طبیعت و ما بعد طبیعت: ماده، زندگی، خدا
الطبيعة وما بعد الطبيعة: المادة . الحياة . الله
ژانرها
وهم يعولون كثيرا على ما يدعى بتعدد الشخصية، فإنه إذا كانت الشخصية مظهر النفس، وكانت تختلف وتتناسخ على التعاقب، بل في وقت واحد، كان هذا دليلا جازما على أن النفس محض فكرة، بل لفظة، وأنها «عرض طارئ» على حالة بدنية، وأننا نستخدم هذه اللفظة اختصارا للحالات اللائحة، في الشعور، المتلاعبة به؛ الموهمة له أنه يمثل شخصا أو جوهرا روحيا، وهو مستسلم لها فاقد كل شخصية. ويحتجون باستقلال الوظائف الفسيولوجية عن الشعور، قبل أفعالها وفي أثنائها، فهي ماضية في شئونها، غنية عمن يتوقعها، ويدير وسائلها، ويراقب أفعالها. هذا صحيح؛ ولكنه لا يدل على النتيجة المستنبطة منه. أليس هذا حال الجماد والنبات؟ وقد أثبتنا غير مرة أنه لا يعفى من وضع مبادئ قريبة لأفعالهما، هي القوى، ومبدأ بعيد، هو الصورة الجوهرية، أن ترجع جميعا إلى الله خالقها، بعضها مع توقع وتدبير، وبعضها عاطل منهما مستكف بما رسم في طبيعته ليقوم مقامهما.
لا محيص إذن عن البرهنة على وجود النفس الإنسانية. وقد اعتقد ابن سينا أنه يبرهن عليه بطريقة واضحة حاسمة لا تستخدم سوى التجربة الباطنة وتمضي منها إلى المطلوب رأسا. قال: «لو توهمت ذاتك قد خلقت أول خلقها، وفرض أنها على جملة من الوضع والهيئة بحيث لا تنظر أجزاءها، ولا تتلامس أعضاؤها، بل هي منفرجة ومعلقة لحظة ما في هواء طلق، وجدتها قد غفلت عن كل شيء إلا عن ثبوت إنيتها. والمدرك منك أهو ما يدركه بصرك من إهابك؟ لا، فإنك إن انسلخت عنه وتبدل عليك كنت أنت أنت. (وكل حاسة أخرى) فإن حالها ما سلف ... فمدركك شيء آخر غير هذه الأشياء التي قد لا تدركها وأنت مدرك لذاتك، والتي لا تجدها ضرورية في أن تكون أنت أنت ... ولعلك تقول: إنما أثبت ذاتي بوسط من فعلي ... (ولكن) فعلك لم تثبت به ذاتك، بل ذاتك جزء من مفهوم فعلك، (فالذات) مثبتة في الفهم قبله، ولا أقل من أن يكون معه لا به.»
3
وهذا هو الدليل المعروف بدليل الإنسان الطائر.
ونحن نخالف ابن سينا في اعتقاده أننا ندرك وجود الذات بمعزل عن كل فعل. إن إدراك وجود الذات يحدث في إدراك الأفعال.
وحينئذ ندرك وجود الذات إدراكا مباشرا مع وقوع الأفعال. ومن باب أولى نخالفه في اعتقاده أننا ندرك ماهية النفس بمعزل عن كل فعل وكل استدلال، بإدراكها وجود ذاتها. ليست النفس حاضرة الماهية لذاتها، وإلا لما أنكرها البعض، ولم يتردد في وجودها البعض، ولم يختلف في ماهيتها البعض، وإنما هي حاضرة الذات في أفعالها، وبتأمل الأفعال تعلم ماهيتها، أما إذا غفلت عن كل شيء فإنها تغفل ضرورة عن ثبوت إنيتها.
وإلى دليل من هذا الطراز لجأ ديكارت؛ فإن قوله: «أنا أفكر» يعني أنه قد صرف النظر عن موضوعات الفكر، وانعكس على ذاته، فاتخذ من فكره موضوعا لتفكيره، حتى لقد نتج له من هذا الموقف الانعكاسي أن الفكر يعرف ذاته قبل أن يعرف الجسد المتحد به، وقبل أن يعرف شيئا من الموجودات، وأن في هذه المعرفة الدليل الأول الدافع على وجود النفس. ولكن الواقع أن مذهبه التصوري، إذا تدبرناه على حقيقته، يحول دون الانتقال من «أنا أفكر» إلى «أنا موجود»؛ فإن التصورية تقضي بأننا لا نعرف شيئا في ذاته، بل لا نعرف فعلا في ذاته، وإنما نعرف فقط تصورنا لشيء أو لفعل. فلا يسوغ في التصورية سوى الانتقال من فكرة إلى ذاتها، فيقال: «أنا أفكر، وإذن فأنا أفكر». بل إن هذا كثير، إذ ليس يسوغ قول: «أنا أفكر» من حيث إن «أنا» وجودي بالضرورة، فيتعين الاكتفاء بقول: «إن هناك فكرا» دون إسناد الفكر إلى مفكر موجود. وحتى هذا غير ممكن، فإن التصوريين لا يستطيعون أن يضمنوا ألا يكون الفكر واللافكر شيئا واحدا بعد أن جعلوا من مبدأ عدم التناقض قانونا فكريا بحتا لا قانونا وجوديا. وهكذا تنتهي التصورية، وهي مبنية على الفكر، إلى إلغاء الفكر والمفكر. وهكذا فهمها كنط، فقصر النفس أو الأنا أو الشخصية على أن تكون مجرد «مقولة» إن قدمت فباللفظ فقط، وهي تؤخر كثيرا بنفي مدلوها.
الحقيقة أننا في كل فعل من أفعالنا وكل حالة من حالاتنا، ندرك وجود ذاتنا إدراكا مباشرا. وندرك أن الفعل فعلنا والحالة حالتنا. وكيف يتصور إحساس أو تعقل أو تداعي صور ... إلخ بدون جوهر يحس ويفكر؟ فوجود الجوهر هو وحده يفسر حدوث أفعالنا وحالاتنا؛ وهو وحده يفسر من باب أولى ما يستمر منها في الزمان أو يعود من آن إلى آن، كالذكريات والعادات والإدراكات المكتسبة والتداعيات والأحكام والاستدلالات. وشهادة الوجدان صريحة بأن عين الأنا هو الذي يحيا ويحس ويفكر، فإننا نضيف إليه جميع هذه الأفعال، ويشعر كل منا أنه يظل هو طول عمره. فللإنسان وجود واحد نشعر به وباستمراره تحت التغيرات، فنربط حاضرنا بماضينا، ونتطلع إلى المستقبل على أنه مستقبلنا.
ومحال أن يكون الجسد علة هذا الوجود الواحد، بما فيه من تضافر متصل ونمو متسق، مما يدل على وجود مبدأ باطن يدبر ويوجه، والجسد ممتد منقسم متكثر متغير، متجدد باستمرار، ومحتاج من ثمة إلى ما يرده شيئا واحدا ويستبقي له وحدته. فليس يمكن أن تكون المادة مبدأ أول، وهي منفعلة وحركتها معلولة، على حين أن الفكر في مختلف صوره منبثق عن فاعلية باطنة. فلم يكن للون أن يفترض أن المادة قد تفكر: إن الفكر يقتضي شروطا منافية لصفات المادة، فانتفاء هذه الشروط يقضي بانتفاء الفكر. وإذا لم يكن في الحياة النامية أكثر مما في الجماد، وفي الحياة الحاسة أكثر مما في النامية، وفي الحياة الناطقة أكثر مما في الحاسة، لم تختلف تلك الحيوات في الوظائف والأفعال ذلك الاختلاف العميق البادي في المشاهدة.
لأجل تفسير وحدة الكائن الحي واستمراره هو هو، يجب أن يكون حاصلا على نفس، وأن تكون النفس بسيطة منزهة عن كل تركيب من أجزاء متمايزة. ولتفسير التفكير يجب القول ببساطة النفس أيضا، فإنه لا يتسنى إلا لجوهر بسيط قادر على أن ينعكس على ذاته ويجمع في فعل واحد جميع عناصر الإدراك، سواء كان الإدراك إحساسا أو فكرا مجردا أو نسبة. وقد أقر بذلك اثنان من أقطاب المذهب الحسي؛ قال هيوم: «إن في علاقة التداعي تناقضا صريحا: كيف يمكن أن يوجد مبدأ ارتباط إذا كانت إدراكاتنا منفصلة مستقلة بعضها عن بعض؟ هذه معضلة تفوق طاقة عقلي.» وقال ستوارت مل: «إن الذهن سلسلة من الحالات تعرف نفسها ماضية ومستقبلة: فكيف تتسنى هذه المعرفة لمجرد سلسلة؟ لا يبقى إلا أن نقول: إن الذهن أو الأنا شيء آخر غير سلسلة الحالات .»
صفحه نامشخص