وإنما تعبر عن الأوجه العامة فيها. والذي لا شك فيه أن الفنون الأخرى أقدر على تصوير الخصوصيات والجزئيات من الموسيقى. وإذا كان العمل الفني السليم - سواء أكان قصيدة أم لوحة أم تمثالا - قادرا على أن ينقلنا من موضوعه الجزئي المباشر إلى الموضوع العام الذي تندرج تحته كل الجزئيات؛ فلا شك في أن هذا الانتقال يتم عن طريق قدرة تذوقية خاصة لا تتوافر إلا لمن اكتسب خبرة وفهما عميقا لطبيعة العمل الفني في هذه المجالات. أما في حالة الموسيقى، فالتأثير المباشر لها هو الأحاسيس العامة، ومن المحال حين تسمع قطعة تثير فيك معنى الحزن أو الحماسة أن تقول: إن هذا حزن شخص معين، أو تحمس إلى نوع معين من الأفعال، وإنما الذي نحس به مباشرة هو شعور عام بالحزن أو بالحماسة، لا يمكن تخصيصه إلا فيما بعد، وبطرق ووسائل متكلفة.
وأما صفة الذاتية، فترجع إلى ما بين الموسيقى وبين الزمان من ارتباط وثيق؛ ذلك لأن فنون النحت والتصوير فنون مكانية، تخلق في بعدين؛ كالتصوير، أو ثلاثة أبعاد؛ كالنحت، وتتذوق مكانيا أيضا؛ أعني أن أعمالها الفنية تدرك في لمحة واحدة، ولا تأثير لمعنى الزمان في إدراكها إلا من حيث إنه يجلو بعض غوامض هذا الإدراك السريع الأول. أما الموسيقى، فهي فن زماني بالمعنى الصحيح: أعني أن أداءها يتم خلال التعاقب الزماني، ولا تتصور أنغامها أو إيقاعها أو مجموعاتها التوافقية إلا متتالية. وبعبارة أخرى، فالموسيقى تسير في خط زماني رأسي، أما فنون التصوير والنحت فتتبع مسارا مكانيا أفقيا. ولا شك في أن هذا الاختلاف راجع إلى طبيعة الوسائط الحسية التي تنقل بها هذه الفنون؛ فالموسيقى تنقل بالأذن، وهي حاسة تعتمد على التعاقب الزماني، أما الفنون التصويرية والتشكيلية فتنقل بالعين، وهي حاسة مكانية تلاحظ الأبعاد الخارجية وتدركها إدراكا مباشرا.
ولقد ربط الفلاسفة منذ عهد غير قريب بين الزمان وبين الذاتية؛ ذلك لأن إحساساتنا التي تصاغ في قالب مكاني، كالمرئيات والملموسات، هي إحساسات موضوعية، ندركها مباشرة بوصفها خارجة عنا، مستقلة عن ذاتنا، بل إن هذه الإحساسات هي أساس اعتقادنا بوجود عالم خارجي. أما الإحساسات التي تصاغ في قالب زماني، كالمسموعات، فهي بطبيعتها ذاتية، أعني أنها تعتمد على الذات التي تتلقاها اعتمادا أساسيا، وتبعث فينا شعورا بأنها صادرة عن أعماقنا الباطنة. وليس أدل على ذلك من أن التفكير بدوره - وهو عملية باطنة تماما - يتخذ قالبا زمانيا، يتمثل في تعاقب الأفكار بعضها وراء بعض، ولكنه يستحيل أن يتخذ قالبا مكانيا، أي: أن تشاهد الأفكار فيه خارجيا! فالموسيقى - على هذا الأساس - ألصق الفنون بأعماق الذات الإنسانية.
من أجل هذه الصفات الفريدة؛ كان للموسيقى مكانة خاصة لدى المفكرين والفلاسفة، وعدها بعضهم عنصرا من عناصر فهمه للكون بأسره. ودارس الفلسفة لا يغيب عن ذهنه رأي قديم يتمثل فيه قولنا هذا أصدق تمثيل؛ وأعني به رأى الفيثاغوريين، الذين فسروا الكون كله بأنه عدد ونغم. وإذا كانت عبارتهم هذه عبارة مجازية، تفسر بأنها إشارة إلى أن للكون وجها كميا، هو العدد، ووجها كيفيا، هو ما عبروا عنه بكلمة النغم، فلا ينبغي أن ننسى أن استخدام الرمز ذاته أمر له دلالته العميقة، وأن تعبيرهم عن كل الاختلافات والتنوعات الكيفية الهائلة في الكون بكلمة النغم، يدل على مدى اتساع مدلول الأنغام عندهم، ومدى ارتباطها بالطبيعة العامة للكون في نظرهم.
وإذا شئنا أن نعرض مثلا لفيلسوف حديث، فأهم الشخصيات في هذا الصدد هي شخصية شوبنهور. ولنقتبس هنا كلمات لها دلالتها العميقة، شرح بها شوبنهور طبيعة الموسيقى في الجزء الأول من كتابه «العالم بوصفه إرادة وتمثلا»: «إن كل النوازع والخلجات والسورات التي تنتاب الإرادة، وكل ما يجري في باطن الإنسان، ويطلق عليه العقل اسما سلبيا خالصا هو «الشعور»؛ كل ذلك يجد خير تعبير عنه في الألحان التي لا تتناهى إمكانياتها. ولكن ذلك التعبير في عموميته أشبه بالصورة الخالصة التي تجردت عن كل مادة؛ فهو يعبر عن الشيء في ذاته، لا عن مجرد الظواهر ... من تلك الصلة الوثيقة بين الموسيقى وبين الماهية الحقيقية لكل شيء، يتضح لنا أنه إذا عبرت الموسيقى تعبيرا ملائما عن منظر أو سلوك أو حادث أو جو، فإن كلا من هؤلاء يتبدى لنا ويبين معناه الباطن أمامنا بوضوح، وبهذا تكون الموسيقى خير شارح ومفسر له - كذلك يبدو لمن استجاب لتأثير سيمفونية، أنه يرى كل أحداث الحياة والعالم في ذاتها، مع أنه لو فكر في الأمر بروية لما وجد أي وجه للتشابه بين صوت الألحان وبين الأشياء التي تحيط به؛ ذلك لأن الموسيقى تختلف عن كل ما عداها من الفنون في أنها ليست صورة مقلدة للمظاهر، أو على الأصح للمظاهر الموضوعية للإرادة، وإنما هي صورة مباشرة للإرادة ذاتها، تعرض المعنى الميتافيزيقي لكل ما هو طبيعي في هذا العالم، وتوضح ما يكمن وراء كل ظاهرة من شيء في ذاته. وعلى ذلك، فكما يمكن تسمية العالم إرادة متجسدة، كذلك يمكن تسميته موسيقى متجسدة.»
لن نجد فيلسوفا تأثر بالطابع الفريد للموسيقى أكثر مما تأثر بها شوبنهور، على النحو الذي عبر عنه في النص السابق. وحسبنا أن نشير إلى أن هذا الفيلسوف، الذي رأى الكون كله مظاهر للإرادة، ولم يستطع أن يهتدي إلى هذه الإرادة ذاتها مباشرة، قد اهتدى إليها في الموسيقى، التي لا تقلد موضوعات خارجية، ولا تنقل أحاسيس النفس بطرق غير مباشرة، بل تعبر عن كل أوجه الإرادة تعبيرا مباشرا لا وسائط فيه، ومن هنا كانت في رأيه تصلح لفهم الطبيعة الكامنة للعالم ذاته، الذي هو تجسد الإرادة، أو إن شئت فقل: تجسد الموسيقى.
على أننا لا نود أن نطيل الكلام في هذه النظرة الصوفية إلى الموسيقى، وإنما الذي يعنينا هنا أن نشير إلى أن الطبيعة الخاصة للفن الموسيقي هي التي أوحت بمثل هذا الفهم لها.
والأمر الذي يجب أن نتنبه إليه، هو أن الموسيقى دائما فن إنساني قبل كل شيء؛ أعني أنها فن مرتبط بحياة الإنسان الواقعية، وبصراعه خلال هذه الحياة. فمن المحال أن نفهم موسيقى أية فترة من الفترات، إلا إذا عرفنا كيف كان الناس يعيشون فيها، وماذا كانت نظرتهم إلى الحياة وإلى العالم وإلى المجتمع.
وقد يبدو هذا الرأي غريبا بعد ما قلناه عن استقلال الموسيقى وعموميتها وذاتيتها؛ فقد يفهم المرء من هذه الصفات أن الموسيقى فن مستقل عن الواقع الحي الذي يعيش فيه الناس، وأنها تبلغ في عموميتها حدا يباعد بينها وبين أية نظرة خاصة إلى الحياة وإلى المجتمع، وأن القوة الوحيدة الدافعة إلى خلقها هي المشاعر الذاتية والظروف الفردية التي يمر بها مؤلفها فحسب. على أن هذا الفهم أبعد ما يكون عن قصدنا؛ فكل هذه الصفات التي أشرنا إليها، تتعلق بوسائل الخلق الموسيقي، لا بالقوة الدافعة إلى هذا الخلق، أو الأهداف التي يضعها الفنان نصب عينيه؛ ذلك لأن حساسية الفنان الصادق تجعله أكثر الناس تأثرا بأحوال الحياة المحيطة به، فتأتي موسيقاه صورة معبرة عن هذه الأحوال، وإن كانت وسيلته إلى الخلق الفني ذاتية. وعلى حين تكون المعاني الموسيقية عامة، فلا شك أنها تثير من الانفعالات ما يتلاءم مع الأفكار والمشاعر المسيطرة على ذهن الفنان. وبينما تعجز الموسيقى عن التعبير عن فكرة خاصة بعينها، أو إحساس محدد، أو حادثة جزئية؛ فإنها تعكس بلا جدال ذلك الجو الذي تأثر به الفنان، وتبعث في نفوس سامعيها إحساسا يتمشى مع إحساسه عند تأليفه لها. أما استقلال الموسيقى، فلا يعني على الإطلاق انعزالها عن الواقع المحيط بها، وإنما يعني اختلاف صورتها النهائية عن صورة موضوعها، ويعني أن العلاقة بينها وبين هذا الموضوع ليست علاقة محاكاة أو تمثيل، أو تصوير مباشر، وإنما هي علاقة إيحاء، تبعثه الموسيقى في النفس، فتخلق فيها شعورا عاما يتلاءم مع طبيعة ذلك الموضوع، وإن لم يكن يحاكيه بطريق مباشر.
ولست أعني أن كل موسيقى قد اكتسبت هذه الصفات، وأصبحت معبرة عن الواقع الحي الذي خلقت فيه مع تميز وسائلها بالصفات الخاصة للفن الموسيقي، ولكني أعني أن المثل الأعلى للموسيقى ينبغي أن تتوافر فيه هذه الصفات، وأن هناك بيئات موسيقية معينة قد اقتربت من هذا المثل الأعلى، وعملت على تحقيقه بكل ما وسعها من جهد، هي البيئات الموسيقية الغربية، وهي التي يدور حولها البحث في هذا القسم من دراستنا.
اللغة الموسيقية
لكل فن وجهان: وجه تركيبي، ووجه تحليلي. أما الوجه التركيبي فهو ذلك الذي يتبدى عليه العمل الفني في صورته النهائية، وموقفنا بإزاء هذا الوجه هو أن نحدد قيمته الجمالية، ونقيسه بالمقاييس الذوقية المتعارف عليها في ذلك الفن. وأما الوجه التحليلي، فهو - كما يدل على ذلك اسمه - تحليل مفصل للمراحل المختلفة التي يمر بها العمل الفني حتى يصل إلى صورته النهائية، ودراسة علمية دقيقة للوسائل التي يستخدمها الفنان، وللأساليب المختلفة التي يتأثر بها، وللتجديدات التي يبتكرها. وكل فن سليم يجب أن ينطوي على هذين الوجهين معا، وإذا كان الوجه الأول هو الذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة كلما ذكرت كلمة الفن، فلا جدال في أن الوجه التحليلي يمدنا بالأساس العلمي الذي يجب أن يرتكز عليه كل فن. حقا إن كثيرا من التحليلات التي نصل إليها في دراستنا العلمية للفن ربما تكون قد طرأت على الذهن الواعي للفنان، ولكنها مع ذلك ضرورية بالنسبة إلى الأجيال التالية، التي ينبغي أن تبني حياتها الفنية على استيعاب علمي كامل للتطورات السابقة في مجالها الخاص، حتى يمكنها أن تواصل الطريق على أساس سليم. أما الآراء التي تؤكد عنصر «الفطرة السليمة» والاستعداد الطبيعي وحده، وتهمل العنصر العلمي التحليلي، فهي بلا شك آراء خرافية لم يعد لها مجال في عالمنا الحالي.
وأول ما ينبغي أن ندرسه في تحليلنا العلمي للموسيقى، هو عناصر اللغة الموسيقية؛ ذلك لأن للموسيقى لغة خاصة بها، ولهذه اللغة عناصر لا يؤدي كل منها عمله على حدة، وإنما تتضافر وتتشابك كلها سويا في إخراج المؤلفات الموسيقية، وهذه العناصر هي: الإيقاع، واللحن، والتوافق الصوتي، والصورة أو القالب.
أما الإيقاع
Rhythm ، فهو الوجه الخاص بحركة الموسيقى المتعاقبة خلال الزمان؛ أي إنه هو النظام الوزني للأنغام في حركتها المتتالية. ويغلب على الإيقاع عنصر التنسيق أو التنظيم المطرد؛ ذلك لأن الإيقاع هو تكرار ضربة أو مجموعة من الضربات بشكل منتظم، على نحو تتوقعها معه الأذن كلما آن أوانها، فالإيقاع إذن لا يضيف إلى اللحن جديدا، وإنما هو تنظيم زمني لحركة اللحن، بحيث يتناوب خلال هذه الحركة عنصر التأكيد المتوتر، وعنصر إطلاق هذا التوتر وتخفيفه، وهكذا ... ولقد أدرك الباحثون وثوق الصلة بين الإيقاع الموسيقي وبين النظام الذي تسير عليه حركة الجسم وحركة الطبيعة؛ فللجسم حركات إيقاعية سريعة، كالتنفس بما فيه من شهيق وزفير، أو حركات بطيئة نسبيا، كتعاقب الجوع والشبع، والنوم واليقظة. وفي الطبيعة إيقاع ثنائي يتعاقب فيه الليل والنهار، وإيقاع رباعي تتعاقب فيه فصول السنة؛ ومن هنا قال كثير من الباحثين بأن للموسيقى أصلا عضويا أو طبيعيا، ما دامت الحركة الإيقاعية فيها ترديدا لحركات مناظرة لها داخل الجسم الإنساني أو في الطبيعة الخارجية، مما يؤدي إلى تكوين ما يمكن أن يسمى بالحاسة الإيقاعية لدى الإنسان. وليس أدل على ذلك من أن أول استجابة للطفل أو للبدائي بإزاء الموسيقى، تكون استجابة إيقاعية، تتمثل في نوع من التمايل أو الرقص البسيط مع إيقاع الأنغام. كما أن البوادر الأولى للموسيقى تكون في كثير من الأحيان إيقاعا خالصا، كما هو الحال لدى كثير من القبائل البدائية، التي تنحصر حياتها الموسيقية في دقات أنواع مختلفة من الطبول فحسب.
أما اللحن
Melody
فلا يكتفي بأن ينظم ضربات الموسيقى تبعا لشدتها أو خفوتها، وإنما يضيف إلى الإيقاع عنصرا جديدا، هو عنصر ارتفاع الأصوات أو انخفاضها
. ولا شك في أن استعمال كلمتي الارتفاع والانخفاض هو استعمال مجازي بحت؛ إذ ليست بين الأصوات علاقة مكانية من هذا النوع، وإنما المقصود بالصوت الرفيع، هو ذلك الصوت الذي تزداد سرعة ذبذباته، أما الصوت المنخفض أو العريض، فهو الذي يزداد بطء ذبذباته. والصوت الموسيقي عامة يتميز بانتظام ذبذباته وثباتها، ولكن بين الصوت الواحد والصوت الذي يليه - ارتفاعا أو انخفاضا - عدد كبير من الذبذبات، ومعنى ذلك أن الأصوات الموسيقية تتوالى بحيث تقف الأذن في مراكز معينة بين عدد كبير من الذبذبات التي تتدرج ببطء لا تميزه الأذن من تلقاء ذاتها. ومن مجموع هذه المراكز المعينة التي تقف عندها الأذن يتكون ما يسمى بالسلم الموسيقي.
ومن الواضح أن هذا السلم يختلف من نظام لحني إلى آخر؛ فهو في الموسيقى الغربية غيره في الشرقية، غيره في الموسيقى البدائية. وإذا بدا للناس أحيانا أنهم لا يستسيغون من الألحان إلا ما صيغ في السلم المألوف لديهم، واعتقدوا بعدئذ أن ما عداها من الألحان غير مقبول للأذن البشرية «بوجه عام» فما ذلك إلا بتأثير التعود، الذي يكيف حساسيتهم الفنية تبعا للنظام الصوتي الشائع لديهم. وفي اللحن تتوالى الأصوات ارتفاعا وانخفاضا، وتكون للمؤلف الموسيقي حرية التنقل بها كما يشاء، غير أن هذه الحرية ليست مطلقة، بل تقيدها بضعة قيود، منها مثلا أن الصوت الذي يمثل قاعدة السلم أو قراره
Tonic
هو أهم الأصوات، وهو الذي يرتد إليه اللحن في آخر الأمر، حتى تحس الأذن عندئذ بأن اللحن قد انتهى نهايته الطبيعية.
فإذا انتقلنا إلى التوافق الصوتي
Harmony ، وجدنا أن هذا العنصر غير المعروف في موسيقانا الشرقية، يحتل أهمية تتزايد على الدوام. والمتتبع لتيار الموسيقى الغربية يجد أنها بينما كانت تولي أكبر اهتمامها للحن في القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر، فإن اهتمامها قد تحول تدريجيا إلى التوافق الصوتي، حتى إن كثيرا من مؤلفي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لم يعبئوا بأن تكون موسيقاهم لحنية، وكان العنصر الأساسي لديهم هو التوافق الصوتي - والمثل الواضح في هذا الصدد هو موسيقى ديبوسي
Debussy .
وأساس التوافق الصوتي هو إيجاد الانسجام بين صوتين أو أكثر في وقت واحد، بينما اللحن أصوات منسجمة متعاقبة. ومع ذلك، فدراسة التوافق الصوتي لا تكتفي بالعلاقات بين مجموعة الأصوات التي تعزف في آن واحد فحسب، بل لا بد أن تعنى بالعلاقات بين هذه المجموعات ذاتها بعضها وبعض، وتنظم طرق الانتقال من الواحدة إلى الأخرى؛ حتى لا ينتهي اللحن مثلا بتوافق صوتي يبعث إحساسا بالتوقع والانتظار، وإنما يمهد مثل هذا التوافق السابق لتوافق آخر يبعث إحساسا بالاكتفاء والراحة. ومع ذلك، فجميع القواعد التي تتحكم في التوافق قابلة للتغير؛ إذ يضيف إليها التطور الموسيقي إضافات جديدة على الدوام، بل يسعى في بعض الأحيان إلى هدم نظم التوافق القديمة من أساسها.
أما الصورة أو القالب
Form ، فهي بدورها عنصر لا تعرفه الموسيقى الشرقية؛ إذ إنها تنظم العلاقات بين الأجزاء اللحنية في العمل الفني الطويل، وتضمن الوحدة بين أجزاء القطعة كلها. وهذه كلها مشاكل لا تحتاج الموسيقى الشرقية إلى مواجهتها! ومشاكل القالب الموسيقي عظيمة التعقيد، لا يمكننا في هذا المجال أن نشير إليها بالتفصيل. وحسبنا أن نقول: إن القطع الموسيقية الطويلة يمكن أن تميز فيها موضوعات لحنية رئيسية
Themes ، وإن المؤلف يجعل لهذه الموضوعات اللحنية نظاما معينا، ويجري عليها تنوعات واستطرادات عديدة؛ تبعا لما تمليه قريحته، وهو في كل ذلك يعالج الموضوع الأساسي واستطراداته تبعا لترتيب ونسق جرى عليه العرف الموسيقي، وإن تكن التغيرات الجزئية فيه ممكنة في جميع الأحوال. والبحث في الصورة أو القالب الموسيقي، هو تحليل للترتيب الذي يسير عليه المؤلف الموسيقي في صياغته لموضوعاته اللحنية الرئيسية، وفي نقلاته بينها وبين ما ينسجه حولها من استطرادات، بحيث يكفل لعمله الفني تنوعا حيا، ويضمن له في نفس الوقت وحدة شاملة. •••
والبحث في عناصر اللغة الموسيقية يؤدي بنا إلى تحليل الطريقة التي تتداول بها هذه اللغة. ولطريقة التداول هذه أهمية خاصة بالنسبة إلى الفن الموسيقي؛ ففي الفنون الأخرى ينقل العمل الفني من خالقه إلى متلقيه مباشرة، أما في الموسيقى، فالعلاقة ليست ثنائية مباشرة، بل هي علاقة ثلاثية؛ يتوسط فيها القائم بالأداة - سواء أكان عازفا أم مغنيا - بين المؤلف وبين المستمع؛ لهذا كان علينا أن نقف قليلا عند دور كل من أطراف هذه العلاقة الثلاثية في نقل لغة الموسيقى.
فالمؤلف يسجل نواتج خلقه الفني بالتدوين. ولا جدال في أن الموسيقى - شأنها شأن أية لغة أخرى - أفادت من التدوين فائدة عظمى؛ فهو قد أعان على حفظ المؤلفات الموسيقية دون أن يتناولها التحريف أو التشويه الذي تتعرض له لو نقلت بالسماع وحده. ولا شك أن رموز التدوين الموسيقي قد ازدادت دقة وثراء على الدوام، حتى أصبحت في العهود الأخيرة قادرة على تسجيل كل تفاصيل القطعة وألوانها، وأصبح من الممكن - إذا كان الأداء دقيقا - أن تؤدى القطعة على النحو الذي أراده مؤلفها تماما، دون أي إرشاد من المؤلف ذاته. ولم يكن الحال كذلك قديما، حين كانت المدونات الموسيقية تخلو من بعض العناصر التي تترك لتقدير القائم بالأداء. وبفضل التدوين أيضا أمكن أن تحدث هذه التطورات المتعددة في الموسيقى، التي ازدادت بها عمقا على الدوام؛ إذ إن التدوين يحمي المؤلف من تلقائية الارتجال وسطحيته، ويمكنه من صقل المادة الموسيقية الموجودة لديه وتهذيبها على أكمل وجه ممكن، فضلا عن إضافة أبعاد جديدة إليها تزيدها عمقا وثراء.
وبهذه المدونات يبدأ عمل القائم بالأداء؛ فمهمته هي أن يكون وسيطا، ينقل معاني المؤلف وأحاسيسه، كما سطرها في مدوناته إلى السامعين. وأوضح وأبسط الشروط التي ينبغي توافرها في الأداء، هو الدقة والأمانة. ولكن هذا الشرط يثير إشكالا ليس من اليسير حله. فإلى أي مدى يجب أن يذهب القائم بالأداء في دقته وأمانته؟ تختلف الآراء في الإجابة عن هذا السؤال؛ فهناك رأي يحتم على القائم بالأداء أن يجرد نفسه من كل ميل شخصي، وأن يحرص على النقل الدقيق وحده. على أن هذا الرأي يعاب عليه أنه يجعل القائم بالأداء سلبيا تماما، فيكون أشبه بالآلة التي خلت من تصرف واع؛ لهذا ينادي الكثيرون بأن يتصرف القائم بالأداء تبعا لفهمه وتذوقه الخاص، مع عدم إخلاله بالأصل الذي ينقله. والواقع أن عظماء العازفين والمغنين، تظهر شخصيتهم بكل وضوح في أدائهم، فتسمع اللحن الواحد منطبعا بطابع من يقوم بأدائه، وقد يكون هذا الطابع شخصيا إلى حد بعيد. وأذكر أنني كلما سمعت «كونشرتو» يقوم بالدور المنفرد فيه عازف الكمان العظيم «چوزيف زيجيتي
Joseph Szigeti » وجدت الأداء متأثرا بأسلوب الفنان الشخصي، الذي تدركه الأذن الخبيرة لأول وهلة، ويختلف عن كل ما عداه من طرق الأداء الأخرى، بحيث تبدو القطعة وقد اكتسبت روحا جديدة كل الجدة، كل هذا دون أدنى إخلال بالأصل. وتلك في الحق هي صفة الأداء البارع؛ أن يكتسب شخصية القائم به، ويتشرب بروحه، دون أن يصحب ذلك أي تحريف لما يسجله المؤلف في مدوناته.
أما دور المستمع، فهو تلقي تلك المعاني والأحاسيس التي سجلها المؤلف، ونقلها إليه القائم بالأداء. وإني لأذهب إلى أن الاستماع فن قائم بذاته، يقتضي تدريبا طويلا قبل أن يصل الإنسان إلى ممارسته على النحو الصحيح؛ ذلك لأن للاستماع درجات ومراحل متفاوتة ؛ ففي أول مراحله لا يكون المرء قادرا إلا على استيعاب الموسيقى الخفيفة، ذات الإيقاع الواضح، كالموسيقى الراقصة بأنواعها. ولما كانت هذه الموسيقى لا تتصف بالعمق، ولا توحي بالمهابة والوقار؛ فإن الاستماع إليها يكون عادة مصحوبا بأداء أفعال أخرى؛ كالكلام مثلا، فمن المحال أن تربى عادة الاستماع المركز في هذه المرحلة. وفي مرحلة تالية تبدأ ملكة الاستماع تكتسب مزيدا من الخبرة، ويكون في وسع المرء أن يتذوق مقطوعات أكثر عمقا، ولكنه لا يستطيع أن يهضمها كلها، أو أن يدرك معنى الأجزاء المعقدة فيها؛ لهذا نرى المستمع في هذه المرحلة يضيق في كثير من الأحيان بأجزاء معينة في المقطوعات التي يستمع إليها، وقد يبرح مكانه دون أن يكمل الاستماع! وأذكر - من تجربتي الشخصية - أنني كنت في هذه المرحلة أعجز عن التذوق الكامل للقطع الغربية التي تعزف على «البيانو» أو التي تغنى بالصوت البشري؛ ذلك لأن ضربات البيانو في الموسيقى الغربية، لا تملأ الفراغ الزمني بين كل علامة موسيقية وأخرى، بل تترك ذلك للرنين الصوتي الذي تحدثه الضربة الأولى، فكان من الصعب ملء هذا الفراغ بالنسبة إلى الأذن التي اعتادت سماع طريقة العزف الشرقية، وكانت القطعة تبدو مجموعة من الأصوات المنفصلة التي يعجز الذهن عن إيجاد الوحدة بينها. كذلك كانت الحركات الصوتية التي يتميز بها الغناء العربي تخفي الاتجاه الرئيسي للحن، فيصبح المرء عاجزا عن متابعته. وخلال الصعوبات التي يواجهها المرء في هذه المرحلة، نراه يلجأ في كثير من الأحيان إلى التشبيهات الشعرية؛ ليغلف بها اللحن، ويستعين بها على فهمه. على أن المثابرة على السماع كفيلة بأن تجعل المرء يتغلب على هذه العقبات، فيمكنه التمتع بكل أنواع التأليف والأداء. وفي المرحلة الأخيرة يكتسب المرء القدرة على التذوق الفني الكامل للموسيقى، بحيث يستطيع عندئذ أن يكشف موضوعاتها الرئيسية، ويدرك ما طرأ عليها من تنوعات واستطرادات، ولا يكتفي بالسطح اللحني الظاهر للقطعة، بل ينفذ إلى التيارات الخلفية والاتجاهات الخفية فيها، ويدرك الوحدة الكامنة وراء هذه الكثرة المعقدة من الأصوات. وهذه هي مرحلة الاستماع الكامل، الذي لا يتطرق إليه ملل، ولا تفوته جزئية من الجزئيات. وهي بلا شك تقتضي قدرا هائلا من التركيز، غير أن الخبرة والمران كفيلان بأن يجعلا هذا التركيز أمرا غير شاق، وبأن يمكنا المرء من زيادة درجة انتباهه دون أن يفقده ذلك لذة التمتع الجمالي بالأنغام.
وهكذا تتفاوت درجات الاستماع تبعا لخبرة المستمع ومدى عمق تجاربه وطول مدة مرانه، وينتهي به الأمر إلى أن يتفرغ خلال الاستماع إلى تفهم الموسيقى بكل تفاصيلها. ولعله قد اتضح لنا السبب الذي قلنا من أجله: إن الاستماع إلى الموسيقى فن قائم بذاته؛ ذلك لأنه في مرحلته العليا ليس عملا سلبيا كما يعني الكثيرون بكلمة الاستماع، وإنما هو عمل إيجابي بكل معاني الكلمة، يقتضي انتباها وتركيزا لا يكتسبان إلا بعد مران طويل الأمد، ويقتضي تدخل الذهن الواعي، إلى جانب الإحساس الانفعالي، أي: إنه عمل يشترك فيه العقل مع الحساسية، ويقتضي بجانب التذوق الوجداني، تفكيرا وتحليلا ومقارنة.
المعنى في الموسيقى
ارتبط معنى الفن طويلا بفكرة اللذة أو السرور، فقيل إن هدف كل أنواع الفنون هو أن يبعث في الإنسان شعورا باللذة، أو يجلب له السرور. وليس في هذا التحديد العام ذاته ما يثير إشكالا، وإنما تثار الإشكالات إذا كنا بصدد توضيح المقصود باللذة أو السرور؛ ذلك لأن البعض يفهمون اللذة بمعنى سلبي، فتكون حالة يتقبل فيها الإنسان مؤثرا خارجيا وينفعل له في استرخاء، دون أن يبدي من النشاط إلا الحد الأدنى، اللازم للإدراك البسيط وحده. ومثل هذا الفهم لمعنى اللذة الفنية يلقى اعتراضات عديدة في كل مجالات الفنون، وحسبنا هنا أن نشير منها إلى الاعتراضات التي توجه إليه في مجال الموسيقى.
فاللذة السلبية في مجال الموسيقى هي ما يسمى بالطرب، وهي كلمة ثار حولها جدال طويل في صحفنا المصرية في الآونة الأخيرة، ولكن الذي لا شك فيه أن طابع التأثير والانفعال السلبي هو الغالب عليها. فغاية ما يؤدي إليه الطرب - إذا اتخذ هدفا للتأثير الموسيقي - هو أن يبعث في الإنسان انفعالا؛ إما أن يكون هادئا يلطف أعصابه ويدفع عنه متاعب الحياة، وإما أن يكون عنيفا ينسيه مشاكله الواقعية، ويشغل أعصابه عن الاهتمام بالأمور الجدية في الحياة. والحق أن الكثيرين يعتقدون أن هذه هي الوظيفة الحقيقية للموسيقى، وأن مهمتها ترفيهية فحسب.
على أنه لو كانت هذه هي المهمة الحقيقية للموسيقى، لما جاز لنا أن نتحدث عن أي معنى لهذا الفن؛ ذلك لأن مجال المعاني أعلى من مجال الانفعالات السلبية التي لا تتيقظ فيها الملكات الواعية إلا في أدنى صورها. فهل تخلو الموسيقى بحق من أي معني؟ لا شك أن مثل هذا الخطأ في فهم وظيفتها لا يرجع إلا إلى التعود على أنماط معينة من الموسيقى، هي التي تبعث في الإنسان اعتقادا بأن مهمتها أن تطربنا سلبيا فحسب. ولو اتسعت تجربة المرء الموسيقية، واستوعبت الأنماط الرفيعة منها، لأدرك أن للموسيقى معنى بالفعل، معنى إيجابيا تماما، لا تكتفي فيه بأن تهز أعصاب المرء أو تثير الانفعال فيه، وإنما تضيف إلى ذلك إيقاظ العقل - عن طريق الحواس - وتنبيه الملكات الواعية، وكشف حقائق جديدة كانت النفس تجهلها من قبل. والحق أن هذه هي المهمة السامية للفن؛ ألا يكتفي بالتأثير السلبي فينا، بل أن يقدم إلينا شيئا إيجابيا، ويكسبنا مزيدا من المعرفة بالحياة التي نعيش فيها، كل فن بطريقته الخاصة، التي تختلف بالطبع عن طريقة التعلم أو التلقين العقلي المباشر. وبهذا المعنى وحده ينبغي أن نفهم الموسيقى.
ومهمتنا الآن هي أن نبحث في هذه الطريقة الخاصة التي تتميز بها الموسيقى في التعبير عن معانيها. وإذا كنا قد بحثنا من قبل في عناصر اللغة الموسيقية بحثا تحليليا، فعلينا الآن أن نبحث في الطريقة التي تصل بها الموسيقى في صورتها النهائية إلى أذهاننا، والتأثير الخاص الذي تتميز به في نقل معانيها.
ولقد اعتاد كثير من الناس أن يفهموا الموسيقى فهما شاعريا؛ بمعنى أنهم يبحثون عن معان أدبية أو صور حسية في كل لحن يستمعون إليه. ويبرر بعض المفكرين النظريين هذه الظاهرة بتقسيمهم الموسيقى إلى نوعين؛ نوع خالص أو مجرد، ونوع ذي موضوع أو برنامج؛ فالنوع الأول لا يثير في الأذهان صورا على الإطلاق، وإنما هو نماذج صوتية جميلة، ينبغي أن تسمع لذاتها فحسب، ومن أمثلته في موسيقى بيتهوفن الرباعيات
Quartets . أما النوع الثاني فيقصد به تصوير موضوع معين، وتصور هذا الموضوع خلال السماع يزيد من فهمنا للموسيقى، ومن أمثلته لدى بيتهوفن أيضا: السيمفونية السادسة (الريفية). وهكذا يجد أصحاب هذا التقسيم عذرا لأولئك الذين يحشدون كل ما يستمعون إليه بالتخيلات اللفظية أو التصويرية، بل إن البعض يرسم للموسيقى الخالصة ذاتها صورا معينة، هي بدورها صور هندسية مجردة، كالخطوط المتعاقبة التي صور بها وولت ديزني مقطوعة باخ «توكاتا وفيوج» في فيلمه الموسيقي «فانتازيا».
على أن هذا التقسيم الثنائي للموسيقى لا يحل أي إشكال؛ فستظل هناك مؤلفات موسيقية عديدة لا ندري تحت أي النوعين تندرج. ولنأخذ مثلا - في موسيقى بيتهوفن أيضا - السيمفونية التاسعة. فهل هي موسيقى مجردة؟ من المحال أن نقول: إن هذه الموسيقى نماذج صوتية جميلة فحسب، وأنها لا تحمل إلينا أحاسيس أو معاني أو أفكارا. ولكن هل هي إذن موسيقى ذات موضوع أو برنامج محدد؟ الحق أننا لو حاولنا أن نحدد هذا الموضوع أو البرنامج، لما أمكننا أن نرسم له خطوطا واضحة على الإطلاق، ولوجدنا أن من الممكن استبدال كثير من التشبيهات أو الأفكار بتشبيهات وأفكار أخرى لا تقل عنها انطباقا على الموسيقى.
بيتهوفن.
والذي يمكننا أن نؤكده هو أن الفارق بين الموسيقى المجردة والموسيقى ذات الموضوع فارق في الدرجة فحسب؛ ففي وسعنا أن نقول: إن كل موسيقى هي، بمعنى معين، موسيقى ذات موضوع؛ إذ إنها - من حيث هي إنتاج فني صادق، مرتبط بحياة مؤلفه وبمجتمعه ارتباطا وثيقا - لا بد أن تعبر عن معان نستطيع نحن أن نهتدي إليها. غير أن هذه المعاني، في الجزء الأكبر من الإنتاج الموسيقي المألوف، لا يمكن أن تكون جزئية محددة، نستطيع الإشارة إليها أو الاتفاق عليها بالإجماع، بل إن الموسيقى، كما قلنا من قبل، تتجاوز نطاق الجزئيات إلى الكليات؛ ولذا كان في وسعنا أن نقول: إن كل موسيقى هي، بمعنى آخر، موسيقى مجردة ، ما دامت تعلو على التفسيرات الجزئية المخصصة. فهاتان الصفتان - أعني كون الموسيقى ذات موضوع، أو كونها مجردة - ليستا أساسا لتصنيف المؤلفات الموسيقية، وإنما هما بالأحرى وجهان متباينان للتعبير الموسيقى ذاته. وهذا لا يمنع على الإطلاق من وجود مؤلفات معينة تقف في هذا الطرف أو ذاك؛ فالرباعيات في الطرف الذي تبلغ فيه المعاني أعم درجة ممكنة، والسيمفونية الريفية تقف في الطرف الآخر، الذي يحدد فيه مؤلفه النطاق الذي ينبغي أن تفهم مقطوعته من خلاله. وعلى أية حال فهذا النوع من الموسيقى ذات الموضوع الصريح قليل، وأغلب المؤلفات تجمع بين صفة وجود الموضوع، في صورة معان عامة، وصفة التجريد، التي ترجع إلى عمومية هذه المعاني ذاتها.
ولقد أجريت تجارب طريفة لمعرفة الأنماط المختلفة من المستمعين في فهمهم للموسيقى، نشرها ماكس شون
Max Schoen
في كتاب «تأثيرات الموسيقى
The Effects of Music » فقدمت قطع موسيقية مختلفة لجمهور فيه الموسيقيون المحترفون، وفيه ذوو الثقافة الفنية الرفيعة، ولكنهم ليسوا موسيقيين، وفيه من يحب الموسيقى سماعا، ومن لا يتذوقها على الإطلاق. ولوحظ أن ذوي الذوق الفني الرفيع، الذين لا يحترفون الموسيقى ولا يعرفون أصولها، يلجئون دائما إلى التشبيهات في فهمهم للموسيقى، وإلى إيراد الارتباطات التي تذكرهم بها، أما محترف الموسيقى، أو ذلك الذي اكتسب دراية بأصولها، فلا يفكر أثناء الاستماع إلا في الموسيقى من حيث هي موسيقى، ويتمتع بها تمتعا جماليا يخلو من أية صورة تخيلية أو تشبيهية. ومن هذه التجارب نستطيع أن نستنتج أن الخبرة الطويلة تؤدي بالمرء إلى أن يفهم الموسيقى على النحو الصحيح، فلا يحشدها بالمعاني الجزئية؛ إذ إن الموسيقى تقبل عديدا منها، وإنما يكتفي بالاستمتاع بها دون إقحام للخيال الشعري أو التصويري.
وهنا قد يتساءل المرء: هل تعني قابلية القطعة الموسيقية الواحدة لتفسيرات مختلفة، أن الموسيقى لا تعني شيئا على الإطلاق، وأن لكل فرد أن يفهمها كما يشاء، وفهمه في كل الأحوال باطل؟ الواقع أن هذه النتيجة أبعد ما تكون عما نهدف إليه؛ فللموسيقى - كما أكدنا من قبل - معنى بالضرورة، غير أن من طبيعتها أن يكون هذا المعنى عاليا على التشبيهات الجزئية التي يلجأ إليها أصحاب المزاج الشاعري أو الرومانتيكي من غير الخبراء في الموسيقى، الذين يؤكدون أن هذه الحركة من سيمفونية بيتهوفن الخامسة (مثلا) تشير إلى ضربات القدر، وتلك تعني الاستسلام له، وهذه يمثل بها الصراع معه، والأخيرة تعني الانتصار عليه ... إلى آخر هذه التشبيهات الأدبية التي تسيء إلى المتعة الجمالية أكثر مما تعين على تحقيقها؛ ذلك لأن أقصى ما تستطيع الموسيقى أن تبعثه فينا، هو أن تضفي علينا معاني وأحاسيس عامة، أي: إنها تخلق فينا «جوا» معينا، يمكننا أن ندرك تياره العام، ولكننا لا نستطيع أن نحدد تفصيلاته الجزئية، ولن نستفيد شيئا لو استطعنا ذلك.
كل هذه الأفكار عن صلة المعنى الموسيقي بمجال التشبيهات الشعرية أو التصويرية تؤدي بنا ضرورة إلى بحث علاقة الموسيقى بمجال مرتبط بها أوثق الارتباط، وأعني به مجال الكلمات، الذى اختلط بها اختلاطا وثيقا في الغناء. فإلى أي مدى تفيد الكلمات المرتبطة بالموسيقى في تحديد معانيها؟ وهل يزداد معنى الموسيقى دقة ووضوحا إذا شرح عن طريق الأغنية؟
لكي نجيب عن هذا السؤال، ينبغي أولا أن نفهم العلاقة بين الغناء والموسيقى فهما صحيحا؛ فليس الغناء أمرا دخيلا على الموسيقى، أو عنصرا أضيف إليها فيما بعد، بل إن العلاقة بينهما عكس ذلك؛ فالموسيقى هي التي استمدت من الغناء؛ ذلك لأن الفن الموسيقي قد بدأ منذ أن تعلم بعض المنشدين كيف ينظمون طريقة إنشادهم على نحو إيقاعي منغم، وظل فن الأنغام مرتبطا بالغناء طويلا، وعندما ظهرت الآلات الموسيقية، كان الغرض منها هو مساعدة الصوت البشري أو تقويته أو تزيينه. وبعد تطور طويل بدأت الآلات تستقل عن الصوت تدريجيا، ونظرا لاتساع مجال التعبير بها، فقد أخذت تفوقه بالتدريج، حتى أصبحت موسيقى الآلات هي الأساسية عند الغرب، وإن كان فن الغناء لا يزال على ازدهاره. وعلى ذلك فتطور علاقة موسيقى الآلات بالغناء تتلخص في أنها كانت تعتمد عليه في أول الأمر اعتمادا تاما، ثم استقلت عنه فيما بعد. وهذا الاستقلال الذي أصبحت تتصف به موسيقى الآلات في الوقت الحالي هو في ذاته دليل على أن الأنغام الخالصة، دون أية كلمات مصاحبة، هي وسيلة كافية للتعبير. بل إن هذه بعينها هي الصفة المميزة للتعبير في الموسيقى؛ أن يكون عاما، مستقلا عن كل وسيلة لتخصيص معانيه. فإذا قيل: إن هناك وجها هاما للموسيقى الغربية لم نتحدث عنه، وهو الفنون الغنائية؛ كالأوبرا، قلنا: إن هذا الوجه ليس استثناء لهذه القاعدة؛ فالأصوات البشرية في الأوبرا إنما تعامل معاملة الآلات الموسيقية، أعني أن المقصود منها هو التأثير عن طريق أنغامها، لا عن طريق كلماتها. والدور الذي تلعبه الكلمات في الأوبرا دور غير كبير، فما هي إلا وسيلة لإظهار الصوت البشري، ومطية له فحسب. والمستمعون إلى الأوبرا لا يترددون عليها من أجل ما فيها من كلمات، بل من أجل موسيقاها: موسيقى الآلات، وموسيقى الأصوات معا.
فللموسيقى إذن قدرة معبرة بذاتها، وهي ليست في حاجة إلى معونة الكلمات النثرية أو الشعرية لإكمال قدرتها التعبيرية، بل إن قوتها لتكمن في استقلالها، وفيما لها من كيان خاص ينقل لنا معاني عامة حقا، ولكن عموميتها هي أصل روعة هذا الفن.
على أن هناك موسيقيا واحدا له رأي آخر في علاقة الموسيقى بالكلمات أو الشعر، ولن يكمل عرضنا للقدرة التعبيرية في الموسيقى إلا إذا ناقشناه؛ هذا الموسيقي هو رتشارد فاجنر.
فقد رأى فاجنر - وهو في رأيه هذا يتفق مع ما قلناه ها هنا - أن تعبير الموسيقى عام إلى حد بعيد؛ فمعانيها لا تحدد في نطاق واضح يدركه الذهن عن وعي، بل هي غامضة مبهمة، تتسع لعديد من التفسيرات والتأويلات؛ فهي في رأيه تتعلق حقا بالمجال الباطن للنفس الإنسانية، ولكنها لا تقدم عن هذا المجال صورة واضحة المعالم. ومن جهة أخرى، فهو يرى أن الشعر قد ابتعد عن المجال الباطن، وأصبح أميل إلى سرد الحوادث الخارجية التي لا تتغلغل في أعماق النفس. أما محاولة التقريب بين الموسيقى والشعر في الأوبرا المعتادة، فيصفها بأنها محاولة سطحية، تظل الموسيقى فيها هي الطاغية؛ لهذا دعا فاجنر إلى خلق «الدراما الموسيقية»، التي تحاول الموسيقى فيها أن تقترب من الشعر إلى أقصى حد، ويعمل الشعر من جهته على تكملة الموسيقى؛ إذ إن الكلمات، بما تثيره من معان عقلية، تأخذ طريقها إلى النفس بتوسط الذهن أو العقل، وهي مع ذلك - وربما من أجل ذلك - تستطيع بسهولة أن تحدد المعنى الذي ترمي إليه، وتخصص الانفعال الذي تتجه إلى إثارته؛ فالموسيقى والشعر إذن وجهان يكمل كل منهما الآخر في الدراما، كما تصورها فاجنر: الأولى تنفذ إلى أعماق النفس مباشرة، ولكنها لا توجهها وجهة محددة، بل يتولى الشعر هذه المهمة، فتوضح كلماته معالم الصورة التي قدمتها إلينا الموسيقى في إطار مبهم.
رتشارد فاجنر.
وفي ضوء ما قلناه من قبل، يمكننا أن نهتدي إلى عناصر النقد الذي يوجه إلى رأي فاجنر هذا؛ فمن الخطأ البين الاعتقاد بأن عمومية التعبير الموسيقي هي مصدر نقص فيه، بل إن هذه هي طبيعة ذلك التعبير. وليست الموسيقى في حاجة إلى فن آخر مكمل، كالشعر؛ حتى تعوض هذا النقص المزعوم. وللمرء أن يشك في القيمة الحقيقية لهذا العمل الفني الجامع
Gesamtkunstwerk
الذي دعا إليه فاجنر، والذي يتضافر فيه، مع الموسيقى، الشعر والتصوير (في المناظر المسرحية) والتمثيل والرقص في بعض الأحيان؛ ذلك لأن كل هذه العناصر الفنية مجتمعة، لا تجلب متعة تفوق تلك التي يستشعرها المرء إذا استمع إلى سيمفونيات بيتهوفن أو برامز مثلا. والذي لا شك فيه أن رواد المسارح التي تؤدى فيها درامات فاجنر، لا يؤمونها من أجل ما فيها من شعر، ولا ما فيها من تمثيل أو مناظر مسرحية بارعة، بل من أجل ما فيها من موسيقى وغناء مصاحب لها فحسب. وما كان فاجنر بالشاعر الممتاز، كما ظن الكثيرون، بل إن الميدان الذي جلب له الشهرة هو الموسيقى وحدها.
وأخيرا، فعلينا أن نؤمن بأن للموسيقى، في مجالها الخاص، قدرة تعبيرية كاملة، وأنها فن مكتف بذاته، وأن عمومية معانيها مصدر قوة لها؛ إذ إن المؤلفات الموسيقية ذات الموضوع الواضح، الذي نستطيع أن نشير إليه لأول وهلة، هي عادة أضعف تأثيرا من تلك التي تؤثر فينا تأثيرا عاما، هو حقا مبهم، ولكن صداه في انفعالاتنا وأذهاننا واضح كل الوضوح.
التطور الموسيقي
في وسعنا أن نلخص التطور الذي مرت به الموسيقى من حيث قدرتها التعبيرية ووظيفتها وأسلوبها في عبارة واحدة؛ هي أنها قد سارت تدريجيا في طريق طويل، تحولت فيه من فن ذي نطاق ضيق في تعبيره ووظيفته وأسلوبه، إلى فن شامل ذي صبغة إنسانية عامة، وثيق الصلة بالحياة وبالمجتمع الإنساني الكبير.
ولسنا بحاجة إلى أن نعيد هنا ما ذكرناه في الفصل السابق عن تطور القدرة التعبيرية للموسيقى، وكيف أصبحت هي وحدها قادرة على نقل كل المعاني التي تدخل في نطاق قدرتها هذه، دون حاجة إلى أن تستعين بالشعر أو بأي فن آخر يضفي على هذه المعاني مزيدا من التحديد. والذي نود أن نشير إليه في هذا المجال، هو أن هذا التطور - الذي أكد للموسيقى استقلالها بوصفها فنا له كيان بذاته - قد أكسبها في نفس الوقت صبغة الفن الإنساني العام، الذي يعلو على كل الحدود والفواصل التي تفرق بين البشر؛ ذلك لأن الموسيقى لو كانت قد ظلت على تقيدها بالشعر، لأدى ذلك إلى صبغتها بصبغة محلية، ترتبط باللغة الخاصة لذلك الشعر في بيئاته المختلفة، وبالحوادث أو المعاني المتباينة التي يعبر عنها، والتي قد لا تفهم من حيث هي أعمال فنية إلا في هذه البيئات وحدها. ولا شك أن أمرا كهذا كان كفيلا بأن يقضي على طابع الشمول الذي ينفرد به الفن الموسيقي. أما استقلال الموسيقى، فقد أدى بها إلى أن تصبح أكثر الفنون عمومية، وأبعدها عن التقيد بالفواصل والحدود المحلية التي تميز جماعة بشرية عن الأخرى. والحق أن أي فن آخر لا يمكن أن يبلغ ما بلغته الموسيقى في هذا المضمار؛ ففي كل الفنون الأخرى نوع من التعبير العيني الملموس، الذي يرتبط - قطعا - بتجارب معينة قد لا تفهم أحيانا إلا في نطاق سياقها المحلي. أما الموسيقى، فإن الصبغة العامة التي لاحظناها عليها تجعلها أعم اللغات الفنية وأشملها. وإذا كان هذا الرأي ينطبق - إلى حد غير قليل ، ولا أقول: إلى حد تام - على «المعاني» التي تعبر عنها الموسيقى، من حيث إن عموميتها أوسع من أن تنحصر في مجال أو نطاق خاص، فإنه ينطبق بمزيد من الدقة على «وسائل» التعبير الموسيقي، أعني الأصوات وتفاعلاتها، التي تكون لغة تستجيب إليها الحساسية البشرية بطريق مباشر، دون حاجة إلى أية وساطة. وعلى أية حال فسوف نزيد هذا الموضوع بحثا وتحليلا عند الكلام عن الموسيقى والطابع القومي؛ لنختبر حجج أنصار «المحلية» أو «القومية» في الموسيقى.
أما التطور في وظيفة الموسيقى، فقد سار في نفس الاتجاه؛ أعني أنه أدى إلى تحويل الموسيقى من فن يخدم أغراضا خاصة، إلى فن إنساني يفي بالمقتضيات البشرية عامة؛ فقديما كانت الموسيقى وثيقة الارتباط بالسحر، فلا يستخدمها سوى تلك الفئة القليلة التي تقوم بالأعمال السحرية الغامضة، وتلك بلا شك هي أضيق المراحل نطاقا بالنسبة إلى أداء الموسيقى لوظيفتها؛ إذ إنها كانت عندئذ عملا سريا غامضا، يستعان به في تحقيق أغراض جماعة محدودة من الناس، ويحرم على الآخرين الاطلاع على أسراره، أو حتى تذوقه إلا فيما يخدم الأغراض السحرية. ولما كانت أعمال السحر في كثير من المجتمعات محرمة أو غير مشروعة، تهدف إلى أغراض خارجة عما يقره المجتمع، فمن الجائز أن ارتباط الموسيقى به في العهود القديمة هو الأصل الأول؛ لما شاع في بعض العقائد من تحريم أو كراهية لها.
وفي العصور الوسطى أصبحت وظيفة الموسيقى في الغرب هي خدمة أغراض الكنيسة، والمساعدة في أداء الطقوس الدينية. وعلى الرغم من أن هذه الوظيفة أوسع نطاقا من الوظيفة المرتبطة بالسحر؛ فإن مجالها كان لا يزال محدودا، بل إن طابع الغموض والسرية كان لا يزال قائما؛ إذ إن الكثيرين من العارفين بصنعة الموسيقى كانوا في ذلك الحين يضنون بها على من عداهم، ويحتكرون أسرارها لأنفسهم، ويوجهونها وجهة تتمشى مع أغراضهم الخاصة. ومن المحال في ظروف كهذه أن تكون الموسيقى فنا إنسانيا عاما.
وفي أوائل العصور الحديثة، حدث في الغرب تطور أدى إلى توسيع نطاق وظيفة الموسيقى، وإن كانت قد ظلت بعيدة عن النطاق الإنساني العام. فقد انتقلت الموسيقى من الكنائس إلى قصور الأمراء والنبلاء الإقطاعيين، وكان ذلك الانتقال طبيعيا؛ إذ إن مركز السلطة ذاته قد انتقل من الكنيسة إلى الحكام المحليين في أوروبا، فضلا عن أن كثيرا من رجال الدين كانوا في الوقت نفسه من كبار الإقطاعيين. وبعد أن كان الموسيقي تابعا للكنيسة، أصبح يعمل في خدمة الأمير، شأنه شأن أي واحد من أصحاب الوظائف في القصر. وكانت مهمة الموسيقي عندئذ هي أن يؤلف مقطوعات يقصد بها الترويح عن الأمير وعن ضيوفه في الحفلات الخاصة. ولا شك أن كثيرا من هذه المقطوعات كانت تتعدى هذا النطاق الضيق، وتنتشر بين جماعة أوسع، غير أن مجالها الأصلي كان تلك الجماعة المحدودة التي يكونها الأمير وخاصته، وهدفها هو إشاعة المرح والسرور في نفوسهم فحسب. عندئذ كان من الطبيعي أن يعجز الموسيقي عن التعبير عن معان إنسانية عامة، أو أن يعكس في موسيقاه أحاسيسه وانفعالاته الحقيقية، وإنما كان يقدم قطعا يغلب عليها طابع الرقص الخفيف، أو قطعا تكشف عن البراعة في العزف، وتتناسب مع طبيعة الجمهور الذي توجه إليه.
ولا جدال في أنه - إذا استثنينا حالات فردية قليلة - كان من المستحيل على الموسيقي عندئذ أن يسير وحده في اتجاه مستقل، بينما كانت كل الأوضاع الاجتماعية الأخرى توحي بالخضوع لاستبداد طبقة الإقطاعيين الكبار. ولم يبدأ التحرر الحقيقي في ميدان الموسيقى إلا بعد أن حدث تحرر مواز له في ميدان العلاقات الاجتماعية العامة. ومن الظواهر التي لا ينبغي أن تمر بنا دون تعليق نستنبط فيه دلالتها العميقة: أن آخر الموسيقيين التابعين، الذين عاشوا معتمدين على وظيفتهم لدى أمير من الأمراء، كان موتسارت، الذي مات في عام 1791م، أي في الوقت الذي كانت الثورة الفرنسية فيه قد بلغت أوج احتدامها؛ فبعد هذه الثورة - التي قلبت الأوضاع الاجتماعية رأسا على عقب، وأكدت مبادئها احترام الشخصية الإنسانية، وقضت على سلطان الإقطاعيين نهائيا - لم يظهر موسيقي واحد من التابعين، بل اتسع المجال لوظيفة جديدة للموسيقي، ظهرت بأجلى معانيها عند بيتهوفن ، وهي وظيفة التعبير عن المشاعر الإنسانية المستمدة من أعمق التجارب الواقعية للفرد في مجتمعه. وإذا كان تجديد بيتهوفن يبدو - لمن يتتبع التاريخ الموسيقي وحده - طفرة جبارة، ليس لها نظير، فإنه يبدو أمرا طبيعيا إذا ربطنا تاريخ الموسيقى بالتاريخ الاجتماعي العام. ومنذ ذلك الحين تأكدت هذه الوظيفة الجديدة للموسيقى، وأصبحت هي المحور الذي تدور حوله الأعمال الرائعة في هذا الفن.
على أننا لا نستطيع أن نقول: إن تحرر الفنان قد أصبح تاما، وإنه يستطيع الآن أن يعبر عن تجاربه الإنسانية تعبيرا خالصا لا يعوقه عائق؛ ذلك لأن الفنان الموسيقي بعد أن استقل عن تحكم الأمير أو الإقطاعي، قد بدأ يستعين بالناشرين والمنظمين من أجل كسب عيشه. ولو راجعنا تاريخ حياة الموسيقيين المشهورين، لوجدناه حافلا بأمثلة استغلال تجار الموسيقى لهم، ولكن هذا الاستغلال قد اتسع نطاقه في القرن العشرين إلى حد لا نظير له. فقد أدى التوسع في تطبيق الكشوف العلمية في مجال الموسيقى، إلى أن تضاعف عدد المستمعين آلاف المرات، بل أصبح الاستماع إليها أمرا يكاد يكون في ميسور الجميع، عن طريق الإذاعة اللاسلكية والتسجيلات. ولقد كان مثل هذا الأمر كفيلا بأن يؤدي إلى بعث نهضة موسيقية هائلة، ولكن الذي حدث هو أن مديري الأعمال والمنظمين وأصحاب الشركات، قد استغلوا هذا التوسع على نحو أدى إلى أن يضيق به الموسيقيون أنفسهم.
ومن أمثلة ذلك ما يلاحظه موسيقي أمريكي معاصر هو
Roger Sessions
من أن الفنان قد أصبح خاضعا لمشيئة السوق، ولما يمليه عليه المتعهد بتنظيم أعماله الفنية ونشرها، ومن أن المستمع قد أصبح «مستهلكا» ينبغي إرضاؤه بطريقة لا تختلف كثيرا عن الطرق التجارية المعتادة
1
ولا شك أننا لا نستطيع في مثل هذه الظروف أن نتحدث عن تحرر موسيقي كامل، طالما كان الفنان خاضعا لتقلبات السوق ومقتضياته. غير أن ما يقيد حرية الفنان في مثل هذه المجتمعات هو ذاته ما يقيد حرية كل فرد آخر فيها، وأعني به الاستغلال الجشع الذي تتميز به الشركات الكبرى في معاملاتها. وفي مثل هذه المجتمعات لا يكون من المستغرب أن نجد الفن الموسيقي الصحيح يعاني تأخرا كبيرا.
وإذن فلنا أن نقول: إن فنا كالموسيقى يقتضي - إذا شاء أن يصل إلى التحرر الكامل في أداء وظيفته - أن يتخلص من تحكم الاستغلال التجاري، بحيث تتوافر للفنانين حياة مستقرة هادئة، تضمن للكفاءات الصحيحة منهم أن تظهر وتتفوق بمجهودها الخاص، دون أن تتدخل العوامل الاستغلالية المصطنعة في رفع شأن البعض وخفض البعض الآخر؛ لاعتبارات قد لا يكون لها في كثير من الأحيان صلة بالفن ذاته. ومع ذلك، ففي وسعنا أن نقول: إن الموسيقى، على الرغم من هذه القيود التي لا زالت تكبلها في كثير من المجتمعات، قد أصبحت فنا إنسانيا شاملا، وتجاوزت وظيفتها نطاق التعبير عن مقتضيات فئات قليلة من الناس، فأصبحت تتحدث بلسان الإنسان بوجه عام، وترتبط بمشاكله الحقيقية أوثق الارتباط. •••
شونبرج.
فإذا انتقلنا إلى الحديث عن التطور في أسلوب الموسيقى، أو في طرق أدائها، لوجدنا أن هذا التطور قد سار دائما نحو تحقيق الغاية العامة التي تحدثنا عنها من قبل؛ فكل الكشوف التي استحدثها الموسيقيون منذ عهد باخ حتى عصرنا القريب، كانت ترمي إلى زيادة القدرة التعبيرية للموسيقى، وإلى توسيع نطاق لغتها؛ حتى تفي بمقتضيات هذا الفن الإنساني الرفيع.
ولقد ظل التطور في هذا الطريق يسير متصلا، فيأتي كل فنان بتجديدات رائعة، سرعان ما تندمج في التراث الموسيقي القديم؛ لتكون معه مركبا أعمق وأغزر مما عرف من قبل. وأدى تدرج هذا التطور إلى تمكين الناس من فهم كل تجديد ذي قيمة، واستيعابه سريعا، ثم ضمه إلى تلك الذخيرة الضخمة من الكشوف والتجديدات، التي حفل بها تاريخ الموسيقى الحديثة. وكان التجاوب يسود دائما بين جماهير المستمعين وبين الفنانين، هذا إذا استثنينا حالات قليلة من عدم الاعتراف، سرعان ما كان يعقبها تقدير كامل للفنان إذا كانت مؤلفاته تستحق ذلك.
غير أن تاريخ الموسيقى فوجئ في أواخر القرن التاسع عشر، والربع الأول من القرن العشرين، بحركة موسيقية تكاد ترمي إلى اقتلاع الماضي من جذوره، وإلى استحداث تجديدات - أو على الأصح انقلابات - في الأسلوب الموسيقي، تكاد تنكر التطورات الماضية، أو تترفع عن الاندماج فيها. وللمرة الأولى في تاريخ الموسيقى، يحدث تجديد يعترف مبتكروه ذاتهم بأنه لا يهضم ولا يفهم إلا بعد عناء طويل، ويؤكدون - رغم ذلك - أن عدم فهم الناس له لا ينقص من قدره شيئا، بل يصرون على أن هذا الاتجاه هو وحده الذي ينبغي أن تسير فيه الموسيقى إذا شاءت أن تخرج عن دائرة التكرار الرتيب.
وهكذا ظهرت «ابتكارات» عديدة في كل ميادين الموسيقى: فعند شونبرج
Schönberg
يقضى تماما على السلم الغربي بفرعيه: الكبير والصغير، وتزول أهمية الأبعاد بين الأصوات، ويصبح لكل نصف صوت من الاثني عشر نصفا، التي يتكون منها ذلك السلم، نفس الأهمية التي للآخر. وتبع ذلك تغيير أساسي في توافق الأصوات، فلم تعد القاعدة فيه إحداث توافق بين أصوات تنتمي إلى سلم واحد يتمشى مع الاتجاه الذي يسير فيه اللحن في موضع التوافق، وإنما أصبح التوافق بين أصوات منفردة، أو مجموعات من الأصوات، ينتمي كل منها إلى سلم مختلف. وحدثت تغيرات موازية في «صورة» الموسيقى أو قالبها على يد سترافنسكي
Stravinsky ، فلم يعد الفنان يبالي بالصور التقليدية، بل أصبح انطلاق اللحن «حرا» لا يعوقه شيء. ومنذ ذلك الحين أخذت التجديدات تتوالى، وتبارى الموسيقيون في كشف قواعد غير مألوفة، أو في الخروج عن القواعد المألوفة، بل أتى على الموسيقى وقت ظن فيه أن القوالب القديمة قد اندثرت تماما، وأن الاتجاه الثائر الجديد قد استقر نهائيا. غير أن مثل هذه الحمى التجديدية التي بلغت أوجها في الربع الأول من القرن العشرين، أخذت بعد ذلك تفتر رويدا رويدا، وبدأ الفنانون ينظرون بعين نقدية إلى الكشوف الثائرة السابقة؛ يستبعدون منها الكثير، ويستبقون منها ما يؤمنون حقا أنه يضفي على الفن الموسيقي لونا جديدا، يتلاءم مع الألوان الزاخرة التي أضفاها عليه السابقون. ونستطيع أن نقول: إن الأسماء التي تتألق اليوم في عالم الموسيقى، هي في معظهما أسماء فنانين استطاعوا - على نحو ما - أن يستفيدوا من الكشوف الانقلابية استفادة مستنيرة، وألا يندفعوا في تيار التجديد إلى الحد الذي يجعل من موسيقاهم سلسلة متصلة من الأصوات الغريبة التي لا تستسيغها الآذان، ومن هذه الأسماء: سبيليوس، ورتشارد شتراوس، ورخمانينوف، وخاتشاتوريان، وشوستاكوفتش، وبروكوفييف.
سترافنسكي.
سيبيليوس.
فما هي الأسباب التي دعت إلى نبذ الثورة الانقلابية في الموسيقى، والعودة إلى التجديد التدريجي المتزن؟ الذي لا شك فيه أن فهم الوظيفة الحقيقية للفن الموسيقي هو الذي أرشد الموسيقيين إلى المنهج السليم الذي ينبغي أن يتبعوه في أسلوبهم. فالموسيقى - بعد أن أصبحت فنا يخاطب الإنسانية كلها، ويعبر عن معان ترتبط بحياة الناس الفعلية في هذا العالم - كان من المستحيل أن ترجع ثانية إلى الوراء، فتتحدث بلغة غامضة لا يفهمها إلا الأقلية النادرة، بل لا تفهمها هذه الأقلية ذاتها! أجل؛ فتلك الدعوى القائلة: إن الآذان لا تستسيغ الموسيقى الجديدة؛ لأنها لم تألفها، وأنها إذا اعتادتها فسوف تحسن فهمها وتذوقها، وتهتدي فيها إلى ما لم تدركه من عناصر الجمال - تلك الدعوى باطلة؛ إذ إن الآذان مهما ألفت سماع الموسيقى المبنية على النظم الثورية الخالصة، فلن تجد فيها «جمالا» بالمعنى المألوف. إن التحليل العقلي يكشف في هذه الموسيقى تجارب صوتية جديدة لم تعرف من قبل، ولكن عنصر التمتع الجمالي مفقود فيها، بل إن بعض المقطوعات التي تتطرف في تطبيق المذاهب الحديثة لا تعدو أن تكون مجموعة من الأصوات الخشنة التي لا يمكن أن يخفف التعود من تنافرها. وادعاء أشخاص معينين أنهم يجدون لذة فنية في الاستماع إلى هذه الموسيقى هو من قبيل «الحذلقة» فحسب. وأقصى ما يجده المرء فيها، هو نوع من المتعة العقلية، الناشئة عن الإحساس بارتياد آفاق مجهولة في العالم الصوتي.
2
وإذا استثنينا القلة المتعمقة في دراستها، التي تهتم بتحليل مثل هذه الكشوف علميا، فسوف نجد أن الكثرة الغالبة من الجمهور - الذي تتوجه الموسيقى عادة إليه - لا شأن لها بهذه التجارب الصوتية في قليل أو كثير. وفي هذا - بالإضافة إلى ما لاحظناه من غياب عنصر التمتع الجمالي عند الاستماع إلى هذه الموسيقى - نجد التعليل الكافي للإخفاق الذي صادفته تلك المحاولات التجديدية المتطرفة؛ ذلك لأن الموسيقى قد سارت في الطريق الذي تخاطب فيه الناس بمعان يفهمونها، ويجدون فيها صدى لإحساساتهم في حياتهم الواقعية. وهي قد أخذت على عاتقها أن تعين الإنسان في سعيه الدائم إلى التقدم، ولا بد لها - تبعا لذلك - أن تشق طريقها إلى أذهان الناس جميعا. فإن ظهر نظام موسيقي لا يصل إلا إلى فئة متخصصة قليلة، كان هذا النظام محكوما عليه بالإخفاق منذ البداية؛ فمنذ اللحظة التي أصبحت فيها الموسيقى فنا إنسانيا، أصبح من الواجب أن يتمشى أسلوبها مع صفتها هذه. وفي الحق أن هذا هو الطابع الذي تتميز به أروع المؤلفات الموسيقية في عصرنا هذا؛ أعني تلك المؤلفات التي عاشت وذاعت، لا تلك التي بهرت الناس وأدهشتهم لحظة، ثم غابت في ظلمات النسيان!
التعبير في الموسيقى الشرقية
مشكلة الموسيقى الشرقية
ليس لدينا في الشرق فن موسيقي بالمعنى الصحيح.
هذا هو الحكم الذي يرمي هذا القسم من الكتاب إلى إثباته. وهو بلا شك حكم قاس، قد يرى فيه الكثيرون تجنيا على الفن الموسيقي في بلادنا الشرقية. غير أنني لن أذهب في إيضاح رأيي مذهب أولئك الذين يكتفون بالعبارات الحماسية، ويهيبون بالعوامل الذوقية وحدها من أجل إثبات صواب آرائهم؛ فهؤلاء - رغم أن حدسهم كثيرا ما يكون صادقا، وحماستهم أمينة مخلصة - يمكن الرد عليهم برأي مضاد يمثل وجهة النظر العكسية، وعندئذ يظل الخلاف سجالا بين الرأيين، دون الوصول إلى حل حاسم له، طالما أن العوامل الذوقية هي وحدها التي تحكم في هذا الخلاف؛ لذا آثرت أن أقدم لرأيي هذا أسبابا وحججا عقلية خالصة، تقف بجانب العنصر الذوقي وتؤيده، ورأيت أن ألجأ إلى طريقة التحليل المنطقي الهادئ؛ حتى تظل مناقشة هذا الموضوع الهام منحصرة في المجال العلمي وحده.
وأود - قبل أن أنتقل إلى المناقشة التفصيلية - أن أشير إلى مسألة هامة، هي مسألة العلاقة بين الموسيقى الشرقية والغربية؛ ففي خلال التحليل التالي، يجد القارئ كثيرا من المقارنات بين الموسيقى في الشرق وفي الغرب، أو - كما أفضل أن أسميهما - بين موسيقانا المحلية وبين الموسيقى العالمية. وقد يرى البعض أن هذه المقارنة غير مشروعة، ما دامت تقوم بين نظامين متباينين لكل منهما طبيعته ومقوماته و«بيئته» الخاصة. وأسارع منذ البداية فأنبه إلى أن هذا الرأي - في نظرنا - أبعد ما يكون عن الصواب؛ فالفارق بين الموسيقى الشرقية والغربية ليس فارقا في النوع، وإنما فارق في الدرجة فحسب؛ أعني أن المقارنة بين نظامي الموسيقى ممكنة بوصفها مقارنة بين نظام قطع شوطا بعيدا في طريق التقدم، ونظام آخر لا يزال يسير في أولى مراحل الطريق. وكل ما يبدو من هوة شاسعة بينهما، إنما يرجع إلى عمق تجربة الغربيين في هذا المضمار، واكتسابهم خبرات تحتاج إلى جهود هائلة ووقت طويل لتحصيلها. أما إقحام موضوع «القومية» في هذا المجال، فهو دعوى باطلة، سوف نفندها خلال بحثنا في هذا القسم.
ولنبدأ بتناول الموضوع من أعم نواحيه؛ فمما لا شك فيه أن من علائم تقدم أي فن أن يستطيع الوقوف على قدميه بمجهوده الخاص، وألا يكون في حاجة إلى فن آخر يكمل التعبير عن معانيه. وفي هذا رأينا الموسيقى الغربية قد استقلت عن الشعر والغناء منذ زمن بعيد، وتمكنت - بعد تطور طويل - من أن تؤدي رسالتها التعبيرية كاملة، دون حاجة إلى معونة أي فن آخر، وأصبح الشعر أو الرقص لا يضاف إلى الموسيقى من أجل ملء فراغ فيها، بل من أجل إيجاد جديد من الفن الموسيقي الشعري، أو الموسيقي الراقص فحسب.
فما هي الخطوات التي خطتها الموسيقى الشرقية في طريق الاستقلال؟ من الواضح أن هذه الموسيقى تقف عاجزة تماما عن التعبير عن أي معنى أو أية عاطفة؛ فالموسيقى الشرقية لا تملك بذاتها أية قدرة تعبيرية، وإنما تكاد تجربتنا الموسيقية كلها تنحصر في الأغاني وحدها. فإذا بحثت عن موسيقى خالصة، فلن تجد إلا محاولات بدائية قصيرة خفيفة، لا تعبر عن شيء، وليس لها شأن يذكر بجانب الأغاني، ولا تؤثر على الجمهور أدنى تأثير، رغم سهولة فهمه لها؛ إذ إنها بدون كلمات الأغنية عاجزة تماما. بل لقد كنا - حتى الأمس القريب - نطلق على الموسيقى الخالصة اسما ذا دلالة عميقة، هو اسم «الموسيقى الصامتة»! كأن الموسيقى بطبيعتها يجب أن تكون كلامية لتكون «ناطقة»، وكأن الموسيقى وحدها فن أخرس، وأصواتها المتعددة بأسرها «صامتة» إن لم تصاحبها كلمات الأغنية! ولا جدال في أن اعتماد الموسيقى على الأغنية وحدها هو أوضح مظاهر تأخرها؛ إذ إن الأغنية بطبيعتها محدودة المجال، تكفي الكلمات فيها - في كثير من الأحيان - للتأثير على السامعين، مهما كانت سذاجة الموسيقى التي صيغت فيها. والحق أن لدينا من الأغنيات ما لا يشيع إلا بفضل إعجاب السامعين بألفاظها، أو تقديسهم لمعانيها، في الوقت الذي تصل فيه أنغامها إلى أقصى درجات السذاجة والإملال!
فحين تتحدث إذن عن فن الموسيقى الشرقية، ينبغي أن نذكر دائما أن هذا الفن لم يصل بعد إلى درجة الاكتفاء الذاتي، وأنه لا زال فنا للأغاني، كما كان الحال في الموسيقى الغربية منذ ما يقرب من أربعمائة عام! فنحن نستعين بالألفاظ دائما في تذوق الموسيقى، وفي إضفاء معنى عليها، ما دامت موسيقانا الخالصة - إن وجدت - خالية من كل معنى. بل إن وحدة الهدف بين الموسيقى والكلمات في الأغنية الواحدة تكاد تكون مفقودة؛ إذ إن تلحين الأغنية يصلح لأية أغنية إذا اتفقت معها في الوزن الشعري، ومن الممكن أن تحل موسيقى أغنية حزينة محل موسيقى أغنية مرحة، دون الشعور بأي تنافر بين الكلمات والألحان.
وليس هنا مجال الحكم على العنصر الكلامي في الأغنية الشرقية، ما دام هدفنا هو بحث الموسيقى ذاتها. وحسبنا أن نشير هنا إلى ما يمكن أن يلاحظه أي ذهن مدقق على معاني هذه الأغنيات من رومانتيكية ساذجة، واهتمام مفرط بمشكلة الحب يعبر عن التعقيدات الجنسية التي تعانيها أجيالنا الحالية في الشرق أوضح تعبير، بل يزيد هذه التعقيدات بالتنبيه إليها والإلحاح عليها؛ كل هذا في قالب يغلب عليه الحزن واليأس، ويعكس ما ظلت شعوبنا الشرقية تعانيه طويلا من حرمان، وما خدعت به من تزييف لأهداف الحياة، حتى أصبح محترفو الموسيقى عندنا يتبارون في التأوه والتباكي، وتقاس مكانة كل منهم تبعا لمقدار ما يستطيع استدراره من دموع!
فعالمنا الموسيقي إذن ينحصر في نطاق ضيق للغاية، هو نطاق الأغنية، وحتى في هذا النطاق الضيق لا تؤدي الموسيقى وظيفتها الصحيحة على الإطلاق. ولنقف الآن عند هذه الملاحظة العامة؛ لنبحث في عيوب التلحين في الموسيقى الشرقية، مفهومة بالمعنى الذي أوضحناه هنا. وسوف نسترشد في هذا التحليل بالتقسيم الذي ذكرناه من قبل لعناصر اللغة الموسيقية، وهي اللحن، والإيقاع، والتوافق الصوتي، والصورة أو القالب.
اللحن في الموسيقى الشرقية يتميز بطابع فريد ينبغي أن نحاول استخلاصه واضحا؛ حتى يتسنى لنا إدراك نواحي النقص فيه إذا قورن باللحن في الموسيقى الغربية. ولنبدأ أولا بالكلام عن السلم في الموسيقى الشرقية؛ فكثير من المتحمسين لهذه الموسيقى - أو على الأصح من المشتغلين بها نظريا أو عمليا - يرون أن للموسيقى الشرقية ميزة تفخر بها على الموسيقى الغربية، هي تعدد السلالم، بينما تقتصر الموسيقى الغربية على سلمين رئيسيين: الكبير والصغير. وفي رأينا أن هذه المسألة ذاتها لا ينبغي أن تكون موضوع فخر على الإطلاق؛ ذلك لأن السلم الموسيقي لا يعدو أن يكون «الحروف» التي تصاغ بها كلمات اللغة الموسيقية وجملها. وتعدد هذه الحروف، أو إجادة كتابتها بخط جميل، لا يعني أن القطعة التي صيغت بها هي قطعة رائعة بالضرورة؛ فالعبرة دائما بالموسيقى التي تؤلف، لا بكثرة السلالم المستخدمة في تأليفها. وبعبارة أخرى: فالحكم على أي نظام موسيقي بأن له ميزة بفضل السلالم التي يصاغ بها، هو حكم باطل من أساسه؛ لأن السلالم ما هي إلا الحروف الأبجدية للحن، وأساس الحكم ينبغي دائما أن يكون هو اللحن ذاته. وما أشبه ذلك بالقول: إن اللغة الصينية لا بد أن تنتج آدابا تفوق آداب كل اللغات الأخرى؛ لأن فيها آلاف الحروف الهجائية! فالمبدأ العام الذي ينبغي أن نسترشد به في هذه المشكلة هو أن الحروف ذاتها لا تعني شيئا، وإنما العبرة دائما بالفكرة النهائية التي تستخدم هذه الحروف أدوات لنقلها.
أما إذا انتقلنا إلى مناقشة تفاصيل هذه الدعوى، فنحن واجدون أن تعدد السلالم قد يكون في بعض الأحيان نقصا ينبغي تلافيه. والحق أننا لو تأملنا صوت عربة قديمة صدئة، لوجدناه يتضمن آلاف السلالم، ولكنه لا ينطوي بالطبع على أي جمال! ومهمة الموسيقى هي تنظيم هذه الأصوات العديدة في مجموعات قليلة متناسقة، تضمن إخراج ألحان ذات قيمة فنية. ونستطيع أن نقول: إن التطور الموسيقي الطويل في الغرب قد أدى إلى ضغط هذه السلالم المتعددة في النوعين الرئيسيين المعروفين، وما أشبه هذه العملية بعملية ضغط الحروف الهجائية في مجموعة قليلة العدد، يمكن أن تستخدم أدوات لنقل كل كلمات اللغة ومعانيها. والتعدد في ذاته لا يكون مرغوبا فيه إلا إذا قصرت الأدوات الموجودة عن التعبير. ولكن أين التقصير وقد عبر هذان السلمان الغربيان عن روائع عالمية لم يفقدها الزمن تأثيرها حتى اليوم؟!
ولقد أتى على الموسيقى الغربية حين من الدهر وقع فيه فنانوها في خطأ الاعتقاد بأن تعدد السلالم الموسيقية أمر مرغوب في ذاته، فاستحدثوا نظما لحنية تخرج عن السلالم المألوفة، بل لا يمكن إدراجها تحت أي سلم، كما هو الحال في موسيقى شونبرج، غير أن هذه الثورة الفنية سرعان ما اتضح تطرفها فيما بعد، وأخذ الفنانون يعودون بالتدريج إلى النظم القديمة، وإن استفادوا من النظم الجديدة في إضفاء مزيد من التنوع والثراء على موسيقاهم. وأدرك الموسيقيون بعد أن انتهت هذه التجربة العنيفة أن القوالب الصوتية الموجودة تنطوي على إمكانيات لا تستنفد، إذا ما اقترنت بالتجديد المستنير في الصورة والإيقاع والتوافق الصوتي. وهذا هو الرأي السائد بين كبار الموسيقيين في جيلنا الحالي! فتعدد سلالم الموسيقى الشرقية ليس إذن بالأمر الذي ينبغي التفاخر به، وإنما العبرة بالإفادة من السلالم الموجودة، مهما كانت قلتها.
ولننتقل إذن إلى الكلام عن مدى الإفادة التي أفادها الموسيقيون الشرقيون من هذا التعدد في السلالم. هل أصبح اللحن
Melody
في الموسيقى الشرقية زاخرا بالمعاني، حافلا بالتعبيرات؟ إن أنصار الموسيقى الشرقية، إذا ووجهوا بالانتقاد القائل: إن موسيقاهم لا تعرف التوافق الصوتي
Harmony ، ردوا بأنها في أساسها لحنية
Melodic ، وبأن فيها ثروة من الألحان تفتقر إليها الموسيقى الغربية. فلنختبر إذن هذا الزعم، ولنحلل القيمة الحقيقية للحن في الموسيقى الشرقية .
في رأينا أن هذا التعدد الذي تتميز به ألحان الموسيقى الشرقية، يفقد قيمته؛ لعاملين، سوف أطلق عليهما اسم عاملي التلاصق، والتماثل. ولكي أضرب لهذين العاملين مثلا؛ دونت أول فقرة موسيقية استمعت إليها وقت كتابة هذه السطور، وليس من المهم معرفة اسم مؤلفها أو اسمها، طالما أن من الممكن إدراك طابعها الشرقي للوهلة الأولى: (1)
أما عامل التلاصق، فيتلخص في أن كل صوت في اللحن هو الصوت التالي، ارتفاعا أو انخفاضا، للصوت السابق عليه، أي: إن الألحان الشرقية عبارة عن سلسلة متصلة من الأصوات، تعلو وتنخفض محتفظة بتلاصقها. ولا أستطيع أن أقول: إن هذه قاعدة شاملة لا يتخلف عنها لحن واحد، ولكني أستطيع أن أحكم، مطمئنا، بأن الغالبية العظمى للألحان الشرقية تسير على هذه القاعدة. كما أن الألحان الشرقية العتيقة، كالبشارف، تتمثل فيها هذه القاعدة على نحو مطلق لا استثناء فيه. فأين وجه النقص في هذا؟ لا شك في أن اللحن الذي يسير في أصوات متلاصقة أبسط في تركيبه كثيرا من ذلك الذي تتباعد أصواته. وليست البساطة في ذاتها عيبا، ولكنها في هذه الحالة تؤدي إلى فقدان الشعور بالجدة في الألحان المستحدثة، وإلى صبغ كل الألحان بصبغة التشابه والتجانس، وإلى انعدام عنصر التنوع فيها. وليس من العسير إطلاقا أن يظل محترف الموسيقى يسير على سلالم موسيقية علوا وهبوطا في خطوات متدرجة متلاصقة، مع تنوع يسير في زمن كل صوت، وإنما العسير حقا أن يؤلف لحنا قوامه تلك القفزات الصوتية الجريئة التي يتكون منها اللحن في الموسيقى الغربية؛ فهنا حقا تظهر المقدرة، ويبدو كل لحن جديدا بحق، مختلفا كل اختلاف عما عداه. ولنتأمل أمثلة مقتبسة من موسيقي غربي واحد، تكشف عن الفرق الهائل بين تركيب اللحن في الموسيقى الغربية والشرقية، وليكن هذا الموسيقي هو بيتهوفن.
المثل الأول:
في مطلع الحركة الأولى لسيمفونيته الثالثة (إيرويكا)، وهو في الوقت نفسه موضوعها الرئيسي.
والمثل الثاني:
هو الموضوع الرئيسي للحركة الأخيرة في سيمفونيته السادسة (باستورال).
والمثل الثالث:
هو مطلع الحركة الأولى للسيمفونية التاسعة، وهو أيضا موضوعها الرئيسي .
في هذه الأمثلة - وهي كلها ألحان رئيسية في موسيقى بيتهوفن، تبنى عليها حركات موسيقية كاملة في سيمفونياته - نستطيع أن نلمس مدى حرية الحركة وجرأتها في اللحن الغربي؛ فالمؤلف لا يستعين بالتلاصق الصوتي الهين على الإطلاق، وإنما يجهد ذهنه في إبداع لحن تتباعد أصواته، وتتكشف أصالته للوهلة الأولى.
وأستطيع أن أقول: إن صفة التلاصق في أصوات اللحن الشرقي هي التي أدت إلى فقدانه عنصرا هاما من عناصر اللغة الموسيقية، وهو التوافق الصوتي؛ ذلك لأن الألحان التي تتحرك أصواتها حركة حرة، بحيث تفصل بعضها عن البعض أكثر من درجة صوتية واحدة، تؤدي إلى كشف علاقات رئيسية بين أصوات معينة في السلم الموسيقي الواحد. ولو تأملنا الأمثلة السابقة لوجدنا لحنين منها مبنيان مباشرة على تركيب توافقي؛ فالمثال الأول، في مطلع السيمفونية الثالثة، قوامه الأصوات الثلاثة للعمود التوافقي المبني على سلم «مي بيمول»، وهي: مي، صول، سي. كذلك المثال الثاني، وهو الموضوع الرئيسي في الحركة الأخيرة للسيمفونية السادسة، يبني على الأصوات المتوافقة في سلم القطعة، أي: سلم فا، وهي: فا - لا - دو، وهي الأصوات التي تتمثل بوضوح داخل الحواجز الثلاثة الأولى في هذا المثال. ومثل هذه الأصوات لو عزفت سويا في كل حالة، لكونت التوافق الثلاثي الأساسي للسلم الذي وضعت به القطعة، والذي هو أساس علم التوافق الصوتي بوجه عام. وأعتقد أن هذه الأمثلة كفيلة بدعم الفرض الذي قدمته ها هنا، وهو أن سير اللحن الشرقي في أصوات متلاصقة، قد أدى إلى إغفال وجود علاقات أساسية بين قرار السلم وبين أصوات معينة في داخله، كالصوت الثالث والخامس مثلا، وهي العلاقات التي تكون أساس التوافق الصوتي عامة، والتي لا تكتشف إلا في لحن يتجاوز نطاق التلاصق. وقد يرى البعض أن العلاقة بين اللحن والتوافق عكسية، أي: إن إدراك وجود التوافق بين أصوات معينة هو الذي يؤدي باللحن أحيانا إلى أن يسير متبعا الأصوات التوافقية. ونحن نسلم ولا شك بأن هذا هو ما حدث في الفترة التي اكتشفت فيها قواعد التوافق الصوتي، غير أن من المسلم به أيضا أن اللحن هو الأسبق، وأن هناك علاقات معينة بين الأصوات المتتابعة في اللحن، هي التي توحي بفكرة وجود توافق بينها إذا ما عزفت في وقت واحد. وعلى أية حال فالعلاقة وثيقة بين المسار الخاص للحن، وبين قواعد التوافق الصوتي، وهذه العلاقة مفقودة تماما في الموسيقى الشرقية؛ نظرا لتلاصق أصوات الألحان فيها، وبالتالي أصبح عنصر التوافق الصوتي بدوره مفقودا في هذه الموسيقى. (2)
وأما عامل التماثل، فلسنا في حاجة إلى إطالة الكلام فيه؛ إذ إنه واضح لا يحتاج إلى شرح مفصل، فمن المعروف أن الفن السليم يستدعي من الابتكار المتصل ما يجعل عملية تذوقه متعة لا تنقطع، ومن هنا كان مبدأ التماثل - إذا تكرر وأصبح جزءا أساسيا من العمل الفني - غير مستحب من الوجهة الجمالية.
ونستطيع أن نضرب مثلا لمبدأ التماثل فيما يلي: فإذا طلب إليك أن تكمل بالرسم شكلا كهذا:
فأيسر السبل عندئذ هي رسم شكل مماثل له على الجانب الآخر، فيصبح الشكل النهائي:
ولكن مثل هذه التكملة التماثلية، إذا أصبحت مبدأ عاما في الرسم، تنقص من قدره ولا شك؛ إذ إنها تحتاج إلى مجهود ابتكاري أقل من ذلك الذي يحتاج إليه تصميم الشكل كاملا، ومن هنا كانت ضآلة قيمة الرسوم الزخرفية التماثلية من وجهة النظر الفنية، ومن هنا أيضا كنا نرى المدارس العميقة المعاصرة في الرسم لا تعترف بمبدأ التماثل حتى حين تكون الطبيعة تماثلية، كما هو الحال في وجه الإنسان أو جسمه.
فإذا طبقنا هذه الملاحظة على الموسيقى، وجدنا أن كثيرا من الألحان الشرقية تعتمد على عامل التماثل إلى حد بعيد. ولو تأملنا المثال السابق للحن الشرقي، وقارنا بين الجزء (أ) والجزء (ب)، لوجدنا (ب) مماثلا تماما ل (أ)، وكل ما في الأمر أنه ينزل عنه درجة في السلم؛ تماما كما في الشكل السابق في الرسم، الذي يماثل كل نصف فيه النصف الآخر، والفارق الوحيد أن أحدهما أعلى والآخر أسفل. والملحن الشرقي - باعتماده الدائم على عامل التماثل هذا - يلجأ إلى وسيلة سهلة، ولكنها في الوقت نفسه ذات قيمة فنية ضئيلة. ولنلاحظ، في الموسيقى الغربية، أن عامل التماثل هذا لا يظهر إلا في مختلف أنواع الموسيقى الراقصة الخفيفة، وهي أنواع لا يعتد بها كثيرا، وليست هي مصدر تفوق الموسيقى الغربية.
والخلاصة إذن، أننا إذا اختبرنا الموسيقى الشرقية في ضوء العنصر الأول من عناصر اللغة الموسيقية - وهو اللحن - وجدنا أنها على الرغم من كونها لحنية في أساسها، فإنها تلجأ في ألحانها إلى أساليب تفقد العمل الفني جدته وطرافته المستمرة، وتضفي عليه طابعا يبعث في الأذن الخبيرة قدرا غير قليل من الملل. وليس رأينا هذا حكما ذوقيا صرفا، بل إننا دعمناه بتحليل موضوعي صرف لطبيعة اللحن في هذه الموسيقى، تكشفت من خلاله عيوبه الأساسية. •••
والعنصر الثاني من عناصر اللغة الموسيقية هو الإيقاع. وأعترف للقارئ بأن التفكير في هذا العنصر قد استغرق مني وقتا أطول مما كنت أتوقع؛ ذلك لأنني كنت أحس إحساسا واضحا بوجود فارق كبير بين الإيقاع في الموسيقى الشرقية وبينه في الموسيقى الغربية الراقية (لا الموسيقى الراقصة الخفيفة). ولكني حين حاولت أن أصل إلى تعبير واع عن هذا الفارق، وجدت صعوبة كبرى.
فقد بدا لي في أول الأمر أن بطء الإيقاع الشرقي، وسرعة الإيقاع الغربي وتوثبه، هو الفارق بين الاثنين. وبالفعل لاحظت أنه يندر أن يجد المرء في الموسيقى الشرقية إيقاعا سريعا، ومن هنا كان شعور المرء بنوع من الخمول كلما استمع إليها، ومن هنا أيضا كان إخفاقها في خلق نوع من الرقص الحي الذي يحرك الجسم الإنساني كله حركة نشيطة متصلة. غير أني رغم ذلك لاحظت أولا أن هذه القاعدة ليست عامة، رغم أنها تصدق على أغلب ما ألف في الموسيقى الشرقية، ولاحظت ثانيا أن بعض المؤلفات الغربية تتميز بإيقاع بطيء؛ ففي وسط الحركة الأخيرة من سيمفونية بيتهوفن الثالثة، يكرر الفنان الموضوع الرئيسي للحركة، ولكن بإيقاع أبطأ كثيرا، ومع ذلك لم يفقد ذلك الموضوع شيئا من روعته بعد أن ازداد بطء إيقاعه. وإذن فبطء الإيقاع صفة تتميز بها الموسيقى الشرقية بالفعل عن الموسيقى العربية الرفيعة، ولكنها ليست هي العامل الحاسم في التفرقة بين الاثنين.
وبعد تفكير طويل، انتهيت إلى أن في الإيقاع الشرقي صفة أخرى أعتقد أنها هي التي تميزه بحق عن الإيقاع الغربي؛ فالأول ظاهر صريح، أما الثاني فهو ضمني باطن. ولنشرح المقصود بهاتين الصفتين بالتفصيل: فالإيقاع الشرقي ظاهر، بمعنى أن له كيانا مستقلا يسير مع اللحن ذاته، ولكنه لا يندمج فيه؛ ففي الموسيقى الشرقية تؤدي الآلات الإيقاعية، كالرق مثلا، دورا ظاهرا، تستطيع أن تميزه بكل وضوح، وصحيح أن ضرباته تتمشى مع اللحن وتنظمه، غير أنها مستقلة عنه بمعنى معين، ما دامت تكون تيارا تميزه الأذن بوضوح من بداية اللحن إلى نهايته. أما الإيقاع الغربي - وأكرر هنا أن المقصود هو الموسيقى العربية الرفيعة - فهو «مندمج» في تيار اللحن والتوافق إلى حد بعيد، أعني أن اللحن والتوافق هما اللذان يكشفان عن الإيقاع خلال مسارهما، دون أن يحتاج مؤلف الموسيقى إلى أن ينبه إليه تنبيها خاصا؛ ولهذا كان الإيقاع الغربي لا يحتاج إلى ضربات خاصة إلا في أحيان قليلة للغاية، ومعظم ضربات الإيقاع تكون خافتة إلى حد أن الأذن لا تستطيع تمييزها بسهولة؛ إذ تترك مهمة الكشف عن الوزن الإيقاعي للحن ذاته في مساراته وانعطافاته.
ولكن إذا كان الإيقاع الشرقي ظاهرا، والغربي ضمنيا أو باطنا، فلماذا نعد صفة الظهور في الأول مظهرا من مظاهر النقص؟ ذلك لأننا لو تتبعنا تطور الموسيقى ذاته، لوجدناه يسير بالتدريج نحو «إدماج» الإيقاع لا إظهاره؛ فالإيقاع هو أوضح العناصر وأظهرها في الموسيقى البدائية، بل إن من هذه الموسيقى ما هو إيقاعي صرف، ولا زالت آثار هذه الصفة واضحة في ريفنا المصري، حيث تتبلور التجارب الموسيقية لكثير من الناس في ضربات «الطبلة» وحدها. وإذا ظهر لحن في مثل هذه الموسيقى، فإن الإيقاع لا يتخلى له عن مكانه، بل يظل ظاهرا واضحا، يصاحب كل حركات اللحن ويؤكدها بطريقته الخاصة. والملاحظة العميقة لتطور الموسيقى تكشف لنا عن اتجاه تدريجي إلى «إدماج» عنصر الإيقاع في بقية عناصر الموسيقى؛ بحيث يكتشف إيقاع اللحن - في أرقى مراحل التطور الموسيقي - من خلال مسار اللحن والتوافق، ولا يحتاج إلى تنبيه خاص إليه. وليس معنى ذلك أن الإيقاع يفقد في هذه الحالة الأخيرة شيئا من تأثيره، ويغدو عنصرا مهملا من عناصر اللغة الموسيقية. بل إن الأمر على العكس من ذلك؛ ففي موسيقى برامز - وهو في رأيي أستاذ الإيقاع الأكبر - يندمج الإيقاع في اللحن اندماجا وثيقا، ومع ذلك يبلغ أقصى درجات الفاعلية والتأثير. وفي موسيقى بيتهوفن، يكفي اللحن وحده، دون حاجة إلى تنبيه خاص من آلات الإيقاع، لإحداث حركة إيقاعية تبلغ حدا هائلا من النشاط والتوثب، كما هو الحال في طريقة الربط
Syncopation (ونستطيع أن نترجمها من حيث معناها بقولنا: طريقة الضربات المؤجلة)، وهي الطريقة التي كان لبيتهوفن فضل التوسع في إدخالها في مؤلفاته الموسيقية.
وإذن فالتطور الموسيقي ذاته يثبت أن الإيقاع المندمج يمثل مرحلة أرقى في التأثير الفني من الإيقاع الظاهر، ومثله في ذلك مثل المعاني والجمل الكلامية التي يترك للمستمع أو القارئ وحده إدراك أهميتها، بدلا من أن يتولى الخطيب أو الكاتب إظهار هذه الأهمية بأن يقول بين فترة وأخرى: انتبهوا؛ فسوف أقول كلاما هاما! وإذن، ففي عنصر الإيقاع بدوره تظهر الموسيقى الشرقية تخلفا واضحا.
أما العنصر الثالث من عناصر اللغة الموسيقية، وهو التوافق الصوتي، فهو غريب تماما عن الموسيقى الشرقية. ولقد شرحت من قبل - عند الكلام عن العنصر الأول، أي: اللحن - السبب الرئيسي الذي أعتقد أنه هو الذي أدى إلى فقدان الموسيقى الشرقية لهذا العنصر الأساسي. ونتيجة لذلك أصبحت هذه الموسيقى تسير في تيار لحني متصل، يتصف بالسطحية ضرورة؛ ذلك لأن التوافق الصوتي هو مصدر عمق الموسيقى العربية؛ فبفضله تتخذ الموسيقى عند السامع ألوانا متجددة على الدوام، ويستطيع المرء أن يكشف فيها - كلما أعاد الاستماع إليها - معاني جديدة، بل إنه يزداد فهما لها كلما ازدادت مرات استماعه إليها؛ إذ يتمكن من تتبع التيارات الخفية التي تكمن خلف التيار الظاهر، ويلمس مدى براعة المؤلف في الجمع بين كل هذه التيارات في وحدة متكاملة. أما الموسيقى الشرقية، فلما كانت ذات تيار واحد - هو في ذاته ساذج إلى حد بعيد - فإن تكرار الاستماع إليها لا يؤدي إلا إلى الملل.
لهذا السبب لم تكن لدينا «كلاسيكيات» شرقية - أعني قطعا تظل قيمتها محفوظة على مر الزمان - كما هو الحال في موسيقى باخ وموتسارت التي مر عليها قرنان من الزمان أو يزيد، ولا زالت تحتفظ بمكانتها إلى اليوم، بل إن من المؤرخين الموسيقيين من يؤكد أن تقدير الناس لها يزداد باطراد! فموسيقانا الشرقية هي موسيقى «موسمية»، والأغلبية العظمى من مقطوعاتها لا تعيش أكثر من موسم، ثم تختفي غير مأسوف عليها؛ فقد استنفدت أغراضها، وعاشت بقدر ما بذل فيها من جهد!
والعنصر الأخير، وهو القالب أو الصورة، يكاد يكون مفقودا بدوره؛ فالغناء الشرقي التقليدي كان يعرف قالبا ثابتا: هو البدء بالليالي، ثم الموال أو «الدور»، وقد تسبق ذلك «تقاسيم» من الآلات الموسيقية القليلة التي تصاحب الغناء. ولكن هذا في واقع الأمر لا يمكن أن يعد قالبا بالمعنى الصحيح، بل هو شكل تقليدي لا يحتاج إلى تحليل أو دراسة، ولم تكن الموسيقى عندئذ في حاجة إلى ما هو أعمق من ذلك.
على أن الافتقار إلى دراسة القالب الموسيقي يتجلى أوضح ما يكون في الموسيقى الشرقية الحديثة، أعني تلك التي تحرص على أن تقتبس بعض الألحان أو طرق التلحين الغربية، مع إبقائها على كثير من الألحان الشرقية ذات الطابع التقليدي؛ ففي هذه الموسيقى «المهجنة»، نجد اللحن الشرقي يتلو اللحن الغربي فجأة، والمقام الشرقي بما فيه من «ربع صوت» يجاور السلم الغربي مباشرة، دون أية محاولة لتيسير الانتقال بينهما، بل دون بحث مشكلة ما إذا كان المزج ذاته ممكنا. والحق أن الأذن الخبيرة لتجد مثل هذا الانتقال المفاجئ غير مستساغ في معظم الأحيان، وخاصة لأنه يتم دون أية محاولة لدراسة القالب الموسيقي، والمشاكل التي تنجم عن مزج نظامين مختلفين في قطعة موسيقية واحدة.
وللموسيقى الشرقية التقليدية صفة ذات دلالة نفسية بالغة، وتندرج تحت موضوع القالب الموسيقي الذي نحن بصدده. تلك الصفة أطلق عليها اسم «الرجوع الدائم إلى القرار»؛ فمن المعروف أن لكل سلم موسيقي أو مقام قرارا، هو النغمة الرئيسية التي يسمى السلم باسمها. ومن صفات القرار أنه يبعث شعورا بالاكتفاء إذا ما انتهى اللحن إليه؛ لهذا كانت الموسيقى الغربية تحرص على أن تقف عند القرار، والأصوات المتوافقة معه، في ختام القطعة فحسب، أو في ختام جزء هام منها، وذلك عرف متبع في القالب الموسيقي الغربي منذ القدم. أما الموسيقى الشرقية - في صورها التقليدية بوجه خاص - فهي ترجع إلى القرار في كل فقرة قصيرة من فقراتها. ويستطيع القارئ أن يتصور المقصود بصفة الرجوع الدائم إلى القرار، إذا استرجع ما يحدث في غناء الليالي والمواويل التقليدية. فبعد كل فقرة من الفقرات، يشعر المستمع بالراحة والاكتفاء، إذا ما أنهاها المغني بما يسمى «قفلة» صحيحة، وعندئذ يردد المستمع وراءه كلمة: «آه» (إذا سمح المجال!) ويكون هذا الترديد عادة من نفس الطبقة التي قفل بها المغني فقرته الغنائية، وهذه الطبقة ذاتها هي القرار. ومثال آخر لهذه الصفة، في التقاسيم التي تعود إلى قرار المقام كلما أنهت فقرة من فقراتها. بل إن هذه الصفة لتتمثل بصورة أوضح في الموسيقى الريفية المصرية، المعروفة باسم موسيقى الأرغول؛ ففي الأرغول أنبوبتان، إحداهما تعزف صوتا واحدا متصلا، هو القرار، والأخرى تعزف اللحن الذي يعلو وينخفض، ولكنه ينبغي أن يكون ذا صلة وثيقة بصوت الأنبوبة الأخرى، وأن يعود إليه بين آن وآخر ليعزف الاثنان القرار سويا، علامة على اكتمال فقرة موسيقية.
فالقالب الذي تتخذه هذه الأشكال الموسيقية التقليدية في الشرق، هو أن يكون اللحن مجموعة من الدورات القصيرة المقفلة، التي ينتهي كل منها انتهاء تاما بقرار المقام. أما الموسيقى الغربية فتتخذ صورة حركة دائمة، ساعية إلى هدف ما، لا تبلغه إلا في النهاية القصوى مرة واحدة، ثم تنتهي القطعة. أي إن الحالة النفسية المصاحبة للموسيقى في الحالة الأخيرة، هي حالة انتظار دائم، وتتبع مثابر للموسيقى، التي تصل إلى ذروتها في النهاية عندما تتجمع كل خيوط الفرقة الموسيقية وتياراتها، وتتحد كلها لتساهم في الخاتمة الكاملة. أما الحالة النفسية المصاحبة للموسيقى في الحالة الأولى، فهي حالة توقع الاكتفاء والانتهاء في كل لحظة من اللحظات. ويظل المغني أو العازف يدور حول نغمة القرار، ويعد بها مستمعيه، وسرعان ما يلبي رغبتهم، فيصل إليها، وعندئذ تنطلق أصواتهم معبرة عن الرضا، مرددة نفس النغمة: «آه!» وتظل هذه الدورات تتكرر طوال اللحن. والذي لا شك فيه أن الرغبة المستمرة في الشعور بالاكتفاء، والسعي إلى تحقيقه في كل فقرة قصيرة، تنم عن نوع من نفاد الصبر، ومن الرغبة في المتعة العاجلة السهلة. ولست أريد أن أنزلق في تفسيرات ذاتية خالصة بعد هذه التحليلات الموضوعية التي أوضحت بها خصائص الموسيقى الشرقية، غير أن مثل هذا التفسير لا يكف عن أن يفرض نفسه على الذهن؛ فتذكير العازف أو المغني للمستمع دائما بقرار اللحن، ورغبة الأخير في الانتهاء إليه، وتعبيره عن رضاه عندئذ ... كل ذلك ينم عن عدم القدرة على تتبع الموسيقى كوحدة واحدة، أو التمشي مع الألحان في تقلباتها وتطوراتها الطويلة، والتفكير فيها لذاتها، لا من حيث هي وسيلة لراحة الذهن عندما يصل إلى نهاية صوتية ترضيه.
ولهذه الصفة نتيجة هامة، تحكمت في تحديد طبيعة المستمع الشرقي؛ فالمستمع الشرقي يبحث دائما عن النشوة العاجلة، وعن الطرب المستمر في الألحان، إنه لا يبذل جهدا في الفهم أو التعمق؛ فكل ما يسمعه بسيط، سطحي، وكل ما يقدم إليه سهل الهضم، بل إن الفنان الذي يطربه يقدم إليه في كل لحظة ما يبعث الاكتفاء في نفسه، فهو لا يطالبه بالمثابرة على تتبع لحن طويل إلى نهايته، بل يقدم إليه اللحن على أجزاء صغيرة، كل منها مكتف بذاته، وكل منها وحدة كاملة لها نهايتها الخاصة، وما على المستمع إلا أن يترقب هذه النهاية التي سرعان ما تأتي إليه، فيتم رضاؤه، ولكن على حساب التمتع الفني الصحيح. ومن هنا كان ذلك الطابع الخاص الذي ينفرد به المستمع الشرقي: فهو لا يملك القدرة على الاستماع المنتبه الدقيق، وليست به حاجة إليه، بل إنه يبدي إعجابه بلا تحفظ، كيفما شاء، وحينما يشاء، ويستطيع أن يهتف أو يصرخ كما يروق له ؛ فهو ليس بالمستمع الهادئ الرزين، الذي يحترم الموسيقى ويتابعها بكل حواسه إلى أن تنتهي، وعندئذ يبدي إعجابه كما يشاء، وإنما هو مستمع صاخب، يدأب على التعليق والمقاطعة، ولا يعرف الاتزان إليه سبيلا. وأوضح أمثلة على ذلك، تلك الحفلات الغنائية الطويلة، التي يظل المستمعون خلالها في صراخ وهتاف دائمين، ويظهرون رضاءهم في أي وقت، وبأية كيفية، تحلو لهم. ومثل هذا الجو التشنجي الصاخب هو في الحق سبة في وجه الفن الصحيح، وهو إذا كان يصلح لحلقات الذكر أو حفلات «الزار»، فإنه أبعد ما يكون عن مجال الموسيقى، ذلك الفن الرفيع، الذي يبعث في النفس الهدوء والسكينة، والذي يفسده أي صخب، وتشوهه أقل ضوضاء.
ولست أرمي من ذلك إلى أن ألوم جمهور المستمعين وحدهم؛ ففي الحق أن طبيعة الألحان التي تقدم إليهم مسئولة إلى حد بعيد عن طريقة استماعهم إليها، والقالب الذي تتخذه تلك الألحان بما فيه من سعي إلى إرضاء المستمع إرضاء رخيصا، هينا، سريعا، هو الذي أدى إلى ضياع القدرة على الاستماع الهادئ العميق لدى الجمهور المتذوق للموسيقى الشرقية.
وهكذا يبين لنا من العرض السابق: أن عناصر اللغة الموسيقية الأربعة تتخذ في الموسيقى الشرقية صورة هزيلة فيها كثير من العيوب، بل إن من هذه العناصر ما لا يتمثل في تلك الموسيقى على الإطلاق. وقد يرى القارئ في هذا النقد شيئا من القسوة، غير أن القسوة تظل دائما مستحبة طالما أن فنا أساسيا كالموسيقى يظل على هذه الحال من التخلف، بل من البدائية! أما من يرى فيه شيئا من التجني فلا أدعوه إلا إلى أن يفكر في هذه التحليلات بطريقة علمية موضوعية، وأن يدع جانبا كل العوامل الانفعالية الذاتية، وعندئذ فمن المحتمل إلى حد بعيد أنه سيلمس هذه النقائص بنفسه، ويساهم بدوره في بذل الجهود لتلافيها.
مشكلة الموسيقى في مصر
لا جدال أن في مصر شعورا بالضيق من قصور الموسيقى الحالية وأفقها المحدود، وهذا الشعور، الذي يتزايد على الدوام، يتمثل بصورة ظاهرة في تلك المناقشات الحامية التي تدور في الصحف في أيامنا هذه، وهي المناقشات التي تتراوح الآراء فيها بين الدعوة إلى التجديد التام، وبين الرجوع إلى الماضي الذي يصفه أنصار هذا الرأي بأنه ماض «مجيد».
على أن هذا الضيق يتمثل أيضا - وبصورة واقعية - في الطابع الذي تتخذه الموسيقى المصرية في وقتنا الحالي؛ ففي وسعنا أن نقول: إن الطرق التقليدية في التلحين الشرقي تتجه إلى الاندثار، ولا يمنعها من الاختفاء التام سوى شهرة مغنين ارتبطت أسماؤهم بطريقة التلحين هذه، ولكن إذا اختفى هؤلاء من المسرح الفني، فسوف تنتهى - بكل تأكيد - فترة الغناء الشرقي الصميم.
ولكن ما الذي يحل الآن محل هذا الغناء الشرقي؟ إن الاتجاه الواضح الذي يزداد الإقبال عليه - وخاصة من جمهور المدن - هو اتجاه «مختلط»، تمتزج فيه الموسيقى الشرقية ببعض العناصر الغربية. والامتزاج ذاته أمر مقبول؛ وخاصة لأننا نؤكد بكل قوة ضرورة الخروج عن الحدود الشرقية التقليدية، والاستفادة من التجارب العميقة التي مر بها الغرب في ميدان الموسيقى. ولكن هل الاتجاه السائد الآن في الموسيقى الشرقية هو الحل المنشود؟
الحق أن هذا الحل هو في نظرنا أتعس حل ممكن؛ فالفترة الحالية من تاريخ الموسيقى فترة بائسة بحق؛ ذلك لأن محترفي هذا الفن، عندما أحسوا بقصور الطريقة الشرقية الخالصة، لم يلجئوا إلا إلى أتفه أنواع الموسيقى الغربية ليقتبسوا منها ألحانهم. فكانت النتيجة خليطا غير متجانس بين الألحان الشرقية، وبين صخب موسيقى المراقص الغربية، خليطا لا لون له، ولا طابع يتميز به، ولا ينطوي على أية محاولة جدية لترقية الموسيقى الشرقية، بل هو في أساسه امتزاج خارجي - لا اندماج باطن - بين عناصر متنافرة فحسب.
والخطأ الأكبر - الذي نعد التنبيه إليه أمرا أساسيا في المهمة النقدية التي يأخذها هذا الكتاب على عاتقه - هو في الاعتقاد بأن إصلاح الموسيقى الشرقية يكون عن طريق نقل «ألحان» غربية، أو أنماط لحنية معينة. وذلك هو الخطأ الذي يقع فيه أولا دعاة «الاقتباس»، الذين ينقلون قطعا بأسرها من سياقها الأصلي في موسيقى الغرب، ويقحمونها داخل ألحانهم الشرقية، فيشوهون جلال الأصل الذي نقلت منه، ولا يفيدون المجال الذي نقلوا إليه، فضلا عما ينطوي عليه هذا «الاقتباس» من افتقار إلى الأمانة لم يعترف به الفن الخلاق في أي عصر من عصوره. ويقع في ذلك الخطأ ثانيا أولئك الذين ينسجون على منوال الملحنين الغربيين، فيقلدونهم في ألحانهم (وهم في ذلك أقرب إلى الأمانة من الفئة السابقة) أو يعهدون بألحانهم إلى من يقوم بإجراء عملية «توزيع موسيقي» لها؛ لكي يكسبها طابعا قريبا من الموسيقى الغربية الراقصة. ولنذكر هاهنا أن فكرة «التوزيع الموسيقي» هذه - وهي بدعة تثير السخرية - لا تعرف إلا في موسيقانا المصرية؛ إذ إن الأصل في الموسيقى أن فكرتها تطرأ على ذهن الفنان كاملة؛ فهو لا يتصور اللحن وحده، وإنما يتصوره مصوغا في قالب معين، تعزفه آلة معينة. والتوزيع على الآلات جزء لا يتجزأ من مهمة الفنان نفسه، وإذا كانت هناك مقطوعات غربية معينة توزع فيما بعد على آلات غير التي ألفت من أجلها، فلا شك في أن هذا التوزيع يكون في هذه الحالة عملا مستقلا، أضيف إلى عمل المؤلف الأصلي على سبيل الرغبة المتعمدة في التنويع، وعندئذ يذكر اسم موزع اللحن أو منظمه بجانب اسم المؤلف الأصلي؛ لأن اللحن عندئذ أصبح شبه جديد. أما عملية التوزيع التي تتم في الألحان المصرية فتنطوي بلا شك على فصم غير مشروع لوحدة الخلق الفني.
ففي كل هذه الحالات يقع الموسيقيون في خطأ الاعتقاد بأن التأثر بالموسيقى الغربية يكون عن طريق نقل ألحانها أو تقليدها. وهذا الخطأ مسئول عن التدهور الحالي الذي تعانيه موسيقانا. وإنما الحل الصحيح هو أن نقتبس من الغرب «أسلوب» التأليف، لا التأليف ذاته؛ أعني: أننا يجب أن نستفيد من تجربتهم الموسيقية العميقة، التي سبقتنا بما يقرب من أربعة قرون، فنتعمق في دراسة عناصر اللغة الموسيقية، ونفيد من خبرتهم الواسعة في ميدان التأليف والأداء.
فأسلوبنا في التأليف ينبغي أن يتضمن «التوافق الصوتي» حتى يضاف إلى موسيقانا عنصر العمق، وعندئذ تستطيع الموسيقى أن تكون معبرة بحق، وإذا اكتسبت القدرة على التعبير، استطاعت أن تتحرر من عبوديتها للغناء، وتصبح فنا مستقلا له كيانه الخاص. والأداء ينبغي أن يزداد دقة؛ فأصوات المغنين عندنا محدودة المدى إلى حد مؤسف، وليست هناك جهود جدية تبذل لتمرين الأصوات وتوسيع نطاق قدرتها في الأداء، مع أن هذا علم كامل قائم بذاته. بل إن المغني عندنا يظل - في سعيه وراء الكسب - يواصل الغناء دون أن يعترف بتأثير الزمن على صوته، حتى لنجد منهم من يمرن حنجرته بصوت عال بين مقاطع الغناء، وتظهر آهاته في التسجيل، ولا يعترف مع ذلك بضياع صوته! وهي بدورها ظاهرة مؤسفة لا نظير لها في عالم الغناء! أما العزف، فأستطيع أن أقول، مطمئنا: إن المسافة بين أكبر عازفي الكمان عندنا، مثلا، وبين عازفي الكمان المشهورين في الغرب، لا تقاس إلا بالسنين الضوئية!
فالفن الموسيقي المصري إذن في محنة، والوسيلة الوحيدة لانتشاله منها هي اقتباس خبرة الغرب الطويلة، وأسلوبه في التأليف الموسيقي وفي الأداء. وعلينا أن نبذل في ذلك أشق الجهود؛ حتى نعوض تخلفنا الهائل في هذا الميدان، أما لو ظلت الأمور على ما هي عليه، فسوف تزداد الهوة بيننا وبينهم اتساعا على الدوام. •••
على أن رأيي هذا - القائل بضرورة الاستفادة من الخبرة التي اكتسبها الغربيون في أساليبهم الموسيقية - يلقى معارضة من طرفين متناقضين: طرف يميني محافظ، أصحابه من دعاة القومية، وطرف يساري تقدمي، أصحابه من دعاة الشعبية. ومن الضروري أن أناقش هذين الرأيين المعارضين؛ حتى تستبين حدود الدعوة التي أقترحها بوضوح.
فالطرف اليميني المحافظ، القائل بالقومية، يرتد رأيه إلى قدر من سوء الفهم، وقدر من المغالطة؛ أما سوء الفهم فيتمثل في الاعتقاد بأن ما نرمي إليه هو أن نؤلف ألحانا كالألحان الغربية، وهذا أبعد الأمور عما ندعو إليه؛ فنحن نعترف حقا بأن الموسيقى فن مرتبط بحياة كل شعب، وأن حياتنا الشرقية لا بد أن تفرض علينا أنواعا من الألحان، تختلف عن تلك التي نستمع إليها من الغرب. هذا كله صحيح، ولكن ما ندعو إليه هو أن ندرس أسلوب التأليف والأداء، لا نواتج الموسيقى الغربية ذاتها. ونستطيع أن نضرب للفارق بين الدعوتين مثلا يقربه من الأذهان؛ فالشعب الصيني يحاول اليوم أن يبسط لغته، وأن يستبدل بالحروف المرسومة الهائلة العدد، عددا قليلا من الحروف البسيطة تكون هي قوام الكتابة. وقد يلجئون في ذلك إلى الكتابة بالحروف اللاتينية وتعميمها. ولكن هل يعني اقتباس هذه الحروف، أن مضمون اللغة ذاتها قد تغير؟! وهل تعني كتابتهم بالحروف اللاتينية، أنهم قد استعاروا آداب وعلوم الأمم التي تكتب بهذه الحروف؟! لا شك أن موقف لغتنا الموسيقية مماثل لهذا إلى حد بعيد. فنحن ندعو إلى تعديل عناصر اللغة الموسيقية ذاتها، وإلى الإفادة من الخبرة الطويلة التي توافرت لغيرنا في هذا المضمار، ولكنا لا ندعو أبدا إلى نقل ألحانهم كما هي، وإلا لكان في ذلك دعوة إلى تحطيم الفن، لا إلى إنهاضه.
وأما المغالطة، فتتمثل في نشر الفكرة الباطلة، القائلة: إن الأسلوب الغربي في الموسيقى غير مفهوم بالنسبة إلى الأذن الشرقية. وتلك الفكرة التي يرددها إلى اليوم كثير من المهيمنين على مصير الموسيقى في بلادنا، قد أضرت بفننا الموسيقي، وبأذواق مستمعينا أشد الإضرار؛ ولهذا فسوف أرد عليها ردا مفصلا.
ولأبدأ بأن أقول: إن ظاهر الأمور يوحي بشيء كهذا الذي يقولونه؛ أعني أن معظم المستمعين المصريين، والشرقيين عامة، لا يتذوقون الموسيقى الغربية الراقية، بل لا يستسيغونها على الإطلاق، ويحكمون على أرفع سيمفونياتها بأنها «ضجيج» وعلى أجمل أغنياتها بأنها «صراخ». هذا حق، وتلك بالفعل ظاهرة ماثلة في الواقع الشرقي بوجه عام. ولكن هل يعني ذلك أن تلك الموسيقى غريبة تماما عن آذان المستمع الشرقي، وأنها لغة لا يفهمها إلا الناطقون بها وحدهم، يستغلق فهمها على غيرهم، وليس لها من تأثير إلا عليهم؟ تلك بلا شك فكرة باطلة، على الرغم من عدم استساغة الأغلبية العظمى من الشرقيين للموسيقى الغربية.
وقبل أن أوضح سبب بطلان هذه الفكرة، أود أن أمهد لذلك بالكلام عن ظاهرة أخرى، مستمدة من واقعنا الشرقي ذاته؛ فنفس هذا الواقع، الذي لا يهضم الموسيقى الغربية الراقية، قد استطاع أن يستسيغ موسيقى غربية خالصة، هي الموسيقى الراقصة! والمتتبع للأغاني التي تشيع اليوم في بلادنا، وتلقى أكبر قدر من الرواج بين المستمعين، وبخاصة الأجيال الجديدة منهم، يجد طابع الموسيقى الغربية الراقصة غالبا عليها.
وصحيح أن هذه الموسيقى تختلف عن الموسيقى الغربية الكلاسيكية اختلافا بينا، غير أنها أيضا تختلف عن الصور التقليدية للموسيقى الشرقية اختلافا أعظم. ومجرد كون الجمهور الشرقي قد استساغ هذا اللون الذي يختلف عن اللون الشرقي القديم كل الاختلاف، وأبدى إعجابه به، وردده في غدوه ورواحه، هو في ذاته دليل واقعي ملموس على أن اللغة الموسيقية، رغم قوميتها، تستطيع أن تعبر حواجز القومية وتؤثر في الجميع. وليس من المستبعد، والحال هذه، أن يأتي اليوم الذي يفهم فيه الجمهور الشرقي موسيقى الغرب الكلاسيكية ويحسن تذوقها.
وإذن فالسبب الحقيقي ليس هو الطابع القومي، وإلا لظلت الموسيقى محصورة في حدودها القديمة لا تتعداها، وإنما السبب الحقيقي افتقار إلى الخبرة فحسب، ولنضرب لذلك مثلا؛ فمن المعروف أن ذوي الثقافة القاصرة يجدون متعة كبرى في الروايات البوليسية ذات الأفكار السطحية، ولا يستطيعون مطلقا أن يستسيغوا المؤلفات أو الدراسات الأدبية العميقة. ولكن هل يعني ذلك أن مثل هذه الدراسات تنتمي إلى عالم غير عالمهم، وأنها ستظل إلى الأبد غريبة عنهم؟ لا شك أن في هذا مغالطة واضحة، وأن في وسع أي شخص محدود الثقافة أن يهضم أعمق الدراسات إذا لجأ إلى حل بسيط، هو أن يعمق ثقافته، وعندئذ سيجد متعة كبرى في فهم الكتابات العميقة، ويدرك مدى قصور تجربته القديمة. والحال كذلك في الموسيقى؛ فمشكلتنا بإزاء أرقى أنواع الموسيقى الغربية ليست مشكلة طابع قومي يمنعنا من فهمها، وإنما هي مشكلة افتقار إلى الخبرة والتجربة، ولو توافر هذا الشرط لأمكننا أن نستمتع بكل أنواع الموسيقى، دون أن يكون لقوميتنا أدنى تأثير. أما القائلون بأن الشرق شرق والغرب عرب، وبأن طريقتهم في التأليف ستظل إلى الأبد غريبة علينا، فما أشبههم بمرب يرى أبناءه مدمنين على القراءة السطحية، فلا يحاول نصحهم بتعمق ثقافتهم، بل يتركهم وشأنهم، مكتفيا بالقول: إن ذلك هو نوع الثقافة الذي يلائم طبيعتهم، وهذا بلا شك حل رجعي للمشكلة؛ ولذا وصفت فئة دعاة القومية بأنها فئة رجعية محافظة.
فالموسيقى إذن لغة تتخطى حاجز القومية. وليس هناك أدنى تعارض بين هذا القول، وبين القول الآخر الذي يبدو مضادا له، والقائل: إن لكل أمة أو مجتمع طابعه الخاص في موسيقاه؛ ذلك لأن القوة الدافعة إلى التأليف الموسيقي تكون دائما مرتبطة بالواقع الذي يعيش فيه الفرد، أي: بظروف علاقاته بمجتمعه، فيصطبغ إنتاجه الفني ضرورة بطابع بيئته الاجتماعية، ولكن ليس معنى ذلك أن هذا الإنتاج يقتصر تأثيره على هذه البيئة وحدها، وإنما هو يتجاوز النطاق القومي، ويصبح ذا تأثير شامل، إذا كان فنا أمينا مخلصا. وكم من الأعمال الأدبية الرائعة تصطبغ حوادثها بصبغة محلية، تستمد من ظروف المجتمع الخاص الذي كان يحيا فيه مؤلفها، ولكنها مع ذلك تذيع وتصبح أدبا عالميا، له تأثيره البالغ في نفوس أفراد ينتمون إلى مختلف القوميات والبيئات! فوجود الطابع القومي أو المحلي للموسيقى لا يجعلها إذن لغة منطوية على ذاتها، وليس هناك ما يحول دون فهم كل إنسان لها، إذا بلغ المستوى الثقافي الكافي.
وأما الرأي الآخر، الذي يبدو متعارضا مع دعوتنا إلى اقتباس الأساليب الغربية، فيتقدم به مفكرون تقدميون، ينادون بدعوة مشابهة في ظاهرها للدعوة السابقة، ولكنها في مرماها وجوهرها مناقضة لها، تلك هي دعوة الرجوع إلى الفن الشعبي. ونقول: إن هذه الدعوة مشابهة في ظاهرها لما يدعو إليه المحافظون من تمسك بالقالب الشرقي القديم بوصفه هو القالب «القومي»؛ فالفن الشعبي بدوره فن مصطبغ بالصبغة المحلية، نابع من ظروف مجتمع بعينه. ولكن جوهر الدعوة إلى التمسك بالفن الشعبي تناقض الفكرة القومية؛ إذ إنها لا تبنى على اعتقاد راسخ بأن إنتاج شعب معين لا يفهم إلا في الدائرة التي نتج خلالها، بل إنها تنطوي على إيمان بأن أي فن شعبي، مهما كانت صبغته محلية، يمكن أن ينقل ويفهم ويقدر على نطاق أوسع كثيرا من نطاقه المحلي؛ فالفنون، مع كونها شعبية، هي في حقيقة الأمر عالمية، أو إنسانية؛ فالفن الذي يخلقه شعب معين، ويصبغه بصبغته، قادر على التأثير في كل الشعوب الأخرى. ولا جدال في أن هذه النظرة إلى الفنون الشعبية أصدق من نظرة المحافظين، الذين يبالغون في تقدير أهمية «الطابع القومي».
والحق أن التعارض بين ما ندعو إليه من دراسة للأساليب الغربية، وبين الداعين إلى الرجوع إلى الفن الشعبي، ليس تعارضا شديدا، بل إن ما نرمي إليه هو في حقيقة الأمر محاولة لتصحيح معنى الرجوع إلى الفن الشعبي في مجال الموسيقى؛ ذلك لأن دعاة فكرة الفن الشعبي يبلغ بهم التحمس حدا يجعلهم في بعض الأحيان يخطئون فهم الفكرة ذاتها؛ فالفن الشعبي تنعكس عليه دائما مختلف الأحداث التي مر بها الشعب، فيكون سجلا صادقا يصور تاريخ الشعب في تطوراته وتقلباته. والذي لا شك فيه أن تاريخنا الشعبي الطويل كان في معظم فتراته تاريخ الظلم والاضطهاد اللذين ظل شعبنا يعانيهما حتى الأمس القريب. حقا إن الكفاح ضد هذا الاضطهاد لم ينقطع، غير أن تعاقب مظاهر الاستبداد واحدا بعد الآخر لم يترك للشعب فرصة في ممارسة تجربة الحرية والتغني بها في فنونه. وانعكس ذلك على أوضح صورة ممكنة في موسيقانا الشعبية، فأصبحت زاخرة بمعاني الذل والخضوع، وانعكست المعاني على الألحان فإذا بها حزينة باكية، لا تقبل على الحياة بقدر ما تندب حظها فيها.
ولست أرمي من ذلك إلى نقد فننا الشعبي في ذاته؛ إذ إن هذا الفن كان أمينا في تصويره للأحوال التي مر بها شعبنا خلال تاريخه الطويل. ولكني فقط أرمي إلى أن تكون نظرتنا إلى الفن الشعبي - في مجال الموسيقى - نظرة نقدية فاحصة. فإلى هؤلاء الذين يعتقدون بأن الخلاص من ضيق الأفق الذي تعانيه الموسيقى المصرية في وقتنا الحالي لا يكون إلا بالرجوع إلى الأنغام الشعبية، إلى هؤلاء أتوجه بأسئلتي هذه؛ آملا أن يجيبوا عنها إجابة صريحة أمينة: أليس الفن الشعبي - دائما - سجلا لمختلف الأحداث التي مر بها الشعب؟ وهل كانت الأحداث التي مر بها شعبنا إلا سلسلة متصلة من الاضطهادات، يمارسها الطغاة من المحتلين الأجانب، أو المستبدين من الإقطاعيين والمستغلين؟! إذن فقد كان من الضروري أن تنعكس هذه الظروف على فننا الشعبي عامة، وعلى موسيقانا الشعبية بوجه خاص، فأصبحت أنغام هذه الموسيقى نواحا وبكاء، حتى حينما لا يستدعي الحال مثل هذا الحزن.
والحق أن الاضطهاد الطويل الذي مررنا به - والذي ينبغي أن نعترف به في صراحة - يدفعنا إلى أن نكون حذرين أشد الحذر كلما رجعنا إلى فننا الشعبي. ففي الموسيقى الشعبية - الريفية منها والمدنية - ينعكس بوضوح خداع المستغلين والمستعمرين، وتزيف الأهداف الحقيقية التي كان ينبغي أن يسعى إليها الشعب، فيحل النواح والبكاء محل الدعوة إلى النضال والإقبال على الحياة، ويبدو كأن المشكلة الكبرى للمواطن المصري الذي لم يكن يجد قوت يومه، هي الغرام وهجران الحبيب! وتسود فلسفة تواكلية زائفة تؤمن بالقدر و«المكتوب»، وتثبط الهمم وتقعدها عن الكفاح ضد الظالمين. وهكذا أصبح الفن الموسيقي الشعبي يعكس كل عوامل الظلم ومظاهر التزييف التي فرضت على شعبنا. حقا إن الرغبة في المقاومة لم تخمد، وإن بعض الأعمال قد ظلت تحمل طابع الكفاح، ولكن هذه لا تقارن بالأعمال التي تعكس ما فرض على الشعب، أو ما انزلق فيه رغما عنه، من أهداف زائفة.
وإذن فعلينا دائما - قبل أن نساير الدعوة إلى الاسترشاد بالفن الشعبي في الموسيقى - أن نسائل أنفسنا: ما هي الأحوال التي كان يعكسها هذا الفن في بلادنا؟ وعندئذ، سوف ندرك أننا ينبغي أن نكون حذرين أشد الحذر في استرشادنا بهذا الفن، وأن ظروف بلادنا قد تكون مختلفة عن غيرها من البلدان التي استطاعت أن تحقق نهضة موسيقية باستيحاء ألحانها الشعبية. وسوف ندرك أيضا أن إنسان المستقبل الذي نود أن نكونه لا بد أن يتخذ لنفسه أهدافا سليمة، مختلفة كل الاختلاف عن تلك التي تغنت بها معظم الألحان الشعبية في عهود الظلم والاضطهاد الماضية.
ولكن، ليس معنى ذلك أن نقطع الصلة بماضينا، وأن نشيد فنا لا جذور له! وكل ما في الأمر أن الطابع الشعبي الأصيل سوف يظهر في الفنان من تلقاء ذاته، طالما كان فنانا صادقا؛ فذلك الذي توافرت له دراسة وخبرة عميقة بالأساليب الموسيقية الصحيحة، لن يردد ألحان الغرب ، بل سيتأثر حتما بالطابع المحلي الذي يحيط به، ويصوغ ألحانه في قالب يفهمه الجميع، ويتذوقونه بعمق. وللفنان - إذا شاء - أن يقوم بدراسة شاملة للألحان الشعبية؛ فإن دراسة كهذه تفيده كثيرا، على شرط أن يكون حذرا - كما قلنا - في تقبله للمادة التي تقدمها إليه هذه الألحان، وأن يدرك طبيعة الظروف التي خلقت فيها، ويدرسها بمنهج نقدي فاحص.
وبعد هذه الإيضاحات، ألخص الخطوط العامة للخطوات التي ينبغي اتباعها من أجل بعث فن موسيقي سليم في بلادنا، والبرنامج الذي أعتقد أن السير بمقتضاه يكفل لنا مكانة بين الأمم التي تفوقت في هذا المضمار:
أولا:
ينبغي أن ننظر إلى الموسيقى على أنها فن يبنى على أسس علمية، تقتضي دراسة طويلة شاقة. وعلى الرغم من أن الوقت الذي كان الفن يعد فيه خلقا تلقائيا، أو ارتجاليا، قد انقضى منذ عهد بعيد، فإننا لم نعترف حتى اليوم بهذه الحقيقة في مجال الموسيقى، ولا زال أمر هذا الفن في أيدي أشخاص ذوي خبرة موسيقية ارتجالية إلى حد بعيد.
ثانيا:
إذا اعترفنا بالمبدأ العام السابق، وجب علينا أن نضع الأسس التي تكفل تحقيق شرط العلم والدراسة، ولنبدأ يجب أن نتجه إلى تكوين جيل جديد، يبنى فيه على أسس بأن نقول: إن الجيل الموسيقي الحالي ميئوس منه تماما، وإن العناية علمية صحيحة، ويعتمد على المران الشاق، والدراسة المثابرة لا على الارتجال أو الاجتهاد الشخصي وحده. ومن أجل تكوين جيل كهذا؛ ينبغي أن تنشأ معاهد موسيقية راقية، تستقبل الناشئين منذ المراحل الأولى من عمرهم، وتتدرج بهم حتى يكمل إعدادهم. ولا بد أن نستقدم للتدريس في هذه المعاهد أساتذة من الأجانب؛ إذ ليس في بلادنا حتى الآن مواطنون يصلحون لإعداد موسيقيين في المستوى العالمي، سواء أكان ذلك في ميدان التأليف أم في ميدان الأداء. وليست الاستعانة بخبرة الغير، والاعتراف بأسبقيتهم في هذا الميدان بالأمر المخجل؛ فنحن نستقدم الخبراء الأجانب في ميدان الذرة، أو نبعث بمواطنينا إلى الخارج لتعلم أسرارها، وتخلفنا في ميدان الموسيقى يفوق بكثير تخلفنا في ميدان العلوم الذرية، وليس لنا أن نخشى من أن تفقد موسيقانا طابعها المحلي أو القومي إذا استعنا بغير مواطنينا؛ إذ إن هؤلاء لن يلقنونا سوى المواد والأدوات التي نستعين بها في التأليف، واللغة التي نستطيع أن نصوغ بها ما شئنا من الأفكار. ولا جدال في أن مجرد انتماء الفنان إلى بيئة معينة، ترتبط بها مشاعره وأفراحه وآلامه، سيصبغ إنتاجه الفني بصبغتها حتما.
ثالثا:
لا يكفي أن نعمل على إعداد المؤلفين الموسيقيين، والعازفين أو المغنين، إعدادا علميا صحيحا، بل ينبغي أن نعد المستمع لكي يتقبل هذا الفن الصحيح، ويعمل على تشجيعه. ولهذا وسائل عدة؛ فينبغي أن تدخل الموسيقى كل بيت، عن طريق الإذاعة، وعن طريق توفير التسجيلات للجميع. أما الإذاعة فلا أتردد في القول: إنها قصرت في هذا المجال، ولم تعمل على ترقية أذواق المستمعين، وتعللت في ذلك تارة بترديد فكرة الطابع القومي - وهي فكرة أوضحنا مدى بطلانها من قبل - وتارة بالقول: إن المستوى الثقافي لأغلبية السامعين يمنعهم من تذوق هذه الموسيقى، وكأنه ليس من صميم مهمتها، وأساس رسالتها، أن تعمل على رفع هذا المستوى باتباع مناهج دقيقة مدروسة! وأما مسألة توفير التسجيلات للجميع، فمن المؤسف أن ما يفرض عليها من الرسوم الجمركية يجعل الحصول عليها أمرا لا يقدر عليه إلا المترفون وحدهم؛ إذ تعد هذه التسجيلات من أدوات «الترف»، مع أنها في الحق من صميم الثقافة التي ينبغي أن نحرص على انتشارها بين أفراد الشعب، تماما كما نحرص على انتشار الكتب. وليس أضر بقضية الموسيقى من تلك العقلية التي تعد تكوين المكتبات الموسيقية ترفا ينبغي أن يقتصر على الأغنياء. فإذا أمكن إزالة هذه الحواجز التي تحول دون تذوق فئات الشعب على اختلافها لهذا الفن الرفيع، فعندئذ سيفتح أمامنا عالم جديد، ونمارس تجربة فنية لم نعرفها من قبل على الإطلاق، ونستمتع بمشاعر وأفكار لم يثرها فينا من قبل أي فن آخر.
ولكن كل هذه الوسائل ليست في نظري حاسمة، بل إن هناك وسيلة أخرى لإنهاض هذا الفن، وكل فن آخر، بدونها لا تفيد الدراسة، ولا العلم، ولا الخبرة.
فالموسيقى، ككل فن آخر، مرتبطة بحياة الناس الواقعية أوثق الارتباط. وطالما كانت هذه الحياة يسودها الخمول، واليأس، والإحساس بالظلم؛ فمن العبث أن ننتظر نهضة حقيقية في مجال الفن. ولو لم يكن للناس في حياتهم هدف وأمل في مستقبل مشرق، فلن ينهض بينهم فن سليم؛ إذ لن يوجد الشيء الذي يعبر عنه ذلك الفن. ونهضتنا الموسيقية مرتبطة بنهضتنا الاجتماعية ارتباطا وثيقا. ففي اليوم الذي يحس فيه كل فرد بكيانه، وبأن الحياة بدأت تقبل عليه، ويشعر في أعماق نفسه بأن له في هذه الحياة هدفا يسعى مع أقرانه إلى تحقيقه ... في هذا اليوم وحده (وكل الدلائل تدل على أنه قريب) يحق لنا أن ننتظر نهضة موسيقية وفنية صحيحة. وعندئذ يكون لهذه الخطة التي أوضحنا خطوطها العامة جدواها؛ إذ إنها تمدنا بالوسائل والأدوات، بينما تمدنا أحاسيسنا الإنسانية بأسمى المعاني والأفكار.
صفحه نامشخص