تصدير
الباب الأول: الطبيعة
1 - تجوهر الأجسام
2 - الحياة النامية
3 - الحياة الحاسة
4 - الحياة الناطقة
الباب الثاني: ما بعد الطبيعة
1 - علم الطبيعة
2 - البرهنة على وجود الله
3 - صفات الذات الإلهية
4 - صفات الفعل الإلهي
5 - بطلان الأحادية
6 - حل إشكالات في الصفات
7 - بين التشاؤم والتفاؤل
خاتمة
تصدير
الباب الأول: الطبيعة
1 - تجوهر الأجسام
2 - الحياة النامية
3 - الحياة الحاسة
4 - الحياة الناطقة
الباب الثاني: ما بعد الطبيعة
1 - علم الطبيعة
2 - البرهنة على وجود الله
3 - صفات الذات الإلهية
4 - صفات الفعل الإلهي
5 - بطلان الأحادية
6 - حل إشكالات في الصفات
7 - بين التشاؤم والتفاؤل
خاتمة
الطبيعة وما بعد الطبيعة
الطبيعة وما بعد الطبيعة
المادة . الحياة . الله
تأليف
يوسف كرم
تصدير
أثبتنا في كتاب «العقل والوجود» أن للإنسان قوة دراكة متمايزة من الحواس، تدعى بالعقل، شأنها أن تدرك معاني المحسوسات مجردة من مادتها، ومعاني أخر مجردة بذاتها، وأن تؤلف هذه المعاني في قضايا وأقيسة واستقراءات، فتنفذ في إدراك الأشياء إلى ما وراء المحسوس، محاولة استكناه ماهيته، وتعيين علاقاته مع سائر الموجودات. ولما كانت موضوعات العقل مجردة، كانت أفعاله التي ذكرناها مجردة كذلك، فأبطلنا المذهب الحسي الذي يقصر المعرفة الإنسانية على الحواس، ويرمي إلى أن يرد إليها ويفسر بها سائر المدركات.
وبعد إثبات وجود العقل بوجود موضوعاته وأفعاله، عرضنا لقيمة الإدراك العقلي، فأدحضنا مذهب الشك المنكر لجميع الحقائق، حتى الحسية منها، والهادم للعلم من أساسه؛ وأدحضنا المذهب التصوري الذي وإن آمن أصحابه بوجود العقل وبمدركات عقلية، فهم يقصرون هذا الوجود على داخل العقل، ويعتبرون هذه المدركات تصورات وحسب، فينكرون على الإنسان حق الخروج من التصور إلى الوجود. وبعد إثبات بطلان تلك الدعاوي بينا تهافت المذاهب الميتافيزيقية المبنية عليها.
ثم بينا أصول رأينا فيما بعد الطبيعة، وهو أن هذا العلم يدور على معنى الوجود بما هو وجود، أي: بإطلاقه من كل تعيين وتخصيص، وعلى المعاني والمبادئ اللاحقة لمعنى الوجود، وهي أبسط المعاني والمبادئ وأعمها، المؤسسة لمعرفتنا، المؤيدة لحقيقتها، المخولة العقل حق الخروج إلى موضوعات التصور في أنفسها، والنفاذ إلى حقائقها، وبناء العلم.
والآن نقصد إلى النظر في طبائع هذه الموضوعات ، وأن نبدي الرأي فيها، وقد تشعبت الآراء تشعبا كثيرا، وتضاربت تضاربا شديدا، حتى ولدت الحيرة وبلبلت الخواطر، فعدلت مذهب الشك لمحض كثرتها وتعارضها، آملين أن نحل محلها الرأي الحق في كل مسألة، وأن نقدم صورة سليمة للطبيعة بقوانينها وبموجوداتها؛ من جماد ونبات وحيوان وإنسان، على هذا الترتيب التصاعدي الظاهر لأول وهلة.
ونقصد أخيرا إلى إتمام البحث الشامل، واستيفاء اليقين الكلي، بالصعود إلى العلة الأولى للطبيعة، أي: لخالقها ومشرع قوانينها، المفارق لها، العالي على موجوداتها، وقد نفت وجوده فرق، وضلت في فهمه فرق، فتكدست المسائل في هذه الناحية من المعرفة. وأعضلت حتى لا يهتدي إلى وجه الحق فيها إلا الأقلون.
من بين الموجودات بعضها موجود بالطبع، والبعض الآخر بعلل أخرى [كالفن أو كالصادفة]: الموجود بالطبع الحيوانات وأجزاؤها، والنباتات والأجسام البسيطة [التي هي العناصر]. وهذه الأشياء، والتي من قبيلها، تختلف اختلافا ظاهرا عن التي ليست بالطبع، فإن كل موجود طبيعي فهو حاصل في ذاته على مبدأ حركة وسكون، بعكس السرير والرداء وما إليهما، أي: بقدر ما هو مفعول الفن، فهو ليس حاصلا على أي ميل طبيعي للتغير. (أرسطو: كتاب السماع الطبيعي، م2 ف1)
العقل يدرك جميع الأشياء، فيلزم أن يكون مفارقا للمادة لأجل أن يدرك، فإنه إن كانت له صورة خاصة [كخصوصية أعضاء الحواس] إلى جانب الصورة الغريبة (أي: المدركة) كانت تلك حائلة دون تحقق هذه. (أرسطو: كتاب النفس، م2 ف1)
كل متحرك فهو متحرك بغيره ... وهذا الغير إن كان متكثرا محركا ومتحركة آحاده كل بغيره، فهو متناهي العدد بالضرورة، إذ يمتنع التداعي إلى غير نهاية في سلسلة العلل، وإلا كان في التسلسل إنكارا لبداية الحركة، ومن ثمة إنكارا للحركة نفسها، وهي واقعة. وإذن فلحركة العالم علة أولى ثابتة غير متحركة. (أرسطو: كتاب السماع الطبيعي، م8 ف4)
إننا نرى كل شيء منظما في ذاته، ونرى الأشياء منظمة فيما بينها، فللعالم غاية ذاتية هي نظامه، وغاية خارجية هي المحرك الأول؛ علة النظام. (أرسطو: ما بعد الطبيعة م12 بداية ف10)
المحرك الأول هو الخير بالذات، فهو مبدأ الحركة، هو المبدأ المتعلقة به السماء والطبيعة. (أرسطو: ما بعد الطبيعة م12 ف7)
الباب الأول
الطبيعة
الفصل الأول
تجوهر الأجسام
(1) تعريفات تمهيدية
ننظر إذن فيما كان الفلاسفة الإسلاميون يسمون بالعلم الطبيعي أخذا عن اليونان، وما نسميه بالفلسفة الطبيعية تبعا للتمييز الواجب التزامه في العصر الحديث بين الفلسفة والعلم، فإن مفهوم العلم الآن أنه معرفة الأجسام بتحليلها إلى أجزائها المدركة بالحواس، ووصف تركيب هذه الأجزاء بعضها مع بعض، وتعيين قوانين الظواهر كما يبدو للحواس كذلك، أعني تبعا للملاحظة والاختبار، وترتيب القوانين من الأخص إلى الأعم، حتى نصل إلى أعم القوانين، إن لم نصل إلى قانون واحد شامل؛ بينما دأب العقل أن يتغلغل إلى أعمق ما تبلغ إليه المعرفة الحسية؛ فإذا ما عرض للطبيعة حاول أن يستكشف «المبادئ الذاتية والأولية» المكونة للجسم الطبيعي. ونعني بالمبادئ الذاتية تلك التي هي عين الماهية وليست زائدة عليها؛ ونعني بالمبادئ الأولية تلك التي هي سابقة على حلول الأعراض ورابطة بين الأعراض والماهية، وما هي إلا مبادئ الماهية.
فبحثنا يدور على ماهية الجسم الطبيعي بالإجمال، أو مطلق الجسم، حتى ليشمل الحي ولا يقتصر على الجماد، فلا يعرض لماهية هذا الجسم أو ذاك بالخصوص به؛ وإذا عرضنا لطائفة معينة من الأجسام، كالنبات أو الحيوان أو الإنسان، بحثنا عن أعم مقوماتها المميزة لجميع أفرادها، تاركين للعلوم الطبيعية ما كان أقل خصوصا، أقل شمولا، معلوما بمناهجها التي أشرنا إليها.
وقبل البحث الموضوعي التقريري، لعلنا نمهد لموضوعنا ونعبد الطريق أمامه بشرح معاني لفظ «الطبيعة» اتباعا لوصية المناطقة بالابتداء بالتعريف اللفظي أو الرسم، والتثنية بالتعريف الحقيقي أو الحد؛ لا سيما ولفظ «الطبيعة» لفظ مشترك يطلق على مدلولات مختلفة، ويشترك مع لفظ «الكون» في أحد مدلولاته، وبذلك لا تختلط الألفاظ بعضها ببعض، فلا تختلط الأفكار.
للفظ الطبيعة مدلول عام هو «جملة الموجودات المادية بقوانينها»، أي: من الأجرام السابحة فوق رءوسنا، والأجسام المضطربة من حولنا. وهذه الدلالة تزيد على جميع الأجسام بعضها إلى بعض معنى اتصاف الكل بالنظام والجمال، وقد كان هذا الوجه هو الملحوظ في تسميته اليونان واللاتين للعالم، فقال الأولون:
kosmos
أي: الزينة أو المزدان، وقال الآخرون:
Mundus
أي: الرشاقة عديمة النظير، كما قالوا:
univers unite dans la variété
أي: اتحاد الكثير المتنوع، وهذا الاتحاد صنع الفن أو العقل.
وبهذا المعنى يطلق لفظ «الكون»، ثم له مدلول أخص بالنسبة إلى كل واحد من الموجودات، فإن لكل موجود ماهيته، وقد جرى الاصطلاح العربي بإطلاق لفظ الكون على ما يحدث دفعة، كانقلاب الماء هواء بالتسخين، فإذا كان على التدريج فهو «الحركة». وعنوان هذا الفصل «تجوهر الأجسام» وارد كعنوان للفصل الأول من كتاب النجاة، أعني التكون وصيرورة الشيء جوهرا.
وقد تنطوي الماهية على «طبع» أو هيئة كالماهية، وهي ما يدعى سجية وجبلة، وهذا خاص بالتركيب الفسيولوجي وبالشعور في الحيوان والإنسان من جهة بعدهما عن الجبرية، وحصولهما على شيء من الاستقلال بالنسبة إلى الأحوال الخارجية، فإن هذا الاستقلال يرجع حينئذ إلى تكوين الجسم، سواء كان هذا الفرد المعين، أو ممثلا لنوعه: «فالأصبع الزائدة يشبه أن تكون بالطبع بحسب الطبيعة الشخصية، وليست بالطبع بحسب الطبيعة الكلية.» أو قد نقول: «إنها عن الطبيعة وليست بالطبع.»
1
ومن هذا المعنى حدث الانتقال إلى معنى أعمق؛ هو أن طبيعة الشيء هي «المبدأ الفعلي أو الانفعالي الأول الدائم لحركاته وسكوناته: ذلك أن الموجودات تتحرك أو تسكن على نسق واحد، فتدل على أن فيها علة الحركة والسكون وعلة اطرادهما. فالفعل الباطن واطراد الفعل أو القانون علامتان على الطبيعة، فإن الأمور الطبيعية دائمة أو أكثرية، وليست باتفاقية»؛
2
والذي في الأكثر هو بعينه الذي يوجب لكن له عائق، والموجب هو الذي يسلم له الأمر دون عائق.
3
وليست الأمور الطبيعية بإرادية. فكما أننا نحتج على منكري الغائية بقولنا: «وإلا فتكون الطبيعة قد فعلت باطلا.»
4
ونعني أنها لا تفعل خبط عشواء، بل على وتيرة واحدة أو قانون. فكذلك نقول: «إن الطبيعة لا تفعل بالاختيار، بل إنما تفعل أفاعيلها بالتسخير والطبع؛ فلا تتفنن حركاتها وأفاعيلها.»
5
وهكذا يقال: «طبيعي» في مقابل «اتفاقي»، وفي مقابل «إرادي» متى كان مصنوعا باختيار الإنسان، وفي مقابل «إرادي » متى كان مصنوعا بصناعة الحيوان ومطردا أو كالمطرد، بفعل الغريزة . فلا يبقى إلا أن «الطبيعة» مبدأ باطن للفعل والانفعال، وأن «الطبيعي» هو الصادر عن هذا المبدأ، على ما ذكرنا. ويتأيد هذا المعنى بملاحظة أن ما بالطبيعة قد يفسد، «فتكون الطبيعة علة الرد إلى الحال الطبيعية»،
6
كاستعادة الصحة واندمال الجروح.
وهذه المعاني جميعا تعود إلى اليقين بأن الطبيعة صنع عقل حكيم، وأن لكل موجود طبيعته، وأن للطبائع وأفعالها نظاما وحكمة، وأن «لا شيء معطل في الطبيعة»
7
بحيث لو صادفنا مذهبا فلسفيا يعتمد على الاتفاق أو المصادفة، حكمنا فورا ببطلانه لمخالفته لذلك المعنى العام للطبيعة الذي يبتدي للعقل بداهة، ويتبدى لكل عقل. وهذا هو الموقف الذي سنتخذه في هذا الكتاب، وندعمه بما نستطيع من الشواهد. (2) المذهب الآلي
لقد وجد هذا المذهب فعلا. فمنذ العهد الأول للفلسفة اليونانية، في القرن السادس قبل الميلاد، قال طاليس: إن المادة الأولى التي صنعت منها مختلف الأجسام، هي الماء؛ تتكاثف فيصير ترابا، ويتخلخل فيصير هواء، ويتخلخل الهواء فيصير نارا. وقال انكسمانس: بل هي الهواء، يتكاثف ويتخلخل. وقال هرقليطس: بل هي النار تتخلخل فتصير هواء فماء فترابا، فكل منهم عين مادة أولى، وادعى أن القوى الأخرى تحصل عنها، وأن الأجسام تحصل عن هذه القوى.
ثم تقدم المذهب خطوة حاسمة بفضل ديموقريطس: فقد اعتبر تلك الأصول الأربعة فروعا للمادة البحتة المجردة عن كل تعيين، الشبيهة بتلك التي نتصورها في العلم الرياضي حين نفكر في النقطة والخط والجسم، أي: امتدادا وحسب؛ وارتأى أن هذا الامتداد مؤلف من أجزاء غاية في الصغر حتى لا تدرك بالحواس، ولا تقسم إلى أصغر منها؛ تتحرك في الفضاء وتتقابل على أنحاء لا تحصى، فتأتلف في مجاميع هي الأجسام المنظورة الملموسة، وتفترق بفعل الحركة أيضا فتنحل تلك الأجسام ليتكون غيرها، وهكذا. واختلاف الأجسام في خصائصها يرجع إلى اختلاف تلك الجواهر أو الذرات المؤلفة لها عددا وشكلا ومقدارا وترتيبا بعضها من بعض. وبهذا الوصف صار المذهب أقرب إلى التمام، بل تاما، يمضي من البسيط غير المعين إلى المركب فالأكثر تركيبا، بينما الماء أو الهواء أو النار تعينات لا يدل على أصلها، فكأنها موضوعة وضعا.
وجدت هذه النظرية أشياعا بين قدماء الأطباء والكيميائيين، وتأييدا أعظم قيمة في تجارب روبرت بويل (1626-1691)
Robert Boyle
الدائرة على أن ثمانين ذرة تقريبا تأبى التحليل، وأن لكل منها وزنا نوعيا خاصا، وألفة إلى ذرة أخرى، ورد فعل كيميائي في ائتلاف الذرتين، وقاد اكتشاف نيوتن قانون الجاذبية إلى فكرة أن الذرات يجذب بعضها بعضا، أي إنها تبذل قوة جاذبية. وعضد نيوتن وآخرون هذه الفكرة حتى صارت مقبولة قبولا عاما، واعتبرت دليلا قويا على وجود الذرات. غير أن هذه الاعتبارات كانت هزيمة للنظرية من جهة دلالتها على تعين الذرة بماهيتها ووزنها ورد فعلها الكيميائي وفاعليتها بقوة باطنة؛ وهذه قضايا ثلاث معارضة لها في إعلانها تجانس الذرات من كل وجه؛ ولو أن علماء عديدين يعللون أنفسهم برد الذرات على اختلافها إلى أصل واحد.
وعند الكثيرين تعد هذه النظرية الفصل الأول من فصول المذهب المادي المدعو في هذا المبحث بالمذهب الآلي؛ لتصوره الجسم الطبيعي على مثال آلة من الآلات الصناعية، وتصوره جملة الطبيعة آلة كبرى، أي: مركبة من أجزاء متجاورة ومتفاعلة بالحركة فقط دون أية قوة ذاتية، بل وتيرة أحداثها متعينة بوتيرة سوابقها، كما هو الحال في أفعال الآلة. والمادة هاهنا مستكفية بنفسها مستغنية عن خالق يوجدها ويطبعها بقوانينها، بل عن «صانع» يصور مادة مستقلة عنه في الوجود سابقة على تصويره الجزئيات وتنظيمها. وإذا سألناهم عن أصل المادة والحركة، أجابوا: إن المادة هي الأصل، وإن الحركة ملازمة لها، فلا يسأل عن أصلها. وتلك هي المبادئ العليا التي يصدر عنها الماديون في سائر المسائل؛ وهكذا فهم ديموقريطس وأبيقور ولوقريس، أئمة المذهب في العصر القديم، وهكذا فهم ويفهم كثيرون.
على أن هذه النظرية لا تحتم الإلحاد، بل تحتمل الاعتقاد بخالق الطبيعة. اصطنعها المتكلمون الإسلاميون ولم يجدوا فيها غضاضة على إيمانهم، واصطنعها ديكارت، فجعل محل المادة في مذهبه بعد محل الله، مرجعا إلى الله وجود المادة والقوانين الطبيعية؛ وميز بين المادة والنفس تمييزا دقيقا مستثنيا النفس الإنسانية من الوجهتين العقلية والروحية، فوزع الطبيعة إلى مملكتين: مملكة المادة ومملكة الروح. وتابعه جساندي فأضاف إلى مذهبه الآلي مذهبا روحيا يقول بالله والنفس الناطقة، اعتمادا منه على أن نظام العالم يمنع من الاعتقاد بأنه وليد حركات اتفاقية، وأن الأخلاق والدين تقضي بأن يوجد في الإنسان نفس روحية عاقلة حرة. وسواء أكانت الآلية الجزئية تتفادى ما يستحقه إلحاد الآلية الكلية من انتقادات، فإنها تستهدف لنفس الانتقادات من جراء مخالفتهما للواقع وللعقل في تفسير الجسم الطبيعي. (3) تفنيد المذهب الآلي
أول ما يستلفت أنظارنا ونحن نفتحها على الطبيعة، تنوع موجوداتها بخصائص ثابتة لكل منها، مطردة على مر الزمان. ومحال أن تكون الخصائص وأن يكون ثباتها لكل فرد، نتيجة الذرات مجتمعة أو مفترقة، متزايدة أو متناقصة، ولا نتيجة اختلافها عددا وترتيبا، سواء أكانت متشابهة أو كانت متباينة؛ إذ من البديهي أن الأجزاء المتشابهة لا يحدث عنها مركبات متباينة، ومن البديهي أن الاختلافات العرضية، كتلك التي يلح فيها الآليون، لا يحدث عنها اختلاف بالماهية. والتباين بالماهية باد لأول وهلة، ليس فقط في الأجناس الكبرى من جماد ونبات وحيوان، بل في داخل كل جنس، وذلك باختلاف الخصائص والوظائف والكيفيات الفيزيقية والكيميائية، فضلا عن الأشكال الظاهرية.
والأمر واحد بالنسبة إلى الذرات المتباينة الماهية التي يضطر العلماء إلى الاعتراف بها، فإنها هي أيضا حين تأتلف يحدث عن ائتلافها مركبات مباينة لها بالماهية، كحدوث الماء عن ائتلاف الهيدروجين والأوكسجين، أو جسم النبات والحيوان من غذائهما المختلف عنهما. ونحن عاجزون عن تعرف خصائص نبات ما من العناصر المركبة له. وإذا سألنا الآليين عن أصل التباين بين العناصر؛ لم نظفر منهم بجواب أصلا. وليس يلوح أن أملهم سيتحقق في تحليلها إلى ذرات متشابهة، وإن كانوا يبدون مطمئنين إلى أن كل ما هنالك هو أنهم لم يوفقوا بعد إلى هذا التحليل.
ومحال أن تكون تغيرات الأجسام وظواهرها وليدة حركة الذرات، المعقول أن ينتج عن الحركة اختلاف في حجم الأجسام، وفي قوة الحركة نفسها ليس غير؛ أما الاختلاف بالخصائص والماهية فهو من أصل آخر؛ وإذا كان ترتيب الحركات والهيئات يفسر اختفاء خصائص العناصر في ائتلافها، فإنها لا تفسر ظهور الخصائص الجديدة بتكون المركب الجديد، والحركة لا تنتقل من جسم إلى آخر كما يتوهم الآليون، إذ لا حركة إلا في متحرك، فإذا قلنا بالانتقال دون متحرك افترضنا الحركة شيئا أو جوهرا أثناء الانتقال، وهي عرض بالطبع، مفتقرة إلى ما يحملها ويمر بها من مكان إلى آخر. ونكرر القول: إن الاختلاف بالعرض لا ينتج اختلافا بالذات.
وإذا نظرنا في كل ذرة على حيالها وجدناها واحدة بوحدة حقيقية، وليست المادة سببا للوحدة، ولكنها على العكس سبب للتفرق والتعدد بانقسامها أجزاء؛ فإذا كانت الذرة غير منقسمة مع امتدادها فليس ذلك راجعا إلى المادة، بل إلى مبدأ آخر سنفحص عنه بعد هنيهة. لكن الآليين يتصورون الجسم الطبيعي على مثال الجسم الصناعي فيسلبونه وحدته؛ وهذه الوحدة بينة في المركبات الجمادية، وأبين منها في الكائنات الحية. وفي الطائفتين جميعا يصدر الفعل والانفعال عن الكائن بكليته كوحدة غير منقسمة، بينما الفعل والانفعال في الجسم الصناعي يصدر كل منهما عن جزء فقط. كما نشاهد في أجزاء أية آلة من آلاتنا. انظر إلى المادة المتبلورة كيف تتخذ شكلا هندسيا معينا بعد عدم التعيين، وكيف تجبر ما يصيبها من كسر: أليس هذا دليلا على وجود مبدأ غير المادة البحتة، كما أن انتقال الجسم الحي من عدم التعيين إلى تصوير شخص من نوع معين بوظائفه وأعضائه دليل على وجود مبدأ مغاير للمادة البحتة؟
والمذهب الآلي لا يفسر اطراد الأنواع الجمادية والحية، وسيرها على قوانين معينة، فإن المادة الصرف والحركة ذاتها لا تقتضيان نوعا دون آخر أو قانونا دون آخر، إلا أن يكون في الجسم الطبيعي مبدأ ذاتي يعين نوعه وخصائصه، ويستخدم المادة والحركة تبعا لمقتضيات ماهيته. ولكن المذهب الآلي ينكر مثل هذا المبدأ، ويريد أن يعلل خصائص الموجود بنظام تركيبه، كأن نظام التركيب نفسه غير مفتقر إلى تعليل. محال أن نرد إلى المصادفة اتساق الكائن الطبيعي مرة واحدة، فأمعن من ذلك في الإحالة عودة الاتساق في كل مرة.
ومن الأدلة القاطعة على وحدة الذرة: وزنها النوعي، وألفتها الكيميائية، وما يتبع هذه الألفة من تغير جوهري. الوزن النوعي خاص بكل ذرة، ثابت لها، والذرات متفاوتة في المقدار، ومع ذلك هي غير منقسمة من جهة ما هي ماهية معينة، وإذا انقسمت مادتها تغيرت هذه الماهية، فلو كانت الأجسام امتدادا وحسب لانقسمت دون أن يعتريها تغير، إن ذرة الزئبق تزن مائة ضعف وزن ذرة الهيدروجين، فلم كان كلاهما غير منقسم؟
والألفة الكيميائية آية من آيات الغائية الباطنة المركوزة في الكائن نفسه، فإن لكل عنصر ميلا خاصا إلى عنصر آخر أو عناصر أخرى معينة دون غيرها. والعناصر المتآلفة قابلة للامتزاج بحيث يتكون منها جسم جديد بكافة خصائصه. وهذا الامتزاج لا يحدث اتفاقا كما تقدم، بل كأنه نتيجة ميل واختيار، إن جاز هذا التعبير بخصوص الموجودات غير الحاسة غير المختارة، بخلاف الحال في «الخليط» حيث يجتمع من الأشياء ما نشاء ويحتفظ كل منها بوجوده وطبيعته، كالماء والخمر، أو العسل والطحينة، يختلطان فيؤلفان شيئا وسطا نستشعر فيه كلا منهما بالآخر، على حين أن «المزاج» متجانس لا أثر فيه لأصوله الممتزجة، مثلما كل جزء من الماء هو ماء. فالخليط من باب الطبيعة، والمزاج من باب الكيمياء. أليس يستحق هذا الفرق تفسيرا غير ذلك الذي يعرضه الآليون باعتمادهم على ترتيب الذرات بعضها من بعض؟ لو كانت المادة امتدادا وحسب لعاد كل امتزاج خلطا، ولم يكن هناك مزاج أصلا.
تلك بعض الاعتراضات التي توجه للمذهب الآلي. وسنعقبها بأخرى، خصوصا حين نبحث في الكائنات الحية ووظائفها النامية والحاسة والناطقة، فما من مسألة من المسائل الفلسفية إلا وله دخل فيها، وأشياعه يعدونه مذهبا عاما في الطبيعة عامة. على أنا نريد أن نبدي هنا ملاحظة تنصفه وتحدد وجه معارضتنا له، فلا يتهمنا أحد بالتجني عليه؛ ذلك أنه إن كان خاطئا في تكوين المادة، كما ندعي، فقد يمكن اعتباره مطابقا للواقع من حيث وصف الكائنات ووصف «أعضائها» التي تفعل بها، ووصف جريان أفعالها : وهذا هو نصيب الحق في رد العلوم الطبيعية إلى المادة والحركية، وعد العلم الطبيعي الرياضي صورة للعالم، دون أن يعد هذا الرد تحقيقا للمذهب وبرهانا في صالحه؛ إذ إن هذه الوجهة ثانوية في الحقيقة، بينما الوجهة الأولية هي التكوين الميتافيزيقي: فالفسيولوجيون مثلا يبنون علمهم على تكوين الأعضاء وترتيب أفعالها، وهذا جائز، بل واجب، ولكنهم يستبعدون النظر في طبيعة الحياة وغائية أفعالها، على ما سنبين فيما بعد، وهذا غير جائز؛ إذ إن مهمة الفلسفة الكشف عن العلل الأخيرة والأصول الأولى. وهكذا نقول في كل طائفة من العلماء تنتهج هذا المنهج؛ والوجهة الأولية هي التكوين الميتافيزيقي؛ فنقدنا له هو من هذه الوجهة، أي: باعتباره المذهب المادي المنكر للماهيات والمستعيض عنها بتركيب أجزاء مادية تركيبا عرضيا. إن القضية التي ندافع عنها هي أن المادة تنتظم من «طابقين»: أحدهما سفلي هو الآلية، والآخر أعلى، وهو الغائية. (4) المذهب الهليومورفي
خلص لنا مما تقدم دعويان ضد الآلية، وهما على جانب كبير من الأهمية، ولو أن التجربة تظهرنا عليهما في كل وقت، ولكن الفلاسفة الذين يرتابون في البديهيات كثير، فلا نجد بدا من السعي وراءهم وتبرير البديهيات بقدر ما يسمح المقام، والبديهيات لا تبرر. إحدى الدعويين وجود كائنات مختلفة بالنوع، والأخرى وجود تغيرات جوهرية. الدعوى الأولى يلزم منها أن الكائنات تتشابه من وجه، هو وجه المادة والكمية، وتتخالف من وجه، هو وجه الماهية. وعلى ذلك فكل جسم هو مركب. وهذه النتيجة عينها تلزم من الدعوى الثانية: فإن الكائن المتغير لا يمكن أن يكون بسيطا، ومعنى التغير أن شيئا منه باق، وأن شيئا منه تغير، وإلا لم يكن الحال تغيرا، بل كان إعدام كائن وخلق كائن، أي: إرجاع التغير إلى القدرة الإلهية، وسلب الفعل والعلية من المخلوقات، والآليون متفقون معنا في نبذ هذا الرأي وقد فندناه في كتاب «العقل والوجود». فالتغير الجوهري يقتضي موضوعا باقيا، ومبدأ يتم التغير بظهوره في الموضوع أو اختفائه منه.
وذلك مذهب أرسطو، فإنه يتصور الجسم الطبيعي مركبا من مادة ومن مبدأ يرد المادة إلى الوحدة ويعطيها ماهية معينة، ويسمي المادة بالمادة الأولى أو الهيولي تمييزا لها عن المادة الثانية الداخلية في المصنوعات، ويسمي المبدأ المعين بالصورة «مورفي» باليونانية فدعي مذهبه بالفرنسية
Hylémorphisme
وبالإنجليزية
Hylomorphisme
أي: مذهب الهيولي والصورة. وقد رأينا أن نصطنع هذا اللفظ المركب ولو أنه لم يرد بهذا الشكل في العربية. وهذا المذهب يفسر وقائع التجربة تفسيرا وافيا: فالهيولي أو المادة أصل امتداد الجسم في المكان، والصورة أصل وحدته وخصائصه الذاتية، المادة أصل تكثر الأفراد في النوع الواحد واختلافهم في الأعراض، والصورة أصل اتفاقهم في الماهية، فإن كثرة الأفراد في النوع الواحد تعني أنهم متفقون في شيء هو علة تشابههم، ومختلفون في شيء هو علة تمايزهم، أي إن كلا منهم مركب من شيئين كما قلنا، فيظهر هذا التركيب في التغيرات الجوهرية كما بينا. وتدل الملاحظة على أن ثقل الجسم المائي يساوي ثقل العنصرين المركب منهما، وهذا شاهد المادة، وأن في هذا التركيب شيئا جديدا غير طبيعة الهيدروجين وطبيعة الأوكسجين، يتحد بها فيوجد منهما الماء، وهذا شاهد الصورة. ويقال مثل ذلك في كل تركيب جوهري، سواء أكان في الجماد أو في الكائن الحي.
لأجل فهم هذه النظرية على حقيقتها يجب الاحتراز من بعض التخيلات التي تتبادر إلى الذهن وتفسد فهمنا: يجب الاحتراز من تصور الصورة كأنها الشكل الخارجي بأقطاره الثلاثة، كما قد يوهم هذا اللفظ حين يسمعه المبتدئ في الفلسفة: الشكل عرض، والصورة المقصودة هنا تعين المادة الأولى، وتجلب لها جميع الخصائص والأعراض. والصورة هي «الفعل الأول للهيولي» أي: ما يعينها أولا، تتحد بها وتكون معها جسما معينا.
ويجب الاحتراز من تصور الهيولي والصورة جوهرين تامين متجاورين في الجسم. إنهما جوهران ناقصان. الجوهر الناقص هو الذي لا يفسر وحده جميع خصائص الجسم، ولا يحدث جميع الأفعال المعهودة منه. إنهما متحدتان اتحادا جوهريا يكمل إحداهما بالأخرى، فتتقومان جوهرا تاما واحدا: «الهيولي هي جوهر من حيث موضوعة للصورة، والصورة هي جوهر من حيث مقومة للموضوع، والمركب منهما جوهر من قبل إنه مركب منهما.»
8
وقد زعم ابن سينا وألح في زعمه أن الهيولي تتحد أولا «بصورة جسمية » تحقق فيها الأقطار الثلاثة، فإنها «لو كانت خلوا عن الأقطار لكانت حينئذ غير كم، وكانت غير متجزئة الذات».
9
لكن هذا غير لازم، إذ لو كانت هناك صورة جسمية لكونت من الهيولي جوهرا تاما، أي: كائنا ذا وحدة، فإذا طرأت عليه الصورة النوعية لم تتحد به اتحادا جوهريا، بل كان شأنها شأن العرض، وكانت الأجسام الطبيعية مركبات عرضية عديمة الوحدة، وهذه نتيجة يأباها ابن سينا نفسه. فيكفي أن نقول: إن الجسم الطبيعي مركب من هيولي ومن صورة واحدة هي الصورة النوعية تعطي المركب الأقطار الثلاثة والنوع، وسائر الخصائص والكيفيات.
فالهيولي والصورة النوعية جزءان متكاملان، فلا توجد إحداهما دون الأخرى. فيجب النظر إليهما في المركب حيث تؤدي الهيولي مهمة الموضوع أو المحل، وتؤدي الصورة مهمة الماهية المعينة كل منهما جوهر ناقص في ذاته، مفتقر للآخر في الوجود والفعل، واتحادهما أولي لا يسبقه اتحاد، وهذا هو السبب في أنهما يؤلفان هيئة واحدة تامة. وفعل الجسم الطبيعي ليس من الهيولي وحدها، ولا من الصورة وحدها، ولا من الاثنتين متجاورتين متعاونتين، بل من المركب منهما تركيبا أوليا، ومن ثمة جوهريا. ولفكرة الجوهر الناقص أهمية كبرى في تعيين نوع اتحاد النفس الإنسانية بالجسد، فإن القائلين بالهيولي والصورة على الوجه المتقدم، وبروحانية النفس وبقائها بعد الموت، يجدون أمامهم مسألة عسيرة هي: هل النفس الإنسانية صورة جسم فتفنى بفنائه؟ أم هي جوهر روحاني لا يتحد بالمادة اتحادا حقيقيا؟ سنعود إذن إلى هذه المسألة حين نبحث في ماهية نفس الإنسان، ولعل هذا المبحث المعين يزيد المسألة وضوحا.
ويجب الاحتراز من تصور العناصر المكونة للمركب الطبيعي باقية فيه بالفعل، أي على حيالها كما تكون خارج المركب. ذلك وهم الآليين وتصوير الخيال، ولكنا رأينا أن المركب هو من طبيعة مختلفة اختلافا جوهريا عن عناصره، فلا نستطيع أن نفهم اختلاف نوع المركب مع بقاء عناصره بالفعل، كما نفهم الخليط. فالواجب أن نعتقد أن العناصر «كامنة» في المركب، باقية فيه بالقوة، كوجود النبتة في البذرة، ثم تبين بالفعل، أي بخصائصها وأفعالها، عند انحلال التركيب. لكن الآليين مضطرون من قبل مذهبهم الحسي إلى تخيل الأشياء وجحد ما لا يتخيل، فلا يحاولون تعقل الأشياء بمبادئها؛ و«القوة» لا تتخيل، فيأبون أن يجعلوا لها محلا من تفكيرهم، فيصلون إلى تلك النتائج غير حافلين بمناقضتها للعقل والتجربة جميعا. (5) المذهب الدينامي
هنا أيضا نصطنع اللفظ الإفرنجي
dynamisme ، من اللفظ اليوناني «دوناميس»، أي القوة، فلا نقول: مذهب «القوة» أو مذهب «الطاقة»؛ وبذلك ندل ابتداء على المعنى المقصود؛ ونتحاشى استعمال النسبة للفظ «القوة» ولفظ «طاقة» لما يبدو على هذه النسبة من غرابة حين نقول: «قوي» أو «قوية» و«طاقي» أو «طاقية». وما أكثر أخذ اللغات بعضها عن بعض، خصوصا في المسائل العلمية، حيث يظهر ميل عام إلى توحيد الاصطلاحات. ولنا أسوة بالعلماء والفلاسفة الإسلاميين، فإن كتبهم مشحونة بالألفاظ اليونانية كما هو معلوم.
للمذهب الدينامي صورتان: الأولى نشأت في العصر القديم، وهي ساذجة غير ذات خطر، والثانية ابتدعها ليبنتز، وهي أدق وأعسر، وهي المقصودة عادة. فأوائل الفلاسفة اليونان، أولئك الذين عينوا عنصرا من العناصر الأربعة مادة أولى للموجودات الطبيعية، اعتقد كل منهم أن العنصر الذي عينه حاصل على قوة باطنة متحرك بها؛ فدعوا بأصحاب المادة الحية؛ وأنبا دوقليس الذي اعتبر العناصر منفعلة وحسب، افترض لتعليل الحركة قوتين كونيتين دل باسميهما، وهما المحبة والكراهية، على نوع عليتهما: المحبة تجمع بين العناصر، والكراهية تفرق بينها؛ ثم جاء الرواقيون وقالوا: إن العالم حيوان كبير حاصل على نفس وعلى قوة ذاتية أو حياة. فعندهم جميعا أن الحركة صادرة عن الأجسام أنفسها، إما مباشرة وتبعا لطبيعتها، وإما بصفة غير مباشرة، أي: بعلة متمايزة منها كالمحبة والكراهية والنفس العالمية، خلافا للآليين الذين يعتبرون الحركة عرضا ظاهريا لا يقتضي منهم علة معروفة، ولا يمس ذات الأجسام، بل يمر من جسم إلى جسم، إلى غير نهاية.
أما ليبنتز فقد استبان نقص الآلية من وجهين: وجه الحركة، ووجه المادة. لما كان الآليون ينكرون الماهيات فقد خلص لهم أن الجسم امتداد صرف ، وجعلوا منه شيئا منفعلا وحسب، خلوا من القوة لاستنادها إلى الماهية في عرف القائلين بها. ولكن التجربة تنبئنا أن الجسم الكبير أصعب تحريكا من الصغير، فليست مادة الكبير محض امتداد، ولكنها أيضا مقاومة، والمقاومة راجعة إلى المقاومة، أي إنها نوع من القوة. وتنبئنا التجربة أن الجسم المتحرك إذا حرك جسما ساكنا فقد شيئا من حركته، ولا يعلل ذلك إلا بمقاومة الساكن، والمقاومة نوع من القوة كما أسلفنا، وأيضا ما الذي يميز الجسم المتحرك من الجسم الساكن إذا نظرنا إلى الأول في نقطة ما من خط مسيره، إذ لا يمكن اتصال الحركة إلا بوساطة قوة أو ميل في ذات المتحرك؟ ولولا ذلك لعادت الحركة عبارة عن سلسلة سكونات، وإذن فماهية الجسم تقوم في القوة، وتظل القوة حتى ولو وقفت الحركة.
10
ومن وجهة المادة تبدى لليبنتز أن الجوهر الفرد أو الذرة كما تصورها ديموقريطس وسائر تابعيه، لا يمكن وحدة بمعنى الكلمة، أي: جوهرا حقا، فإن كل جسم، مهما افترضناه صغيرا، فهو ممتد، وكل امتداد فهو منقسم إلى غير نهاية، أي إنه مجموع جواهر، وإذن فالمادة كثرة بحتة، ولو لم يسعفنا التحليل الفعلي في استنفاد أجزائها، والأجسام «وحدات قوية»، وليس من وحدة حقة إلا وحدة الموجود اللا مادي، البسيط غير المنقسم، فما يبدو لنا جسما طبيعيا هو في الحقيقة وحدة لا مادية، وما يبدو مكانا أو مسافة هو في الحقيقة مجرد تصور.
وواضح أن هذا المذهب الجاحد للامتداد والحركة لا يصلح تفسيرا للطبيعة الممتدة، المتحركة، وإنما هو قاض على العلم الطبيعي كما قضى عليه بارمنيدس بقوله: إن العالم واحد ساكن؛ وتابعوه من العلماء المعاصرين المؤلفون الأجسام من «مراكز طاقة» كما يقولون، ينضمون للآليين، ويزيدون عليهم خطأ جسيما هو اعتبار الطبيعة بما فيها وهما من الأوهام كما يوحي بذلك المذهب التصوري. إنهم يؤلفون المادة من الطاقة التي لا امتداد لها، ومتى كانت الطاقة واحدة بالنوع، أصبحت كالحركة عند الآليين، ولم تصلح لتفسير تنوع الأجسام وخصائصها وأفعالها. وفيما يلي اعتراضات خاصة فوق هذا الاعتراض العام ، وإتمام لتنفيذ المذهب الآلي. (6) كمية الأجسام الطبيعية أو تفنيد المذهب الدينامي
لكل جسم مقدار أو كمية. والكمية هي العرض المادي للجوهر الجسمي بأجزاء ممتدة ومتقارنة. وهي العرض الأول في الجسم: لا الأول زمانا، فإن الجسم ممتد طبعا، بل الأول رتبة، إذ بوساطته يحمل الجوهر باقي الأعراض. هي عرض، وليست جوهر الجسم كما يعتقد الآليون، فإن لكل جسم ماهية تختلف عن كميته، ولا يمكن أن يكون تفاوت مقدار المادة العلة الوحيدة الكافية لتنوع الأجسام تنوعا بالماهية. أجل إن في الجماد اقتضاء لكمية معينة من المادة لتقوم الذرة والجزيء والبلور، كما أسلفنا، ولكن هذا شرط فقط لقوام الجوهر وفعله وظهور خصائصه. ويبدو ذلك بشكل أوضح في الكائنات الحية، حيث تختلف الكمية دون مساس بالماهية. الجسم الرياضي يحدث بمحض الامتداد، ويعرف بالأبعاد الثلاثة؛ أما الجسم الطبيعي فهو مبدأ فعل وانفعال، وما الكمية فيه سوى شرط لازم للتقوم والفعل. والآليون يخلطون بين هذين النوعين، أي إنهم يفكرون بالمخيلة لا بالعقل، ويأخذون الجسم الرياضي مثالا لمطلق الجسم تفاديا للقول بالماهية في الجسم الطبيعي. ولم لا ننهج هنا منهج ديكارت نفسه في تمييزه بين النفس والجسد، فنقول: ما دمنا نتصور بوضوح الأبعاد دون الجوهر، فإن الشيئين متمايزان؟
عن الكمية يلزم المكان، وله شأن كبير في الفلسفة القديمة وشأن أكبر في الفلسفة الحديثة، كما ذكرنا في كتاب «العقل والوجود». المكان خاص ومشترك: المكان الخاص هو الحيز الذي يشغله الجسم بمقداره؛ والمكان المشترك هو الحيز الذي تشغله جملة أجسام، وحيثما توجد أجسام يوجد مكان، وحيثما لا توجد أجسام لا يوجد مكان. ولكن الآليين المفكرين بالمخيلة كما قلنا، يطاوعونها في تخيلها المكان شيئا عينيا ممتدا إلى ما لا نهاية، كما تخيل ديموقريطس وأبيقور، وديكارت وجساندي، ونيوتن وكلارك، والحقيقة أن ليس للمكان من وجود إلا بوجود جسم، فنتصور الخير المشغول بالجسم كأنه شيء عيني. ولسنا نريد أن نقول: إن المكان محض تصور، ما ارتأى ليبنتز وكنط وأتباعهما من التصوريين، من حيث إن الأجسام الشاغلة له هي موجودات عينية حاصلة بالطبع على كمية.
فلا يبقى إلا أن نستنتج مما تقدم أن المكان موجود ذهني له أساس في الواقع، أي في طبيعة الأشياء؛ مثل الإنسانية والحيوانية وما إليهما. نقول: إنه موجود ذهني، فإننا لا نجد مطلقا أبعادا ثلاثة هي مطلق محل لقبول الأجسام متمايزة منها وقابلة لمفارقتها، ونقول: إن له أساسا في طبيعة الأساس، فإن الأبعاد الثلاثة المتصورة محلا كليا عاما هي محاكاة للأبعاد الثلاثة في الأجسام التي نراها منطوية بعضها على بعض ومحلا بعضها لبعض.
وليست الأجسام مركبة من ذرات منفصلة متجاورة فقط كما يتصور الآليون، ولكنها متصلة، ولا يمنع اتصالها ما فيها من مسام، فإن الذرات (أو الخلايا في الأحياء) إن لم تكن متصلة اتصالا مطلقا، أي من جميع جهاتها، فإنها متصلة اتصالا نسبيا، أي من بعض الجهات، فلا تفسد وحدة الموجود. الوجدان يشهد شهادة واضحة لا تقبل الشك أن أعضاءنا متحدة بعضها ببعض، وأنها تكون جسما واحدا غير منقسم؛ فإن كل إحساس، في كل نقطة من جسمنا، محس معلوم للفور دون واسطة أو استدلال. ويشهد العقل أن أجزاء الكائن الحي تحيا كلها بالحياة الشخصية، وأن في الكائن الحي مبدءا واحدا حالا فيه، ولو كانت الأجزاء والأعضاء منفصلة لاستحالت الحياة الشخصية. والأمر واحد في الجماد ووحدته وفعله وانفعاله.
ووجه الاستحالة أن إنكار الاتصال يستلزم التسليم بأن كل فعل فهو يتم «عن بعد»، سواء في كل جسم جسم، أي في الخلاء الفاصل بين الأجزاء، وبين الأجسام بعضها والبعض في الخارج. ولكن لا فعل عن بعد، أو «لا حركة في الخلاء» كما يقول الإسلاميون، فإن الذي يسلم بها مضطر للتسليم بأن المخلوق يفعل حيث لا وجود له، أو أن يزعم أنه موجود عن بعد، وكلا هاتين القضيتين متناقضة معارضة للعقل، إذ من غير الممكن فصل الفعل عن فاعله، ولا الفصل بين الفاعل وحيزه. ويتوهم البعض أن الفعل عن بعد إصدار أعرض من الفاعل إلى المنفعل في الخلاء، وليس للأعراض وجود مستقل حتى تسير هكذا، وليس الخلاء شيئا حتى يحمل العرض أو الجوهر .
يقال: إن الجسم أو الامتداد منقسم إلى غير نهاية، وهذه عبارة متداولة لا يغني تداولها عن شرحها. إن الجسم ينقسم إلى ما لا نهاية من الوجهة الرياضية وفي العقل فقط، أي من جهة ما هو جسم ممتد، فإن القسمة الامتداد تعطي دائما آحادا ذات امتداد، لما ذكرناه من استحالة تكون المركب من بسائط ووجوب قبوله للقسمة دائما. أما من الوجهة الواقعية، أي من حيث هو موجود متشخص فلا ينقسم إلى غير نهاية، فإن الجسم المتشخص حاصل على صورة متحدة بالمادة، فإذا قسمنا مادته غير ماهيته، وأفضينا به إلى التلاشي بصفته هذه الماهية المعينة.
فإذا ما اتجهنا صوب المذهب الدينامي المنكر لموضوعيته الامتداد، سألنا: من أين جاءنا هذا الوهم وليس فينا ولا في الأشياء امتداد؟ قلنا ونكرر القول: ليس الممتد مركبا من غير الممتد، ومهما أضفنا البسيط إلى البسيط فلن نؤلف مادة، كما أن إضافة الأصفار إلى الأصفار لا تؤلف واحدا، وأن النقط البسيطة - إذا تماست - لا تؤلف مركبا، بل تحتل كلها نقطة واحدة. وحين يقول الرياضيون، أو أشباه الرياضيين، إن الخط مركب من نقط غير ممتدة، فكذلك الأجسام مركبة من مونادات، نجيب أن هذا التعبير ينقصه شيء كثير من الدقة، فليس للنقطة وجود واقعي، وليس الخط إذن مركبا من نقط؛ وإنما الرياضيون يفترضون خطا حادثا عن نقطة متحركة، ولا يحدث خط متصل إلا لوجود مكان متصل تتصل فيه الحركة فيحصل اتصال الخط. فالامتداد أو الاتصال سابق بالطبع على الحركة، وإلا لم تستطع النقطة أن تتحرك. يقول ليبنتز إن الامتداد تصور بحت ينشأ في الذهن من إدراك مونادات عدة متقارنة في الوجود، فهو «نسبة» بينها. وجوابنا عين الجواب السالف: أعني أن هذه النسبة تفترض المكان ولا توجده، وكذلك نقول للديناميين الذين يعللون حدوث فكرة المكان بحركات جذب ودفع، أعني أنه لو لم يكن المكان موجودا استحالت هذه الحركات.
الكمية والمكان إذن شرط الحركة، فمنكرهما منكر لها ضرورة. غير أن الديناميين لا يلتزمون بهذه الضرورة، بل يتحدثون عن الحركة بأنها الظاهرة الكبرى في الطبيعة، وأن بها تعلل سائر الظواهر، كما يتحدث الآليون ، خشية أن يمتنع عليهم العلم الطبيعي، وما أقوى سحر العلم الطبيعي في العصر الحديث! وهذا افتئات صريح على المنطق، يدل على بطلان مبدئهم الذي يفضي بهم إلى هذا التناقض الظاهر. والآليون من جهتهم لا يكتفون بإثبات الحركة، بل يدفعون بمذهبهم فيها إلى أقصى حد، وذلك بما يسمونه مبدأ القصور الذاتي القائل: «إن كل جسم فهو مستمر في حاله من سكون أو حركة مستقيمة راتبة إلا أن يتأثر بجسم آخر.» ويرتبون على هذا المبدأ نتيجة خطيرة هي: إذا افترضنا جسما يقذف في الخلاء فإنه يستمر في حركته إلى ما لا نهاية. ويرتبون على هذه النتيجة نتيجة أخرى أعظم خطورة، وهي: أن العالم لما حركه الله مضى في الحركة دون حاجة إلى الله، فإن من شأن القصور الذاتي أن يجعل الحركة آلية، ويغني عن المحرك بعد أن كان محتاجا إليه فقط للانتقال من حال السكون إلى حال الحركة.
ولنا على هذه النظرية ردان؛ أحدهما خاص بالأجسام الطبيعية، والآخر خاص بالله، فنقول أولا: إن هذا المبدأ لم يستخلص من الواقع، فليس في تجربتنا خلاء صرف ننظر فيه إلى الحركة إن كانت غير متناهية، بل ما نشاهده بالفعل هو أن حركة الأجسام تسكن في جونا بسبب مقاومة الهواء. ومن جهة ثانية أن قوة التحريك محدودة - من غير شك - بقوة المحرك وبكفاية المتحرك لقبولها؛ وإذن فقوة التحريك نافذة لا محالة، ومتى نفدت سكتت حركة المتحرك لانعدام فعل المحرك. ونقول ثانيا: إن الجسم الطبيعي محدود الكفاية، فلا يمكن أن يقال: إن العالم يقبل من الله حركة غير متناهية تغنيه عن الله؛ بل المعقول أنه يقبل تحريكا متناهيا، فتكون حاجته إلى المحرك، ليس فقط لتوليد الحركة، بل أيضا إلى تجديدها واستمرارها؛ ومن غير المعقول أن يتحرك الجسم إلى ما لا نهاية بقوة متناهية.
والبحث في الحركة يؤدي إلى البحث في الزمان، فإن الزمان «عدد الحركة» أو أن الحركة قابلة للعد بحسب تعاقبها. وكثير من الفلاسفة - فضلا عن الجمهور - تخيلوا الزمان لا متناهيا كليا ضروريا: فاليونان منهم كافة - إذ كانوا يجهلون أو ينكرون فكرة الخلق - اعتقدوا أن المادة أزلية أبدية، فنتج لهم أن الزمان أزلي أبدي، أي: لا أول له ولا آخر؛ بعضهم قالوا بذلك انقيادا للمخيلة، وبعضهم ادعى ثبوته عقلا، مثل أرسطو الذي أجل الله عن التنزل إلى العلم بالمادة والتأثير فيها؛ ومنهم ديكارت بعقليته الرياضية، ثم سبينوزا بمذهبه في وحدة الوجود، ثم نيوتن وكلارك، وقد بلغ الأمر بهؤلاء الثلاثة إلى جعل الزمان والمكان صفتين من الصفات الإلهية.
والحقيقة أن الزمان متناه لتناهي مدة العالم وحركته، فإن العالم حالما يوجد وحالما تبدأ حركته، ينفصل عن عدم الوجود السابق بآن واحد هو آن وجوده، ثم يأخذ في التحرك، فيبدأ الزمان، ولا أهمية بعد ذلك للفحص عما إذا كانت الحركة تستمر أو تنتهي ما دامت النهاية قد بانت في الأول. والحقيقة من جهة ثانية أن فكرة الزمان مكونة باشتراك العقل والتجربة: فأول إدراك للزمان هو إدراك «الزمان الذاتي»، أي الشعور بالديمومة واتصال الوجود في شخصنا، وفيما حولنا من الناس والأشياء. اتصال الوجود مدة تتعاقب فيها أفعالنا، وتبين في عاداتنا البدنية والمعنوية، وفي آفاتنا البدنية الناتجة عن الوراثة والمرض والإفراط، وفي ذكرياتنا التي تساعدنا على فهم التجربة الحاضرة واستكمالها. ومن المستحيل قياس هذه المدة قياسا مباشرا واقعا على الحالات التي تملؤها؛ وذلك لأن شعورنا بها متقطع متفاوت، فقد لا نشعر بكثير منها، وقد لا نشعر بها على حد سواء، فمنها ما يهمنا ويستغرق انتباهنا فيطغى على غيره، وتبدو مدته قصيرة؛ ومنها ما يهمنا قليلا أو كثيرا، فيتفاوت شعورنا بمدته.
وأصغر جزء في الزمان الذاتي هو «الآن النفسي» أو مدة الظاهرة التي نوليها انتباهنا؛ ويدوم هذا الحاضر حتى تعرض ظاهرة تستغرق الانتباه فيذهب، أي يصير ماضيا. والحاضر الواقعي يمكن أن يدوم من أربعة أخماس الثانية إلى اثنتي عشرة ثانية. وهو مدرك كأنه كلي لاستيعاب الانتباه أمورا عدة، ولو أنه يتضمن تعاقبا، فإن من الثواني ما يتقدم فيلحق بالماضي، ومنها ما يتأخر فينتظر في المستقبل. وبين الماضي والمستقبل ثانية حاضرة تصل هذا بذاك كنقطة غير متجزئة؛ وهي أيضا زمان لسيلانها وعدم ثباتها. وإذن فنحن نشعر بالزمان بوساطة التعاقب، ولكنه تعاقب غير منتظم.
فلجأ الإنسان إلى قياس غير مباشر باستخدام بعض الحركات الراتبة إما في جسدنا كالجوع والعطش والنوم والتعب والنبض والتنفس والمشي، وإما في الخارج كحركة الشمس والقمر والمزولة والساعة؛ وهذا النوع الثاني أدق بكثير، وبخاصة حركة الشمس، أو ما يسمى كذلك؛ إذ المقصود هنا حركة الأرض حول الشمس كما هو معلوم، فإن فصول السنة متوقفة عليها، وأيام السنة عائدة في مواعيدها من هذه الفصول؛ فحصل الإنسان بها على زمان عام لنظامنا الفلكي، ولكنه زمان نسبي؛ إذ إن نظامنا الفلكي جزء صغير من الفلك أجمع يكاد لا يذكر، وأهل العصر القديم والعصر الوسيط هم الذين كانوا يحسبونه جملة العالم، ويظنون أن المتحرك الأول هو الفلك المحيط في نظامنا البادي للعيان. وقد أبطل العلم الحديث هذا التصور باستكشافه أنظمة فلكية كثيرة، فوسع آفاقنا به، ولكنه لم يتوصل بعد إلى الإلمام بأطراف الكون وتعيين مركزه، حتى نعتبر حركة هذا المركز حركة أولى إطلاقا، ونتخذ منها معيارا تتقدر به سائر الحركات. فنحن لم نحصل بعد على «الزمان المطلق». ولو حصلنا عليه لما كان مطلقا إلا بمعنى أنه زمان العالم الواقعي، وفي مقدورنا أن نتصور عالما أكبر أو عالما أصغر تختلف فيهما النقطة المركزية.
ففكرة الزمان فكرة نسبية للغاية مكونة تكوينا؛ ويخطئ كل من يتخيل الزمان شيئا واحدا أو معنى واحدا أصيلا فطريا في الذهن. إن الموجود منه بالفعل في كل آن هو «الآن» الميتافيزيقي، أي أدنى جزء يتجدد باستمرار طوال جريان الحركة، ويمكن تصوره على غرار الآن النفسي كما شرحناه، إلا أنه ليس مثله ممتدا، وإنما هو واسطة بين الماضي والمستقبل، هو الحد الأخير بالنسبة إلى الماضي، والحد الأول بالنسبة إلى المستقبل. «لا يدخل في الوجود المتحرك من الزمان في الحقيقة إلا الآن.»
11
فإذا بدا الزمان متصلا قائما بجميع أجزائه، أو بجميع أجزاء الماضي على الأقل، ففي ذهننا فقط أن الماضي قد فات، والمستقبل لما يأت بعد، وأجزاء الزمان متتالية لا توجد معا كوجود أجزاء المتصل القار بها جميعها. فالزمان موجود ذهني له أساس في الواقع هو الآن، ولا مقابل له، ولا يمكن أن يوجد له مقابل على ما يبدو في الذهن. ولولا العقل لما كان لنا معنى الزمان، فإن العقل أو الذاكرة العقلية هو الذي يستحضر الماضي مجتمعا، ويتوقع المستقبل مجتمعا، ويكون منهما متصلا واحدا تتقدر به الحركات على اختلافها،
12
بل تتقدر به سكنات الأشياء القابلة للحركة بالذات، فإنها سكنات أشياء يمكن أن تتحرك، فالزمان المتصور هكذا مقياس الحركات وعدمها. وفيما تقدم كفاية بعد ما قلناه في كتاب «العقل والوجود» عن الزمان عند التصوريين، وبخاصة عند كنط. ويبقى لنا أن نعجب لفلاسفة كبار ينقادون إلى الخيال ويغفلون عن حكم العقل. (7) كيفيات الأجسام الطبيعية
مع الكمية ولواحقها تطرأ على الجسم الطبيعي أعراض «تكفيه»، أي تدخل عليه؛ من حيث الوجود ومن حيث الفعل، تغيرات تتفاوت أهمية وعمقا، بها ندرك خصائصه ونتعرف ماهيته. هذه الكيفيات مجموعة في أربعة أقسام مزدوجة:
القسم الأول:
بالنسبة إلى الشخص، ويشمل العادات؛ أو الاستعدادات والملكات، كالعلم والفضيلة والرذيلة والفن، وكل عادة أو صناعة مكتسبة، طيبة أو رديئة. فالموسيقي مثلا يوجد في عقله العلم بفنه وفي أصابع يديه عادة خادمة لذلك العلم. وانقسام العادة إلى استعداد وملكة سببه أن الاكتساب يولد أولا - في النفس وفي البدن - استعدادا قلق القرار سريع الزوال، وإذا استمر صار ملكة راسخة عسيرة الزوال. وليس يعني ثبات الملكة دوامها حتما، بل يعني تأصلها وصعوبة تحولها. وهما للإنسان خاصة لما يقتضيه الاكتساب من عقل يتصور غاية ويرتب الوسائل إليها ومن إرادة تصممم وتثابر، والإنسان وحده حاصل على هاتين القوتين. ثم هما للحيوان الأعم في دائرته الضيقة، وللنبات في دائرة أضيق بكثير، بدافع الظروف الطبيعية وتدخل الإنسان يروض الحيوان ويربي النبات، ولا ملكة ولا استعداد للجماد، فإنهما يفترضان عدم التعيين حتى يتعينا بالفعل، والمادة الصرف معينة غير مطاوعة لحال جديدة. فلا استعداد ولا ملكة لغير الأحياء. والذين يأبون الاعتقاد «بالقوة»؛ لأنهم لا يحسبونها، كيف يفسرون بقاء الاستعداد والملكة طوال بقائهما وتزايدهما وتناقصهما إذا لم يكونا في النفس بالقوة، والتجربة تشهد وجودهما في النفس شهادة بينة كل بيان.
القسم الثاني:
بالنسبة إلى الفعل، ويشمل القوة والعجز، أو الكفاية وعدم الكفاية. والمراد بالقوة هنا المبدأ القريب للفعل أو للممانعة إطلاقا، لا القوة المقابلة للفعل التي أشرنا إليها الآن؛ ولفظ «إطلاقا» يميز القوة المقابلة للعجز من الاستعداد والملكة، فإنهما هما أيضا مبدأ فعل وممانعة، ولكنهما مبدأ فعل طيب أو رديء بينما القوة مبدأ الفعل إطلاقا. القوة مبدأ قوى الفعل أو للممانعة، مثل قوة الإبصار في الشاب السليم الجسم؛ والعجز أو اللاقوة مبدأ ضعيف للفعل أو للممانعة، مثل قوة الإبصار في الشيخ الهرم. فليست اللاقوة عدم القوة، وليس العدم كيفية، ولكنها نقصان غير كاف للفعل أو للممانعة.
القسم الثالث:
بالنسبة إلى الانفعال، ويشمل الإحساسات الظاهرية الحادثة عن تأثير الأشياء في الحواس، والإحساسات الباطنية الحادثة عن تأثير في النفس، مثل حمرة الخجل وصفرة الوجل. ومنها المفاجئة العابرة وتسمى انفعالات، والراسخة وتسمى انفعاليات، كالحمرة الناتجة عن مزاج الجسم. ويقال الآن: «كيفيات محسوسة» للموضوعات المدركة بالحواس الظاهرة، وهي على خمسة أنواع بحسب الحواس الخمس كما هو معلوم.
القسم الرابع:
بالنسبة إلى الهيئة والشكل، أي إلى ترتيب أجزاء الكمية في الشيء. ويفرقون بين الهيئة والشكل بقولهم: إن الهيئة تطلق على الطبيعيات، مثل: هيئة الإنسان وهيئة الأسد، وإن الشكل يطلق على المصنوعات. الهيئة صادرة عن الجوهر، كما نشاهد في المتبلورات وفي الأحياء؛ والشكل مفروض من الإنسان على المادة، أو من الطبيعة في تغيرها المستمر، وعلم الفراسة مؤسس على صدور الهيئة من الجوهر، بينما الشكل ترتيب خارجي فقط. فهذا القسم الرابع يشمل الهيئات والأشكال على اختلافها، فإنها تبدي الأشياء في ترتيبات معينة.
وبعد فإن للآليين رأيا في الكيفيات المحسوسة لازما من رأيهم في المادة، نذكره الآن ونرد عليه، ولو أنا عرضنا له في كتاب «العقل والوجود» إلا أنا نثبت هنا جميع وجوه التهافت في مذهبهم، فنرسم له صورة وافية تكشف عما يعتوره من بطلان، وخلاصة ذلك الرأي قول إمامهم ديموقريطس: إنه لما كانت المادة مجرد امتداد، كان الشكل والمقدار والحركة والسكون الكيفيات الوحيدة التي تصح إضافتها للأجسام؛ بينما الضوء واللون والصوت والطعم والرائحة والحرارة انفعالات تثيرها في حواسنا حركات الأجسام تبعا لتكوين المؤثر وخصائص الحركة وتكوين الشخص في تغيره من حال إلى حال. والطائفة الأولى من الكيفيات ملازمة للأجسام، ومن ثمة موضوعية وقد دعيت بالكيفيات الأولية؛ بينما الطائفة الثانية ذاتية للشخص المنفعل، عديمة الشبه لما يلوح في أذهاننا، وقد دعيت بالكيفيات الثانوية.
ولما بزغ عصر النهضة الحديثة، وأراد العلماء الفلاسفة - وفي طليعتهم جليليو وديكارت - تحويل العلم الطبيعي إلى علم رياضي، اصطنعوا هذا الرأي لإمكان تطبيق الرياضيات على المادة الصرف، واستحالة تطبيقها على الانفعالات النفسانية، وأرجعوا ما يسمى تغيرات كيفية إلى تغيرات كمية، أي حركات تقاس مباشرة فيقاس بها سائر الانفعالات بصفة غير مباشرة، بل يحدث بعضها عن بعض ما دامت تتفق كلها في الحركة: فكمية معينة من الحركة الميكانيكية يحدث عنها دائما كمية معينة من الحرارة. وهكذا في مختلف الحالات.
والواقع أن هذه الأقوال واهية لا تثبت للامتحان:
فأولا:
ومن جهة المعرفة الإنسانية: تبدو الكيفيات الثانوية كأنها في الأشياء كالكيفيات الأولية سواء بسواء، فإذا لم تكن فيها كان شعورنا باليقين باطلا، ووجب الشك في كل يقين. ثم إن لنا حواس عدة، ولكل حاسة جهاز خاص لإدراك موضوع خاص، فكيف نفسر تغاير الأجهزة والموضوعات على هذا النحو؟ فإن قيل - كما قال فعلا ديكارت ومالبرانش وبرجسون وغيرهم - إنها للفائدة العملية وتدبير الحياة طبقا للعلاقة بين جسمنا وما يحيط بنا من أجسام، أجبنا: إذا كانت الفائدة لا تتحقق إلا هكذا، أليس هذا دليلا على أن الكيفيات في أنفسها مختلفة، وأن الإدراك يقع عليها كما هي؟
ثانيا:
ومن جهة الكيفيات: لو كانت حركات ليس غير، لاختلفت بالدرجة فقط، فأحسسناها بدرجات متفاوتة، ولم نحس ألوانا وطعوما وروائح عدة مختلفة. فما السبب في هذه الفوارق بينها، مع العلم بأن التغاير بالدرجة، أي بالكم لا يحدث تغايرا بالذات ، كما لاحظنا غير مرة. وما السبب في اطراد الحركات وآثارها، وليست تقتضي المادة بذاتها نسقا معينة أو نسبة متداولة؟
ثالثا:
ومن جهة المضاهاة بين الطائقتين من الكيفيات: إن الثانوية منها تدرك تبعا للأولية، فبالضوء واللون وباللمس والسمع ندرك أشكال الأشياء ومقاديرها: فكيف تكون هذه ذاتية وتكون تلك موضوعية؟ ثم كيف تكون الصلابة موضوعية ويكون باقي المحسوسات الأولية ذاتيا، وهي جميعا محسوسة على السواء؟ فإما أن نقبل موضوعية الصلابة ونضم إليها غيرها من المحسوسات الثانوية، وإما أن نرفض موضوعية الصلابة، ونضم إليها في الرفض غيرها من المحسوسات الأولية.
أجل إن الكيفية مصحوبة بحركة؛ أما الزعم بأنها محض حركة، فليس يمكن إثباته. الحركة أداة لنقل الكيفية - وقديما نبه أرسطو على لزومها للتغير الكيميائي المدعو استحالة - وللزيادة والنقصان في الأحياء، وهي عرض لا ينتقل بعينه، ولا يتحول إلى آخر، فإن الحركة حركة جسم، والحرارة حرارة جسم. والرأي الصواب أن لكل كيفية أثرا محركا نوعيا، أي خاصا بها تابعا لنوعها، كما يظهر في الحركات المؤثرة في الحواس الخمس والمحدثة الكيفيات فيها، وهذا الأثر المحرك النوعي يتنقل كيفية في المنفعل، ويجاوب عليه المنفعل بكيفية من نفس النوع. فالحرارة لا تنتقل، ولكنها تحدث حرارة في منطقة معينة؛ والحركة لا تنتقل، ولكنها تولد في الجسم المنفعل بها قوة على التحرك، ولكن الآليين لا يفهمون توليد الحركة وانتقال «معنى الكيفية» دون الكيفية نفسها، ويريدون دائما الاعتماد على المخيلة بدلا من العقل.
مسألة أخيرة خاصة بالأقسام الثلاثة الأولى للكيفيات: هل الكيفية قابلة للأكثر والأقل من حيث الشدة؟ لقد وجد من أنكروا ذلك لمغايرة الكيفية للكمية. غير أن التجربة تشهد أن العلم والفضيلة والقوة وما إليها تزداد أو تنقص. واعتقد أصحاب علم النفس الفيزيقي
psycho-physique
أنهم وجدوا نسبة أو تقابلا بين المؤثر والإحساس، وأن إحساسا ما يمكن أن يكون ضعف إحساس آخر أو ثلاثة أضعافه. والحقيقة أن الشدة كمية الكيفية، ولكنها لا تقاس مباشرة على نحو ما تقاس الكمية، لعدم وجود وحدة تتكرر في الزيادة والنقصان كما تتكرر وحدة الكمية، لا توجد «وحدة إحساس»، أي: إحساس ذو كمية معينة ثابتة تقدر بها الإحساسات. إذا كنا على يقين من شدة الكيفية، فليس باستطاعتنا تقديرها؛ وإذا لاحظنا أن الكيفيات التي تزيد وتنقص تدريجيا مرتبطة بالكمية والحركة المكانية، دون أن يمكن قياسها مع ذلك، فإن الكيفيات المعنوية، كالفضيلة والعلم، تزيد وتنقص بوثبات، فقياسها أقل إمكانا؛ وحينما نقسم بالوهم قوة ما إلى درجات، فنحن لا نقسم القوة نفسها إلى أجزاء متكثرة حقا، وإنما نعتبرها معادلة لكثير، وهذا يكفي لقياسها بصفة غير مباشرة، وذلك بآثارها المحسوسة، أو بالمضاهاة بينها وبين كيفية أخرى من نوعها، فيقال: «مساوية، أكبر، أصغر» أو بالمضاهاة بينها وبين نفسها في مراحل أخرى.
إلى هنا فرغنا من أعم مسألة في الفلسفة الطبيعية، وهي مسألة تكوين الأجسام على العموم والعلاقة بينها وبين لواحقها. وقد رأينا أن المذهب فيها ثلاثة، ولا يمكن أن تكون سوى ثلاثة: المذهب الآلي الذي يرد الطبيعة وما فيها إلى المادة البحتة والحركة؛ والمذهب الدينامي المنكر للمادة والحركة والمستعيض عنهما بالقوة وتصور الإنسان؛ والمذهب الهيولومور في الجامع بين المادة والحركة والقوة، كل بمقدار وتمييز دقيق لما يرتبط بها. والنتائج الكبرى لنظرية الهيولي والصورة هي تفسير الشواهد العامية والعلمية على ما يقتضي العلم الصحيح، ومعقولة الطبيعيات بما فيها من صور شبيهة بالمثل الأفلاطونية، وصون المعرفة عن التصويرية والشك اللتين يؤدي إليهما إنكار المادة من جهة وإنكار القوة من جهة أخرى. وفي البقية من هذا الكتاب شواهد عديدة قوية على صوابه.
هوامش
الفصل الثاني
الحياة النامية
(1) تعريف الحياة
موضوعات الفصل الأول بمثابة الأمور العامة بالنسبة للطبيعة بالإجمال، أي أعم المعاني المشتركة فيها جميع الأجسام، التي يجب أن تقدم على ما سواها في الفلسفة الطبيعية، كما أن الموضوعات التي عالجناها في كتاب «العقل والوجود» هي الأمور العامة بالنسبة للموجودات إطلاقا. فكل ما قلناه في الفصل الأول ينطبق على جميع الموجودات الطبيعية، فكأننا قد استوفينا الفحص عن الجماد. وفي الواقع كان كلامنا منصبا عليه في أكثره، وكانت استشهاداتنا مأخوذة منه في معظمها.
وفي الطبيعة أجسام حية عديدة مختلفة الماهية موزعة في ثلاث ممالك كما يقولون: مملكة النبات، ومملكة الحيوان، ومملكة الإنسان الذي وإن كان حيوانا إلا أنه حيوان عاقل، والعقل يجعل منه كائنا ممتازا للغاية، بينه وبين سائر الحيوانات مسافة سحيقة تستحق له مكانة خاصة. نخطو إذن في دراسة الطبيعة إلى المملكة التالية لمملكة الجماد، والتي توجد قواها وظواهرها في المملكتين الأخريين، فنعرف الحياة على العموم، ثم نعرف الحياة في النبات على الخصوص. ثم ننتقل إلى الحياة الحاسة المشتركة بين الحيوان والإنسان، فإلى الحياة الناطقة أو العاقلة الخاصة بالإنسان وحده على سطح الأرض.
هنا أيضا نلقى المذهب الحسي، ونقرأ له تاريخا طويلا منذ فجر الفلسفة اليونانية، بل قبل بزوغه، إلى عصرنا الحاضر. أشياعه القدماء يتحدثون عن النفس كمبدأ للحياة وقوام للجسم، ولكنهم يعتبرونها مادية، ويجعلها كل منهم شيئا من العنصر الذي رآه مبدأ الأشياء: الماء عند طاليس، أو الهواء عند انكسيمانس، أو النار عند هرقليطس؛ وتصور كل منهم عنصره مدركا ومتحركا بذاته، فوعدوا هيلورفيست
Hylozoïsts
أي: أصحاب المادة الحية. وذهب أنبادوقليس إلى أنها مركبة من العناصر الأربعة. وقال ديموقريطس، صاحب نظرية الجوهر الفرد أو الذرة، والمؤسس الحقيقي للمذهب الحسي: إنها مركبة من أدق الذرات وأسرعها حركة، وهي المستديرة المركبة للنار ألطف المركبات وأكثرها تحركا.
وفي العصر الحديث نجد ديكارت، وقد رد الطبيعة كلها إلى الامتداد والحركة، يقول: إن النبات والحيوان وجسم الإنسان آلات كآلاتنا الصناعية، ولو أنها أكثر تعقيدا وأعجب أفعالا، أي إن الجسم الحي مجموع أجزاء من الامتداد خاضعة لقوانين الميكانيكا، وإن ترتيبها بعضها من بعض كاف لتعليل الظواهر الحيوية. وتبعه كثيرون أو قالوا: إن الحياة ترجع إلى القوى الفيزيقية والكيميائية. ويمكن القول: إن غالبية العلماء والفلاسفة تميل إلى الآلية؛ لأن الآلية تبدو لهم أقرب إلى فكرة العلم، والعلم مجموع من القوانين الكلية الثابتة المتعالية على الفوارق الجزئية والتنوعات الحادثة. وقد كدسوا الحجج آملين أن يبينوا أن ليس للأحياء تفوق على الجماد بالماهية، بل فقط بالتركيب والتعقيد.
والحق أن الناس، ومن بينهم الآليون حين لا يفلسفون، متفقون بداهة على تمايز الحي من غير الحي بخاصتين أساسيتين: إحداهما الحركة الذاتية في كافة الأحياء، أعني التغير باطنيا وظاهريا، والخروج من القوة إلى الفعل، لا الحركة المكانية فقط، بينما المادة الصرف لا حراك لها إلا بدفع من خارج أو إزالة عائق، بحيث إن الحي الذي يفقد هذه الخاصية يعتبر ميتا محروما من الحياة، والخاصية الأخرى الإدراك في بعض الأحياء، لا سيما والإدراك نفسه، فعل أو حركة، وأنه مبدأ باعث على الحركة الذاتية طلبا أو هربا، وهم جميعا يعتقدون أن للكائن الحي قوة باطنة هي علة حياته وأفعاله الحيوية، تسمى بالنفس، والحركة الذاتية مقدمة على الإدراك لوجودها في الأحياء قاطبة، بل هي لهذا السبب الخاصية الأساسية للحياة الأرضية.
ينتج من هذا التعريف أن الأفعال الحيوية باطنية في الحي قارة فيه، وأن هذه الباطنية تفترض فيه أجزاء أو أعضاء متنوعة الوظائف والتراكيب. فلنشرح هاتين الخاصتين: أما باطنية الفعل أو استقراره في الحي، فمعناها أن الفعل الحيوي يصدر عن الحي وينتهي إليه، ولكن من وجهين: أحدهما بالنسبة إلى الحي في جملته، تحرك قوة فيه قوة أخرى، ولا تتعدى الحركة إلى شيء خارجي، بخلاف فعل الجماد فإنه يبدأ في الفاعل ويتجه إلى شيء خارجي، فهو متعد بالذات. والوجه الآخر بالنسبة إلى كل قوة من قوى الحي: يبدأ منها الفعل ويبقى فيها، كالعقل والإرادة، وهذه هي الباطنية بمعنى الكلمة، على ما سنبينه عند الكلام عن النفس الناطقة، وباطنية الحياة من هذا الوجه الثاني. أما ما يبدو في الجماد حركة ذاتية، كانفجار بعض المركبات الكيميائية، فناشئ من اختلال التوازن بين الذرات أو الجسيمات. وتتفاوت الباطنية وتكون الحياة أشرف فأشرف كلما بعد الحي عن تأثير المادة: فالنبات المستغرق كله في المادة يتحرك تنفيذا لغايات مفروضة عليه بالطبع؛ والحيوان يتحرك لذلك ولأجل مدركات يكتسبها بحواسه ويدبر أحواله بحسبها في حدود الإحساس والغريزة، ولغاية لا تفرضها عليه طبيعته، فإن المعرفة الحسية تدع شيئا من عدم التعيين؛ فمن الحيوان ما لا يدرك سوى الأشياء المماسة له، فحركاته ترجع إلى الانبساط والانقباض؛ ومنه ما يدرك أشياء بعيدة منه بفضل ما له من حواس ومن قوة تؤهله للانتقال في المكان؛ والإنسان يتحرك لأجل غاية يعينها بنفسه لنفسه بفضل العقل والإرادة الحرة.
وأما التنوع فباد للعيان، وهو خاص بالحي كباطنية الحركة، فإن الحي كل مركب من أعضاء منسقة فيما بينها بحسب رسم معين لكل نوع، لتأدية وظائف مختلفة متجهة كلها إلى بقاء الحي ونمائه، بينما الجماد متجانس، فكل جزء من الخشب خشب، وكل جزء من الذهب ذهب، حتى ذو الخلية الواحدة، فإنه مركب من ألياف وبروتوبلاسما ونواة؛ فليس هو مجرد كتلة زلالية، ولكنه بناء متنوع متناسب؛ تمثل فيه النواة مركزا مدبرا؛ وإذا حرمت منها الخلية لم تستطع الهضم ولا التمثيل، فهلك، وهذا يكفي لدحض نظرية الحياة الكلية أو المادة الحية عند قدماء اليونان من إيونيين ومن رواقيين قائلين: إن العالم حيوان كبير، وفي العصر الحديث عند كل مشايع لوحدة الوجود ولتطور الموجودات. في الخليقة إذن جميع ظواهر الحياة مصغرة؛ فإنها تولد وتتغذى وتنمو وتتكاثر وتموت. وفي الحي التام أجهزة منها ما هو جملة أعضاء متعاونة على تحقيق غاية مشتركة، كالجهاز الهضمي؛ ومنها ما هو جملة أجزاء ذات طبيعة واحدة تؤدي وظيفة واحدة في البدن بأكمله، كالجهاز العصبي يضم جميع الأعصاب، والجهاز العضلي يضم جميع العضلات. (2) تعريف الحياة النامية
هي المشتركة بين جميع الأحياء التي نعرفها. وقد قلنا: إن لها ثلاث وظائف هي: الاغتذاء والنمو والتوليد. الاغتذاء مرتب بذاته لتحويل المادة الغذائية إلى جوهر الحي، فيحفظ كيانه ويحفظ له الكمية اللائقة بنوعه وبحالته الشخصية. والنمو مرتب بذاته لتحويل كمية الغذاء إلى كمية الحي، والتوليد مرتب بذاته؛ لإيجاد جوهر جديد شبيه بالمولد. ثلاث وظائف متباينة، فلها في النفس النامية ثلاث قوى متباينة. فليس من الصواب إرجاع النمو إلى الاغتذاء، كما قال بعضهم بحجة أن النمو ينتج عن فائض الغذاء، فإن هذا لا يفسر تعيين كمية الحي أو مقداره، إذ إن من شأن الغذاء أن ينضاف بعضه إلى بعض دون حد؛ ولكن القوة المنمية تستخدم فائض الغذاء كمادة يتم بها النمو وهي تدبر جسم الحي وتوجه الحياة، بينما القوة الغاذية تعمل على تمثيل الغذاء وتقديم مادة النمو. «الفج من الثمار له القوة الغاذية دون المولدة، والهرم من الحيوان له الغاذية وليس له المنمية.»
1
في هذه الوظائف الثلاث تتبين فاعلية الحي بأجلى بيان: ففي التغذية يقبل مواد غريبة عنه، فتفسد بالتدريج في أعضاء الجهاز الهضمي، فيتمثلها، أي يحيلها إلى ذاته مادة حية بعد أن كانت خلوا من الحياة. فليست التغذية إضافة مادة إلى مادة، ولكنها تمثيل؛ ويختلف التمثيل عن الهضم، ومن ثم يختلف عن التفاعلات الكيميائية. ومهما يكن تنوع المواد الغذائية فإن الحي يحيلها إلى جسمه، ويستخدمها لاستبقاء كيانه، وهذا ما لا يتسنى للجماد بحال.
والنمو يحدث بفعل باطن وفي جميع أجزاء الحي على السواء، اللهم إلا إذا طرأ طارئ على جزء منه، وليس للشذوذ حكم الكلية. أما الجماد فيزداد ازديادا خارجيا بإضافة مادة إلى مادة. فبالنمو تتكثر الخلية الأصلية وتتنوع إلى أنسجة وأعضاء مختلفة، فيتكون الحي على حسب نوعه وبالحجم الملائم له، ويقاوم أعداء الداخل والخارج، ويعوض ما يتحلل منه، ويصلح ما يفسد. ويستحيل تعليل الحد والنسبة بالاغتذاء وحده، أو بالقوى الفيزيقية والكيميائية. بل إن الحياة تبدو قوة حقيقة تحمل في طيها «فكرة موجهة»، أي: خطة مرسومة تعمل على تحقيقها وصيانتها وسط تغير الخلايا المستمر. وليس في عالم الجماد نظام ينتقل بذاته من التجانس أو من تنوع أقل إلى تنوع أكثر. والحياة توازن غير مستقر دائم متقلب: يستنفد الحي مادته باستمرار، ويكتسب غيرها؛ فهو في نمو ونقصان لا ينقطعان، يلائم بين نفسه وبين البيئة والظروف، حتى لقد تنشأ من هنا أصناف من الأحياء في النوع الواحد. وهذه الملاءمة خاصية أخرى للحي، وليس لها ولآثارها نظير في الجماد.
والتوليد شأنه أن يوجد الحي من ذاته حيا آخر من نوعه، يتطور كما تطور هو: وهكذا تتداول الأجيال إذ يصنع الحي من جسمه خلايا قادرة على النمو الحي حتى تصير أشخاصا من ذات النوع. وليس في الجماد شيء من ذلك أيضا. وليس في ظواهر التبلور ما يصح مقارنته بهذه الوظائف. وسنعرض لهذه المسألة بعد حين.
وثمة خاصية أخرى هي أن للحي عمرا، وليس للجماد عمر. يولد الحي وينمو ثم يموت؛ فلوجوده مراحل معينة، وليس يمكن أن يقال: إن الجماد يتطور؛ فإن التطور الحق من باطن. ولنا في الموت الظاهر شاهد قاطع على حقيقة «القوة» التي ينكرها الآليون: فإن الغرقى المختنقين الذين «يردون للحياة» بالتنفس الصناعي، والمصروعين الذين يشرع في دفنهم، والحشرات التي تخلد للخمود التام أثناء الشتاء، لا يظهر منهم أي علامة على الحياة، والحياة باقية مع ذلك. فليس يكفي توقف الوظائف الحيوية للدلالة على الموت الحقيقي، كما يكفي انحلال جسم الحي وتعفنه؛ بحيث لا نعرف الحياة التعريف الدقيق بقولنا: إنها حركة باطنة، بل يجب القول: إنها «القوة على الحركة الباطنة»، ولهذه القوة أن توجد بالفعل أو أن تكمن بالقوة، وللآليين أن يعجبوا لذلك ما يشاءون.
يضاف إلى ما تقدم أن للأحياء خاصية أساسية لا مثيل لها في الجماد؛ وهي المجاوبة بحركة نوعية، أي خاصة بكل نوع على تأثير الفاعلين الخارجيين، مثل الانقباض العضلي والإفراز، ونقل التيار العصبي والفعل المنعكس وتقلص أوراق النبات. والغرض من هذه المجاوبة اتقاء الخطر أو جلب النفع؛ وهي تختلف اختلافا جوهريا عن المجاوبات الميكانيكية. أجل إن في الجماد أيضا مجاوبات على التأثيرات الخارجية؛ بل إن ظاهرة فيزيقية بعينها، كالمجاوبة الكهربائية، توجد في مجاوبات المادة الحية وغير الحية، بيد أن مجاوبات الأحياء ظواهر خاصة كالتي ذكرناها، ولا يلاحظ مثلها في سائر المجاوبات. وفوق المجاوبة المشاهدة في النبات نجد الإحساس في الحيوان والإنسان، فإنه مجاوبة على تأثير خارجي، ولكنه «إدراك» لا يتسنى للنبات. (3) الغائية في الحياة النامية
من هذا الوصف للحياة النامية ووظائفها الكبرى يلزم أن في الحي مبدأ غائيا يوجهه إلى تمام طبيعته دون علم ولا إرادة. والعلم هاهنا لا يجدي، فإن تحليل الظواهر الفيزيقية والكيميائية التي تجري في البيضة لا يسمح لنا بتوقع النتيجة التي نراها فيما بعد. وحالما يوجد الجنين نراه يعمل للمستقبل كأنه يعلمه؛ وهذا المستقبل غير ظاهر فيه بالمرة. إن الحي يتعهد حياته، فإن عطب جزء من أجزائه أصلحه، وإن بتر جزء شفي جرحه، بل قد يستعيد عضوا بتمامه في بعض الحالات. وعظام الهيكل الإنساني تجبر ما ينكسر منها، والألياف العصبية المجروحة تندمل جروحها، بل قد يستعيدها الحي، ولو في أطراف الجهاز العصبي. وفي جزء من الأخطبوط يظهر رأس أو ذيل. وكذلك تعود الأرجل التي يفقدها السلطعون، وقد لوحظت عودة مخ الحمام وذيل الحردون، وتصنع بعض الأعضاء ترياقا لمادة سامة يصنعها عضو آخر، يصنع الترياق بوفرة تفوق الحاجة الراهنة، ويكون «احتياطيا» للمستقبل، أو مناعة مكتسبة. فليست هي الأعضاء التي تحدث الحياة، ولكنها الحياة التي تحدث الأعضاء لتكوين الحي، وتعيدها لاستبقائه. توجد قوة حيوية متقدمة على الجسم الحي، وهي مبدأ مدبر بالطبع دون تدبير مروي، وخير مثال للصورة في المركب منها ومن الهيولي، فإذا كان الجسم الحي آلة، فإنه آلة تصنع نفسها: هي المهندس وهي البناء، وفنها عجيب.
تلك هي الغائية الباطنة واضحة كل الوضوح في الوظائف الكبرى والصغرى. وليست الغائية الظاهرة - وهي ترتيب الكائن لغاية خارجة عنه - بأقل منها وضوحا، فإن الموجودات - حية كانت أو جمادا - مرتبطة بعضها ببعض أوثق ارتباط، وبذلك يتحقق النظام الكلي: هل يمكن دراسة العين بدون دراسة الضوء، أو دراسة الأذن دون دراسة الصوت؟ والشواهد عديدة لا تحصى، وبحسبنا ذكر تبادل الأكسجين والكربون بين عالم النبات وعالم الحيوان: ينظف النبات الهواء المشبع بالحامض الكربوني الناتج عن تنفس الحيوان ويحلله ويلفظ الأكسجين الضروري لحياة الحيوان، ويستنشق الكربون. هذا مع ملاحظة أن الغائية الظاهرة قد لا تتحقق دائما: ففي الوقت الذي لم تكن ظهرت فيه الحياة الحيوانية، لم تكن الحياة النباتية (إن كانت حينذاك) تبلغ غايتها الظاهرة؛ على حين أن الغائية الباطنة متحققة ضرورة، وإلا لم يوجد الموجود.
وقد اعترض الماديون على الغائية الباطنة بالمسوخ أو الأحياء الناقصة التكوين المشوهة الخلقة. والرد على هذا الاعتراض أن المسوخ ترجع، لا إلى صنع الطبيعة باعتبارها مبدأ غائية وترتيب وتنظيم ، بل إلى فساد المادة التي يخرج منها الحي، ذاتا أو تفريطا أو إفراطا، فتعجز عن مطاوعة الصورة. يدل على ذلك أن المسوخ قلة ضئيلة لا تذكر بالقياس إلى الأحياء المستوية طبقا لطبيعتها؛ وأنها لا تحيا، أو تحيا حياة ناقصة، كأن الطبيعة تنكر الإخلال بقوانينها وتنتقم له، النظام هو الغالب، ولا وجه لتجريحه بشواذ لا حكم لها.
وخطر لبرجسون، وقد تبين بطلان التفسير الآلي للحياة، أن الغائيين ينهجون منهج الآليين؛ إذ يتخيلون الجسم الحي مركبا من أصول معينة جاهزة كما تتركب الآلة من أجزائها، مع أن الحياة فعل ذاتي موجد للأعضاء، فيجب اطراح الغائية أيضا.
2
يريد أن الحياة فعل تلقائي وخلق فجائي، فهي تعلو على كل تفسير، وتدفع بنا إلى تصور العالم «تطورا خالقا» على مثالها؛ وأن العقل هو الذي يتصور الآلية، ويتصور الغائية على مثال الآلية، في حين أن التجربة باطنة وظاهرة ترينا الحياة ماضية في «وثبات» لا عداد لها. فرأي برجسون في المعرفة العقلية، على ما فصلناه ونقدناه في كتاب «العقل والوجود» هو الذي يتفق مع رفضه الآلية والغائية جميعا، ومحاولته التسامي عليهما لاتخاذ موقف أعم. والحقيقة أن العمل الغائي في الحياة يختلف كل الاختلاف عن العمل الغائي المركب للآلة بأجزاء جاهزة، فإن هذه الأجزاء موجودة بالفعل وبتركيبها نحصل على كل عرضي، وأجزاء الحي لا توجد قبل تعضونها في كل جوهري، حتى إن اليد المبتورة لا تدعى يدا إلا تجاوزا على حد ملاحظة أرسطو، وقد فصلت عن الكل الذي يحييها وينميها. فالمبدأ الحيوي مبدأ وجود ومبدأ تعضون في آن واحد؛ أما مبدأ التركيب الآلي فهو مبدأ تركيب فقط. فليس تطور الحياة الكلمة الأخيرة في الوجود، ولا هو يمنع من السؤال عن أصله وعلته، بل بالعكس يحتم هذا السؤال من حيث إن لكل تطور علة، وإن الغائية المسندة إلى علة عليا هي تفسير واف له. (4) حجج مادية
للماديين حجج يعارضون بها القول بالنفس كمبدأ حيوي متمايز من المادة الصرف، فينكرون تفوق الحي بالماهية على الجماد، ويذهبون إلى أن كل ما هنالك قاصر على تعقد القوى الفيزيقية والكيميائية. من حججهم تشبيه الحياة بالتبلور، واعتبارهم البلور حلقة وسطى تسد الثغرة بين الجماد والحياة. والواقع أن للبلور كما للحي شكلا نوعيا معينا يبين طبيعته؛ وأنه يكتسب هذا الشكل بالتدريج، ويتعهده بالاغتذاء في ماء التبلور، ويوجد بلورا مثله بانقسام مادته، ويصلحها متى انكسرت أو تلفت في موضع ما. ولكن الواقع أيضا أن ليس في البلور دليل على الحياة: فالشكل هندسي، والبلور الكبير يتكون من بلورات صغيرة من نفس الشكل، والبلور في حالة توازن تام من حيث المادة والقوى، وهذا يعارض الحياة معارضة كلية، وليس في البلور اغتذاء بأغذية غريبة عن المغتذي، ولا تمثيل، بل فقط تجمع أجزاء من طبيعة واحدة، أي: تكوين جسيمات من ماء التبلور، ومن ثمة من طبيعة واحدة، تتبلور على التعاقب، وبقوة أشد في المواضع غير المنتظمة، ولا نمو من باطن ابتداء من خلية واحدة تتنوع إلى أعضاء مختلفة، بل فقط قبول أجزاء من خارج بمحض التجاور، وهذا النمو من خارج ليس حيويا ولكنه فيزيقي بحت. ويلزم عن انتفاء الاغتذاء والنمو انتفاء التوليد بمعنى الكلمة، أي: بإيجاد جرثومة تصدر عنها عين الأفعال في عين المراحل، وتنتهي إلى تكوين حي جديد.
ويتخذون حجة على مادية الحياة انقسام النبات والحيوانات الدنيا أشخاصا قائمة بذاتها من عين النوع، ويقولون: إن هذا الانقسام يعني أن الأحياء المنقسمة هكذا إلى أحياء تامة، ليست بسيطة ولكنها كالمادة قابلة للقسمة، خلافا لما يدعيه القائلون بالنفس من أنها بسيطة غير منقسمة. وفعلا من المعلوم منذ أمد مديد أن كل غصن ينتزع من نبات ويزرع أو يطعم به نبات آخر، فإنه يعطي شخصا من النبات كله، أو يحتفظ بنوعه أو يعطي ثمرا من نوعه، ولا يفيد من النبات المنقول إليه سوى الحياة. وفي الحيوان أيضا نجد بعضا منه، وهو البسيط التركيب، إن قسم أعطى أشخاصا تامة التكوين بعدد الأقسام. ويمكن قسمة البروتوبلاسما، فكل قسم محتو على جزء من النواة يحيا منفردا حياة الشخص كله. والحيوانات العليا تبدو قابلة للقسمة في المرحلة الجنينية التي هي أبسط المراحل. ولكن كلما ارتقى الحيوان كان أشد إباء للقسمة حتى في المرحلة الجنينية. وبعض الأجزاء المنتزعة تستطيع استطالة الحياة: فقلب الضفدع إذا انتزع استمر على النبض، وقطعة من عضل تحيا بعض الوقت، وتنقبض تحت التأثير الكهربائي، هذه الوقائع وأمثالها تفسر ببساطة التركيب وكفايته للحياة وللفعل: ففي النبات والحيوانات الدنيا ليست الوظائف وأعضاؤها مخصصة لفعل بعينه، فكل قسم منها ذي مقدار كاف فهو حاصل على ما يلزم لاستمرار حياة الكل؛ وهذا الحكم يسري على الأعضاء المنتزعة. أما في الحيوانات العليا فكل وظيفة فهي مخصصة بعضو أو جهاز، فلا تتحقق حياة الشخص إلا بتمامه، وما من عضو يستطيع أن يعيد بناء الحي بتمامه وأن يطيل بقاءه، فإذا قسم الحي هلك؛ بل ما من عضو يستطيع استطالة فعله بذاته، وإذا استطيل الفعل فليست حركته حركة حياة نامية، ولكنها حركة آلية راجعة إلى معالجة صناعية. فتلك الوقائع تؤيد رأي القائلين بالنفس ولا تنقضه، وليست القسمة واقعة على النفس مباشرة، ولكنها واقعة على بدن الحي ونسبته إلى الحياة.
ويقولون: بالتمثيل يحدث في داخل الخلايا الحية تحليلات شبيهة بتلك التي تحدث عن الفواعل الجمادية، وتحدث مركبات كيميائية من مواد دهنية توصل الكيميائيون إلى صنع مثلها خاضعة لعين القوانين، فليست الحياة مباينة للجماد. ولكنهم يغفلون عن الفوارق الكبيرة بين الطرفين: فالكيميائيون لم يصنعوا جميع المركبات؛ والتي صنعوها ليست مواد حية، بل الأحرى أن تسمى مواد حيوية، فلم يصنعوا ورقة نبات أو ثمرة أو عضلا أو عضوا، مع أن المادة الحية لا تحتوي إلا على العناصر التي تحتوي عليها المادة البحت. وصنعوا تلك المواد الحيوية بوسائل تختلف كثيرا عن وسائل الحي: ففي الهضم مثلا لا يستخدم الحي الأحماض القوية ولا الحرارة العالية أو الضغط المرتفع، وإنما تتركب المواد الحيوية تركيبا طبيعيا في الحي فقط، ولا توجد طبعا في عالم الجماد. وإذا كانوا قد أفلحوا في تقليد الهضم، فإنهم لم يفلحوا ولن يفلحوا في تقليد التمثيل أو أي فعل حي بمعنى الكلمة. (5) مبدأ الحياة أو النفس
وإذا جئنا إلى تفسير الحي تفسيرا فلسفيا قلنا: إنه كائن واحد مع تعدد وظائفه وأعضائه. ومحال أن تكون المادة البحتة علة هذه الوحدة، فإنها هي ذات أجزاء متخارجة وقابلة للقسمة بالذات، ويستحيل أن تكون المادة البحتة علة الوظائف الحيوية لما بينا من الفوارق الجوهرية بين أفعالها وأفعال الجماد. الأفعال الحيوية أرقى من القوى الفيزيقية والكيميائية مسيطرة عليها. ففي الحي إذن مبدأ مغاير للمادة هو علة حياته. وإذا كان الجسم الطبيعي مركبا من هيولي وصورة، كما أسلفنا، كان ذلك المبدأ صورة الجسم الحي أو نفسه قبل أن يخصص ديكارت لفظ النفس، ويقصره على القوة المفكرة في الإنسان، ويتبعه معظم المحدثين، ولا بد من مزيد تعليل لوجود النفس النامية، ومزيد شرح لطبيعتها فنقول:
من الوجهة النسيجية نجد بين الخلايا اتصالا عجيبا يدل على الوحدة، فإن تكاثر الخلايا لا يتم بمحض انفصالها ومحض تجاورها، بل يتم بحيث يتكون منها بدن واحد، وبحيث يخضع بعضها لبعض، حتى إنه من جزء واحد، كالسن مثلا، يمكن معرفة طبيعة الحي كله ورسم هيكله ووصف معيشته، فتنوع الأعضاء أو تبيانها لا يعطيها استقلالا الواحد عن الآخر، ولكنها تتسق وتتوافق، فتبين الوحدة تمام التبيين. ومما تجب ملاحظته أن العظام والعضلات والأعصاب ليست متشابهة في جميع الأحياء، فإن هناك فرقا جوهريا بين عظم الإنسان وعظم الكلب مثلا. وكثيرا ما أخطأ العلماء في استدلالهم بفعل دواء ما في حيوان أو حيوانات ما على فعل هذا الدواء في الإنسان، ومن باب أولى ليس يمكن القول بأن الحي «مستعمرة خلايا» لكل منها حياتها الخاصة: هذه وحدة عرضية كالتي في الآلات الصناعية، لا تكفي تعليلا للوحدة النامية في الوجود وفي الفعل على ما هو ظاهر في الجسم الحي. فليس الحي آلة مركبة من خلايا أو من أعضاء، وإلا كان كل جزء ينتج جزءا من الحي، بينما هو ينتج الحي بتمامه. وإذا سلمنا جدلا أن التركيب علة الحياة - وهذا محال كما قدمنا - سألنا عن علة التركيب ذاته، إذ ليس للمادة أن تتركب هكذا أجزاء معينة مؤتلفة بعضها مع بعض مطردة الظهور والفعل؛ ثم سألنا عما يحفظ على الجسم الحي كيانه، وهو دائم التغير حتى تزول مادته بأكملها مرات أثناء العمر.
وليس للقوى الفيزيقية والكيميائية في الحي أفعال مستقلة، ولكنها آلات لمبدأ الحياة. وهذا هو السبب في أنها تحدث في الحي معلولات أشرف منها، هي الأفعال الحيوية، مما هو شأن الآلة تحت توجيه المنصرف فيها، النفس ترفعها إلى مرتبة أعلى، وتدبرها بقواها المنمية والمولدة. فالعناصر المركبة للخلايا موجودة فيها على نحو أسمى من وجودها مستقلة. وأظهر ما يبين سيطرة المبدأ الحيوي أو النفس تقدم الوظيفة على العضو، فإن الأحياء المكروسكوبية تهضم وتتنفس وتتناسل وتنقبض وتحس دون أعضاء. ففائدة الأعضاء المعاونة على استكمال الوظائف، لا على توفير الحياة وبناء الحي، فإن الوظائف في أسفل سلم الأحياء منبثة في كل الجسم، ثم تتمكن وتستكمل خلال هذا السلم.
على أنه لا ينبغي تصور النفس النامية روحية، وجوهرا تاما متقوما بذاته، ومدبرا للجسم من خارج. في هذا التصوير لا يكون الجسم حيا، بل يكون آلة صناعية كما قال أفلاطون وديكارت، وقد بينا بطلان هذا القول. وفي هذا التصور خلط بين البساطة والروحية: النفس النامية صورة جوهرية أو قوة بسيطة غير منقسمة بالفعل، وإن كانت منقسمة بالقوة على ما فصلنا، وهكذا تتحد بالجسم اتحادا كليا، وتحفظ عليه كيانه، وتؤلف وإياه موجودا واحدا هو الذي يحيا ويعمل. ليس لها مقدار لا بالذات ولا بالعرض، فهي موجودة كلها في الجسم كله، وموجودة بقواها في كل جزء منه، فهي في العين بقوة الإبصار، وفي الأذن بقوة السمع، وهلم جرا. فهي في الكل أولا وبالذات؛ لأنها صورته الجوهرية، وهي في الأجزاء ثانيا بمختلف القوى. ولو كانت متصلة بالجسم كالمحرك فقط لجاز أن يقال إنها ليست في كل جزء منه، بل في جزء واحد فقط به تحرك سائر الأجزاء؛ ولكنها متصلة بالجسم كالصورة الجوهرية، فيجب أن تكون فيه كله وفي كل جزء منه كما أسلفنا. وجميع أفعالها تتم بأعضاء جسمية وبوساطة كيفيات جسمية، وإذن فليست هي روحية، ونستطيع أن نقول: إنها مادية، لا بمعنى أنها مادة، أو أنها مركبة من هيولي وصورة؛ إذ إنها هي صورة ومبدأ وحدة، بل بمعنى أنها عاجزة عن التقوم بذاتها باستقلال عن الجسم الذي توجد فيه وتحييه.
وليس في الحي سوى نفس واحدة متعددة القوى والوظائف، وإلا انفصمت وحدته. وهذا التمييز بين الماهية وقواها سنصادفه عند الكلام على النفس الحاسة والنفس الناطقة للغرض عينه، وهو صون الوحدة في الحيوان وفي الإنسان فنقول: إن للحيوان نفسا واحدة لها قوى النفس النامية وتزيد عليها الحواس، وإن للإنسان نفسا واحدة لها قوى النفس النامية والنفس الحاسة، وتزيد عليها العقل والإرادة. غير أن بعض الفلاسفة أخذ القوة كأنها ماهية فوضع في الإنسان أكثر من نفس واحدة: مثلما يذكر عن الفيلسوف الصيني «تسي تسشان» من أهل القرن السادس قبل الميلاد أن قال: إن للإنسان نفسين؛ واحدة سفلى تقوم بوظائف الحياة النامية، وتتكون من الجسم، وأخرى عليا تتكون شيئا فشيئا بعد الميلاد بتكاثف الهواء المستنشق، والنفس السفلى تتبع الجسم إلى الغير ثم تتلاشى أما العليا فتخلد. وذهب أفلاطون إلى أن للإنسان ثلاث نفوس: واحدة في الرأس للأفعال العقلية، وثانية في الصدر للأفعال الغضبية، وثالثة في أسفل الحجاب للأفعال الشهوية. وهذان الرأيان يتضمنان تمييزا واضحا بين الحياة النامية وحياة الإدراك، وبين ما يفنى من الإنسان وما يبقى، ولكنهما يقضيان على وحدته.
ويظن الكثيرون من العامة، بل بعض العلماء أيضا، أن للنبات حياة حاسة، مستشهدين بانقباض بعض النبات على الذباب أو غيره من الحشرات التي تحط عليه وتماسه. لكن الحساسية ينم عليها أفعال تلقائية تصدر دون سوابق ثابتة مجاوبة على الإحساسات، وهذه متنوعة مفاجئة، فتتنوع تلك الأفعال تبعا لها، ويستحيل على المشاهد توقع اتجاهها ومداها وتغيراتها ومدتها. وأفعال النبات آلية تتم على وتيرة واحدة ويمكن توقعها؛ فانقباض النبات فعل منعكس آلي لا نتيجة إحساس. ثم ليس للنبات أعضاء حاسة، وليس الإحساس مجرد تأثر الأعصاب، ولكنه الإدراك الموعي الحادث بعد تأثر الأعصاب، وما من إدراك موع إلا بوساطة أعضاء مخصصة بموضوعات. (6) أصل الحياة
إذا كانت طبيعة الحياة مباينة لطبيعة المادة الصرف وقواها الفيزيقية والكيميائية، فما أصل الحياة؟ تلك هي المسألة الأخيرة في هذا الباب، ولا يعلم أصل الشيء إلا بعد العلم بطبيعته؛ ولقد كان عدم العلم بحقيقة الحياة سببا في تعدد الآراء في أصلها وبطلان هذه الآراء. فمنذ أمد بعيد كان الاعتقاد شائعا بأن بعض الحيوانات الدنيا تتولد من الماء الآسن والطين والجثث المتعفنة؛ أو أن الأحياء جميعا تولدت في مياه الأنهار والبحار، ثم تطورت إلى ما نشاهده الآن: وهذا ما يسمى بالتولد الذاتي، أي التولد الحادث عن الجماد مباشرة، لا عن حي سابق.
ولكن وجد من الفلاسفة عدد قليل لم يمنعهم هذا الاعتقاد من الإيمان بمبدأ العلية، وما يحتمه هذا المبدأ من علو العلة على المعلول، أو مساواته على الأقل، فلا تكون أدنى منه؛ فعلل أرسطو نشوء الحي من غير الحي بتأثير الأجرام السماوية في المادة الأرضية؛ وكانت هذه الأجرام، في نظره ونظر اليونان عموما، أجساما أثيرية تحركها أرواح، فكانت لها في ظنهم فاعلية أعلى من فاعلية العناصر الأربعة. واصطنع هذا الرأي الفلاسفة المسلمون والمسيحيون في العصر الوسيط، فأقروا بذلك بقصور العناصر الأرضية عن توليد الحياة، ووجوب إضافته إلى فعل الشمس وغيرها من الكواكب، اعتمادا على حكم العقل بأن الأكثر لا يخرج من الأقل أو أن الأكمل لا يخرج من الأنقص. وظل هذا الإيمان بالفاعلية السماوية سائدا إلى أن أثبت باستور بالتجربة القاطعة أن تلك الحيوانات تتولد من جراثيم حية لا ينالها البصر المجرد، وأن كل حي فهو من حي.
وارتأى القديس أوغسطين أن الله في البدء أودع المادة البحت غير المعضونة بذورا حية، كمنت فيها ونمت بعد ذلك في مختلف الأنواع على مر الزمان. وهذا الرأي جائز في حد ذاته؛ لأنه يرجع الحياة إلى فعل الخالق، ويرجع الأنواع الحية إلى أصول خاصة بكل نوع، فيحترم مبدأ العلية ونبذ الرأي القائل بالمادة الحية بما يتضمنه من التمييز البات بين الحياة والمادة، وما يضع تبعا لذلك من مبدأ للحياة متمايز من المادة هو الأصل البذري المودع من الله. وليس يمكن دحضه بالتجربة، فكل ما تشهد به هو أن الجسم الحي يخرج دائما من الحي «الآن»، أي في عهد التاريخ، ولا تدل بذاتها على أن الله لم يستخدم التولد المشكك لإيجاد الأحياء الأولى، غير أنه ليس من الطبيعي للبذرة الحية أن تكمن في المادة البحت لما بينهما من منافاة تعطل البذرة عن كل عمل أزمنة متطاولة إلى أن تطلق من أسرها وتشرع في نشاطها. وإذا كان الغرض من احتباسها على هذا النحو تنزيه الله عن تكرار الخلق، فإن هذا التكرار متحقق فعلا بالنسبة للنفوس الإنسانية على الأقل، وهي روحانية تعلو على الأسباب الطبيعية وتحتم خلقا من الله. فلا موجب لهذا الرأي.
ويشبهه رأي النظام المعتزلي، وقد صدر عن الغرض السابق، وأخذ مثل أوغسطين عن الرواقيين، فقال: «إن الله تعالى خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن، ولم يتقدم خلق آدم خلق أولاده، غير أن الله تعالى أكمن بعضها في بعض، فالتقدم والتأخر إنما يقع في ظهورها من مكامنها دون حدوثها ووجودها. وإنما أخذ هذه المقالة من أصحاب الكمون والظهور من الفلاسفة.»
3
وليس لدينا شيء نقوله بعد الذي قلناه ما دام الرأي واحدا عند أوغسطين وعند النظام.
وكان لابن سينا موقف غريب حاول به أن يجمع بين فاعلية المادة والفاعلية السماوية. قال: «وقد يتكون من العناصر أكوان بسبب القوى الفلكية إذا امتزجت العناصر امتزاجا أكثر اعتدالا، وأولها النبات ... فإذا حدثت مادة بدن يصلح أن يكون آلة للنفس ومملكة لها، أحدثت العلل المفارقة [الأرواح المحركة للكواكب] النفس الجزئية ... فالنفس تحدث كلما يحدث البدن الصالح. لاستعمالها إياه.»
4
ونحن ننكر جواز تكون أجسام صالحة لاستعمال النفس إياها، من العناصر، سواء أكانت العناصر فاعلة وحدها أو متأثرة بالكواكب، فإن فاعليتها الخاصة، وهي مادة صرف، لا تسمو إلى هذه المرتبة، وفاعلية الكواكب، خصوصا كما نعلمها الآن، لا تتناول مثل هذا التكوين، ولا تخلق نفوسا، فإن الخلق لله وحده.
وبدا لبعض العلماء المعاصرين، وأشهرهم هلمولتز، أن الجراثيم الحية هبطت إلى الأرض من بعض الكواكب. ولكن هذا الرأي يدع المسألة حيث هي؛ إذ إننا نفحص عن أصل الحياة أرضية كانت أو فلكية، وكل ما يفعله أصحابه هو أنهم يرجعون القهقرى إلى زمن مديد وعلة خارجة عن مشاهدتنا، وكان يتعين عليهم أن يفسروا أصل الحياة في تلك الكواكب، وذهب غيرهم إلى أن حرارة الشمس كانت في العصور الخوالي أشد بكثير مما هي الآن، فكانت أغنى بالأشعة فوق البنفسجية وأقدر على تركيب المادة الحية. ولكنهم غفلوا عن نقطة جوهرية هي أن مثل هذه الحرارة كانت خليقة أن تقتل الحياة لا أن توجدها.
فيبدو لنا بعد هذا العرض وهذه المناقشة أن الحياة بدأت على الأرض بفعل الله خالق المادة والحياة، وأن لا سبيل إلى تفادي هذه النتيجة.
هوامش
الفصل الثالث
الحياة الحاسة
(1) علم النفس قديما وحديثا
هنا يبدأ علم النفس الحديث، وقد تخفف من مبحث النفس النامية، ولكنه تضخم بوفرة المسائل ووفرة الاستشهادات من سائر العلوم الطبيعية والفلسفية أو التطبيقات عليها، وأهمها مسألة المعرفة التي كان هو أحد نتائجها. لقد مر بنا الكلام في آراء القدماء في النفس النامية، وقد نظروا إلى النفس الحاسة كذلك كل بحسب مذهبه العام في الفلسفة. وها نحن موردون الآن بعض آرائهم لتركيز تصورهم لها، فليس غرضنا تاريخيا، وإنما هو مذهبي، يعرض للمشكلات الفلسفية ويبدي فيها الرأي بالأدلة القاطعة. فليس هذا الفصل والفصل التالي عرضا لعلم النفس بجميع مسائله وتحليلاته، ولكنهما يكونان «فلسفة علم النفس» المبينة لما يعتقد في المشكلات وما لا يعتقد.
وربما كان فاتح الباب أمامهم ديموقريطس بنظريته في الجوهر الفرد أو الذرة؛ فالنفس عنده مادية طبعا، مؤلفة من أدق الجواهر وأسرعها حركة، كلما تكاثرت اكتسبت الحساسية والإدراك، فهي لذلك أوفر عددا في أعضاء الحواس وفي القلب والمخ. وأعقبه أنبا دوقليس، وهو الذي اعتبر الماء والهواء والنار عناصر وأصولا، وزاد عليها التراب، وقال: إن النفس مزاج من هذه الأركان الأربعة يغلب فيها الهواء والنار؛ ولذا كانت ألطف وأدق، وكان للنبات شعور كما للحيوان، ولكنه أضعف. واصطنع أبيقور مذهب ديموقريطس، وقال: إن الأحياء نشأت اتفاقا، وبقي الأصلح وثبت نوعه، والنفس مادة حارة لطيفة للغاية، تتكون مع الجسم وتنحل بانحلاله. وقال الرواقيون: ليس للنبات تصور ولا حركة، فليس له نفس، وإنما النفس للحيوان والإنسان، وهي نفس حار.
هذه أقاويل ساذجة لا تستحق الذكر إلا لبيان أصول المذهب المادي في هذا المضمار. أما علم النفس فقد نضج واتخذ طابعا علميا ممتازا بجهود أفلاطون وأرسطو. أفلاطون فيلسوف الروحانية والخلود. وأرسطو فيلسوف اتحاد النفس والجسم في جوهر واحد، وواصف مختلف القوى الإنسانية من حواس ظاهرة وباطنة وعقل وإرادة، وصفا ما أدقه وأعمقه. أثبت أفلاطون للإنسان نفسا روحية لسببين: أحدهما أنه يعقل المعاني الكلية أو المثل، وهي غير متحققة في التجربة بما هي كلية، وغير مكتسبة بالحس، فلا بد من قوة روحية مثلها تعقلها؛ والسبب الآخر أن المادة جامدة ساكنة بطبعها، فلا بد من مبدأ لا مادي يحرك الجسم. ولا يمكن أن يقال: إن النفس عبارة عن توافق الأخلاط أو العناصر المؤلفة للبدن، فإن التوافق نتيجة التركيب والنفس تدبر البدن وتقاومه بالإرادة، فلا بد أن تكون شيئا متمايزا منه.
على أن رأي أفلاطون فيها وفي صلتها بالبدن لا يخلو من التردد والغموض: فإنه يحد النفس تارة بأنها فكر خالص، وطورا بأنها مبدأ الحياة والحركة في الجسم؛ ويقول تارة: إن النفس هي الإنسان، وطورا يضع بينهما وبين الجسم علاقة وثيقة إلى حد علاج النفس بالجسم وعلاج الجسم بالنفس، وتارة يضع في النفس قوى ثلاثا للإدراك والغضب والشهوة، وطورا يضع في الإنسان ثلاث نفوس. فهو يترنح بين مذهبه المثبت للنفس وجودا مستقلا، وبين التجربة المثبتة لها علاقة جد متينة بالجسم، وهذه هي النقطة الضعيفة في مذهبه: يتصور النفس جوهرا تاما حالا في الجسم حلول شيء في شيء، ويضيف إلى الحياة والإحساس والانفعال والتعقل وسائر الظواهر الوجدانية، ويعتقد أن الجسم مجرد آلة مادية، فلا يفسر تأثير الجسم في النفس ولا تأثير النفس في الجسم، مع إقراره بتفاعلهما.
وكان هو أول من قال بروحانية النفس من بين فلاسفة اليونان، أعني بتجردها عن المادة أصلا وقيامها بذاتها روحا وقوة. ودليله على وجود النفس بلا مادية كالمثل، يفيده في التدليل على خلود النفس، فإنه يقول: إن النفس لا مادية كالمثل، ومن ثمة بسيطة، فهي ثابتة باقية؛ لأن المركب هو الذي ينحل إلى بسائطه ويتحول. كانت في الأصل في العالم المعقول أو السماوي، ثم ارتكبت خطيئة، فكان عقابها الهبوط إلى الجسم، وإن لم تقض حياتها الأرضية في العمل على استعادة برارتها الأولى، عادت بعد الموت إلى جسم آخر بشري أو حيواني، وهكذا، إلى أن تطهر تماما، فتعود إلى مقرها الأول ذلك الجرم الفلكي السعيد بصحبة الآلهة السعداء. وهذه نظرية التناسخ تلصق بالمذهب لصقا.
لم يفض أرسطو في مسألة الخلود، بل لعله لم يمسها، مع إيمانه الراسخ بروحانية النفس؛ وامتاز بتأسيس علم النفس على قواعد علمية بحت، فحصر مسائله وعالجها بالمنهج العلمي الصرف، دون ما تضحية به للخيال ولو كان جميلا. خصص له كتابا على حياله مليئا بالعلم والبرهان، ورسائل سمي مجموعها بالطبيعيات الصغرى حافلة بالتجارب التشريحية والتحليلات الوجدانية، مما لم يسبق له نظير. في مفتتح الكتاب تعريف هذا العلم، وتعيين منهجه، وبيان اتحاد النفس والجسم بإلحاح شديد لأهمية المسألة في نظره. فالنفس مبدأ الحياة والأفعال الحيوية في الجسم الحي من نبات وحيوان وإنسان، وهي في كل على قدره، فلا تطلق إلا بضرب من التشكيك أو التناسب، أي مع الفارق، ولا بأس في استعمال هذا اللفظ المشترك والقول بنفس في النبات والحيوان، ما دمنا نلحظ الفارق ونميز بين النفوس. فالنفس هي الصورة الجوهرية للجسم الحي، وعلم النفس جزء من الفلسفة الطبيعية؛ لأن موضوعه - وهو الجسم الحي - مركب من هيولي وصورة. ومنهج مثل هذا العلم لا يمكن أن يكون إلا تجريبيا استقرائيا؛ لأن الوجدانيات ظواهر حادثة تابعة للأحوال والظروف. أما اتحاد النفس والجسم اتحادا جوهريا بحيث يؤلفان جوهرا واحدا، فأظهر مظاهره تجمل في ما يأتي: ليس الانفعال، كالخوف والغضب، فعل النفس وحدها، وإنما هو فعل المركب من النفس والجسم، ففي الوقت الذي يحدث فيه انفعال نفسي يحدث تغير في الجسم؛ بل قد ينشأ الانفعال من اختلال الجسم دون قصد ذهني ولا سبب خارجي، على ما نشاهده بوضوح في العصبيين والسوداويين. والإحساس فعل النفس بمشاركة العضو الحاس. والتعقل، ولو أنه خاص بالنفس، إلا أنه مفتقر للصور الخيالية كي نجرد منها المعاني الكلية التي هي موضوعات العقل، ولا خيال من غير المخ والجهاز العصبي؛ فمن الوجهة النفسية الانفعال صورة وجدانية، ومن الوجهة الجسمية الانفعال مظهر لهذه الصورة، من غير تقدم أحد الحدين على الآخر أو تأخره عنه. فجميع الأفعال الوجدانية متعلقة بالجسم ضربا من التعلق.
ظلت العقول تتناقل معاني أفلاطون وأرسطو إلى أن جاء ديكارت. كان رياضيا عبقريا، وأراد أن يطبق المنهج الرياضي على المادة بمختلف صورها، فكان أكبر العاملين على انقلاب العلوم إلى شكلها الحديث، فإليه يجب الرجوع في علم النفس. وقد ذهب إلى أن المادة مقابلة للفكر، وأطلق لفظ الفكر على جميع الظواهر الوجدانية من إحساس وشعور وتخيل وتذكر وتعقل وإرادة، ولما كانت المادة لا تفكر قال: إن النفس مبدأ الفكر، وأنكر أن الحيوان يدرك ويشعر، واستنتج أن الإنسان وحده - وهو مفكر بلا ريب - ذو نفس دون غيره من الأحياء، وأن مظاهر الحياة النامية في النبات والحيوان والإنسان تؤديها وظائف آلية صرف، وأن مظاهر الإدراك والشعور والنزوع في الحيوان تؤديها وظائف آلية كذلك لا دخل فيها للنفس، وأن النفس والجسد جوهران تامان كل منهما قائم بذاته، وأن الصلة بينهما قاصرة على حلول النفس في الغدة الصنوبرية التي هي جسم صغير بيضاوي واقع في مقدم المخ، فتتأثر بما يصل إلى هذه الغدة من الحركات الواقعة على أعضاء الحواس، وتترجم الحركات ترجمة وجدانية من لون وصوت ورائحة وطعم وحرارة وبرودة، وتدبر الجسد من تلك الغدة كما تريد بأن تبعث الحركات التي تريد أن يأتيها الجسم. أما كيف تتأثر النفس - وهي روحية بسيطة - بحركات مادية، وكيف تترجمها على النحو المذكور مع ما بين الحركة والوجدان من تباين، وكيف تبعث بحركة مادية وهي روح، أو كيف تستطيع أن تحول الحركة الجسمية من وجهة إلى أخرى كما قال ديكارت، فتلك اعتراضات وجهت إليه ولم يستطع الإجابة عنها إجابة مقنعة.
ولما أراد ديكارت أن يعرف الإنسان قال: إنه «جوهر مفكر». وهذا التعريف يمنع أن يكون الإنسان حيوانا ناطقا، ويوجب أن يكون ناطقا أو مفكرا فقط، أو على الأقل يمنعه أن يعتبر نفسه حيوانا حين يقول: «أنا أفكر.» جميع الظواهر الجسمية من اغتذاء ومشي وانفعال بإحساسات، ضروب من الحركة تفسر بالأعضاء وتركيبها ومكانها بعضها مع بعض لا أكثر، يحركها الدم، والأرواح الحيوانية تشبه غازا جد لطيف، أو لهبا في غاية الصفاء يولدها القلب باستمرار، فتصعد إلى الدماغ الذي هو بمثابة خزانة لها، ثم تمر في الأعصاب، وتوزعها الأعصاب في العضلات، حيث تحدث انقباضا أو انبساطا تبعا لكميتها. فدراسة الإنسان دراسة لظواهره الوجدانية، وهذا هو علم النفس. أما الظواهر الجسمية فراجعة إلى الفيزيقا المعنية بالمادة وأحوالها.
تلك أصول التفكير الحديث في علم النفس. وقد تشعب هذا التفكير إلى وجهتين؛ هما التصورية والمادية. التصورية وجهة الذين قبلوا الوضع الديكارتي لمسألة المعرفة، وهو أننا لا ندرك الأشياء أنفسها، بل ندرك تصوراتنا أو أفكارنا، فهؤلاء بدءوا بالفكر أو النفس، وانتهوا به، كما صنع ديكارت، أي: استبعدوا الجسم، حسبانا منهم أنه مجموع تصورات ليس غير، فاستغرقت النفس الجسم، وتبددت مسألة العلاقة بينهما. والمادية وجهة الذين رفضوا أن يعترفوا للفكر بقيمة ذاتية، وأضافوا القيمة الذاتية للمادة، فاستبعدوا النفس ظانين أنها مجرد فكرة طارئة على تغيرات الجسم، وتبددت كذلك مسألة العلاقة بين نصفي الإنسان. ولم يلبثوا أن اصطنعوا التصورية في المعرفة بالرغم من معارضتهم لوجود النفس، وتحول مذهبهم المادي إلى مذهب تجريبي
Empirisme
أو واقعية تصورية شعارها: «إننا لا نعلم إلا ما يظهر لنا وعلى ما يظهر.» ورجع الفرق بين التجريبي والتصوري إلى أن الأول لا يقر بحقيقة للمعاني الغريزية التي يؤمن بها الثاني، ويجعل منها أسس المعرفة والوجود.
نعد من أئمة التصوريين: مالبرانش وليبنتز وسبينوزا وبركلي وكنط، اعتبروا التفاعل بين النفس والجسم أمرا غير مفهوم لما بينهما من تعارض حاسم. وكانت النتيجة المنطقية لهذا الاعتبار الوقوف عند توازي السلسلتين، أي ظواهر النفس وظواهر الجسم، دون محاولة التفسير والتعليل؛ ولكنهم أضافوا الظواهر جميعا إلى الله، لا إلى النفس ولا إلى الجسم، فقال مالبرانش: إن ما يتوهم من إرادات النفس ما هو إلا «مناسبات» لتأثير الله في النفس. فكل فاعلية تبدو في المخلوقات ما هي إلا ظاهرية. وارتأى ليبنتز أن الله يودع في كل مخلوق ظواهره جميعا بلا استثناء في حالة قوة وكمون، فتتحقق رويدا رويدا على الترتيب الذي عينه الله. والغريب من هذين الفيلسوفين وأمثالهما أن التصورية عندهم لم تكن كلية كما ينبغي، بل كانت قاصرة على الجسميات؛ إما النفس وإما الله، فقد اعتقدوا بهما كحقيقتين لا يتطرق إليهما الشك. وإلى مثل هذا ذهب سبينوزا ماحيا التمايز الجوهري بين الموجودات، وقائلا بجوهر واحد مفكر ممتد عنه تصدر الموجودات وأفعالها. وباركلي أنكر المادة مبقيا على معانيها المتجلية في النفس أو الذهن، ومضيفا هذه المعاني إلى إيحاءات من لدن الله. أما كنط فقد كان التصوري الصارم الحاسم، لم يعتقد بوجود النفس ولا بوجود الجسم، بل ردهما إلى الفكر كصورتين من بين صور غريزية فيه. وقد كان إمام الظاهريين
أولئك الذين لا يرون في الوجدان سوى سلسلة من الظواهر المتعاقبة دون ما ربط بينها أو «أنا» مفكر، ولا يحيدون عن «النوازي» يمنة ولا يسرة.
ونعد من أئمة الماديين المحدثين هوبس ولوك؛ والباقون يكادون لا يأتون بشيء جديد. يمضي هوبس من هذه القضية الأساسية في مذهبه، وهي: أن كل علم فهو آت من الإحساس، ويعرف الإحساس بأنه حركة في ذرات الجسم الحاس، ويردد القول القديم أن المعاني المجردة أسماء تقوم مقام الصور الجزئية. ولا يعلل نشوء الظاهرة الوجدانية مع الحركة الجسمية: فإذا كانت هذه الظاهرة ذاتية للحاس، فكيف نعلل هذه الذاتية إن لم يكن للإنسان نفس، ولم يكن للنفس فعل متغاير للحركة؟ وهو يلاحظ أن مجرى أفكارنا تابع، ليس فقط لتعاقب حركات الدماغ بترتيب معين ، كما يقضي به المذهب المادي، بل أيضا لتأثير الميل والاهتمام: فكيف نفسر الحياة الفكرية تفسيرا آليا؟
أما لوك فهو حسي على هذه الطريقة: يعين لأفكارنا منبعين اثنين يرجعان إلى واحد ولا يختلفان إلا بالتسمية، وهما: الإحساس بكيفيات الأجسام، والتفكير الذي يظهرنا على الأفعال الباطنة. فالمعاني التي ليست آتية لا من الإحساس ولا من التفكير هي مصطنعة مفتعلة، مثل المعاني المجردة؛ ولوك يحمل على المعاني الغريزية حملة نراها موفقة في أغلب مفاصلها. ولكنه يتردد كثيرا في مسألة النفس. يقول: إن وجودها موضوع حدس باطن، وإن الأنا شيء مفكر مدرك لأفعاله، كما يشهد التفكير، ثم لا يريد أن يقول: إن «الذاتية الشخصية» تقوم في ذاتية النفس، أي بقائها هي هي، ويردها إلى ذاتية الشعور بالأنا الذي يتذكر الآن فعلا ماضيا، وهذا وصف لشعورنا بالشخصية، وليس تفسيرا لإمكان الذاكرة والشخصية. إن التذكر يستلزم بقاء الأنا هو هو، ويرى لوك أن هذه المسألة، أي بقاء الأنا بالفعل هو هو، مجاوزة لنطاق التجربة الصرف، ولا يريد أن يعرض لها. وكذلك يفعل في مسألة ما إذا كان الأنا روحيا أو ماديا، فهو يطلب شهادة التجربة الخالصة، ويأبى تأويلها بالعقل.
واتخذ هوبس وهيوم وآخرون؛ من العلم الطبيعي كما وجدوه عند نيوتن، أسلوبا في التصوير والتعليل يرتكز على الجذب والدفع والتجميع والتركيب، فتصوروا الظواهر الوجدانية وحدات مستقلة على مثال الذرات العنصرية تتجاذب وتتدافع وتتركب تبعا لقوانين التداعي من تشابه وتضاد وتقارن دون فاعلية باطنة ولا نفس يحار في كنهها، فكونوا علم النفس الفيزيقي
المبني على نظرية التداعي. ولكن معاصرين لهم أو خلفاء تركوا الطبيعيات شيئا فشيئا، والتمسوا في علم الحياة أسلوبا أقل صلابة وأقرب إلى «النفسيات»، فاستعاضوا عن تلك الوحدات بالأفعال المنعكسة، وهي أبسط الظواهر الحيوية، وأدت بهم دراسة تركيب أعضاء الحواس ومزاولتها وظائفها إلى دراسة الأفعال الوجدانية المرتبطة بها، فكونوا علم النفس الفسيولوجي
ودفعوا إلى الأمام هذا العلم الناشئ من الفحص عن وظائف الدماغ، وأثر جروحه أو اضطراباته في العادات الجسمية والتذكر والتكلم، على ما سنذكره فيما بعد. وهكذا إذا أراد الماديون تسويغ مذهبهم وإرجاع الظواهر الوجدانية إلى الظواهر الفيزيقية، أدخلوا المادة والكمية في علم النفس.
وظنوا أنهم يجدون تأييدا في مذهب التطور، أو النشوء والارتقاء، الذي كان يحاول - في جميع الميادين - تعليل الأشياء على اختلافها، بما فيها النشاط الوجداني، بتنوع أصل متجانس هو الحركة المنعكسة لا غير، وذلك بالملاءمة بين الإنسان وبين الأحوال المواتية في البيئة الخارجية، وتنازع البقاء، وبقاء الأصلح، وترسيخ التغير بالوراثة. وبالرغم من هذه المحاولة بدا الوجدان أو الشعور مغايرا للمادة غير مشترك وإياها في شيء ما. وكان هذا خليقا أن يحدوهم إلى الاعتراف بإخفاق مذهب التطور، أو على الأقل إلى احتجازه في حدود معينة؛ ولكنهم أصروا على أن المادة هي الأصل الراسخ، هي الأول والآخر، وأن الشعور «عرض طارئ» على الجهاز العصبي
Epiphénomène
فكأنهم لم يصنعوا شيئا.
والواقع أنهم لما وجدوا العلم التجريبي قد تقدم كثيرا، خطر لهم أن يطبقوا على علم النفس المنهج الذي حاز ذلك النجاح الكبير في العلوم الفيزيقية والحيوية، وهو منهج المشاهدة والاختبار، وأن يغفلوا كل مسألة لا تنال بهما، فاقتصروا على وصف الظواهر الوجدانية واستخلاص قوانينها، صارفين النظر عن النفس في ذاتها وما تثيره من مسائل وجودها وماهيتها وأصلها ومصيرها، تاركين هذه المسائل لما سمي علم النفس النظري، ناقلين هذا العلم إلى علم ما بعد الطبيعة، وهو عندهم خزانة الفروض والتخمينات. والحقيقة أن العلمين متلازمان؛ لأن النظري مكمل للتجريبي مفسر لظواهره. بل إن علم النفس أكثر اتصالا بالفلسفة وأحوج إليها من سائر العلوم الطبيعية، بحيث لا يمكن الخوض فيه من الوجهة التجريبية البحت.
مما تقدم يتبين أن أهم مسائل النفس، من الوجهة العلمية، مسألتان اثنتان: هما وجودها أولا، وعلاقتها بالجسم ثانيا، وأن على نوع هذه العلاقة يتوقف الرأي في مسألة المعرفة التي هي المسألة المركزية في الفلسفة. سيأتي الكلام عن وجود النفس في مكانه المنطقي، بعد استعراض القوى أو الوظائف الوجدانية، كما ينظر في العلة بعد النظر في المعلول. أما العلاقة بين النفس والجسم ففيها أربعة مواقف: إفراط وتفريط ووسط زائف ووسط حق.
الإفراط في جانب الأفلاطونيين يقولون بالنفس، ولكنهم يتصورونها شبيهة بالملاك، ولا يضعون بينها وبين الجسم سوى تجاور عرضي. والتفريط في جانب الماديين ينكرون النفس ويردون جميع أفعال الإنسان إلى الجسم وحده. والوسط الزائف في جانب القائلين بالتوازي بين أفعال النفس وأفعال الجسم، إما لسبق تدبير من الله، أو لعلة لا ندركها. والوسط الحق القول بالاتحاد الجوهري بين النفس والجسم؛ وهو قول أرسطو، يسترشد بالواقع ويفسره، فيتفادى الصعوبات التي اعترضت الفلاسفة، ويوفق بين الروحية والمادية توفيقا بديعا، لا بأخذ شيء من هنا وشيء من هناك، على مألوف أصحاب التخير، بل بالتزام الحد الذي يلتقي عنده الطرفان ويندمجان فيه.
ومن الرأي في الإنسان يلزم الرأي في المعرفة: فالإفراط في جانب الأفلاطونيين يدعون أننا ندرك المجردات إدراكا معادلا لها، ويرتفعون بالمعرفة الإنسانية إلى أصل علوي أو مثل غريزية لا صلة لها بالمحسوس. والتفريط في جانب الحسيين يلحون بحق في تبعية المعرفة للحواس، والتفاتنا إلى الصور الخيالية، وينكرون أن يكون لنا بالمجردات علم أصلا. والوسط الزائف قول كنط: إن المجردات صيغ أو قوالب فكرية لا تمت إلى الوجود بسبب. والوسط الحق تصور الإنسان متوسطا بين الملاك والبهيمة، له طبيعة خاصة شأنها أن تبدأ معرفتها بالحواس وتتأدى إلى اللامحسوس بالعقل المجرد المستدل. (2) منهج علم النفس
إذا كان هذا حال علم النفس، فبأي منهج يعالج؟ أبالمنهج القياسي الصادر عن مبدأ عقلي، أم بالمنهج الاستقرائي المؤسس على التجربة؟ لقد زعم سبينوزا - وكان الوحيد في هذا الزعم - أن العلم إطلاقا قياسي، يحمل معه البرهان ويولد اليقين، وأن علم النفس لا يشذ عن هذه القاعدة، بل يستنبط قوى النفس وأفعالها بالطريقة الهندسية، على ما هو معروض في كتابه «الأخلاق». والحقيقة أن ليس هناك استنباط بالمعنى الصحيح، ولكنه افتنان في العرض يستند على مشاهدة ضمنية ويستمد منها جميع المبادئ والنتائج. ولا يمكن أن يكون الحال إلا كذلك؛ لأن العالم الجسماني - بما فيه الإنسان - مجموع موجودات ممكنة محققة دون غيرها من ممكنات لا تحصى، فهي إذن حادثة، ولا يقع الاستنباط القياسي إلا في الضروريات. ما السبيل العقلي، قبل تحليل الماء مثلا، إلى معرفة تركيبه من هيدروجين وأوكسجين بقدر معين؟ وما السبيل - قبل مشاهدتنا ذاتنا وسلوك الآخرين - إلى معرفة الوجدانيات؟ هذا الفن في العرض لجأ إليه سبينوزا تبعا لنظرية ميتافيزيقية هي وحدة الوجود وما يلزم عنها من ضرورة الأحداث. بل حتى لو سلمنا بالوحدة والضرورة لما جاز لنا أن ندعي علما ضروريا بالأحداث، من حيث إن العلاقات بينها ممكنة لا ضرورية. لقد خلط سبينوزا بين ضرورتين: ضرورة التحقق في العلم الإلهي والضرورة الذاتية كتلك التي نشاهدها في الرياضيات؛ فلو سلمنا بالأولى لما اضطرنا ذلك البتة للتسليم بالثانية وقلب الميتافيزيقا إلى منطق: الميتافيزيقا علم الوجود الواقعي، والمنطق علم الوجود الذهني، فهما دائرتان متخارجتان مختلفتان كل الاختلاف، ومعرفتنا تتبع ترتيبا عكس ترتيب الأشياء؛ إذ تذهب من المعلول إلى العلة ومن العرض إلى الجوهر، مع تقدم العلة والجوهر، في الوجود على المعلول والعرضي؛ ثم إن وضع المسائل توحي به التجربة لا العقل الصرف. وعلى ذلك فمنهج علم النفس لا يمكن أن يكون إلا تجريبيا استقرائيا.
وقد كان كذلك بالفعل، ولا يزال ممعنا في التجربة والاستقراء، أنشئت له المعامل، وأجريت التجارب على الحيوان الأعجم، وعلى الإنسان في جميع مراحل عمره، وفي حالتي الصحة والمرض، وخصوصا الأمراض العصبية والعقلية، وفي العلاقة بين الإحساس والمؤثر الخارجي، وفي العلاقة بين الظواهر الوجدانية والظواهر البدنية المثيرة لها أو المصاحبة أو التابعة، واستنطقت اللغات والآداب والعلوم والفنون والتاريخ، بغية الوقوف على كل شاردة وواردة. هذا هو المنهج الموضوعي المتمم للمنهج الذاتي أو الوجداني، وهو منهج ضروري خصب، بشرط ألا يؤخذ وحده، فيؤدي إلى ما سمي «علم نفس بلا نفس» لامتناعه من كل فحص عن حقيقة النفس، كما يمتنع علم الطبيعة أو علم الأحياء من الخوض في ماهية المادة أو ماهية الحياة، إذا أنكرنا النفس إنكارا إيجابيا أقصينا فكرة الموضوع أو الجوهر أو الأنا الذي يحدث الوجدانيات ويوحد بينها، فسلمنا بإمكان وجودها من غير موضوع، وهذا خلف ، وانتزعنا عن الظواهر أنفسها طابع الشخصية، ولم نفهم الذاكرة التي تعني وجود مبدأ صدرت عنه الظواهر وحفظت فيه، ولم نفهم تداعي الصور أو المعاني الذي يعني وجود مبدأ حافظ لها داع لما تتطلبه الحال منها، ولم نفهم العادة وهي تعني أن ستعدادا ما قد تكون بتكرار فعل معين، فنعني وجود مبدأ يحدث فيه التكرار ويحفظ الاستعداد. هذه أمثلة لما يلحق علم النفس من تشويه وتناقض إذا لم نقبل وجود النفس.
وهذه الاعتراضات تجرح من باب أولى مذهبا أكثر تطرفا استحدثته مدرسة معاصرة وسمته بالمذهب السلوكي
Behaviourism ، وهو يعد أصدق تعبير عن المادية؛ إذ إنه يتجاهل الوجدان بالمرة، ويكتفي بوضع الإنسان أو الحيوان في موقف معين لمشاهدة تصرفه وسلوكه، واستخلاص قوانين تسمح بتوقع أنواع السلوك اللازمة عن ظروف خارجية معينة دون تأويل وجداني، ودون قصد في استعمال ألفاظ العقل والإرادة والمخيلة والذاكرة، وما إليها من الوظائف الوجدانية، إلى قوى متمايزة وأفعال مشعور بها في الباطن، بل إلى مواقف ظاهرة أو ضروب من المجاوبة ورد الفعل. ولهذا المنهج فائدته أيضا، بشرط أن يظل موقفا منهجيا وحسب، وألا يتضمن أي إنكار للحالات الباطنة، فإن أنصاره - إذ يدعون أنه المنهج الوحيد - يشوهون علم النفس ويجرون عليه من الاضطراب والتناقض ما لا قبل بمثله لأي علم. فأولا توجد ظواهر وجدانية عديدة ليس لها وجهة خارجية، مثل تتابع أفكارنا وأسباب أفعالنا؛ وثانيا إذا كنا نعبر عنها بالكلام، وهو بالفعل سلوك خارجي، فإنها مغايرة كل المغايرة لألفاظ التعبير، ولا يمكن ردها إليها بحال؛ وثالثا لا يفسر السلوك بالظروف الخارجية وحدها؛ إذ إنه يتنوع في نفس الظروف، وإن إشارة بعينها قد تتخذ دلالة على مقاصد مختلفة، فلا مندوحة من اعتبار الميول والمقاصد والصور الباطنة التي يحققها السلوك الخارجي؛ فلولا شعورنا بحالاتنا الباطنة لما فهمنا شيئا من الأفعال الظاهرة؛ إنهما وجهتان غير منفصلتين: إحداهما باطنة تدرك بالشعور، والأخرى ظاهرة تدرك بالحواس؛ والأولى متقدمة بالطبع، فكيف يصرف عنها النظر؟
المنهج السليم تجميع الظواهر، ثم تصنيفها تبعا لمشابهاتها، وتعيين قوانينها، أي: شرائط وجودها وفعلها، ثم الارتقاء من الأصناف إلى أسبابها المباشرة التي هي القوى النفسية الصادرة عنها الظواهر، وأخيرا إلى النفس التي هي منبع القوى ومحلها، كي تتحقق في علم النفس معنى العلم بالإطلاق، وهو معرفة العلل الأولى للأشياء. ولا محيص من الاعتقاد بقوى نفسية، مهما يقل الحسيون والتصوريون، ولنا على ذلك دليلان؛ الأول: أن الظواهر مختلفة بالماهية، ليس التذكر كالتعقل، وليس التخيل كالإحساس، وليست الغريزة كالإرادة، فكيف ترد هذه الأصناف إلى أصل واحد، أو كيف يجحد لها الأصل؟ الدليل الثاني: أنها غير واقعة دائما بالفعل، ولكنها واقعة أحيانا متخلفة أحيانا، ففي حال الوقوع تقتضي سببا معينا يحدثها، وفي حال التخلف تقتضي استعدادا لأحداثها، وإلا كانت إذا حدثت كأنها تحدث عن لا شيء، فيلزم أن أفعالنا تزاول بقوى متميزة هي تارة بالقوة وطورا بالفعل، هي «كفايات فعلية» قد تظل في حال الكفاية، وقد تخرج إلى الفعل فتبدو فاعليتها للعيان.
أما القوانين التي نحصل عليها في علم النفس، فلا بد من التفرقة بينها وبين قوانين الطبيعة الصامتة من جماد ونبات تفرقة حاسمة: ذلك أن القوانين الطبيعية تنطبق على كل فرد بتمام الدقة، بحيث يمكن اعتبار أي فرد مثالا للنوع؛ أما في علم النفس، ولا سيما فيما يخص النفس الإنسانية لحصولها على الحرية والاختبار، وكثرة المؤثرات الواردة عليها، وتعقد ظواهرها، واستحالة تكرار ظاهرة بعينها، فنحن مضطرون إلى العدول عن طلب قوانين كلية لا شاذ لها، والقنوع بنسب عامة تقريبية قد لا تكفي أحيانا كثيرة لتعليل الحالات الجزئية التي تعرض في الواقع، وهذه النسب عبارة عن متوسطات لما يجري في النفس، وليست قوانين بالمعنى الفيزيقي توضع في قضايا كلية أو يعبر عنها بأرقام.
فخلاصة المنهج المشاهدة الباطنة، التي هي الأصل الأول والمرجع الأخير، تؤيدها وتكملها المشاهدة الظاهرة غير أن الماديين وجهوا إلى المشاهدة الباطنة اعتراضا لو صح لقضي على علم النفس، نظريا على الأقل؛ إذ إنه بالفعل ناجح مزدهر لا نتصور إمكان زواله من بين العلوم. قالوا: ليس من المستطاع أن نلاحظ تفكيرنا ونحن نفكر ، فإن الجهد الذي نبذله في المشاهدة يبطل موضوعها أو يفسده، فإذا كنا في حالة غضب مثلا وأردنا أن نتعرف تفاصيلها، فإنها تتلاشى لساعتها. وإذا عدنا إلى الحالة بعد وقوعها، فإننا حينئذ لا نقع عليها في ذاتها، بل على أثرها في الذاكرة، وقد يكون هذا الأثر ناقصا أو مشوها.
وجوابنا أن الاعتراض ساقط بمحض تكوين علم النفس بالفعل، وقد أمكن هذا التكوين؛ لأن كل ظاهرة وجدانية فهي دائما مصحوبة بمشاهدة أولية تلقائية، فإننا لا نفعل إلا ولنا دراية بالفعل والانفعال، وهذه الدراية تبقى في الذاكرة، وهي تعدل الظاهرة ذاتها؛ إذ ليس من المعقول أن تخوننا الذاكرة على الدوام، فتقع المشاهدة المتأملة على صورة من الظاهرة صحيحة تتأملها وتحللها، وما من دليل على سلامة هذه الطريقة أبلغ من تحليلات النفسيين، علماء كانوا أو شعراء أو قصصيين، وتكوين علم النفس بالفعل كما قلنا، ونحن لا نقرأ لهم إلا ونحس في أنفسنا مطابقة أوصافهم لما مررنا به من حالات، ونوقن أنهم عرفوا النفس الإنسانية بدقائقها ونفذوا إلى صميمها.
لقد كان أوجست كونت شيئا شبيها بذلك الاعتراض، وأنكر إمكان انشطار الذهن شطرين؛ الواحد هو الظاهرة المشاهدة، والآخر هو المشاهد، وكشف عن السبب الذي يحدو إلى هذا الإنكار، وهو المادية عينها؛ إذ إنها تقر المشاهدة الباطنة حين تصدر عن عضو إلى عضو أو على آثاره، ولا تقر مشاهدة عضو لنفسه؛ لأن مثل هذه المشاهدة تستلزم انعكاس العضو على نفسه، بحيث يكون المشاهد والمشاهد شيئا واحدا، كما يدعي القائلون بالروح، ولكن المادة لا تنعكس على ذاتها، بل ينعكس جزء منها على جزء بقدره، وعند أوجست كونت والماديين أجمعين العقل هو الدماغ، فمحال عندهم دراسة الأفعال العقلية بالعقل نفسه. واعتراض منصب بالأكثر على نظرية المعرفة؛ لذا يقول: إن المنطق وما بعد الطبيعة ونقد العقل خيالات وأوهام؛ ولذا لم يفسح مكانا لعلم النفس في تصنيفه للعلوم الأساسية، فنعود ونقول: إن هذا العالم قائم بالفعل، وإن قيامه دليل على إمكان الانعكاس أو الانشطار شطرين، ودليل من ثمة على روحانية العقل .
أجل إن مشاهدة الباطنة أمر عسير؛ إذ هي تقتضي أولا قسطا وافرا من العلم يحمل على توجيه الاهتمام إلى ما يجري في الوجدان وطلب تعرفه، فإن هذه الفكرة لا تخطر ببال الطفل أو الرجل الجاهل أو المتوحش، وإن هي خطرت فلا يكون نصيبها إلا الإخفاق. ثم إن الوجدانيات من الدقة والسرعة والتنوع والتشابك بحيث تستلزم أيضا إخلاء الذهن من كل شاغل، والاستغراق في تأملها بانتباه حاد متصل، وبراعة كبيرة في التمييز والتحليل، وهذه مجهودات أو مواهب لا تتفق إلا للقليل من الناس وجلهم مأخوذ بالعالم الخارجي. ولكنها على كل حال ميسورة لكثيرين، وليست هي مصدر الأخطاء في علم النفس، وإنما هي التفسير والتأويل، إلى الوجهة الفلسفية وما يشرف عليها من مذاهب. (3) أصالة الحياة الوجدانية
ولنا مع الماديين شوط آخر في محاولتهم رد الحياة الوجدانية إلى الحياة البدنية، كما يردون هذه إلى القوى الفيزيقية الكيميائية. يبدءون حجتهم بما هو معلوم من أن الحياة الوجدانية إنما تظهر في الأحياء الحائزين على جهاز عصبي، وإنما ترتقي وتتنوع بارتقائه وتكثر مراكزه، وإذا تعطل كله أو أحد أعضائه الهامة انطفأت أو اضطربت، كما ينطفئ النور أو يختلج إذا عطب المصباح. ثم يدعون أنها نتاجه، وعلى الخصوص الدماغ، تصدر عنه كالهضم عن المعدة، والتنفس عن الرئتين، والدورة الدموية عن القلب سواء بسواء. فإذا صحت هذه الدعوى كان الجهاز العصبي علة، وكانت الحياة الوجدانية معلولة له، وكانت هي والحياة البدنية من نوع واحد تابعة لها خاضعة كل الخضوع لقوانين المادة الصرف. وهم يكدسون الشواهد على تبعية الوجدان للبدن، فيذكرون تأثير الغذاء والمنبهات والمخدارت، وأن الخلق يتقوم إلى حد كبير بالمزاج البدني؛ وبكيفية تأدية الوظائف لأفعالها؛ وأن الذكاء يظهر بالتأثير في الغدد أو بجراحة في الدماغ؛ وأن التشريح المقارن يبين أن نمو الحياة الذهنية في مختلف الأنواع الحيوانية هو بنسبة عدد تجاويف الدماغ، وبنسبة ثقل الدماغ بالقياس إلى ثقل البدن؛ وأن علم الأمراض الذهنية يدل على تناقص الحياة الوجدانية بالإعياء البدني وبالجروح الدماغية، مثلما يبدو في أمراض الذاكرة وأمراض الإرادة؛ وإن بتر الدماغ يدع الحيوان وليس له سوى الآلية.
هذه العلاقة بين الحياتين؛ الذهنية والبدنية، لا تنكر. ولكن الذي ينكر هو تأويل الماديين لها، فقد يكون البدن شرطا للحياة الوجدانية لا علة مكافئة لها، وقد يكون للحياة الوجدانية بدورها تأثير في الحياة البدنية. وسنذكر الشواهد على هاتين القضيتين، فنبين أصالة الحياة الوجدانية، وأن تبعيتها للبدن خارجية فقط. نبدأ بشواهد القضية الثانية فإنها أسهل تناولا، وتعتبر الجواب المباشر على الحجة المادية، فنقول: إذا كانت الحياة الوجدانية متعلقة بالبدن، فإن تأثيرها فيه يربو على تأثرها به. كيف تكون عرضا طارئا على الجهاز العصبي وكل تصور فهو يحاول أن يترجم عن نفسه بالحركة ويتحقق في الخارج؟ إن حركة الصور هذه قانون عام تلزم عنه نتائج كثيرة مذكورة في كتب علم النفس. ثم بالعمل العقلي يتوارد الدم إلى الدماغ، ويحدث هذا التوارد تلفا فيه؛ ويتضاءل المجهود العضلي، وتسوء الصحة عامة. وأيضا للانفعالات، وبخاصة المفاجئ منها، أثر بدني قوي: فالحزن يقسم ويهزل، والفرح ينشط وينعش، والخوف يهز البدن كله ويورث بعض الأمراض. وأيضا معظم أفعالنا معين بالإرادة إلى حد السيطرة على الغرائز والعادات، ووقف الأفعال المنعكسة. وأيضا ليست تقتصر فاعلية الحالات الوجدانية على ما يغايرها من أعضاء البدن والأشياء الخارجية، بل تتناول فعل حالة في حالة: كفعل الصورة في الفكر وفي العاطفة وفي الحركة، وفعل الفكرة في توليد اليقين وبث العزم. وأيضا بالمعرفة نضيف إلى وجودنا الذاتي صور الأشياء المعروفة، فنجاوز حدودنا الجسمانية إلى سعة الكون نغذي عقلنا بعجائبه ونستمتع بجماله؛ وإذا اقتنعنا بتمايز الروح من المادة، وبعلو الروح على المادة، فأخذنا بالفضائل أسباب الكمال الروحي، رأينا أنفسنا نقهر البدن على الانصياع لمقتضيات ذلك الكمال، بل نضحي بحياتنا في سبيله، كما فعل ويفعل كثيرون جدا من الصالحين والمتصوفين في مختلف البلاد ومختلف العصور. فأي دلائل أقوى من هذه على ثبوت الحياة الوجدانية، وتواضع الحياة البدنية بإزائها، سواء من حيث الأثر الفعلي ومن حيث القيمة الذاتية؟! الحق أن تعسف الماديين يبلغ هنا إلى الحد الأقصى المغني بظهوره عن المناقشة والتدليل.
ولكنا نمضي في التدليل والمناقشة بغية تبديد جميع شبهاتهم والإقناع العالي على كل شك، لأهمية المسألة من الوجهة النظرية إذا كنا طلاب حق، ومن الوجهة العملية أو الأخلاقية إذا كنا طلاب فضيلة. فلننظر فيما للحياتين من صفات ذاتية متعارضة، بعد أن نظرنا في تفاعلها، فيحتم علينا هذا التعارض الإقرار بتمايزهما وحصول وجود خاص لكل منهما. إن الظواهر البدنية أو الفسيولوجية متحيزة خاضعة للمقاس، بعضها بالنسبة إلى بعض يمين ويسار، فوق وأسفل، أمام وخلف. أما الظواهر الوجدانية فليست ممتدة ومتحيزة لما بينها وبين المادة من تغاير ظاهر، كالذي بين الجرح أو الحرق وبين الألم الناتج عنهما؛ ولا تجزأ إلى وحدات تشغل أمكنة متخارجة؛ ولا تقاس، وكل ما لها في باب المقاس شدة أو قوة نقدرها تقديرا اعتباريا ولا نقيسها كالكمية، وما مقاس الحالات البدنية المقارنة لها إلا وسيلة بعيدة لتعرف مبلغ الشدة، وما امتداد بعض منها وتحيزه، كالجرح أو الحرق، سوى حالة عرضية لارتباطها بالجزء المصاب من البدن. فالظاهرة الوجدانية التي من هذا القبيل وحدة ذات وجهين، وجه عضوي ووجه وجداني.
هذا الإصرار على جمود أصالة الحياة الوجدانية، وعلى اتباعها للحياة البدنية اتباعا مطلقا، نتيجة محتومة للمادية الآلية: فإنها تستند إلى مبدأ قائل: إن كل حركة في العالم فهي لازمة عن قوى سابقة، وتستنتج منه أن الأفعال الإنسانية لازمة عن الحركات الكونية، وأن المتنوعات صادرة عن تجانس أصلي، فيتعين القول بأن الإحساسات تتركب من «صدمات عصبية» تتكرر بعينها، كالإحساس البصري أو السمعي، فإنه يقابل آلافا من الذبذبات الخارجية تؤثر في العصب البصري أو السمعي وتنتج الإبصار أو السماع. هذه نظرية «وحدة تركيب الذهن» - على حد تعبير سبنسر - تجعل من الحياة الوجدانية معلولا للجهاز العصبي وعرضا طارئا عليه. وهي نظرية ساذجة مصطنعة والاعتراضات عليها تتوارد إلى الخاطر بكل سهولة:
فأولا:
إنها تعني أن في كل إحساس موع إحساسات أولية غير موعية بعدد الذبذبات الصادرة عن المؤثر . ولكن الإحساس يبدو لنا وحدة بسيطة غير متجزئة، وليست تكون الظاهرة الوجدانية مركبة إلا إذا بدت كذلك للوجدان؛ هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى ليس يعقل أن تكون غير موعية دائما وبالطبع؛ وإذا سلمنا بذلك جدلا يبقى أن نفهم كيف تصير موعية لمحض تعددها: أليس هذا يعدل قولنا: إنا إذا جمعنا عددا كافيا من الأصفار حصلنا على واحد صحيح؟
ثانيا:
إن الإحساسات مختلفة موضوعا، فكيف تختلف وأصلها صدمات بعينها لا اختلاف بينها؟ من الممكن أن تثير الظواهر البدنية ظواهر وجدانية، وليس يمكن أن تخلقها من عدم.
ثالثا:
إن العالم الفسيولوجي بما هو كذلك لا يبلغ في بحثه إلى الإحساس واللذة والألم والرغبة والإرادة، لما بينها وبين موضوعات علمه من تباعد وتباين؛ وكل من يقتصر على مشاهدة أحواله الباطنة يجهل أن له أعصابا ومخا لنفس السبب.
رابعا:
إن الجمع بين الصدمات العديدة وتركيبها في إحساس واحد يتطلب تفسيرا، فأين هو؟
خامسا:
من غير المعقول أن نعترف للدماغ بما يزعمون له من قوة سحرية تحول الحركات المتواردة عليه إلى أفكار وعواطف؛ إن التغيرات العصبية تؤلف سلسلة لا تتخللها حالة وجدانية، والحالات الوجدانية تؤلف سلسلة لا تتخللها حالة عصبية، ولا تكشف عن وجود الدماغ.
فعلى ذلك يجب الإقرار للحياة الوجدانية بالأصالة في الوجود وفي الفعل، وبانفراد طبيعتها عن طبيعة الحياة البدنية، إن الردود المتقدمة على أقوال الماديين تؤلف برهانا دافعا وإن يكن سلبيا. وهناك برهان إيجابي يؤيده أقوى التأييد ببيان خصائص للحياة الوجدانية هي الأصل العميق للخصائص الظاهرة التي استمددناها من المشاهدة، وهي: المعرفة، والنزوع أو الإرادة، والنقلة الذاتية، ونوع من المعرفة هو الوجدان أو الشعور يتناول الحياة الباطنة على اختلافها.
المعرفة تمثل الذهن لموضوع، فمتى أثر الموضوع في إحدى القوى العارفة طبع فيها صورته فصار معروفا. فالموضوع المعروف متحد بالقوة العارفة بصورته لا بمادته: ليس الحجر المرئي هو الذي في العين، بل صورة الحجر؛ وليست الصورة هنا شبها ماديا كالذي يرتسم على الشبكية وليست هي المعروفة أولا، والوجدان يشهد أن ما نعرفه مباشرة ونلتفت إليه أولا هو الموضوع لا صورته، وأن الصورة تعرف بالتفكير في المعرفة ومتقضياتها؛ فالحجر في البصر «معنويا» بحصول معناه فيه، أو «قصديا» لاتجاه قصد العارف إلى المعروف. فالعارف يقبل صورة المعروف مجردة عن مادته، كالعين مثلا لا تتلون بقبول اللون، بل يحصل فيها معنى اللون، أو كالعقل يعرف أشياء كثيرة متباينة ويظل هو هو، بخلاف العين المصفرة بالمرض، فإنها ترى الأشياء صفراء. فبالمعرفة يزيد العارف على صورته الخاصة صور الأشياء المعروفة، فإنها تحتفظ فيه بماهياتها ومغايرتها له، خلافا لغير العارف، كالجماد والنبات، فإنه إذا قبل شيئا قبله بمادته ولا يستبقي له غيريته بل يحيله إلى ذاته، كما يحدث في الاغتذاء والتمثيل. فالنبات محروم من قوة المعرفة بسبب ماديته التامة المانعة لقبول الصورة، بينما الحس له تلك القوة بسبب قابليته للصور؛ وللعقل قوة أعظم لكونه أكثر تجردا عن المادة، وأقدر على قبول الصور المنوعة، فغير العارف محصور في حدود وجوده، والعارف مجاوز لكيانه، حتى ليصير على نحو ما جميع الأشياء، على حد تعبير أرسطو.
فالمعرفة فعل باطن قار في القوة العارفة، حسا كانت أو عقلا، لا يتعداها إلى شيء آخر. والباطنية هنا غير باطنية أفعالنا البدنية في داخل البدن؛ فإن هذه الأفعال، وإن تكن محجوبة عادة عن الحواس الظاهرة، إلا أنها معروضة لها كلما سمحت الحال؛ ومهما دقت فإن آلاتنا تكشف عنها؛ على حين أن باطنية الوجدانيات أكثر عمقا من أن تتناولها الحواس، ولا تدرك إلا بالوجدان. وليست معرفة حالات الغير من الملامح والتغيرات البدنية التي تنم عنها معرفة وجدانية، وإنما هي استدلال بالدال على المدلول. فعلى الماديين أن يتدبروا هذا الفرق الجسيم بين هذين النوعين من الباطنية، فإنهم يتصورون باطنية المعرفة على مثال الباطنية المادية، فيقول أحدهم: إن الدماغ يفرز الفكر كما تفرز الكبد الصفراء، ويمثل آخر بالمعدة والهضم، وآخر بالرئتين والتنفس، مما لا معنى له ولا أصل لتغاير الحدين تغيرا كليا، بحيث لو فرضا أننا أحطنا علما بخلايا الدماغ وحركاتها جميعا، لما أفادنا ذلك شيئا في معرفة الحالة الوجدانية المقابلة لتلك الحركات؛ قال ليبنتز: «إننا مضطرون للإقرار بأن «الإدراك» وما يتعلق به لا يفسر بأسباب آلية، أعني بأشكال وحركات. وإذا افترضنا آلة تجعلنا نفكر ونحس، فلن نجد فيها سوى قطع يدفع بعضها بعضا، ولا نجد قط ما يفيد في تفسير الإدراك، وإنما يجب التماسه في الجوهر البسيط.» أي في النفس.
1
المعرفة ممتنعة إذن على المادة الصرف، والمسألة لا تحتمل الشك أو الترجيح كما ظن لوك؛ لأن قبول الأشياء بصورها دون مادتها يقتضي في العارف وفي المعروف ضربا من الروحانية أو الاستقلال عن المادة قليلا أو كثيرا: ففي المعروف يقتضي أن يكون له صورة يطبعها في العارف طبعا معنويا أو قصديا؛ وفي العارف يقتضي أن يكون له صورة تقبل الانطباع الصوري وتدركه؛ أما المادة فتقبل بحسبها هي، فلا تتحقق معرفة الموضوع كما هو، وكلما كانت اللامادية أتم كانت المعرفة أوسع وأكمل.
والمعرفة تبعث في العارف ميلا إلى الشيء المعروف إذا كان خيرا أو لذيذا أو نافعا، وميلا عنه إذا كان شرا أو مؤلما أو ضارا. وهذا هو النزوع أو الإرادة، يتجه إلى الملائم، وينصرف عن المنافر، والوظيفة واحدة؛ إذ إن الانصراف عن المنافر هو في الحقيقة طلب للملائم، أو إن طلب الملائم هو السبب في الهرب من المنافر، فالنزوع إما شهوة تميل إلى الخير، أو غضب يميل إلى مدافعة ما يمنع الخير أو يجلب الضرر، وقد تتجشم النفس الألم على خلاف ميل الشهوة؛ لكي تدفع الضار على مقتضى ميل الغضب. فالغضب بمثابة حام للشهوة ومدافع عنها. ومبدأ آلام الغضب من آلام الشهوة ومنتهاها إليها. والنزوع مشترك بين الكائنات جميعا، فهو أعم من المعرفة؛ إذ ليس كل كائن بعارف. ولكن كل كائن نازع طبعا إلى الفعل وفقا لصالحه. ففي غير العارف الميل فطري موجه إلى فعل واحد وموضوع خاص كما رسمت الطبيعة في صورته، فهو يتحرك إلى غايته دون أن يعرفها، كالعناصر الكيميائية يأتلف كل منها بعنصر معين بمقدار معلوم، وكالنبات يؤدي وظائفه الحيوية، ويتوجه إلى الضوء والحرارة؛ لأن فيه ميلا إلى النمو والازدهار، وكالحيوان والإنسان حين يقومان بوظائفهما المختلفة في الحياة البدنية، فهما يشتركان في هذا الميل الفطري من حيث هما مادة أو طبيعة غير عارفة، ويزيدان عليه ميلا إراديا مقابلا للصور الحاصلة لهما بالمعرفة، حين ترى فيها الحواس أو يحكم العقل أنها خير يطلب أو شر يجتنب.
إدراك الخير والشر يثير في النفس انفعالات أو عواطف شهوانية وغضبية مصحوبة برد فعل في البدن. وهي تترتب على الوجه الآتي؛ الانفعالات الشهوانية: أولا وبالنسبة إلى الخير: المحبة، وهي الميل إلى الخير في ذاته، والشوق وهو الميل إلى الخير الغائب، واللذة وهي السكون في الخير الحاصل؛ ثانيا وبالنسبة إلى الشر: البغض وهو الميل عن الشر في ذاته، والكراهية وهي الميل إلى الشر الغائب، والألم وهو الاضطراب للشر الحاصل. والانفعالات الغضبية: أولا وبالنسبة إلى الخير الغائب: الرجاء أو اليأس؛ ثانيا وبالنسبة إلى الشر الغائب: الجرأة أو الخوف؛ ثالثا وبالنسبة إلى الشر الحاصل: الغضب. والانفعال ظاهرة مشتركة بين الوجداني والبدني، بحيث لو حاولنا أن نجرد شعورنا من الأعراض البدنية لما تبقى لنا سوى فكرة الانفعال: هل يمكن تمثل الغضب دون فوران الدم وتلون الوجه، وانفراج المنخرين وصرير الأسنان، أو تمثل الحزن دون انقباض القلب، وتساقط الدموع وتصعد الزفرات، أو تمثل الخوف دون الرعشة ودق القلب وعسر التنفس؟ هذا الاتحاد بين الوجداني والبدني في الانفعال مثال للاتحاد بين النفس والجسم على العموم؛ ولا يمكن القول بأن الحياتين متوازيتان، وأن هناك سلسلتين من الظواهر متقابلتان، فإن هذا التقابل نفسه يتطلب تفسيرا، وشهادة الوجدان صريحة بأن الإنسان كائن واحد هو هو الذي يغتذي ويحس ويعقل.
وللكائن العارف حواس تدرك الأشياء البعيدة، وله إلى هذه الأشياء نسبة موافقة أو مضادة؛ لذا كان له قوة محركة إما لطلبها أو للهرب منها، بخلاف الجماد الذي يتحرك من خارج دون فعل ذاتي، وبخلاف النبات الذي لا نقلة له البتة. وللقوة المحركة أعضاء انفعالية هي العظام، تستند عليها وتبعثها على الحركة، وأعضاء فاعلية هي العضلات المنقبضة والمنبسطة المتحركة من الأعصاب . وهي تستخدم الطاقة الكيميائية المختزنة بالتغذية؛ وقد لا تستطيع استخدامها في حال الشلل مع وجود انفعال باطن، أو بالأحرى فكرة الانفعال، مما يدل على تمايز القوتين. وحركات القوة المحركة ترجع إلى ثلاثة أنواع: الأول الحركات المنعكسة، وهي انقباضات العضلات والغدد ناشئة مباشرة، دون تدخل فعل إرادي، من تأثير عصبي إما باطن أو واقع على أديم البدن، وهذه هي الآلية الفسيولوجية. النوع الثاني: الحركات الناشئة من الغريزة. النوع الثالث: الحركات الإرادية الناشئة عن معرفة ونزوع، ومنها حركات العادات المكتسبة تدريجا في الإنسان والحيوان.
أفعال المعرفة والنزوع والنقلة معروفة بالوجدان، وهذه المعرفة أوثق اتصالا بموضوعها منها بالموضوعات الخارجية والداخلية؛ لأنها عبارة عن معرفة الوجدان لنفسه، فهي «علم حضوري»، أي: «حصول العلم بالشيء بدون حصول صورته في الذهن، كعلم زيد لنفسه».
2
والمعرفة الوجدانية إما أولية تلقائية أثناء حدوث الفعل، فإن الذي يعلم شيئا يعلم بالضرورة في نفس الوقت أنه يعلم؛ أو معرفة إرادية تفكيرية مروية بعد حدوث الفعل، وبهذا المعنى يطلق الوجدان كأنه جملة الأفعال أو محلها، وكأنه قوة مدركة للأفعال. ويقال: إنه في جريان متصل كماء النهر، يمضي من حال إلى حال ولا نستطيع وقفه ما دمنا في اليقظة، بل لا يخلو النوم من صور تؤلف الأحلام؛ وإن اتصال جريانه يبدو، ليس فقط فيما يجرف من معان وصور وأفعال، بل أيضا وبنوع خاص في «حالات متعدية»
états substantifs
من حد إلى آخر هي بمثابة «تيار الوجدان» أو روابط بين موضوعاته
états substantifs
كالعطف والجر والاستدراك بلكن أو بلو، وخفض الصوت أو رفعه بحيث تعبر جملة بعينها عن استفهام أو عن خبر، ونية قول شيء أو فعل فعل. ومن هنا فرق في المعرفة الوجدانية الأولية بين الإنسان والحيوان، فهي في الإنسان أدق وأوسع يمكن أن تصير مروية بأهون سبيل؛ وفي الحيوان هي قاصرة على شعور وقتي منحصر في حالة حاضرة، غير متحول إلى الروية لعدم قدرة الحيوان على الانعكاس على نفسه لتأمل الموضوع الباطن صراحة كموضوع معرفة، وهذه القدرة خاصة بالإنسان، وليست توجد الروية إلا فيه.
هل يفهم من هذا أننا نشعر بالنفس وبكل ما فيها؟ هكذا زعم ديكارت، فإنه لما عرف النفس بأنها جوهر مفكر ليس غير، لزمه أنها تشعر بجميع أحوالها منذ أن يخلقها الله في الجنين، ما دامت ماهيتها الفكر، والماهية ثابتة لا تتغير، ولو أن هذا الشعور قد يكون غامضا أحيانا، كما هو الحال في النوم، لكن ليس يوجد فكر غير مشعور به: بل زاد على ذلك أنها تعرف وجودها وماهيتها معرفة مباشرة، وأن معرفتها هذه أيسر عليها. وأوكد لديها من معرفتها لجسدها فضلا عن سائر الجسميات.
والمحقق - مهما يقل ديكارت وأتباعه - أن النفس لا تعرف وجودها إلا في أفعالها، ولا تعرف ماهيتها إلا بالاستدلال من هذه الأفعال، وأنها لا تشعر بما فيها من ميول واستعدادات وملكات، ولا بالصور المحفوظة في المخيلة والذاكرة، ولا بالمعاني المحفوظة في العقل، إلا بالتي تحضر صراحة في الذهن، مع أن هذه المكنونات حالات لها حقيقية. كذلك لا تشعر بالكثير من طرق أفعالنا، كطرق الإحساس والإدراك الظاهري، وتداعي الصور والمعاني، وتكوين المعاني المجردة، فتلجأ في تعرفها إلى التفكير والتحليل، وإذن فقوانا وقسم كبير من أفعالنا غير داخلة ابتداء في نطاق الشعور، وقسم آخر لا يدخل في هذا النطاق إلا بعد أن يختمر ويتضح في اللا شعور، على ما يبدو في هذا القول من تناقض: فكم من موضوع نكف عن التفكير فيه ثم يظهر معدلا مزيدا، والشواهد كثيرة جدا في الحياة العادية، وعلى الخصوص في المسائل العلمية والفنية؛ وكم من محبة أو كراهية لأشخاص وأشياء تتولد من أسباب لا شعورية تؤثر فينا ونحن لا ندري.
والذي يهمنا من مسألة اللاشعور هذه أنها تعرض علينا فكرة القوة المقابلة للفعل على أجلى ما تكون؛ فإن المكنونات الخافيات التي أشرنا إليها وأمثالها محفوظة في النفس بالقوة، وما بالقوة غير مشعور به في ذاته، ولا يعرف إلا بأثره حال خروجه من القوة إلى الفعل؛ وهذا حال النفس الإنسانية، فإنها كما قلنا لا تعرف وجودها إلا إن عملت وأدركت ذاتها عاملة، ولا تعرف طبيعتها ، أي إنها عاقلة بسيطة روحية خالدة إلا بتحليل أفعالها. فليست فكرة القوة فكرة خيالية من اختراع أرسطو والمدرسيين، كما يدعي ديكارت وكثير غيره؛ إنها واضحة كل الوضوح في التغيرات الطبيعية، وأوضح ما تكون في تغيرات النفس؛ فما إنكارها إلا مكابرة في الواقع المعروض للمشاهدة ظاهرة وباطنة، وفي حكم العقل على التغير بالإجمال.
وجملة القول: إن المعرفة والنزوع والنقلة والشعور، أربع خصائص كبرى لا نظير لها في الحياة البدنية، بل لا أصل بالغا ما بلغ من الصغر والدقة، ومنها تتبين أصالة الحياة الوجدانية، وتهافت المذهب المادي بمختلف صوره. (4) الإحساس
هو أول عناصر الحياة الوجدانية، أعني أن أول معرفة تدخل إلى النفس هي معرفة حسية، وأول انفعال تتأثر به صادر عن مثل هذه المعرفة. فالإحساس هو الفعل الذي به يدرك الحس الظاهر موضوعه؛ وهو أيضا التأثر اللاذ أو المؤلم المصاحب لذلك الإدراك، والناشئ من تأثير الموضوع على الحاسة. ولكن الأفضل الدلالة على كل من المعنيين بلفظ خاص، فنقول: «انفعال» للمعنى الثاني. وكثير من الألفاظ يطلق هكذا على معنيين أو جملة معان، فينزلق الفكر إلى أغلاط قد تجر وراءها أحيانا أغلاطا جسيمة؛ مثلما يقال «الإدراك والتخيل والتذكر والعلم والمعرفة» ويراد بها فعل الشخص أو موضوع هذا الفعل، ويظن التصوريون أن الفعل ما دام ظاهرة وجدانية صادرة عن الشخص ومستقرة فيه، فالموضوع ظاهرة وجدانية كذلك لا حقيقة له في الواقع.
والواقع بالنسبة إلى الإحساس، أن للحواس موضوعا مشتركا هو الشيء المادي البادي لها بجميع مشخصاته، وأن لكل حاسة وجها معينا من أوجه الشيء المادي، تدركه بعضو مادي يصل بينها وبين الشيء، ولا تدركه حاسة أخرى بهذا الاعتبار؛ لأن العضو جهاز خاص معد لقبول الموضوع يمتد منه عصب إلى مركز دماغي، قال ابن سينا: «المحسوسات كلها تتأدى صورها إلى آلات الحس، فتنطبع فيها، فتدركها القوة الحاسة.»
3
ويسمى موضوع الحاسة بالكيفية. ولنا من الحواس بقدر ما ندرك من كيفيات محسوسة متمايزة بالنوع، ومعلوم أنها اللون والصوت والرائحة والطعم والصلابة والحرارة والبرودة. وللإحساس ثلاث مراحل: مرحلة فيزيقية كيميائية، وهي التأثير الخارجي والتغير الناتج منه في العضو؛ ومرحلة فسيولوجية، وهي مجاوبة العضو وتأثر الجهاز العصبي؛ ومرحلة وجدانية، وهي الإحساس بمعنى المعرفة والإدراك، وبين المعرفة أو الإدراك، والتأثر أو الانفعال، نسبة عكسية: فإذا كان الانفعال قويا أضر بالإدراك؛ فلكي يكون الإدراك تاما ينبغي أن يكون التأثير الواقع على الحاسة متناسبا، وأن يكون الانفعال معتدلا.
وتثير مسألة الإحساس مسائل علمية وفلسفية تضاربت فيها الآراء. لا نستقصيها جميعا، بل نقتصر على أهمها، وبخاصة من الوجهة الفلسفية.
فنعرض أولا لتشكيك التصوريين على اختلافهم في وجود موضوعاته، أي الكيفيات المحسوسة، فإنهم يقولون: لا يوجد في الخارج مقابلات لها شبيهة بها، وكل ما يمكن التسليم به، جدلا إن لم يكن اعتقادا، فهو أن في الخارج حركات، أو على الأكثر أسبابا غير شبيهة بالكيفيات، ولكنها تترجم بها فينا. نقول: نعم إن وجود الكيفيات مرتبط بالحركة، ولكن الحركة حاملة لها فقط، وليست وإياها شيئا واحدا؛ بل إن الحركات المقابلة لها تختلف اتجاها وسرعة، ولا يفسر هذا الاختلاف إلا بوجود الكيفيات وتمايزها فيما بينها كما تبدو في الوجدان، فالحركة مسبوقة بالكيفية معلولة لها، وهم يعكسون الآية. ولنا عليهم ردود قاطعة نجملها فيما يلي:
لكل ظاهرة وجدانية مضمون لولاه ما حدثت. هذا المضمون مستفاد من شيء حقيقي مغاير للوجدان وللظاهرة الوجدانية، وهو الذي يثير الوجدان إلى الفعل. إن انتباه الإنسان يتجه أولا إلى الخارج ولا يتجه إلى الوجدان إلا بعد ذلك؛ وسبق الخارج شرط تأثيث الذهن، وإلا فمهما انعكسنا على نفسنا فلن نجد في الذهن شيئا. فمن التعسف المحض أن يراد بنا الاحتباس في الوجدان وقطع كل صلة بالواقع. فإن المعطي لنا منذ أول الأمر هو الإنسان كله، لا الذهن من ناحية، والبدن وانفعالاته من ناحية أخرى؛ فتسمية الذهن أو الوجدان وحده بالأنا، وتسمية البدن باللاأنا، انقياد للتصورية لا سند له. واعتبار الظواهر الوجدانية وحدات قائمة بأنفسها، ثم التساؤل: كيف تركب فكرة الشيء أو الموضوع، هذه مسألة زائفة، وهذه فلسفة تصورية. كيف لا يعلمون أن مذهبهم هذا يجعل مدار العلوم على الصور الذهنية فقط، لا على أشياء واقعية ، فتسقط قيمة العلوم، فتصبح تطبيقاتها في صوالحنا لغزا من أغمض الألغاز، وكيف لا يعلمون أن مذهبهم يستتبع أن كل ما يعلم فهو حق عند الذي يعلمه، وأن المتناقضات صادقة معا، من حيث إنه إذا كان الذهن لا يدرك سوى تصوراته، فهو يدركها كما يستطيع، غير عابئ برأي الغير، غير معتمد على أصول يرجع إليها، فيصبح كل من الأذهان المختلفة عمدة نفسه. فلا مناص من الإقرار بأن الشيء ذاته هو المعقول أولا، وأن صورته معقولة ثانيا بالانعكاس على تعقله الأول.
نضيف إلى ما تقدم أن صدق الحواس من البداهة والبيان بحيث لا يفتقر إلى برهان، ولا يقام عليه برهان. أما أنه لا يفتقر إلى برهان؛ فلأن إنكاره إثباته؛ إذ إننا نرى الأعضاء مركبة تركيبا دقيقا عجيبا متناسبا مع التأثيرات، فندرك أنه كان يكون عبثا لو لم تكن الحواس مرتبة للموضوعات الخارجية بالطبع رامية إليها بالطبع، وليس من المعقول أصلا أن يذهب العبث أو تذهب المصادفة إلى هذا الحد. وأما أن لا يقام عليه برهان؛ فلأن كل برهان إنما يقوم على صدق التجربة، ظاهرة وباطنة، فإذا تشككنا في هاتين التجربتين استحالت علينا كل برهنة.
وأخيرا نتخذ دليلا عليهم من تناقضهم وتهافتهم، فإنهم يعللون الإحساسات إما بفعل النفس أو بفعل الله: ولكن النفس تشعر أنها منفعلة في الإحساس، فليست هي صانعة الإحساس، وإلا كنت تحس ما تريد، وهذا مخالف للواقع. وإذا كانت الإحساسات صادرة عن الله، فالوجدان يدركها كأنها صادرة عن الأشياء ذاتها، وهذا خداع بلا شك، وخداع قاهر يجعلنا نصدق بوجود الأشياء فنسعى إلى بعضها ونهرب من بعض آخر؛ ولقد كان من اللائق بالله أن يوحي إلينا في نفس الوقت أنها صادرة عنه تعالى. ثم نلاحظ أن ديكارت يسلم بوجود العالم بسبب الصدق الإلهي، مع أن وجود الله يستفاد من النظر في العالم، وهذا دور منطقي. والناس يقعون في أخطاء كثيرة والله يسمح باغترارهم، فكيف نثق بصدقه؟ ويعتقد مالبرانش بوجود العالم بناء على شهادة الكتاب المقدس، والكتاب معلوم لنا بالتجربة الحسية. ويذهب باركلي إلى أن الله يلقي في أنفسنا معاني الأجسام، والمذهب التصوري الذي يعتنقه يقول: إننا لا ندرك سوى تصوراتنا، فكيف لم ير أن الاعتقاد بوجود الله مجاوزة للتصور كالاعتقاد بوجود العالم سواء بسواء؟
ومن أمثلة تطبيق المذهب التصوري في علم النفس وفي مسألة الإحساس هذه، نظرية تدعى الطاقة النوعية للأعصاب، ومؤداها أن الكيفيات المحسوسة آتية من الأعضاء أنفسها لا من المؤثرات، وأن الإحساسات ترجع إلى الوحدة من جراء وحدة تركيب العالم من مادة وحركة، أي إن الأعضاء الحاسة يجاوب كل منها دائما على نحو واحد أيا كان المؤثر الخارجي؛ فسواء أقرصت الشبكية أو ضغطت أو تأثرت بموجات ضوئية أو صدمة آلية أو ضربة قوية على العين أو تيار كهربائي، فإن كل سبب من هذه الأسباب يحدث في العصب البصري إحساسا ضوئيا؛ والتيار الكهربائي إذا وقع على العصب السمعي أحدث إحساسا سمعيا، أو على البشرة أحدث إحساسا لمسيا، أو على اللسان أحدث إحساسا ذوقيا؛ واستنتجوا من هذا أن إحساساتنا المختلفة لا يقابلها شيء في الخارج.
نلاحظ أولا أن الأكمه لا يرى ضوءا إذا هيج عصبه البصري، وأن هذا حال كل فاقد حاسة منذ الأصل، فإنه فاقد الإحساسات والصور المقابلة لها والتي تظهر عادة عند التأثير؛ فليست المجاوبة النوعية فطرية في الأعصاب أو المراكز الدماغية، ولكنها مستحدثة بفعل الأعضاء الظاهرة التي هي مخصصة ومنوعة بتركيبها الخاص وبالتأثيرات المتفقة معها، أي بالكيفيات الخارجية؛ وبهذه المجاوبة تفسر المجاوبة النوعية على التأثير المخالف للعضو الحاس، أي بالعادة التي اتخذتها الأعصاب والمراكز الدماغية بالمجاوبة النوعية على التأثيرات المتفقة مع العضو الحاس. وعلى ذلك فحواسنا محتفظة بكل قيمتها؛ وفي الحالات العادية تجاوب وفقا لطبيعتها على تأثيرات متفقة معها.
وأراد بعض العلماء أن يقيسوا النسبة بين التأثير والإحساس، بل أن يقيسوا الإحساس ذاته، إذ لاحظوا أن الإحساس الطبيعي الجلي يتولد عن تأثير معتدل القوة هو حد بين حدين: أحدهما حد أدنى لا يحس لضعف التأثير، والآخر حد أقصى لا يحس كذلك لفرط التأثير؛ وبين الحدين مجال للزيادة التدريجية . أرادوا أن يطبقوا المقاس هنا أسوة بتطبيقه في علوم المادة، غير حاسبين الحساب الكافي لطروء النفس على بدن الحيوان والإنسان، ولاختلاف الحدين باختلاف الحواس والأشخاص وقوة أعضائهم وحالتهم المعنوية، فلم تفلح الجهود التي بذلت في هذا السبيل. من المعروف المعقول أن مصباحين يضيئان أكثر من مصباح واحد، وأن صوتين يدويان أكثر من صوت واحد، وأن الجهد الذي نبذله في رفع أقة أكبر من الإحساس الذي نشعر به عند رفع رطل، وقس على ذلك. ولكن من المشاهد أيضا أن كل زيادة في المؤثر لا تقابلها زيادة في الإحساس؛ فمثلا إذا أضفنا نصف رطل إلى نصف رطل أحسسنا به، ولا نحس بنصف الرطل إذا أضيف إلى قنطار. وإذا ضاعفنا عدد المغنين في قاعة ضاعفنا الصوت ولم نضاعف قوة الإحساس به. فالواقع أن قوة الإحساس لا تتبع في تزايدها تزايد كمية المؤثر، بل إنها أبطأ منها. وما يقال في التزايد يطلق أيضا على التناقص.
اصطنعوا طريقتين: إحداهما سميت الطريقة النفسية الفيزيقية
psycho-physique ؛ لأن الغرض منها قياس المؤثرات من جهة، وملاحظة الإحساسات الناجمة عنها من حيث القوة والضعف من جهة أخرى. والمشهور بهذه الطريقة العالم الألماني فيبر
welber (1795-1878). وقد خرج من تجاربه بهذه النتيجة وهي: أن ما تجب إضافته إلى المؤثر لإحداث فرق في الإحساس هو بنسبة مطرد إلى كمية المؤثر، فكلما كان المؤثر قويا وجب أن تكون الزيادة كبيرة؛ وهذه النسبة هي: 100 / 1 لإحساس الضوء؛ و17 / 1 للإحساس العضلي؛ و3 / 1 لإحساسات الثقل والحرارة والصوت؛ فإذا فرضنا شخصا يحمل ما زنته 170 درهما، فالزيادة التي تجب إضافتها هي 10 دراهم؛ وإذا كان يحمل 1700 درهم أو 17000، كانت الزيادة 100 و1000 على التوالي، من حيث إن النسبية الثابتة هي 17 / 1 - وقد سمي هذا بقانون فيبر.
والطريقة الثانية سميت الطريقة النفسية الفسيولوجية
؛ لأن الغرض منها تعرف ما يقابل الظواهر الوجدانية من تغيرات بدنية حاصلة في التنفس والدورة الدموية والإفراز وحركات العضلات في حالات العمل العقلي والفراغ منه والحزن والسرور والغضب وما إلى ذلك، وتعيين عضو أو مركز عصبي لكل واحدة من الوظائف الوجدانية بملاحظة ما يطرأ على الوظيفة من اضطراب بسبب ما يطرأ على الجزء العصبي من جرح أو بتر في التجارب التي تعرض للإنسان، أو التي تجري على الحيوان، ويمكن تطبيق نتائجها على الإنسان، لما بينهما من تشابه في الحياة الحسية. والمشهور بهذه الطريقة عالم ألماني كذلك هو فخنر
Fechner (1801-1887) أقام على قانون فيبر نظرية في مقاس الإحساسات أنفسها. وليس فقط مقاس قوة المؤثرات، فاعتبر الفروق المقابلة للزيادات في المؤثرات متساوية كأنها وحدات حسية، وصاغ قانونا بهذه العبارات الرياضية: إذا ازداد المؤثر بنسبة التصاعد الهندسي، ازداد الإحساس بنسبة التصاعد الحسابي. والتصاعد الحسابي سلسلة أعداد كل واحد منها يساوي العدد السابق مجموعة إليه أو مطروحة منه كمية ثابتة؛ فمثلا: 1-2-3-4 إلخ تؤلف تصاعدا حسابيا الكمية الثابتة فيه هي 1. والتصاعد الهندسي سلسلة أعداد بين كل منها وبين العدد السابق نسبة ثابتة، أي إن كلا منها يساوي العدد الذي قبله مضروبا في كمية ثابتة؛ مثال ذلك الأعداد الآتية: 2-4-8-16-32-64 إلى ما لا نهاية على هذا القياس، تؤلف تصاعدا هندسيا كميته الثابتة هي 2.
هذان القانونان منتقدان من وجوه:
أولا:
أن الزيادة الواجب إضافتها بحسب قانون فيبر ليست مطلقة مؤسسة قانونا عاما لجميع أنواع الإحساسات، وإنما هي نسبية تابعة لكمية المؤثر، غير منطبقة على الإحساسات، وليس القانون العلمي نسبيا.
ثانيا:
أنها أمعن في النسبية، إذ إنها تقريبية، ولا يصح إطلاقها في جميع الحالات، لاختلافها باختلاف الأشخاص، وفي الشخص الواحد باختلاف ظروفه البدنية والمعنوية، من قوة وضعف ومران وانتباه.
ثالثا:
إن فخنر يزعم أنه يقيس الإحساس، ويعتبره كمية متصلة قابلة للقسمة إلى أجزاء متساوية، والحقيقة أنه فعل وجداني بسيط غير منقسم وغير قابل للمقاس، وأن ما يحدث عند زيادة قوة المؤثر، ليس تزايد شدة الإحساس، بل إحساس بالزيادة، أي: فعل وجداني جديد، فإن الإحساسات لا تحدث إلا متتالية، فلا يمكن أن تتزايد أو تتناقص؛ وإذا جاز لنا أن نقول: إن إحساسا أقوى أو أضعف من إحساس آخر، فإن الناس جميعا يدركون أن من العبث محاولة تقدير الفرق بينهما تقديرا رياضيا.
رابعا:
أن المقارنة الكمية بين إحساسين أو أكثر أمر مستحيل، لاستحالة وجود وحدة حسية تتخذ مقياسا، أي لاستحالة وجود إحساس ثابت يستخدم كوحدة في المقاس والمقارنة، فإن الحواس مختلفة فيما بينها بالنوع أو الكيفية، وليس يوجد شبه قريب أو بعيد بين اللون والصوت والرائحة والطعم والصلابة، بل أيضا في كل حس توجد فروق كيفية بين موضوعاته، كما بين الأبيض والأحمر، والحلو والحامض، والخشن والأملس؛ هذا فضلا عما بين الأشخاص من تباين تبعا لتباين شدة الإحساس واستعداداتهم البدنية والمعنوية المتقلبة الحائلة دون ردها إلى الوحدة.
وقد كان البعض عقدوا آمالا كبارا على هاتين الطريقتين، وتوقعوا أن يصلوا بهما إلى قوانين ثابتة معبر عنها بأرقام، فيصبح علم النفس علما «ماديا»، ولكنهم لم يوفقوا إلا لنتائج تافهة، لمنافاة الظواهر الوجدانية لشروط الاختبار المادي، فكانت هذه هزيمة أخرى للماديين.
وثمة مسألة ربما كان المذهب التصوري السبب في إثارتها، وهي: أين يتم الإحساس؟ إن الناس كافة يشعرون أنه يتم في الأمكنة من البدن التي يحدث فيها التأثير. ولكن علماء كثيرين يعتقدون أنه يتم في الدماغ حيث ينقل التأثير؛ وقد يكون الباعث لهم على انتحال هذا الرأي قول ديكارت: إن الإحساس فكر، وإنه فعل النفس بمفردها، وإن النفس في الغدة الصنوبرية. ولهم دليل علمي هو أنه إذا قطعت الصلة بين ألياف الحاسة والدماغ، فلا يكون إحساس. ويؤيدون ذلك بأن المبتور له عضو يحس ألما أو لمسا عضليا في الجزء المفقود، وهذا وهم طبعا. فيستنتجون أن ليست الأعضاء حاسة، بل إن وظيفتها قاصرة على تأدية التأثير إلى الدماغ.
هذا الرأي ليس بأسعد حظا من الآراء السابقة. إن الإحساس يتم في مكان التأثير، وأول الأدلة على ذلك ما نشعر به في غاية الوضوح في الحواس السفلى؛ الشم والذوق واللمس، فنركز الإحساس بالرائحة في المنخرين، والإحساس بالطعم في اللسان والحلق، والإحساس بالصلابة في الموضع من البدن الذي يقع عليه اللمس؛ ولا بد أن يكون الأمر في البصر والسمع على هذا القياس. ثانيا : يثبت ذلك، من جهة واحدة، أن العضو جهاز مخصوص مركب لتأدية وظيفة مخصوصة ، ولو لم يكن هو الحاس وكان مجرد واسطة لنقل التأثير إلى الدماغ لما احتاج إلى هذا التركيب؛ على حين أن الدماغ غير مخصص أو هو أقل تخصصا، ومن ثمة أقل كفاءة لإدراك الكيفيات المتباينة؛ ومن جهة أخرى إن المحروم عضوا منذ الأصل لا يحس الإحساسات المقابلة لهذا العضو، وهو لا يحسها إذا هجنا فيه عصب الحاسة أو مركزه الدماغي. ثالثا: إن انتزاع مخ الحيوان أو تعطيله لا يؤثر في الحساسية، وقد دلت التجارب التي أجريت على الضفادع والعصافير على أنها تجاوب بحركات على التأثيرات، فهي إذن تحس هذه التأثيرات، إن لم تكون منها صورا؛ وليس الدماغ ضروريا، ويكفي النخاع الشوكي لضمان الصلة بين الأعصاب الحاسة والأعصاب المحركة؛ ومن التجارب المذكورة في كتب علم النفس بتر جولتز
Goltz
مخ كلب واسبقاؤه حيا ثمانية عشر شهرا. ففقد كل مهارة في تحريك رجليه الأماميتين، وفقد الحركات المركبة المكتسبة، ولم يكتسب غيرها، ولم يكن يأكل من تلقاء ذاته، ولكنه كان يضطرب إن طال صومه، ولكنه كان يجاوب على الأضواء القوية والأصوات الحادة، وعلى الخصوص الإحساسات اللمسية، بحركات دفاعية، ولم يكن يعرف الناس ولا الحيوانات ولا الأشياء. وفي هذه التفاصيل إشارات إلى وظائف الدماغ ووظائف الحواس. رابعا: لنا في الأبله التام من بني الإنسان، أو الذي في الدرجة الأولى من البله، شبيه بهذا الكلب، فإن وظائفه المحركة جد مختلة، وهو من الجمود بحيث لا يبين عن حاجته للغذاء، ولا بد من إبلاغ غذائه إلى مدخل البلعوم وحينئذ يزدرده، والازدراد فعل منعكس لا يتطلب تفكيرا ولا إرادة؛ ومع ذلك فهو متمتع بحواسه جميعا، كما يثبت من التشريح بعد الوفاة، ويجاوب على التأثيرات الخارجية، فهو إذن يحسها. خامسا: إن الخطأ المأثور عن ذوي الأعضاء المبتورة يؤيد رأينا ولا ينقضه، فإن هذا المدعو خطأ يظهرنا على أن اشتراك العضو في الإحساس أمر توحي به الطبيعة وترسخه العادة، حتى إنه يستمر بعد فقدان العضو؛ ثم إنه متقطع وليس متصلا، إما بسبب الإحساسات السابقة وتوهم أن هذه الذكرى إحساس حاضر، فتركز في العضو كما كانت تركز الإحساسات السابقة، وإما في انقباض عضلات مجاورة للجزء المبتور، وإضافة الإحساس بهذا الانقباض إلى العضو المفقود، إذ يندر أن يتحرك عضل دون أن تنقبض عضلات أخرى قليلة أو كثيرة؛ وربما كان العصب أو طرف العضو المبتور قابلا للتحريك، فلا يكون هناك وهم أو تأويل، بل إحساس صحيح، وبعد فهذه إحدى مسائل اتحاد النفس والبدن، فلها إذن شأن كبير. (5) التخيل والتذكر
يترك الإحساس أثرا في الذهن، فنتمثل هذا الأثر في اليقظة والمنام، ثم نحلله ونركب عناصره تركيبا آخر، فنتخيل أشياء ممكنة فقط، كإنسان يطير، أو شخص واحد نصفه إنسان ونصفه فرس. فالمخيلة هي القوة التي تحفظ صورة ما يرد على الحواس الظاهرة، وتتمثلها في غيبة موضوعها، وتعمل فيها بالتفصيل والتركيب بإشراف العقل وتوجيهه. ولئن كان اسم الصورة مأخوذا من البصر، فإنه يطلق على سائر الآثار الذهنية، إلا أن الصور البصرية أقوى وأوضح وأكثر عددا، وأن الناس يترجمون عن أفكارهم وعواطفهم بالأشكال والألوان، ولا يكادون يستخدمون الأصوات والطعوم والروائح إلا في موضوعاتها، فيقال: صور سمعية وشمية وذوقية ولمسية.
وللصورة فينا نفس مفاعيل الإحساس البدنية والوجدانية، وإن تكن عادة أضعف منها، وقد تكون أشد في الحالات المرضية. ومفاعيل الصور هذه أبرز الشواهد على تعلق المخيلة بالبدن، أي بالجهاز العصبي والدماغ. إذا قويت الصور في الحلم أو في التخيل نشأت عنها حالة «الروبصة»، أي التحرك والتكلم في النوم. والتخيل القوي لصورة زاهية يتعب العصب البصري ويثيره مثلما يثيره الإحساس القوي من صور لاحقة إيجابية وسلبية. وحينما نتخيل شكلا من ستة أضلاع مثلا أو سبعة أو ثمانية نشعر أننا نحاول القيام بحركات بقدر الأضلاع. والذي يفكر في لون من الطعام مستملح يجري ريقه ويترطب لسانه؛ والذي يفكر في طعام مستهجن يشمئز وينفر. ومن باب أولى تخيل الحركات يولد فينا حركات من نوعها، مثلها إذا تخيلت شيئا واقعا إلى يميني، تخيلت الحركة اللازمة لتناوله؛ وحدث في ذراعي تهيؤ لذلك. وكل ما نتخيله فهو يبدو في عضلاتنا وأعصابنا: من هذا القبيل عدوى الضحك والتثاؤب؛ وانتقال حركات الممثلين واللاعبين في مختلف المباريات إلى جسمنا. والمنومون صناعيا إذا وضعناهم في هيئة معينة بعثنا فيهم الحركات المقابلة لها، فهيئة الصلاة وهيئة الغضب وهيئة السرور تبعث كل منها ما تستتبعه من حركات في الحياة الحقيقية؛ وبعكس ذلك لو أوحينا إليهم بفكرة الشلل سقطت الذراع على طول الجسم وانعدمت كل حركة. وكان «كمبرلند» يدعي قراءة الأفكار، وما كان يصنع في الواقع إلا تتبع انقباض عضلات الشخص وانبساطها. هذا قليل من كثير أوردناه لفائدته في مسألة اتحاد النفس والبدن العظيمة الأهمية في الفلسفة، وتيسيرا لمعالجة بعض المسائل الفلسفية الخاصة بالصور.
قبل هذه المعالجة نقول كلمة في الذاكرة؛ كي نلم بموضوع الصور في جملته. فإلى الحفظ والاستعادة ينضاف الذكر، أي الشعور بأن الشيء الذي نتمثل صورته أو نحسه قد سبق إحساسه في وقت ما. وهذا الشعور عبارة عن استئناس وألفة لا يتفقان لنا أمام المدركات الجديدة. وقد تعود الصورة إلى الذهن ولا يصاحبها هذا الشعور فنظنها تخيلا؛ أو يصاحبها شعور ناقص فلا ندري إن كانت تذكرا أو تخيلا؛ أو ينضاف إليها خطأ فنحسبها تذكرا. فالذاكرة قوة متمايزة من المخيلة تزيد عليها الذكر وتعيين الزمان. والذكر إما أولي يتم عفوا في الحيوان والإنسان، أو إرادي يتم بالتفكير، في الإنسان لافتراضه الانعكاس على الذات والبحث والمقارنة وفكرة الزمان، مما يعلو على إدراك الحيوان وليس موضوع البحث مجهولا كل الجهل، وإلا لم يكن موضوع بحث. ولكنه معلوم في صلته بحالة حاضرة، فهو عبارة عن فراغ في الذهن نشعر به شعورا واضحا، ونشعر بأنه لا يمتلئ إلا بالشيء المطلوب، وقد تتردد في الذهن أشياء أخر ونشعر أنها ليست هي المطلوبة.
كيف تحفظ الصور؟ فإن الماديين يزعمون أن الصور الكامنة ضرب من الطوابع أو الرسوم المادية في الدماغ يبعثها من كمونها مرور التيار العصبي بها، ويطلقون عليها أسماء أخرى فيقولون: تغيرات دماغية، وآثار دماغية وتألقات بمعنى أن التألق إضاءة جسم في الظلمة دون اشتعال ولا حرارة. ويسرف بعضهم فيتخيل كل صورة منزلة في خلية من خلايا الدماغ. وكل هذا سذاجة يمتنع وصفها. إنه لخطأ شنيع أن نتصور المخيلة خزانة لصور تظهر في الشعور وتعود إلى الكمون بحسب جريان التيار العصبي. إن الصور من حيث هي صور أو مثل للأشياء لا توجد إلا في اللحظة التي نتأملها فيها، وكلما تجدد التأمل تجددت هي أيضا، أي خرجت من القوة إلى الفعل؛ إذ ليست الصور الكامنة موجودة إلا بالقوة، أي إنها استعدادات نفسية يتركها فينا الإحساس، أو هي كفاية المخيلة للتخيل، وإن كان لهذه الكفاية أساس وشرط في الدماغ ماهيته مجهولة، والأسماء التي وضعوها لها قاصرة عن تبيان حقيقته.
هذه النظرية المادية لا تحسب أقل حساب لما بين الظواهر الفسيولوجية والظواهر الوجدانية من تباين حاسم، ولا تكشف عن سر بقاء الصور مع تغير الخلايا العصبية تغيرا متصلا، وإذا كانت الصور تتغير هي أيضا فلا نستعيدها كما قبلناها بالتمام، بل تعود فاقدة بعض التفاصيل، أو بالعكس كاسبة تفاصيل أخرى، فليس ذلك من أثر التيار العصبي أو مسالك انتشاره كما يقولون، بل من أثر ما نعيرها من اهتمام وانتباه، أي من أثر الجانب الوجداني. وليس قولنا إن الصور تتطور، وتنتظم في مجاميع، وتتداعى، وتعود وتأتلف ... إلخ إلا من قبيل إسناد فعل الفاعل إلى المفعول؛ إذ ليس للصور وجود ذاتي، وإنما ترجع هذه الأفعال جميعا إلى الشخص المتخيل وأحواله الخاصة.
وفي أواخر القرن التاسع عشر توصل الماديون إلى تطبيق لمذهبهم ظنوه الدليل القاطع على صدقه، وذلك بإقامة نظرية دعوها «نظرية الأمكنة الدماغية»، وكان أشهر القائلين بها الدكتور بروكا
Broca ، وقد أعلن أنه وفق إلى تحديد مراكز في الدماغ لوظائف النطق والكلام، وأن من المستطاع تحديد مركز لكل وظيفة وإرجاع مختلف الصور إلى مناطق معينة من الدماغ؟ فكان لهذا الإعلان حظ عظيم من الاهتمام والرواج، وانتعش به «علم الفراسة» على نحو عجيب.
4
والحقيقة أن هذا الرأي قديم، وقد اصطنعه غير الماديين، ونحن نجتزئ بما أورده ابن سينا، فإنه يعين للحس المشترك مكانه في أول التجويف المقدم من الدماغ، وللخيال والمصورة في آخر هذا التجويف، وللمخيلة في التجويف الأوسط من الدماغ عند الدودة، وللقوة الوهمية في نهاية التجويف الأوسط من الدماغ. وللحافظة الذاكرة في التجويف المؤخر من الدماغ.
5
وليس يهمنا تحديد معاني هذه القوى، وقد تراوحت واختلفت عند ابن سينا نفسه؛ وإنما المهم محاولة تعيين أحيازها. وظلت هذه النظرية موضع أخذ ورد إلى أن أتاحت الحرب العظمى الأولى مشاهدات عديدة لجروح دماغية أثبتت فسادها.
أظهرت هذه المشاهدات؛ أولا: أن بعض الجرحى الذين فقدوا ثلث دماغهم استمروا على مزاولة جميع قواهم الذهنية. ثانيا: أنه لا يوجد أي مركز أصيل للغة ملفوظة أو مكتوبة، لا في أسفل التجويف الثالث لمقدم الدماغ اليساري، كما ادعى بروكا، ولا في منطقة أخرى؛ وإنما توجد مراكز مستحدثة. ثالثا: أنه وجدت حالات لفقدان النطق دون جرح في المركز الذي عينه بروكا، وحالات كان فيها هذا المركز مصابا دون اضطراب في النطق. رابعا: أن النسيان، سواء كان نتيجة إصابة في الدماغ، أو نتيجة ضعف الدماغ ضعفا عاما، يبدأ بأسماء الأعلام، وينتقل إلى أسماء النعوت أو الصفات ... إلخ تبعا لطوائف الأسماء، لا على نحو مجموعي للأسماء المكتسبة في وقت واحد كما تقتضي النظرية. خامسا: أنه إذا عطب المركز المستحدث فقد تقوم بوظيفته منطقة أخرى مجاورة دعيت لذلك بالوظيفة «الغائبة»
fonction vicariante ؛ مما يدل على أن ليس هناك مراكز تولد الوظائف، وأنها هي الوظائف التي تولد المراكز وتنظمها، وأن لفظ المركز يجب أن يؤخذ بمعنى واسع جدا. فسقطت هذه النظرية في ميدان العلم.
وللماديين نظرية في استعادة الصور، اشتهر بها خاصة الفلاسفة الإنجليز من الحسيين، هيوم وجيمس مل وجون ستوارت مل وألكسندر بن وهربرت سبنسر، بنوها على المشاهد من عودة الصورة إلى الذهن بمناسبة إحساس أو صورة أخرى حاضرة فيه. ومعلوم أن النسب بين الصور تتوزع إلى طائفتين: جوهرية وعرضية. النسب الجوهرية قائمة على ماهيات موضوعات الصور، كنسب الجوهر والعرض، والعلة والمعلول، والمبدأ والنتيجة، والغاية والوسيلة، والجنس والنوع، والجزء والكل. وما إلى ذلك؛ والنسب العرضية قائمة على أعراض في الموضوعات أو في الذهن، وهي ثلاث محصورة لدى أفلاطون في محاورة «فيدون» ولدى أرسطو في «رسالة الذكر والتذكر»، فإن الموضوعات قد تكون متشابهة أو متضادة أو متقارنة في المكان والزمان؛ وقد يكون التشابه والتضاد في ذات الشخص المدرك، كما لو آثر لونين من الطعام فإنهما يتشابهان لديه من هذه الناحية، أو آثر لونا وكره آخر فإنهما يتضادان لديه بهذا الاعتبار. وثمة نسبة مأثورة منهم هي الاقتران، لبعدها عن الوعي الصريح وقربها من الآلية، فإن إحدى صورتين مكتسبتين في مكان واحد أو وقت واحد، غالبا ما تستدعي الأخرى، لا لشبه أو تضاد بينهما، بل لمجرد الاقتران.
وبناء على هذا ردوا إليها سائر النسب: الجوهرية منها لكونها مقترنة في الإدراك؛ والمتضادة لهذا السبب؛ ولأن المتضادين يجتمعان تحت جنس واحد، كالأبيض والأسود تحت جنس اللون؛ والمتشابهة أخيرا فإنها هي أيضا تجتمع تحت أجناس، فإنها تتشابه بعنصر معين مندمج في كل منها، فيجعلها مقترنة في الذهن. ويتصورون الإحساسات كالذرات العنصرية لها خصائصها تدفعها إلى التداعي والتجمع، وبهما تفسر جميع الأفعال الذهنية المركبة، بحيث تعود الحياة الوجدانية ضربا من العادة الآلية، كلما ظهر فيها حد أيقظ حدا آخر.
أول ما نأخذه على هذه النظرية خلط أصحابها بين شروط قبول العودة وشروط العودة الفعلية: إن النسب المذكورة تهيئ الصورة للعودة؛ ولكن الواقع أن الصورة الواحدة تدعو إلى الذهن صورة أخرى دون سائر الصور المرتبطة بها. فما السبب في ذلك؟ ليست الصور هي السبب، فإن النسبة موجودة بين كثير منها، وقد أوضحنا أن الصور ليست مماثلة في الذهن بما هي صور، ولكن الذهن هو الذي يبعثها من كمونها ويمنحها الوجود في التصور. السبب هو الشخص ذاته، فإنه يدعو من الصور ما له به حاجة وما يقابل اهتمامه، وهذا الاهتمام ناشئ من استعداداته الفطرية وكفاياته المكتسبة وظروفه المعيشية والمعنوية، فتختلف الصور المدعوة باختلاف الأشخاص، كما نرى مثلا منظرا طبيعيا معينا يوحي بأفكار وعواطف مختلفة للمزارع والتاجر والفنان والعالم بطبقات الأرض. ونأخذ عليهم أيضا ظنهم أنهم ردوا النسب إلى نسبة التقارن؛ وإذا سلمنا بصحة ما قالوه بهذا الصدد، يبقى أن نسألهم: كيف يفسرون الشعور بالتقابل الذاتي بين النسب الجوهرية، والشعور بالتشابه والتضاد حيث يوجدان؟ وفي هذا الكفاية للدلالة على نشاط الفكر واستحالة الآلية فيه. (6) حياة الحيوان
جميع القوى المذكورة آنفا، وجميع أفعالها، تؤلف الحياة الحاسة المشتركة بين الإنسان والحيوان فنعود ونذكر «القوى» برغم معارضة الحسيين والتصوريين، فليست تفسر الأفعال المتنوعة إلا بمبادئ متنوعة أو قوى متمايزة فيما بينها، ومتمايزة من جوهر النفس؛ لأنها لا تفعل دائما، والنفس تظل بالفعل ما دام الحي موجودا. إنهم ينكرون القوى ولا يزالون يتحدثون عن وظائف وكفايات واستعدادات وميول، فأين الفرق بين ألفاظهم وألفاظنا؟
ومعظمهم ينكر الحياة على الحيوان، ويجعل منه مجرد آلة. ويتخذون من الغرائز أدلة على الآلية، فإن الغريزة من الجهة الواحدة استعداد فطري لصناعة معينة في جميع أفراد النوع، فيأتون مفعولا معينا بوسائل معينة لا يغيرها الحيوان إلا في النادر تحت ضغط الظروف، فهي استعداد تام منذ ميلاده، وهو لا يتردد في عمله الغريزي ولا يخطئ، حتى إن العصفور الذي يفقس في حاضنة وينشأ في قفص، يبني عشا إذا ما حصل على المواد اللازمة وهو بغير حاجة إليه، وإن من الحشرات أنواعا يهلك أفرادها قبل نقف ديدانها وتعد المكان والمئونة لهذه الديدان التي لن تراها، ونشأ النسل والغريزة فيه تامة، مما يدل قطعا على أن الغريزة عمياء، أي إنها آلية. ومن جهة ثانية الغريزة إدراك معنى غير محسوس في المحسوسات، حيث لا يدرك الحس الظاهر سوى الهيئات والمؤثرات الفعلية؛ مثل إدراك الشاة أن الذئب مهروب منه؛ وليس يتسنى للحيوان إدراك غير المحسوس، فليست تصح التسمية بالإدراك، وإذن يرجع الأمر إلى عمل آلي.
إذا كانت الغريزة هكذا فكيف تعلل؟ هنا يزهو الحسيون بتعليلهم، وقد جاء في أوضح صورة عند كوندياك، إذ استبعد أولا فكرة القوة الفطرية، والمذهب الحسي ينفر منها خشية الاضطرار إلى التسليم بفاطر غير منظور؛ وزعم أن الحيوان يكتسب كل ما يعرف ويعمل ، وأن الغريزة ثمرة التجربة الفردية، أي إنها عادة مكتسبة بالتفكير على ما بينه هو ابتداء من أبسط إحساس، ثم سقط عنها الشعور كما يسقط عن كل عادة. وبمثل هذا قال أصحاب نظرية التطور، أي بأن الحيوان كان في الأصل خلوا من كل غريزة، ولكن جهاده لحفظ بقائه دفع به إلى أن يلائم بين حاله وبين البيئة، وكان الفعل العكسي أول محاولة في سبيل هذه الملاءمة، فكرره وزاد عليه، فتأصل فيه بالتكرار، وصار عادة متوارثة؛ فالغريزة فعل عكسي مركب وعادة وراثية كونها النوع بتأثير القوى الطبيعية، وأضحت فطرية تامة في الأفراد.
هذا الرأي منتقد من وجوه، ونقده يقودنا إلى تحديد فكرة الغريزة:
الوجه الأول:
أن الفعل العكسي حركة بسيطة فسيولوجية بحت، والغريزة الصناعية مجموعة متنوعة فسيولوجية ونفسية (على ما سنبين فيما بعد) مرتبة لغاية معينة، ومهما يقل أصحاب التطور فمن المحال أن يخرج المتنوع من المتجانس، كما يستحيل أن يأتلف الكثير في واحد اتفاقا ومصادفة. وتبعا للطبيعة الفسيولوجية للفعل العكسي، فإن سببه تأثير فيزيقي كيميائي يقع على أديم الجسم؛ وتبعا للطبيعة النفسية للغريزة فإنها صادرة من باطن، وإذا ما صدرت عقب تأثير خارجي فليس هذا التأثير علة لها، وإنما هو فرصة ومناسبة.
الوجه الثاني:
أن الغريزة ضرورية لصيانة الحيوان وحفظ نوعه، فكيف تسنى له أن يحيا قبل اكتسابها، وهذا الاكتساب يستلزم أجيالا متطاولة بإقرار التطوريين أنفسهم، والأفعال التي تؤلف الغريزة الواحدة لا يفيد كل منها إلا مجتمعا مع سائرها، وإذا أخذ على حدة لم تتحقق به نتيجة فهو إذن غير مفيد، وليس هناك ما يدعو إلى تكراره، وهو لا يترك في جسم الحيوان أثرا ينتقل بالوراثة.
الوجه الثالث:
أن الغريزة قابلة لبعض التعديل والتنوع، فهي ليست آلية، وأقرب الأمثلة على ذلك العنكبوت حين تشكل نسيجه حسب المكان المتوفر له، والعصفور حين ينوع المواد التي تتفق له لبناء عشه، وكلب الماء حين يراعي في بنائه اتجاه التيار ومستوى الماء والمسافة من سكنى الإنسان. يضاف إلى ذلك في الغريزة الصناعية أن الغريزة المسماة إدراكا لمعنى غير محسوس هي في الحقيقة إدراك من حيث إنها تتناول موضوعا مخصوصا بشكل مخصوص مدركا بالحس الظاهر، فإذا كان للحيوان إدراك ظاهر فلم نأبى عليه الإدراك الباطن؟ لذا لا يعرف بالحركة، ظاهرة في النقلة، وباطنة في الفعل العكسي، فإن النقلة قاصرة على بعضه وإن منه الثابت في الأرض كالنبات؛ وإنما يعرف الحيوان بالحس لاشتراكه فيه بدون استثناء، فحاسة اللمس حاصلة لجميعه، فيقال للنفس الحيوانية: حاسة؛ وباقي الحواس موزع على باقي الحيوان.
الوجه الرابع:
أن الغرائز تختلف باختلاف الأنواع الحيوانية وأحوال المعيشة في البيئة الواحدة، فهي لم توجد بفعل العوامل الطبيعية كما يوجد الآليات، ولكنها وجدت حية تغتذي وتنمو وتتناسل، وهذه أفعال مباينة للآلية كل المباينة كما أوضحنا. ولها أعضاء شبيهة بأعضائنا الحاسة، وجهاز عصبي شبيه بجهازنا، وهما قوام الحياة الحاسة فينا، مدركة ونازعة، فإذا لم يدلا على حياة مثلها كانا عبثا غير معقول أصلا. الواقع أنه يبدي علامات معرفة حسية، من إحساس وتخيل وتذكر وانفعال، يحدق البصر في الأشياء ويرهف السمع ويتذوق الطعوم، وهو يشعر بحاجات باطنة، ويدرك الموضوعات الكفيلة بقضائها. وعن معارفه تنشأ الانفعالات، من محبة وكراهية وغضب وسرور واللذة والألم والحقد والأمانة ... إلخ.
بيد أنها غير مكتسبة بالتفكير، كما ظن كوندياك؛ إذ لو صح ظنه للزم أن لبعض الحيوان، كالنحل مثلا، عقلا مساويا لعقل النوابغ من بني الإنسان، لما تشهد به خلاياه من معقد الهندسة ودقة الصنعة؛ وإذا لاحظنا أن أدهش الغرائز توجد لدى الحشرات - أي لدى الحيوانات التي هي في أسفل دركات المعرفة - ازددنا استبعادا لهذه القضية؛ ولا يمكن أن يقال: إن الحشرات تتعلم الواحدة منها بمحاكاة أبويها، فإن أنواعا منها يولد أفرادها بعد هلاك الأبوين فتنشأ والغريزة فيها تامة. ثم إن الحيوان يعمل على نحو واحد في كل نوع بينما أفعال الإنسان متنوعة للغاية، وما علينا إلا أن نلقي النظر على حضاراته الحاضرة والماضية، فنجد أنه غير سطح الأرض بالفنون والعلوم، فإن العقل مرن يمتد إلى موضوعات كثيرة، وينوع الغايات والوسائل، وينتفع بالتجارب، فيترقى ويخترع، والحيوان غبي كل الغباوة فيما عدا الغريزة. ويكفي هذا الآن، وسنعود إلى المسألة عند الحديث عن العقل الإنساني في الفصل التالي. أجل إن الغريزة تدل على عقل؛ لأن العقل وحده يتصور الغايات ويهيئ لها الوسائل؛ ولكنه ليس عقل الحيوان لما تقدم من علوها على مقدرته؛ فينبغي أنها أثر من آثار العناية الإلهية، فإنها جزء من ماهية الحيوان، متسقة مع تركيبه، ضرورية لحياته.
الحيوان حاصل إذن على وظائف الحياتين، النامية والحاسة، فهل يؤدي وظائف كل حياة منهما بنفس متمايزة من الأخرى، أم يؤديها جميعا بنفس واحدة؟ الجواب: يستخلص أولا من نظرية تجوهر الأجسام التي تبين وحدانية الصورة الجوهرية في كل جسم طبيعي. ويعزز بأدلة خاصة: فأولا تكوين البدن الحي يتم بتكاثر الخلايا، ويرجع هذا التكاثر إلى الاغتذاء، أي: إلى الحياة النامية، ففي تكوين النفس النامية للحيوان بأعضائه الحاسة مجاوزة لنطاق هذه النفس، فيتعين تعليله بفعل نفس نامية حاسة معا. ثانيا: الشعور بالجوع والعطش عنصر ذاتي في الحياة النامية للحيوان، وهذا لا يمكن تفسيره إذا افترض للحيوان نفسان. ثالثا: الاتصال الوثيق بين الحياتين، فإن الحيوان يستخدم أفعال الحياة الحاسة من معرفة وانفعال ونزوع وحركة، لخير الحياة النامية، من اغتذاء وتوالد ودفاع عن الذات، فالحياتان متضامنتان صادرتان عن أصل واحد.
على أن النفس الحيوانية ليست صورة قائمة بذاتها، ولكنها صورة متعلقة بالمادة، يدل على ذلك أن أفعال الحيوان صادرة عن قوى عضوية متعلقة بالمادة تعلقا ذاتيا، وإذا اقتصرنا على الإحساس منها قلنا: إنه فعل المركب من النفس والجسم، لا فعل النفس وحدها، أو الجسم وحده؛ العضو هو الشرط المادي للإدراك الحسي، وهذا الإدراك وظيفة نفسية؛ وكما أن النفس صورة الجسم، كذلك القوى الحاسة صور الأعضاء؛ حالما ينفعل العضو كالعين مثلا تنفع القوة الحاسمة التي هي البصر من حيث إنهما شيء واحد، فلا «جسر» بين الاثنين ولا انتقال من الظاهرة العصبية إلى الظاهرة الحسية، كما يظن الماديون والتصوريون على تعددهم. يلزم عن ذلك أن النفس الحيوانية متعلقة بالمادة في وجودها كما هي متعلقة بها في أفعالها، فإذا ما وجد الحيوان خرجت هي من «قوة المادة» كالعناصر الجمادية؛ وإذا ما هلك الحيوان عادت هي إلى «قوة المادة»، فللحيوان حياة حقة متوسطة بين النبات والإنسان: يشترك مع النبات في الحياة النامية، ويشترك مع الإنسان في الحياة الحاسة؛ ولسنا نرى مبررا البتة لاعتباره مجرد آلة.
هوامش
الفصل الرابع
الحياة الناطقة
(1) العقل
فوق الحياة الحاسة الحياة الناطقة تزيد على قواها المذكورة آنفا قوتين اثنتين: أولاهما قوة إدراكية هي العقل، والثانية قوة نزوعية هي الإرادة. وقد أثبتنا فرقا جوهريا بين المعرفة العقلية والمعرفة الحسية، مع الحرص على إبقاء الصلة بين العقل والحس بإبقاء الصلة بين النفس والجسم، فسلكنا طريقا وسطا بين المذهب الحسي الذي يرد المعرفة العقلية إلى معرفة حسية مركبة، وبين المذهب التصوري الذي يجعل من المعرفة بنوعيها مجرد تصور عديم العلاقة بالتجربة الخارجية. وبينا في كتاب «العقل والوجود» قيمة أفعال العقل، من تصور ساذج وحكم وقياس واستقراء، فلن نصنع عنا إلا بيان ماهية العقل بإشارات إلى أفعاله، وإشارات إلى آثاره أو مظاهره، وهي الأفعال، والآثار التي يمتاز بها الإنسان على سائر أنواع الحيوان، من علم أخلاق ودين وفن ولغة وضحك.
عند الحسين أن الفوارق بين الإنسان والحيوان الأعجم فوارق بالدرجة فقط لا بالماهية، فيفسرون الأفعال العقلية بالصور الخيالية، ويظنون أن للحيوان عقلا؛ ولا سيما أنهم يأخذون لفظ العقل بمعنى واسع يشمل مطلق المعرفة الباطنة، بل الظاهرة أيضا. والواجب أن ندع له المعنى المعروف منذ أفلاطون وأرسطو المحدود إلى المعارف العليا الخاصة بالإنسان، وهي أولا معرفة الكليات، أي المعاني المجردة عن المادة، وخصوصا تلك التي تعود إلى الرياضيات، وإلى ما بعد الطبيعة، وهي أساس المعرفة العقلية إجمالا، والشاهد الأوضح على إدراك «النسبة» ذلك الإدراك المقوم لجميع أفعال العقل، على ما سوف نذكره الآن. وليست العجماوات مدركة للكليات؛ وليست مدركة للنسب المجردة كالعلية والغائية؛ وجهلها للنسب نتيجة عجزها عن تكوين المعاني المجردة. أجل كثيرا ما تستخدم الجزئيات بما بينها من نسب، ولكنها لا تدركها بما هي مجردات كليات ، بل يقتصر إدراكها على ما يبدو منها للحواس في الواقع؛ وهذا التمييز لا يعلمه الحسيون؛ لأنهم لا يعلمون الفرق بين المعنى والصورة، أي: بين المجرد والمشخص.
فإذا أرادوا شرح الحكم قالوا: إنه تقارن إحساسين أو صورتين، وفسروا هذا التقارن بتداعي حدوده تداعيا آليا. وليس هذا بصحيح، فإن المحمول في الحكم هو دائما صفة عامة أو معنى مجرد، وكذلك حال الموضوع في الأحكام العلمية حيث هو أيضا معنى مجرد شامل لجميع أفراده؛ ثم إن بين حدي الحكم «نسبة» ليست هي نسبة التقارن، وليس يكشف عنها التقارن ذاته، فإن محض تقارن صورتين أو لحوق إحداهما للأخرى، لا يبين عن سبب ما لتركيبهما العقلي المعبر عنه بالحكم. أعني عن النسبة التي إنما إدراكها هو السبب في إصدار الحكم؛ والسبب في التصديق به عند كل من يدركها.
والاستدلال في عرفهم استنتاج جزئي من جزئي بوساطة التشابه بين الاثنين، فما هو إلا استدعاء صورة لأخرى استدعاء تلقائيا، كالنار المحسوسة أو المتخيلة الآن، والحرق الذي حدث عن نار مثلها في السابق. هذه النظرية تغفل العنصر الرئيسي في الاستدلال، وهو «لزوم» التالي من المقدم وإدراك النسبة الجوهرية القائمة بين حدود الاستدلال، والنسبة العرضية القائمة بين حدود التداعي، وهاتان النسبتان واضحتان في المثال المذكور الآن، فإنه يزيد على التداعي بالتقارن رباطا بين النار كعلة والحرق كمعلول، والعقل يدرك هذا الرباط، ويفرق بينه وبين الآخر.
في هذه الأفعال الثلاثة تنحصر المعرفة العقلية. وإذا اعتبرنا عدد الجاحدين لقيمتها المنازعين في أصالتها بالنسبة إلى الإحساس والتخيل - فقد نقول إنها دقيقة على الفهم عصية على الاستساغة؛ ولكن لها آثارا واضحة غاية الوضوح متعلقة بها كل التعلق، فإما أن نجد أيضا قيمة هذه الآثار وأصالتها، أو نسلم بها وبالأفعال التي هي أصولها. وفي الواقع، أول ما نرتبها ترتيبا منطقيا؛ نجد فكرة العلم متقومة بها غير مستغنية عنها. فقد قلنا إن المحمول في أي قضية هو معنى مجرد، وإن هذا شأن الموضوع في كل قضية علمية، أي كلية ضرورية، وقديما اتفق الفلاسفة على أن العلم هو بالكلي لا بالجزئي، مع الاختلاف الشديد على طبيعة الكلي وطريقة الحصول عليه؛ فإذا لم يكن لدينا معان مجردة فاتنا العلم لفوات المعنى المجرد دون رجعة من حيث إن التجريد أصل الكلية والضرورة، فإن المعنى كلي من جراء تجرده عن التخصص بالمادة وعلائقها، وهو ضروري لعين السبب. هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد أن الحكم أو القانون العلمي، إيقاع نسبة بين حدين، وليست النسبة محسوسة، فإذا لم تكن مفعولة لم نستطع تركيب الحكم ولا الحصول على قانون علمي. ومن جهة ثالثة نجد العلم يستخدم القياس، فينزل من كلي إلى آخر مساو له أو أقل منه كلية أو إلى جزئي؛ فالكلي أصله وعليه اعتماده. ومن جهة رابعة نجد العلم يستخدم الاستقراء، فيصعد من الجزئي غير المفيد إلى الكلي المفيد، فالاستقراء أيضا أصل القوانين وعمادها، ويبقى على الحسيين أن يفسروا اكتسابنا لقانون كلي ضروري، وليست التجربة كلية ولا ضرورية ولا مبررة للانتقال من البعض إلى الكل. فإذا كان العلم يوفر لنا سلطانا على الطبيعة، فنستغل قوانينها في أشكال جديدة، فما ذلك إلا لأن العقل ينفذ إلى ماهيات الأشياء، ويدرك ما بينها من نسب جوهرية.
وإلى المعنى المجرد الكلي ترجع الأخلاق، فإنها تختلف بالمرة عن ملاحظة المنفعة والضرر الماديتين؛ وكثيرا ما يطلب باسمها من الإنسان، أو يطلب الإنسان من نفسه، تحمل ضرر مادي، أو التضحية بمنفعة مادية في سبيل مثل أعلى وكمال روحي. إنها قائمة على معاني الخير والحلال والواجب والمسئولية، وكلها تعني ما حقه أن يكون في مقابله ما هو كائن أو ممكن من لذة وشهوة ونفع وقوة غاشمة. فإذا كان الإنسان خلقيا، فما ذلك إلا لأنه عاقل. وإذا كانت الأخلاق القويمة تفلح في حياة الفرد وحياة الجماعة، مع ما بينها وبين شئون البدن من تضاد، فذلك هو الدليل على أن الطبيعة الإنسانية طبيعة أصيلة تستطيع التسامي على الماديات واللحاق بالعالم الروحي.
وماذا نقول عن الدين، وهو ملازم للإنسان في كل عصر وكل بيئة حتى لقد قيل: إن الحد الحقيقي للإنسان أنه حيوان متدين؟ قوام الدين الاعتقاد بقوة أو قوى غير منظورة، أكمل وأقدر من الإنسان، فيتوق إلى التشبه بكمالها خائفا إغضابها، مبديا نحوها احتراما وثقة ومحبة وأملا في حياة مقبلة دائمة. أما أصل الدين، فالآراء فيه مختلفة: يرى البعض أنه ميل إلى تأليه كبريات القوى الطبيعية، وبعض أنه ميل إلى تكريم الأسلاف أو الأبطال، وبعض إلى تقديس الجماعة التي بفضلها يكتسب الفرد كل قيمته المادية والمعنوية. والحقيقة أنه ناشئ مما للعقل الإنساني من يقين طبيعي بأن العالم لم يصنع نفسه وأنه لا يدبر نفسه، وإنما هو صنع موجود كلي القدرة، فإذا كان الإنسان متدينا؛ فما ذلك إلا لأنه ناطق، مدرك لمبدأ العلية، مجاوز للعالم الذي تقع عليه الحواس إلى عالم إن لم يره فهو يؤمن به.
والفن يقوم على المعنى المجرد: فإن الصنوع الفني شيء مبتكر مؤلف من صور شتى، والابتكار مجاوزة للموجود بالفعل، أي إنه معنى، والتأليف تجميع حول معنى هو القطب والمحور، يختار له العقل الصور والأوضاع الملائمة، فهو «نسبة» بين الأجزاء بعضها والبعض، ونسبة بين الأجزاء والكل. فالمبتكرات الفنية تختلف اختلافا جوهريا عن تأليفات التداعي في اليقظة والمنام.
والنسبة هي المحور في كل فن، في العمارة والتصوير والموسيقى، وإذا رأينا الحيوان يطرب للأنغام، فطربه حسي ناشئ من وقعها؛ أما إذا وضعناه أمام مبنى جميل أو صورة جميلة، فإنه لا يفقه لهما معنى لخفاء المعنى والنسبة على إدراكه.
واللغة آية من آيات العقل؛ إنها مجموعة إشارات دالة على حالاتنا الوجدانية. وهي على نوعين: أولهما تلك التي تصدر عفوا عن الانفعال اللاذ أو المؤلم، وتصاحبه كأنها مظهره الجسماني، مثل التأوه والبكاء والصياح فرحا أو غضبا أو ألما، وهي عامة للحيوان والإنسان يصدرانها دون قصد آخر. ولها ثلاث درجات: الدرجة الأولى أو الدنيا هي هذه. والدرجة الثانية هي أيضا، لكن مع استخدامها بقصد الدلالة، كأصوات الحيوان طلبا للقوت أو لغيره، وكإشارات الصم البكم ترجمة عن مرادهم. والدرجة الثالثة دلالتها على معان بوساطة حركات رامزة لها. وأبلغ منها دلالة على المعاني إشارات النوع الثاني، تلك الألفاظ أو الأصوات الوضعية العرفية المختلفة باختلاف العصور والشعوب، فإنها أغزر مادة وأدق تعبيرا عن الأفكار مهما تجردت؛ نقيدها بالكتابة فنكفل لها الدوام بعض الوقت ونبلغها للغير على بعد المكان والزمان. بدأت الكتابة تصويرية ترسم صورا إما مشابهة أو رمزية، مفهومة للجميع؛ ثم صارت صوتية ترسم الألفاظ أنفسها. وإذا كان آدم قد تلقى الأسماء والعلم من الله، فليس يبطل هذا كفاية الإنسان لاكتسابهما بنفسه، فإن قوام اللغة إدراك معنى الدلالة، أي النسبة بين الدال أو الإشارة، وبين المدلول أو المشار إليه. واللفظ مرآة للفكر، فهو لاحق عليه طبعا، فلا لغة حيث لا فكر، كما هو الحال عند الحيوان.
والضحك، وقد طالما استشهد به المناطقة للتمثيل على الخاصة في الكلام عن الكليات الخمسة، هو أيضا أثر للعقل، فهو خاص بالإنسان لا يشاركه فيه نوع من أنواع الحيوان، ذلك أنا نضحك لانتفاء النسبة بين ما هو كائن وما حق أن يكون، فنضحك من السر كان مثلا؛ لأن نسبته إلى الإنسانية قد انتفت بالسكر؛ ونضحك من الطفل يقلد القائد، ومن المدعي ما ليس فيه، ومن المازح يأتي حركات ويؤلف كلاما على غير المألوف؛ وقد نضحك من المحموم يهذي رغم ما يثيره مرضه فينا من الحزن والعطف. كل ذلك وغيره كثير للسبب عينه، وهو ارتفاع النسبة المدركة بالعقل.
فهذه الآثار أخصر دليل على وجود العقل حيثما توجد، أي في الإنسان، وعلى انعدام العقل حيث تنعدم، أي في الحيوان. ومهما تبلغ الجرأة بالفلاسفة الحسيين، فلسنا نظنهم يزعمون للحيوان علما أو فنا، ولا أخلاقا أو دينا؛ فإنه لا يعرف سوى المحسوسات، فسلوكه برمته خاضع لغرائزه ولما يعرض له من لذة وألم. فما يلائم حاجته الحاضرة هو الذي يتغلب بالضرورة، فلا مثل عليا ولا واجب ولا حرية. كذلك لا نظنهم يزعمون له لغة: كل معرفته بهذا الصدد قاصرة على الإشارات الطبيعية، وعلى التأليف بينها وبين ما يتصل بها بالتداعي، ولا يرتقي إلى معنى الدلالة الذي هو الأصل في اختراع الكلام؛ لذا لا يرتقي إلى اصطناع الألفاظ، ودلالتها وضعية عرفية، أي عقلية، مع حصوله (أو حصول بعض) على الأعضاء الكفيلة بالتلفظ؛ والحاصل منه عليها يحاكي أصوات الحيوان محض محاكاة؛ وهو إذ يعمل بناء على الألفاظ يسمعها من الإنسان، فليس معنى ذلك أنه يفهم مدلولات الألفاظ، بل إن أصوات هذه الألفاظ مرتبطة عنده بأفعال معينة تعود إلى مخيلته بالتداعي. ولا جدوى من محاولة تعليمه اللغة، والأفراد منه العائشة مع الإنسان منذ آلاف السنين لم تتعلم لغة من لغاته. وإذا كان العلم والفن والأخلاق والدين أمورا دقيقة تستعصي على فكره كما يقولون، فإنا نلاحظ أن القدرة لم تنشئ صناعة ما، ولو ضئيلة كل الضآلة، بل لم تحاك صناعة من صناعات الإنسان، فلم تصنع سلاحا ولم تبن بيتا، ولم تبتكر شيئا كفيلا بتحسين حياتها ورفع مستواها فوق مستوى سائر الأنواع. ذلك هو الفرق بين العقل والحس، فكيف يدعي الحس عقلا؟ (2) الإرادة
والإدراك العقلي يستتبع نزوعا أو ميلا إلى الفعل مطابقا له. وإذا كان في كل موجود ميل إلى الفعل، فإن أصل الميل يختلف باختلاف الموجودات، ففي الجماد والنبات، وهما عاطلان من الإدراك، يحدث الميل بتعيين الطبيعة، فيتجهان إلى الغاية منه اضطرارا أو على نحو واحد. وفي الحيوان يحدث الميل مع إدراك للموضوعات المعروضة في الحواس: يحدث بتعيين أساسي من الطبيعة في الأفعال الغريزية، وبدون تعيين في سائر ما يسعى إليه أو ينفر منه، فإن الغايات والأفعال هاهنا متنوعة كتنوع المدركات، يقبل عليها أو يهرب منها حسبما تولد فيه لذة أو ألما. فإن طبيعته مقصورة على الحس وبينها وبين الموضوعات المحسوسة معادلة ومطابقة، فلا يستطيع السيطرة عليها، بل يميل دون مدافعة إلى ما يلذ له أو يألم منه، فلا يعرف الاختيار بين شيئين أحدهما محسوس والآخر معقول أو أحدهما حاضر والآخر غائب.
وفي الإنسان يحدث ميل كالسابق؛ لأن الإنسان حاس كالحيوان، ويحدث ميل خاص تابع لإدراك للخير أوسع وأعمق: يدل عليه ما يلوح في النفس من معان وعواطف عليا تشهد بأن هناك قوة أعلى من النزوع الحسي التابع للمعرفة الحسية؛ ذلك أن العقل يدرك المجرد الكلي، فيدرك الخير الكلي المطلق الذي يحقق السعادة التامة، والذي نرى أثره حين نلاحظ عجز الخيرات الجزئية. مهما توافرت وتعاظمت عن سد مطامعنا، وقد أفاض في ذلك المفكرون وقال بسكال: «إنما يريد الإنسان أن يكون سعيدا، ولا يريد أن يكون إلا سعيدا، ولا يسعه ألا يريد أن يكون سعيدا.» فالإنسان يطلب بالضرورة الخير الكلي المعلوم بالعقل، ويطلب باختياره كل ما يجد له نسبة إلى الخير الكلي، بينما الحيوان ينزع إلى ما يدرك بالحس، ولا يضاهي بين الجزئيات إلا من وجهة اللذة الحسية، ومن هذه الوجهة توجد دائما لذة أقوى تجذبه وتعين فعله.
هذا النزوع العقلي الإنساني المغاير للنزوع الحسي يسمى إرادة، ولو أن الاصطلاح قد يختلف أحيانا؛ مثال ذلك قول الفارابي: «إن كان النزوع عن إحساس أو تخيل سمي الإرادة، وإن كان عن روية سمي الاختيار، وهذا يوجد في الإنسان خاصة.»
1
على حين يقول ابن رشد: «الإرادة قوة فيها إمكان فعل أحد المتقابلين على السواء.»
2
ومثل هذه القوة روحية، أي لا عضوية كالعقل؛ يتضح ذلك من كون موضوعها لاماديا، وهو مطلق الخير، ولا بد أن تكون القوة النازعة معادلة للقوة المدركة.
وبالطبع ينكر الحسيون وجود الإرادة، وسوف تصادف أقوالا لبعضهم، ونذكر هنا أن كوندياك يرجعها إلى ما للتصور من قوة التحريك كما يبدو كثيرا في الحياة العادية وفي النوم الصناعي، ويعتبر المشورة صراعا بين تصورين متعارضين، والجزم إما قمع التصور الذي يميل إلى التحقيق، أو تثبيت الانتباه إلى التصور الذي يريد تحقيقه، فيتحقق. ويقول سنوارت مل: «إن النفس التي تشاور مثلها كمثل الميزان المتردد قبل السكون؛ وإذا أحطنا علما بجميع الظروف أمكننا أن نتوقع النهاية ونتنبأ بها، فإن عدم التعيين ظاهري، وإن الدواعي والبواعث يمكن تشبيهها بالقوى الآلية. كذلك يقول سبنسر: إن عدم التعيين ظاهري، وإنه يفسر بما للعلل من شدة التعقيد. وهم على العموم يردون جميع الأفعال الإنسانية إلى «المزاج» أي: جملة الاستعدادات البدنية التي حصرها القدماء في الأربعة المعروفة وهي : الدموي والصفراوي والعصبي والبلغمي، والمتكونة بالوراثة ونوع المعيشة والمناخ وسائر العوامل الخارجية، فإن الإنسان كائن طبيعي خاضع حتما للتأثيرات المادية، حتى من الوجهة الأخلاقية «فما الفضيلة والرذيلة سوى مركب مادي كالسكر وماء النار» على حد قول تن
Taine ، وما الاختيار سوى فعل منعكس موع؛ فإنه لما كان لكل شخص مزاجه البدني، كان هذا المزاج قاعدة الخلق الذي هو جملة استعداداتنا النفسية الدافعة إلى العمل.
ونحن نسلم بأن للاستعدادات البدنية والأحوال الخارجية تأثيرا كبيرا في أفعالنا؛ ونعلم أن للقمر تأثيرا في ماء البحر مدا وجزرا، وأن اضطراب السوداويين والمجانين يشتد في رءوس الأهلة؛ فمن الطبيعي أن يكون للعلل الكونية أثرها في أجسام الناس يحدث فيها انفعالات وميولا تتأثر بها الإرادة قليلا أو كثيرا. ولكننا نزعم أن الناس في جملتهم يستطيعون أن يضبطوا هاته الانفعالات والميول، وأن يتخذوها هي موضوع مشورة، وأن يختاروا بعد ذلك ما يشاءون، فلسنا نرى في جميع الأفعال الإنسانية أفعالا حرة، بل فقط أن في وسع الإنسان أن يفعل بحرية متى وجه انتباهه إلى ذلك، واتخذ الوسائل الملائمة. ومن ناحية أخرى لا يدفع المزاج بالإرادة إلا في جهة عامة جدا لا تحتم قط الأفعال الجزئية: مثال ذلك أن الحاجة إلى العمل التي يولدها المزاج الدموي قد نرضيها بأفعال شجاعة وتضحية أو بأفعال عنيفة إجرامية. هذا فضلا عن كون موضوع الإرادة المطابق لها والمضطر لها هو كما قلنا الخير المجرد الكلي، فهي بطبيعتها مسيطرة على المزاج وعلى كل عامل مادي. وإذا قارنا بين الأفعال الإرادية والأفعال البدنية بدا الفرق كبيرا بين الطائفتين، أو بالأحرى بدا بينهما تضاد حاسم، يرجع إلى ذلك الذي فصلناه في الكلام على أصالة الحياة الحاسة، وليس عند الحسيين من جواب سوى نظرية «الظاهرة الطارئة» تلك النظرية البالغة أقصى حدود التهافت. ولا غرابة في ذلك، فإنهم يعتقدون بمصدر واحد للمعرفة وهو الإحساس، فقضى عليهم المنطق أن يعتقدوا بنزوع واحد هو الحسي.
بل إن بعض العقليين المتطرفين أبوا هم أيضا الإقرار بوجود خاص للإرادة، وردوها إلى العقل. على رأسهم أفلاطون، وقد ذهب إلى أن «الفضيلة علم والرذيلة جهل» أو خطأ؛ لأن أحدا لا يريد الشر عمدا، وإنا نتبع دائما ما يدل عليه العقل أنه الأحسن. وذهب سبينوزا إلى أن الفعل الإرادي فكرة جلية مائلة بذاتها إلى التحقق من جراء جلائها، وأن تعليق الحكم أو إرجاءه ما هو إلا عدم إدراك الموضوع المقصود إدراكا مطابقا له.
ولكن حيرة أفلاطون في تعليل اختيار الشر الخلقي نشأت من عدم ملاحظته ملاحظة كافية أن كلا من الخير والشر نوعان: أحدهما طبيعي محسوس، والثاني خلقي معقول، وأن الشر الخلقي خير طبيعي، يراد لخيريته الحسية، أو ينبذ لشريته الخلقية، فالمعروض على العقل دائما خير من أحد النوعين: لأن أيهما خير من وجه وشر من وجه، فيظل العقل في حال اتزان تام لا يدعوه فيها سبب للميل إلى الواحد دون الآخر؛ فإذا ما حكم كان حكمه صادرا عن اتجاه نظره إلى واحد منهما، فيراه خيرا إما طبيعيا وإما خلقيا؛ ولاتجاه النظر علة طبعا مغايرة للعقل، وهي التي تسمى الإرادة؛ فلولا الإرادة ما حكم العقل وما كان فعل. فإرادة الشر الخلقي مفهومة من حيث إرادة خير طبيعي مناسب للجسد لاذ له، وكما أن إرادة الخير الخلقي مفهومة لمناسبتها للنفس ولذتها لها. فليست الفضيلة علما، ولكنها فعل قوة صادرة عن علم العقل موجهة له في الحصول على هذا العلم. وكذلك ليست الرذيلة جهلا أو خطأ، ولكنها هي أيضا فعل تلك القوة الصادرة عن علم آخر هي موجهة للعقل إليه. فالإرادة مفترقة عن العلم والجهل، قائمة على حيالها، متجهة إلى الخير بمختلف أنواعه.
وللرد على سبينوزا يكفي أن نذكر أن جل الناس يعملون أشياء مقصودة بإرادة قوية دون إدراكها إدراكا مطابقا، بل إن كثيرين يعملون بقوة أعظم كلما كان إدراكهم أشد غموضا؛ ويعملون الشر مع علمهم بشريته، أي إنهم يفضلون الخير المحسوس على الخير المعقول؛ وكل هذا خارج عن حكم العقل القويم مناف له، فهو راجع إلى قوة أخرى هي التي نسميها الإرادة، ولولا تدخلها لانخفض عدد الأفعال الإنسانية إلى قليل جدا هي الأفعال المطابقة للعقل المؤثرة للخير الخلقي.
وللإرادة خاصية لازمة هي الحرية. بحيث لا يمكن التحدث عن إحداهما إلا وتذكر الأخرى. الحرية كفاية للعمل باستقلال عن كل ضرورة تكون علة تامة له؛ أو هي اختيار الكائن العاقل فعله بنفسه دون ما إكراه خارجي أو ضرورة داخلية، بحيث حتى حين يفلح الإكراه الخارجي في إصدار الفعل تظل الإرادة متأبية قبوله محتفظة بحريتها. هذا الإكراه أو القسر أو الضرورة الخارجية تأتي من جانب فاعل، يجبر بالقوة على إتيان الفعل أو على تركه. والضرورة الداخلية تأتي من موضوع هو خير من كل وجه، كالسعادة، أو هو الوسيلة الوحيدة للبلوغ إلى غاية مرادة، كإلقاء السلع في اليم للنجاة من الغرق، فتجد الإرادة نفسها مضطرة لقبوله. فليس كل فعل إرادي فعلا حرا؛ وليست ضرورة الغاية (أو ضرورة الوسيلة) منافية للإرادة؛ لأنها تجيء على وفق ميل الإرادة، بينما القسر مناف للإرادي إطلاقا من حيث إن الإرادي يصدر عن مبدأ باطن وفقا للميل، وأن مبدأ القسري خارجي مضاد للميل.
وفيما خلا حالتي الضرورة الداخلية - وهما الغاية المضطرة والوسيلة المضطرة - فالإرادة غير معينة إلى واحد، ولكنها حرة تختار ما تشاء. وهي من هذا الوجه تتحرك على نحوين: أحدهما أن تفعل أو لا تفعل، وهذه حرية التناقض؛ والنحو الثاني أن تفعل موضوعا معينا أو ضده، وهذه حرية التضاد أو تعيين الموضوع وتخصيصه؛ لأن الإرادة هاهنا تختار بين خيرات عدة متضادة وتعين لها موضوعا، وفي حرية التناقض - أي حرية مزاولة الفعل والترك - تختار بين خيرين اثنين فقط.
وعلى ذلك لا يصح تعريف الحرية بأنها الاختيار بين الخير والشر (الخلقيين)، فإن الشر لا يمكن أن يكون بذاته موضوعا للإرادة، وهي لا تريده إلا من حيث يبدو لها خيرا (طبيعيا)، فليس اختيار الشر (الخلقي) من لوازم الحرية، وإنما هو نقص يدل على اغترار النفس؛ إذ إن العاقل الكامل يسمو بنفسه عما ليس خيرا حقيقيا أو وسيلة إلى خير حقيقي. والاختيار بين الخير والشر داخل في حرية التضاد أو التعيين، فحرية التناقض هي الحرية الأساسية، وهي تتضمن الأخرى، ولا ينعكس، فإني لا أستطيع الاختيار بين متضادين إلا وأنا مستطيع ألا أختارهما. (3) الحرية
الدليل المباشر على وجود الحرية هي شهادة الوجدان، وهذه شهادة واضحة كل الوضوح، فلا تسمى في الحقيقة دليلا أو برهانا، وإنما هي تجربة ومشاهدة. فما إن نتصور غاية ما حتى نقف التصور وما يحف به من رغبات، ونمنعها من التحقيق بما لها من قوة تحريك، ريثما نتأملها ونصدر حكما بشأنها، فإن الحالة الوجدانية التي لا تقمع تعقبها حركة تحقيقها، فتخرج من سلطان الإرادة، ويحدث هذا في حالات كثيرة، بعضها نتيجة اندفاع وقتي، وبعضها نتيجة مرض عصبي، أو ضعف إرادي. والتأمل أو المشورة بحث في قيمة ما يختلج في النفس من دواع، أي أسباب عقلية كالواجب والشرف، ومن بواعث أي انفعالات حسية كالمحبة والكراهية والطمع والحسد وما إليها. فإذا ما تمت هذه الموازنة صدر الحكم الذي هو الاختيار. وليس من طبيعة الاختيار أن يتطلب جهدا، كما يعتقد كثيرون وكما اعتقد كنط، أو أن يغلب الواجب على الشهوة، أو الخير على الشر، وإنما هو اختيار صرف، ومن الوجهة الوجدانية، بغض النظر عن الوجهة الأخلاقية، فإذا قدرنا قيمته من هذه الوجهة، أحسسنا فضل العمل الصالح وتبعة العمل السيئ.
فالذي يقمع الدواعي والبواعث يدل في هذه المرحلة الأولى على سلطان وإرادة. والذي يدخل في مشورة يعتقد ويشعر أن الأمر راجع إليه. وفي أثناء المشورة نشعر أن الخيرات التي هي موضوعها تتنازعنا ولا يضطرنا واحد منها لاختياره كأن له سلطانا مطلقا. وحين نضع حدا للمشورة نشعر أننا أردنا ذلك الحد، لا أننا انسقنا ضرورة لأحد تلك الخيرات؛ ونشعر أننا نختار بحيث «نستطيع» أن نختار موضوعا آخر، وأن الميل الضروري هو إلى الخير الكلي أو السعادة، بينما الخيرات الجزئية لا تجبر الإرادة، وأننا نستطيع اختيار أحدها أو ضده. وحين نقدر مسئوليتنا عن أفعالنا المروية، نراها واقعة علينا. وبالجملة نشعر بسلطاننا على الفعل في جميع مراحله، وإذا صادفنا إلحاحا من أحد الدواعي أو البواعث استطعنا إرجاء الفعل بدل العدول عنه، فبان ذلك أسهل علينا، ودل على إمكان العدول النهائي.
تلك شهادة الوجدان، وذلك تأويلها البديهي، تؤيدهما الإنسانية جمعاء، حتى الفلاسفة المنكرون للحرية يعترفون بها عمليا، فإنهم في إنكارهم منقادون لأسباب مذهبية بعيدة عن هذه المسألة بالذات، أولها الآلية الكلية في الطبيعة وضرورتها لقيام العلم. ولكن الناس بلا استثناء يمدحون ويذمون، يثيبون ويعاقبون، يبذلون النصائح والوعد والوعيد، يسنون القواعد والقوانين، فيدلون بكل أولئك على أنهم يعتبرون بني الإنسان أحرارا. أجل قد تفيد بعض هذه الأمور في رياضة الحيوان، ولكنه لا يفقه لها من معنى سوى الرغبة الحسية في لذة حسية، أو الخوف الحسي من ألم حسي، فإننا برياضته نكون فيه تداعيا مجبرا، لكنا لا نثني عليه ولا نذمه. وشتان بين هذا التداعي وبين المعاني الأخلاقية المتعارفة بين الناس. هذه الشهادة المجموعية ليست برهانا جديدا على الحرية، وإنما هي تسجيل للواقع، وتأييد لشهادة الوجدان الفردي، يستمد قوته من استحالة تكرار الخطأ لدى جميع الناس في أمر يمسهم بمثل هذا القرب.
إلى هذه الشهادة الصريحة وجهت اعتراضات، منها ما ينكرها في ذاتها، ومنها ما يزعم بطلانها استتباعا لحجة عقلية أو علمية. فمن الناحية الأولى يقول جون ستوارث مل: «للوجدان أن ينبئني عما أفعل» لا بما أستطيع أن أفعل دون أن أفعله، من حيث إنه غير مفعول، فالوجدان لا ينبئني بالحرية. وجوابنا أن هذا حق؛ من الحق أن الوجدان لا يدرك الفعل الممكن غير الموجود بعد، ولكنه يدرك القوة الحاضرة فيه المترددة بين جهة وأخرى، ويدرك أن الإرادة غير معينة إلى إحداهما، وأن الاختيار موكول إلينا، وأننا نستطيع أن نرجئه ونستطيل المشورة، وهذا شعور بالحرية.
ومن هذا القبيل اعتراض آخر هو اعتبار الشعور بالحرية وهما ناشئا من شعورنا بحركاتنا النفسية يصحبه جهلنا بالأسباب الدافعة إلى الفعل، بحيث تكون هناك ضرورة غير موعية لا حرية موعية. فيقول سبينوزا: أليس الحالم والمستهوي والسكران يتوهمون أنهم يفعلون بحرية؟ ويقول بيل
Bayle
وهوبس
Hobbes : لو كانت الإبرة الممغنطة أو دوارة الهواء أو دوامة الماء مفكرة واعية وشعرت بدورانها وهي تجهل سببه، أليست تتوهم أنها تدور من تلقاء نفسها حرة مختارة؟ ونحن نقول: إن توهم الحرية يستلزم مزاولة سابقة للحرية، فإن المضطر بطبعه لا يشعر بالحرية ولا يتوهمها. كما أن الأكمه لا يتوهم الألوان، والأصم الأبكم لا يتوهم الأصوات. ثم لو صح رأيهم للزم منه أن شعورنا بالحرية يزداد بازدياد جهلنا بالمؤثرات، والواقع أننا لا نضيف الحرية إلا للأفعال التي فكرنا فيها مليا وأتيناها ونحن على بينة من الأمر.
وثمة اعتراض منطقي مأخوذ من مبدأ العلية، فإن المنطق يعلمنا أن اختلاف قضيتين إيجابا وسلبا - وهذا هو التناقض - يقتضي صدق إحداهما وكذب الأخرى، وإذن فأفعالنا المستقبلة معينة في أنفسها، ولا سبيل إلى القول بالحرية. ولكنهم يخلطون من عدة وجوه: فقاعدة التناقض صحيحة في الضروريات كالقضايا الرياضية، لما بين حدودها من علائق لازمة؛ وصحيحة في القوانين الطبيعية لقيام هذه القوانين على ماهيات الموجودات وعلائقها الثابتة بعضها مع بعض؛ وصحيحة في الممكنات الحادثات الماضية والحاضرة، كما إذا قلنا: إن آدم عصى ربه وإن آدم لم يعص، أو إن المطر يسقط الآن في الهند وإن المطر لا يسقط الآن في الهند، فإن إحدى القضيتين المتقابلتين صادقة والأخرى كاذبة في نفسها؛ أما الممكنات المستقبلة الموجودة في عللها بالقوة البحتة دون أن تكون معينة قبل تحققها، كالأفعال الحرة، فليست مستقبلة بالتعيين، وليست القضايا المعبرة عنها صادقة ولا كاذبة لعدم تعين موضوعاتها في عللها، ولإمكان هذه الموضوعات جميعا على السواء.
ويترجمون عن مبدأ العلية بأن نفس العلل في نفس الظروف تحدث نفس المعلولات، ويستنتجون من هذه الترجمة أن لا مجال للحرية، وإلا كان الفعل الحر بلا علة. يقول ليبنتز: إن الإرادة إذ تختار تميل مع أقوى الدواعي أو البواعث أثرا في النفس كما يميل قب الميزان إلى جهة الثقل؛ ويقول سبينوزا: إن الفكرة الجلية تميل إلى التحقق بفضل جلائها وقوتها. ولكنا لا نسلم بصحة الترجمة؛ لأنها تقصر مبدأ العلية على عالم الجماد، أي على مبدأ القوانين الطبيعية أو العلل المعينة إلى معلولات بعينها، على حين أن مبدأ العلية أعم، إذ إن من العلل ما يفعل بالضرورة؛ لأنه معين إلى فعله، ومنها ما يعين فعله بنفسه، كالإرادة. فمن التعسف إرجاع كل علية إلى العلية الآلية المشاهدة في الكائنات غير العاقلة، لا سيما وأن المشاهدة تدل على أن وطأة الجبرية أو الضرورية تخف كلما ارتقينا في سلم الكائنات؛ وليس من المنطق في شيء أن تنكر الحرية اعتمادا على مبدأ هو قانون الكائنات غير الحرة.
نذكر أخيرا أن خصوم الحرية كثيرا ما يستشهدون بالإحصاءات الاجتماعية، ويرتبون عليها جبرية ناتجة من تأثير البيئة الطبيعية وتأثير الوراثة والتربية وما إلى ذلك، فإن الإحصاءات إذا تقاربت سنة بعد أخرى - وخصوصا إذا أمكن توقعها - دلت على أن أسبابا عامة تنتج الأفعال الجزئية. ولكنهم يغفلون عن أن الإحصاءات تقريبية دائما، ولا تلزم بردها إلى أسباب مضطرة، بل تبين فقط أنها تدخل في اعتبار الناس، فإذا قبلوها فإنما يقبلونها مختارين: مثال ذلك أن الإنسان قد يتردد في الزواج، فإذا تزوج فليس يعني هذا أنه تزوج مضطرا، وإنما يعني أنه أقدم مختارا على أمر كان في قدرته أن يحجم عنه. ثم إن الإحصاءات لا تتناول الأفعال الباطنة، فلا تذكر عدد الذين يقاومون تلك الأسباب، فلم لا يكون هذا العدد ممثلا للحرية؟ ويشهد التاريخ على أن مقاومة البيئة والتمرد على التقاليد حقيقة تكررت لدى الأفراد الممتازين، ولسنا نقصد أن جميع أفعالنا حرة، بل إن بعضها حر ولو كان قليلا.
والإحصاءات لا تجيء مضبوطة إلى حد ما إلا إذا امتدت على عدد عديد من السنين، فتتلاغى وتتركب ولا تبدي سوى نتائج الأسباب المطردة. وإذا سلمنا بصحتها كانت عبارة عن متوسطات يدخل فيها بعض الأفعال، ويشذ عنها البعض، فتدل فقط على التأثيرات العامة، ولا تعني أن هذه التأثيرات تضطر كل فاعل بمفرده، فإن «قانون المتوسطات صادق على العموم كاذب على الخصوص»، كما قال كلود برنار.
تفسير الحرية يجب أن يطلب في الفرق بين الخير الجزئي المحرك للإرادة، والخير الكلي المدرك من العقل: ذلك أننا لا نفعل بالضرورة إلا إذا عرض علينا موضوع معادل لكفايتنا، أي خير كلي مطلق ، فإننا حينئذ نقصد إليه بلا منازع وبكل قوتنا؛ لأننا نجد فيه الموضوع التام لإرادتنا الكفء لأن يرضي ميلنا تمام الرضى؛ لكنا في هذه الحياة الدنيا لا نصادف سوى خيرات جزئية، أو معروضة على نحو جزئي: فالشهوة تغري الحس وترضيه، فهي خير من هذا الوجه، ولكنها تجر وراءها أملا وخسارة ومهانة، وتنزل بالإنسان إلى درك البهيمة، فهي شر من هذا الوجه؛ وللفضيلة علاقة لازمة بالسعادة الحقة، فهي إذن خير حقيقي، ولكن الحس لا يستلذها، فهي شر من هذا الوجه؛ والله نفسه، وهو الخير بالذات، غير معلوم لنا إلا بعلم استدلالي غير مطابق له، فكأنه خير جزئي، بل يمكن اعتباره شرا من حيث هو ينهى عن اللذة وأن محبته لا تتفق مع محبة اللذة.
لذا لا يوجد في هذه الحياة «داع أقوى» على حد تعبير ليبنتز، فإن الدواعي جميعا متساوية في البعد عن الخير الكلي الذي هو الموضوع التام للإرادة؛ وما الداعي الأقوى سوى ذلك الذي نرجحه فنمنحه القوة باختيارنا إياه؛ فإننا إذا نظرنا في الموضوعات الجزئية أو المعروضة على نحو جزئي لم نستطع أن نصدر حكما جازما بشأنها: أتطلب لما فيها من خير، أم تنبذ لما فيها من عدم خير؟ وهذا أساس التردد بين خيرين مختلفين، واستبقاء حريتنا سليمة.
وبعبارة أخرى إن تعليق حكم العقل هو الأصل في الحرية، ويعلق العقل حكمه لما في الخيرات من نقص يصرف الإرادة عنها، ويدع الطريق مفتوحة للاختيار. وإنما نخرج من التردد ونختار بالاتجاه إلى طرف من الاثنين، وحينئذ نحكم بأن الموضوع - منظورا إليه في خيريته ومنفعته - حقيق بالاشتهاء.
من هذا الموقف عينه يفسر إمكان الخطيئة، ويصحح رأي في الحرية لبعض أنصارها، فيتبين مبلغ أهمية العقل في وظيفة الإرادة. الأصل في إمكان الخطيئة عدم نظر العقل إلى القانون الواجب على الإرادة اتباعه؛ وعدم النظر هذا لا وجود صرف، فهو في ذاته عدم خير وعدم شر؛ ثم يصير شرا أو خطيئة بالعزم على الفعل دون نظر إلى القانون. إن الإرادة الحرة قابلة بالطبع للميل إلى إحدى جهتين، وإمكان الاختيار ينطوي طبعا على إمكان إساءة الاختيار. فالنظر إلى القانون (الخلقي) في علوه على الشهوة ضروري لاختياره دونها.
أما أنصار الحرية الذين يخطئون في تصورها، وفي مقدمتهم ديكارت؛ فرأيهم فيها أن الإرادة يمكن أن تختار دون راع أو باعث، أو مع تساوي الأسباب، مثلما يخطر لي أن أخرج للنزهة وألا أخرج، فأختار واحدا من هذين الطرفين بمحض الاعتساف. ولكن ليست الإرادة قوة عمياء، وليست الحرية ضربا من الهوى؛ إنا نعزم أحيانا تبعا للهوى والاعتساف؛ لأنا نتخذ من الهوى نفسه سببا، وأحيانا أخرى نختار بين سببين متساويين ولدينا أيضا سبب هو الرغبة في الخروج من التردد وتلبية داعي العمل؛ ومن غير المفهوم أصلا العزم في غيبته كل سبب. وقد دعوا هذه الحرية «حرية عدم الاكتراث
Liberté d’indifférence »، أي: حرية التوازن بين الدواعي والبواعث؛ وحرية التوازن هذه تلقائية عمياء لا اختيار حر، فإن الاختيار يجب أن يكون مسببا واقعا على خير معلوم. هل يريد أحد الشر؟ أو هل يستهدف أحد للشر؟ كلا، فإن الحرية خاصية العاقل، وهي خاصيته دون الموجودات غير العاقلة.
وإذا كان العاقل حرا حين يضاهي بين الخيرات الجزئية ومطلق الخير، فإن حريته أظهر وأروع حين يرجع إلى نفسه فيطالع فيها دستورا مباينا لميوله الحسية، فيؤثره على هذه الميول مهما يكن هذا الإيثار مؤلما ضارا بشئون هذه الحياة. في هذا الدستور أن مطلق الخير - الذي هو معنى كلي مثير في النفس ميلا عاما - هو الأصل والأساس لكل ميل جزئي؛ وأنه الخير المطلق الذي يتشخص فيه ذلك المعنى، وتتحقق السعادة القصوى بالإخلاص لإراداته البادية في الطبيعة، والاتحاد به اتحاد معرفة ومحبة. فإذا تشككنا في الحرية لم نفهم واجب الإخلاص؛ إذ إن الواجب لا يقال إلا لمن يقدر أن يضعه باختيار؛ ولم نفهم التبعة؛ لأنها لا تقع إلا على الفاعل بملء اختياره. ولم نفهم وصفنا للأشياء والأفعال بالحسن أو بالسوء، وهما لا يقالان للإرادة المضطرة؛ ولم نفهم أمرا من الأمور التي هي ميزة الإنسان في حياته الفردية والاجتماعية. هذه الأمور معان ومثل غير محسوسة، فوجودها في النفس ووجوبها القاطع يقضيان بوجود الإرادة، وبأنها قوة روحية كما قدمنا، وبأننا حين نعمل عن تصور صادق لغاية الحياة، وللوسائل المؤدية إليها التي هي الفضائل، تظهر قوتنا الفاعلية بأشد وضوح، إذ إننا حينئذ نصدر عن أنفسنا، أي عن دواع عالية على الحس، أخص بطبيعتنا من بواعث الحس، بالرغم من معارضة هذه البواعث وإغراء الأسباب الخارجية. في حين أن الشهوة وما يتصل بها من لذة جسمية تسترق النفس فتنتقص من شخصيتنا ومن حريتنا ومن كرامتنا. إن رجل الشهوة يختار بين خيرات محسوسة فلا تكاد تبين حريته، ورجل الواجب رب فعله، لا يفوق في ذلك سوى فعل الربوبية بالذات جل جلالها. (4) الجبرية
هذه الاعتراضات على الحرية تؤلف القسم السلبي من المذهب الجبري. يبقى أن نعرض للقسم الإيجابي الذي هو مبدأ المذهب، فنستكمل الرد عليه ودعم إثبات الإمكان في الطبيعة. وأعم فكرة يستندون عليها فكرة «العلم» التي تجعل من الوجود مجموع علل ومعلولات مترابطة ترابطا ضروريا، وينتج منها أن الإنسان آلة، إما آلة مادية خاضعة لمختلف التأثيرات الخارجية والداخلية كما يقرر الماديون، وإما آلة روحية
automate spirituel
على حد قول ليبنتز، وكثيرا ما يقولون: إن افتراض علل حرة يتهدد النظام الطبيعي بالاضطراب والانهيار ويقضي على كيان العلم؛ إذ إنه لا ينهض إلا بتصور الطبيعة كلا متفاعل الأجزاء ثابت القوانين كما يبدو لأول نظرة نلقيها عليه.
والغريب حقا في أمر الفلاسفة الحسيين أنهم يتشبثون هنا بمبدأ العلية وكأشد ما يتشبث به من مبدأ، ويأبون على الإمكان أضيق مكان، بينما هم إذا عالجوا مسألة الاستقراء مثلا من الوجهة المنطقية والميتافيزيقية، يأبون على نتيجته صفتي الكلية والضرورة، بحجة أن ليس في التجربة ضرورة ولا كلية؛ وإذا أرادوا الكشف عن أصل الأحياء يلجئون إلى الإمكان، ويستكثرون له من الاحتمالات، ويوسعون له من المدى حتى ليرفعونه إلى مقام القانون والمبدأ.
ونحن نطمئنهم ونؤكد لهم أن لا خوف على العلم البتة. إن الأصل في العلم أنه إدراك ماهيات الأشياء وخصائصها، وهذه حال الرياضيات والطبيعيات النظرية؛ أما حدوث الظواهر على ترتيب مطرد، فلا يعرض له سوى بعض العلوم، كالفلك والآثار العلوية أو الظواهر الجوية، والخطأ فيها غير قليل. وليس من شأن الإرادة والحرية تغيير الماهيات والعبث بالضروريات، وإنما شأنها الأوحد اختيار فعلها الباطن، بحيث يكفي لصون نظام الطبيعة ولقيام العلم النظر في الموجودات فاعلة بحسب ماهياتها، ومرتبة بعضها إلى بعض على نحو واسع يدع مجالا لإمكان أفعال جزئية كثيرة.
للمذهب الجبري صورتان: إحداهما عقلية هي نفس مبدئهم المذكور الآن، والثانية علمية مبنية على العلم الحديث في قوله ببقاء الطاقة. في الفريق الآخذ بالصورة الأولى نجد ابن سينا ونجده قد أجاد التعبير عنها حيث قال: «لو أمكن إنسان من الناس أن يعرف الحوادث التي في الأرض والسماء جميعا وطبائعها، لفهم كيفية ما يحدث في المستقبل.» وأيضا: «الإرادات كلها كائنة بعدما لم تكن، فلها أسباب تتوافى فتوجبها ... والإرادات تحدث بحدوث علل هي الموجبات، والدواعي تستند إلى أرضيات وسماويات، وتكون موجبة ضرورة لتلك الإرادة.» وأيضا: «الإرادات التي لنا كائنة بعدما لم تكن، (وعللها) أمور تعرض من خارج أرضية وسماوية، والأرضية تنتهي إلى السماوية، واجتماع ذلك كله يوجب وجود الإرادة.» ولا يعترف ابن سينا للإمكان إلا بقسط ضئيل يعبر عنه بهذه العبارة: «الحادثات الجزئية تنتهي إلى طبيعية وإرادية موجبة لنسب إرادية فاترة غير حاتمة ولا جازمة.» وقد لا يدل هذا القول على إمكان ما من حيث إن النسب الفاترة غير الحاتمة تنتهي إلى موجبة.
والرأي في هذا الموقف هو من جهة واحدة، أن الأفلاك تؤثر حقا في الأجسام الأرضية، ومن جهة أخرى أن هذا التأثير غير موجب لا في المادة الصرف، كتأثير القمر في البحر مدا وجزرا، وحتى في هذه الناحية ليس الوجوب محتوما، فإن الأجسام الأرضية يختلف قبولها للتأثير باختلاف استعدادها، ومن هذا يتبين بطلان التنجيم. وتؤثر الأفلاك بالعرض في القوى النامية والحاسة المتحدة بأعضاء، فتسبب فيها انفعالات حسية. أما العقل والإرادة فهما قوتان روحانيتان راجعتان إلى النفس وحدها، فليس لهما عضو، ولكنهما متصلان بالبدن، فإذا اضطربت الحالة البدنية أو المخيلة أو الذاكرة، اضطرب فعل العاقل وضعفت الإرادة. فالقول بعلية الأفلاك للأفعال الإنسانية قول الذين لا يفرقون بين العقل والحس. بيد أن أكثر الناس يتبعون الانفعالات الحسية، وأن العقلاء الذين يستخدمون حريتهم فيقمعونها قليل عديدهم، فيبدو الأولون كأن ليس لهم حرية، ويصدق إنباء المنجمين بحسب الأكثر فقط، وتتمحل الحجج في معارضة الحرية على العموم.
والصورة العلمية للنظرية الجبرية هي بقاء الطاقة. فمنذ العصر القديم قال الماديون: إن المادة أزلية أبدية، غير حادثة ولا مندثرة، وكذلك الطاقة أو القوة الملازمة لها باقية خلال تحولاتها، بحيث تكون كل ظاهرة صورة جديدة لطاقة سابقة. وقد استغلوا هذا الذي سموه «قانون بقاء الطاقة» أعظم استغلال لتأييد سيادة الضرورة على الطبيعة، ورتبوا عليه محالات تلزم القول بالحرية، من جهة أن ثبات القانون يمنع اقتدار الإرادة تغيير مجرى الحوادث، وأن الفعل المقول حرا وغير معين بسوابقه، يفترض خلق طاقة لترجيح كفة الداعي أو الباعث المختار، وفي نفس الوقت يفترض إعدام طاقة الدواعي والبواعث المستجدة وكل هذا عندهم محال.
والمحال عندنا هو هذا القانون والحجج المرتبة عليه؛ ذلك بأن كل ما أثبته العلم ينحصر في أن بقاء الطاقة يتحقق فيما يدعى «نظاما مغلقا»، أي إناء معلوم الطاقة لا يدخل إليه ولا يخرج منه طاقة في وقت التجربة؛ أما تطبيقه على الطبيعة جمعاء فلا سبيل إلى إثباته لاستحالة تقدير طاقات الأحياء من نباتية وحيوانية، والإحاطة بجميع التأثيرات الواقعة عليها، وتقدير مجاوباتها هي على هذه التأثيرات، ولاستحالة قياس الظواهر الوجدانية في الحيوان والإنسان، والمعادلة بينها وبين الطاقات الخارجية، وقد لا تكون الطبيعة نظاما مغلقا، ونحن لا ندري ولا الماديون يدرون إن كانت بمعزل عن تدخل بعض القوى العليا؛ فبأي حق يقولون ببقاء الطاقة، ويستشهدون به على الفعل الحر الشاهد به الوجدان؟
بل قد نسلم به جدلا فلا يضيرنا ذلك في شيء. إن العلم في غير حاجة إليه، وقائم فعلا مع جهلنا مجموع الطاقة، وليست مهمته مراقبة الزيادة فيها والنقصان كما لو كان مكلفا بصون العالم من الدمار! ثم إن التوفيق بينه وبين الإرادة ليس بالمشكلة إلا في النظرية الثنائية كما نراها عند أفلاطون وديكارت التي تجعل من النفس والجسم جوهرين تامين قائم كل منهما بذاته، فيتعين على أشياعها أن يبينوا كيف توصل الإرادة الروحية حركة ما إلى الأعضاء المادية، وكيف توصل الأعضاء حركة ما إلى النفس، على حين لو نظرنا إلى الإنسان أولا، قبل النظر إلى جزءيه اللذين هما النفس والبدن وإلى ما بينهما من اتحاد وثيق، لوجدناه كائنا واحدا لا مزدوجا، بشهادة ظواهر واعتبارات لا تحصى، ولأمكننا الاعتقاد أو لوجب الاعتقاد أن كلا من النفس والبدن يتأثر بالآخر ويؤثر فيه بما له به من اتحاد وشركة، وأن الإرادة تتلقى الحركات بفضل هذا الاتحاد، وتجاوب عليها بالطاقة المختزنة في الأعضاء.
على أن العلم نفسه يغنينا عن مناقشة هذا القانون؛ إذ قد أظهرنا على قانون آخر ينقضه نقضا، هو تضاؤل الطاقة، فإن الطاقة نوعان: أحدهما منتج عملا حراريا أو كهربائيا، والآخر عاجز عن إنتاج أي عمل؛ والنوع الأول يتحول إلى النوع الثاني رويدا رويدا، أي يفقد القوة على التحول إلى عمل كما يفقد الراديوم مثلا نصف كتلته في زهاء 1200 سنة؛ فكأن المادة تندثر، أو كأن القوى الطبيعية تتجه باستمرار إلى التوازن التام، وأن وقتا سيجيء تصبح فيه الطاقة المنتجة كلها غير منتجة أصلا، ويسود العالم جمود وسكون. فإذا كانت الطاقة تتضاءل هكذا، سقطت الاعتراضات على تدخل الإرادة في سلاسل الحوادث، وكان لنا أن نؤمن بتأثير الروحيات في الماديات، وبسيادة الإمكان في الكون على الضرورة، ولو لم يظهر للحواس، ولم نستطع تقدير مداه. وهذا دليل عملي مؤيد للدليل الوجداني وللدليل العقلي: فماذا يريدون بعد ذلك للتسليم بالحرية؟ (5) النفس الإنسانية: وجودها
إذا كان لكل ظاهرة جوهر، ولكل فعل فاعل، فإن في كل كائن حي نفسا هي مصدر حياته وأفعاله. والنفس الإنسانية تبهمنا على الخصوص لكونها أرفع أنواع النفوس، بل لكونها نفسنا، وعلى الرأي فيها تتوقف سيرتنا، وعلى طبيعتها يتوقف مصيرنا ، فنختم هذا الفصل بالفحص عنها والمقارنة بينها وبين النفسين النامية والحاسة، وبذا نحصل على معرفة دقيقة عن النفس بالإجمال، وعن كل نوع من أنواعها بالتفصيل، ولا سيما النفس الإنسانية أيضا، حيث لدينا دليل مباشر، هو الشعور الباطن، يوضح الاستدلال النظري المستخدم في الفحص عن النفسين الأخريين، ويؤيده بالحدس الوجداني أو ما يشبهه. فنسأل أولا: هل توجد نفس؟ فإذا ثبت وجودها نظريا في طبيعتها، فعلمنا أنها بسيطة، ومتحدة بالجسد اتحاد الصورة بالمادة، وأن نفس الإنسان روحية مع ذلك، أي مستقلة عن المادة في الأفعال العقلية والإرادة ومن ثمة في الوجود، وأنها لهذا السبب باقية بعد موت الجسد، فنقول:
أما أن النفس بإطلاقها موجودة، فالدليل عليه أن الحياة لا تصدق على الجسم بما هو جسم، وإلا كان كل جسم حيا أو مبدأ للحياة؛ فلا بد في الحي من مبدأ لا يكون جسما، بل صورة لجسم تمنحه الحياة والفعل. وفي ردنا على قول ديكارت أن الحيوان آلة أثبتنا للحيوان نفسا حاسة. والآن نرد على اعتراضات الحسيين بصدد النفس الإنسانية. أولها - أي أبسطها - قولهم: إن النفس لا تقع تحت الحواس، وإذن فهي غير موجودة. ولكنهم بهذا القول يقعون في الغلط المسمى بالدور المنطقي؛ إذ يضعون كمبدأ أن لا شيء يوجد سوى المادة ويستنتجون عدم وجود النفس، مع أن النظام المنطقي يقضي - قبل استنباط هذه النتيجة - بالبرهنة على أن الحواس آلاتنا الإدراكية الوحيدة، وأن الشيء الروحي غير معقول مستحيل الوجود، هل التذكر والتفكر من الأمور المادية؟ وبأي حاسة نعرفهما؟ فمن العبث الاحتجاج بأن الإنسان قد يكون مجرد آلة، وأن في الجهاز العصبي الكفاية لتعليل الحياة الوجدانية، فلا حاجة إلى نفس لا نراها.
وهم يعولون كثيرا على ما يدعى بتعدد الشخصية، فإنه إذا كانت الشخصية مظهر النفس، وكانت تختلف وتتناسخ على التعاقب، بل في وقت واحد، كان هذا دليلا جازما على أن النفس محض فكرة، بل لفظة، وأنها «عرض طارئ» على حالة بدنية، وأننا نستخدم هذه اللفظة اختصارا للحالات اللائحة، في الشعور، المتلاعبة به؛ الموهمة له أنه يمثل شخصا أو جوهرا روحيا، وهو مستسلم لها فاقد كل شخصية. ويحتجون باستقلال الوظائف الفسيولوجية عن الشعور، قبل أفعالها وفي أثنائها، فهي ماضية في شئونها، غنية عمن يتوقعها، ويدير وسائلها، ويراقب أفعالها. هذا صحيح؛ ولكنه لا يدل على النتيجة المستنبطة منه. أليس هذا حال الجماد والنبات؟ وقد أثبتنا غير مرة أنه لا يعفى من وضع مبادئ قريبة لأفعالهما، هي القوى، ومبدأ بعيد، هو الصورة الجوهرية، أن ترجع جميعا إلى الله خالقها، بعضها مع توقع وتدبير، وبعضها عاطل منهما مستكف بما رسم في طبيعته ليقوم مقامهما.
لا محيص إذن عن البرهنة على وجود النفس الإنسانية. وقد اعتقد ابن سينا أنه يبرهن عليه بطريقة واضحة حاسمة لا تستخدم سوى التجربة الباطنة وتمضي منها إلى المطلوب رأسا. قال: «لو توهمت ذاتك قد خلقت أول خلقها، وفرض أنها على جملة من الوضع والهيئة بحيث لا تنظر أجزاءها، ولا تتلامس أعضاؤها، بل هي منفرجة ومعلقة لحظة ما في هواء طلق، وجدتها قد غفلت عن كل شيء إلا عن ثبوت إنيتها. والمدرك منك أهو ما يدركه بصرك من إهابك؟ لا، فإنك إن انسلخت عنه وتبدل عليك كنت أنت أنت. (وكل حاسة أخرى) فإن حالها ما سلف ... فمدركك شيء آخر غير هذه الأشياء التي قد لا تدركها وأنت مدرك لذاتك، والتي لا تجدها ضرورية في أن تكون أنت أنت ... ولعلك تقول: إنما أثبت ذاتي بوسط من فعلي ... (ولكن) فعلك لم تثبت به ذاتك، بل ذاتك جزء من مفهوم فعلك، (فالذات) مثبتة في الفهم قبله، ولا أقل من أن يكون معه لا به.»
3
وهذا هو الدليل المعروف بدليل الإنسان الطائر.
ونحن نخالف ابن سينا في اعتقاده أننا ندرك وجود الذات بمعزل عن كل فعل. إن إدراك وجود الذات يحدث في إدراك الأفعال.
وحينئذ ندرك وجود الذات إدراكا مباشرا مع وقوع الأفعال. ومن باب أولى نخالفه في اعتقاده أننا ندرك ماهية النفس بمعزل عن كل فعل وكل استدلال، بإدراكها وجود ذاتها. ليست النفس حاضرة الماهية لذاتها، وإلا لما أنكرها البعض، ولم يتردد في وجودها البعض، ولم يختلف في ماهيتها البعض، وإنما هي حاضرة الذات في أفعالها، وبتأمل الأفعال تعلم ماهيتها، أما إذا غفلت عن كل شيء فإنها تغفل ضرورة عن ثبوت إنيتها.
وإلى دليل من هذا الطراز لجأ ديكارت؛ فإن قوله: «أنا أفكر» يعني أنه قد صرف النظر عن موضوعات الفكر، وانعكس على ذاته، فاتخذ من فكره موضوعا لتفكيره، حتى لقد نتج له من هذا الموقف الانعكاسي أن الفكر يعرف ذاته قبل أن يعرف الجسد المتحد به، وقبل أن يعرف شيئا من الموجودات، وأن في هذه المعرفة الدليل الأول الدافع على وجود النفس. ولكن الواقع أن مذهبه التصوري، إذا تدبرناه على حقيقته، يحول دون الانتقال من «أنا أفكر» إلى «أنا موجود»؛ فإن التصورية تقضي بأننا لا نعرف شيئا في ذاته، بل لا نعرف فعلا في ذاته، وإنما نعرف فقط تصورنا لشيء أو لفعل. فلا يسوغ في التصورية سوى الانتقال من فكرة إلى ذاتها، فيقال: «أنا أفكر، وإذن فأنا أفكر». بل إن هذا كثير، إذ ليس يسوغ قول: «أنا أفكر» من حيث إن «أنا» وجودي بالضرورة، فيتعين الاكتفاء بقول: «إن هناك فكرا» دون إسناد الفكر إلى مفكر موجود. وحتى هذا غير ممكن، فإن التصوريين لا يستطيعون أن يضمنوا ألا يكون الفكر واللافكر شيئا واحدا بعد أن جعلوا من مبدأ عدم التناقض قانونا فكريا بحتا لا قانونا وجوديا. وهكذا تنتهي التصورية، وهي مبنية على الفكر، إلى إلغاء الفكر والمفكر. وهكذا فهمها كنط، فقصر النفس أو الأنا أو الشخصية على أن تكون مجرد «مقولة» إن قدمت فباللفظ فقط، وهي تؤخر كثيرا بنفي مدلوها.
الحقيقة أننا في كل فعل من أفعالنا وكل حالة من حالاتنا، ندرك وجود ذاتنا إدراكا مباشرا. وندرك أن الفعل فعلنا والحالة حالتنا. وكيف يتصور إحساس أو تعقل أو تداعي صور ... إلخ بدون جوهر يحس ويفكر؟ فوجود الجوهر هو وحده يفسر حدوث أفعالنا وحالاتنا؛ وهو وحده يفسر من باب أولى ما يستمر منها في الزمان أو يعود من آن إلى آن، كالذكريات والعادات والإدراكات المكتسبة والتداعيات والأحكام والاستدلالات. وشهادة الوجدان صريحة بأن عين الأنا هو الذي يحيا ويحس ويفكر، فإننا نضيف إليه جميع هذه الأفعال، ويشعر كل منا أنه يظل هو طول عمره. فللإنسان وجود واحد نشعر به وباستمراره تحت التغيرات، فنربط حاضرنا بماضينا، ونتطلع إلى المستقبل على أنه مستقبلنا.
ومحال أن يكون الجسد علة هذا الوجود الواحد، بما فيه من تضافر متصل ونمو متسق، مما يدل على وجود مبدأ باطن يدبر ويوجه، والجسد ممتد منقسم متكثر متغير، متجدد باستمرار، ومحتاج من ثمة إلى ما يرده شيئا واحدا ويستبقي له وحدته. فليس يمكن أن تكون المادة مبدأ أول، وهي منفعلة وحركتها معلولة، على حين أن الفكر في مختلف صوره منبثق عن فاعلية باطنة. فلم يكن للون أن يفترض أن المادة قد تفكر: إن الفكر يقتضي شروطا منافية لصفات المادة، فانتفاء هذه الشروط يقضي بانتفاء الفكر. وإذا لم يكن في الحياة النامية أكثر مما في الجماد، وفي الحياة الحاسة أكثر مما في النامية، وفي الحياة الناطقة أكثر مما في الحاسة، لم تختلف تلك الحيوات في الوظائف والأفعال ذلك الاختلاف العميق البادي في المشاهدة.
لأجل تفسير وحدة الكائن الحي واستمراره هو هو، يجب أن يكون حاصلا على نفس، وأن تكون النفس بسيطة منزهة عن كل تركيب من أجزاء متمايزة. ولتفسير التفكير يجب القول ببساطة النفس أيضا، فإنه لا يتسنى إلا لجوهر بسيط قادر على أن ينعكس على ذاته ويجمع في فعل واحد جميع عناصر الإدراك، سواء كان الإدراك إحساسا أو فكرا مجردا أو نسبة. وقد أقر بذلك اثنان من أقطاب المذهب الحسي؛ قال هيوم: «إن في علاقة التداعي تناقضا صريحا: كيف يمكن أن يوجد مبدأ ارتباط إذا كانت إدراكاتنا منفصلة مستقلة بعضها عن بعض؟ هذه معضلة تفوق طاقة عقلي.» وقال ستوارت مل: «إن الذهن سلسلة من الحالات تعرف نفسها ماضية ومستقبلة: فكيف تتسنى هذه المعرفة لمجرد سلسلة؟ لا يبقى إلا أن نقول: إن الذهن أو الأنا شيء آخر غير سلسلة الحالات .»
والحجة المأخوذة مما يسمونه ازدواج الشخصية أو تعددها، والتي يظنونها قاطعة، هي في غاية الوهن، قائمة على الخلط بين الشخصية ذاتها وبين الشعور بالشخصية: فمن المعلوم أن الجواهر طائفتان: إحداهما حاصلة على قوة الإدراك وقوة الشعور بالذات، مع تفاوت طبعا، والأخرى خلو عن هاتين القوتين، وينطبق على كلتا الطائفتين تعريف الجوهر بالتقوم بالذات، ولو أن التقوم أكثر كمالا في الطائفة الأولى منه في الثانية، وأكثر كمالا في الموجود العاقل منه في غير العاقل، وكل واحد من الأفراد شخص بمعنى الكلمة موجود لذاته. إن الشعور بالذت شعورا صريحا واضحا هو من شأن الكائن العاقل. فإنه يستند إلى الانعكاس على الذات، وليست تنعكس المادة على ذاتها ولا يتسنى الانعكاس إلا للموجود المستقل عن المادة، وحيثما يحدث يكون دليلا على هذا الاستقلال. شتان إذن بين «شخص» محصور في طبيعته، و«شخص يتصرف في الأشياء لتحقيق غايات وأفعال يعينها بذاته، ويطالب بحقوق، ويذعن لواجبات بعد إدراكها وإدراك لزومها، كما تستند الحرية على نفس الأساس؛ لأن استقلال الإرادة عن الخيرات الجزئية، سببه استقلال العقل في الحكم على الجزئيات ... وإذن فليس يحقق الإنسان شخصيته تمام التحقيق، أعني قيامه بذاته، وفعله بذاته، إلا بقدر ما تسود فيه حياة العقل والحرية حياة الحواس والأهواء، وإلا ظل كالحيوان «فردا» خاضعا للأحداث والغرائز.
ولا تقولن مع بعض الفلاسفة: إن الشخصية هي عين الشعور بالذات أو إنها الإرادة الحرة والجهد المبذول منها، أو إنها الخلق المتكون للواحد منا والمميز له من سواه. هذه علامات عليها، أو بكلمة أدق: الشخصية هي المبدأ الذي تجمع فيه هذه العلامات، بالفعل أو بالقوة، فالطفل والنائم بل والمجنون لا يشعرون بذاتهم هذا الشعور الصريح إلا بعد اكتمال العقل في الأول، وبعد مزاولة الثاني والثالث لفعل التعقل كما ينبغي أن يزاول. فيلزم التمييز بكل دقة بين «الشخصية الميتافيزيقية»، أي وجود الشخص في ذاته، وبين «الشخصية الوجدانية»، أي شعوره بها، فقد يختلف هذا الشعور وتبقى الذاتية، ولاختلاف الشعور تعليل لا يمس الذاتية بحال.
الشخصية الوجدانية تشتمل على إحساسات ووجدانيات: الإحساسات هي اللمسية الناشئة من تأثير الأشياء الخارجية، ومن الحالة الجوفية والعضلية ، بما في ذلك إحساسات الحرارة والراحة والقلق وما إليها؛ أما سائر الإحساسات الظاهرة فلا تشعرنا بأنفسنا مباشرة، بل تشعرنا أولا بالأشياء ونحن نشعر بأنفسنا فيها؛ وليس يقتصر شأن الأشياء على تأثيرها فينا، فإننا بجسمنا نشغل بينها خيرا معينا وندخل معها في علاقات، فنشعر بجسمنا كمبدأ فعل وانفعال. والوجدانيات - من ذكريات وأفكار وعواطف وإرادات وآمال - تؤلف في كل لحظة حالة وجدانية عامة هي - مع تغيرها وتجددها - متصلة بما يسبقها وما يلحقها من حالات. وفي هذه الشخصيات العامة شخصيات ثانوية خاصية معينة من نواحي حياتنا الفردية والاجتماعية، كشخصية الوالد والزميل والرئيس والمرءوس والقاضي والعامل ... إلخ، وكالشخصية الفنية والعلمية والدينية. وليس من السهل أن تتفق الشخصيات الجزئية في الفرد الواحد، لما يقتضيه هذا الاتفاق من رأي صائب وإرادة قوية؛ ولكنها تتعارض أحيانا كثيرة، فتثير في النفس صراعا بين واجبات مختلفة، أو بين واجب وشهوة. فلم نعجب لازدواج الشخصية كما يقولون؟
هذا الشعور بالشخصية في الحياة العادية كان موضع احتجاج عنيف من جانب الماديين أصحاب «الظواهر العارضة»: فقد عدوا عليه «اضطرابات» ظنوها قاضية على الوثوق به. اختلفوا في تصنيفها، فنقتصر على أربعة أنواع هامة؛ الأول: انفصال المجموعات الجزئية عن الشخصية العامة، وتعاقب هذه المجموعات، بحيث ينتقل المريض من الكآبة والسكون إلى السرور والنشاط مثلا. النوع الثاني: تقمص شخصية غريبة إلى أجل أو باستمرار، فيتوهم المصاب أنه المسيح أو نابليون أو إبليس ... النوع الثالث: فقدان الشعور بالشخصية، فينكر المريض جسمه وصوته، وتغيب عنه ذكرياته. النوع الرابع: ازدواج الشخصية بمعنى الكلمة، فيتوهم المريض أنه مثنى، فيستعمل ضمير الغائب في كلامه عن نفسه، أو تضرب يمناه يسراه لتمنعها من إتيان حركة تهم بها، أو يأمر نفسه ويعد بالطاعة، إلى غير ذلك.
وتنشأ هذه الحالات في الغالب عن ضعف عصبي، تضعف معه رقابة العقل التي تستبقي فينا فكرة الوحدة والذاتية، وتضعف معه الذاكرة، وإليها في النهاية ترجع جميع الاضطرابات.
بل إن اختلال الذاكرة ليس عاملا مطلقا حاسما؛ فمن المرضى من يعلمون في حالتهم العادية أن لهم حالة أو حالات غير عادية، مما يدل على أن الأولى هي الراسخة وأن الثانية عارضة، والذين لا يعلمون قليل جدا. ومنهم من طلب إليهم العلماء المختبرون إتيان أفعال مخالفة للأخلاق القويمة، أو لأخلاقهم الخاصة، فأبوا ذلك، مما يدل على أنهم يحتكمون، لا إلى شخصية عارضة؛ بل إلى شخصية أعمق باقية بالرغم من تقلب الحالات، وهي الشخصية الوحيدة في الحقيقة. هذا فضلا عن الذين يعالجون فيشفون ويعودون إلى شخصيتهم العادية.
فليس في الإنسان سوى شخصية واحدة هي مظهر لنفس واحدة، فالإنسان مركب من جوهر روحي وآخر جسمي يؤلفان منه موجودا واحدا، لا كلا مجموعيا يتجاور فيه الجوهران ويتفاعلان من خارج على ما اعتقد أفلاطون وديكارت. ليس هذا الاتحاد عرضيا كالذي بين جوهرين تامين، ولكنه جوهري حاصل بين جوهرين ناقصين كل منهما مفتقر للآخر متمم له: من النفس يقبل الجسم تركيبه ووحدته وحياته، وسائر ما يجعل منه جسما إنسانيا؛ وحالما تفارقه بالموت ينحل إلى عناصره؛ وتبقى النفس متقومة بذاته؛ ولكنها في هذه الحياة جوهر ناقص، لا تستطيع دون الجسم أن تزاول أفعال قواها التي تقتضي مشاركة الأعضاء مشاركة مباشرة، مثل الإحساس والتخيل والتذكر. فالنفس الإنسانية ناطقة بالذات، نامية وحاسة بقوى فيها، تحدث الأفعال النامية والحاسة في الجسم ومعه؛ لذا كانت القوى النامية والحاسة قوى المركب من النفس والجسم، لا قوى النفس وحدها، بينما العقل والإرادة قوتان مفارقتان بذاتهما للمادة؛ فهما للنفس وحدها. وعلى ذلك فالنفس الناطقة موجودة كلها في الجسم كله أولا، وبالذات من حيث إنه الموضوع المتكمل بها؛ وليس لها مقدار لا بالذات ولا بالعرض، وموجودة في كل جزء من أجزاء الجسم ثانيا بقوة خاصة بالجزء، كقوة الإبصار في العين مثلا. ليس الإنسان إذن جوهرا روحيا محضا يستخدم الجسم من خارج، ولكنه طبيعة خاصة قوامها نفس معدة بالطبع للاتحاد بجسم اتحادا جوهريا لمزاولة وظائفها، بحيث يكون الجسم تكملة ضرورية لها، لا قيدا أو عائقا. (6) النفس الإنسانية: روحانيتها
بينما جميع أفعال النفس النامية والنفس الحاسة تحدث في الجسم وبمشاركة الأعضاء، فلا نرى وجودا خاصا ، بل نرى لكل منهما وجودا في المركب منها ومن الجسم، نرى للنفس الناطقة بعض أفعال مستقلة عن الأعضاء، فنحكم بأنها مستقلة عن الجسم في وجودها، تلك الأفعال هي الصادرة عن العقل والإرادة، وذلك الاستقلال هو المسمى بالروحانية. فإن النفس الناطقة تدرك موضوعات مختلفة الماهية والأعراض: تدرك الخالق والمخلوق؛ الروح والجسم، الجوهر والعرض، الموجود الواقعي والممكن والذهني، وهذا دليل على أن العقل غير مخصص بموضوع أو بطائفة من الموضوعات، كتخصص الحواس الظاهرة (العين مثلا للضوء واللون، والأذن للسمع، وهلم جرا)؛ هذا فضلا عن كون العقل يدرك موضوعاته على نحو غير مادي، مجردة عن المشخصات. لو كان العقل معينا بعضو لكان هذا التعيين يحول دون إدراكه أشياء مختلفة، كذوق المحموم، لمرارته بالحمى، لا يشعر بالحلاوة، وكعين المصاب بالصفراء ترى جميع المرئيات صفراء، فإن لكل جسم ولكل عضو جسمي طبيعة مخصوصة تمنع من إدراك أشياء مختلفة، ومن إدراكها على نحو مجرد، أعني خلو من المشخصات المادية.
وجميع إدراكاتنا العقلية للماديات هي على هذا النحو، قاصرة على عناصر الماهية، ونحن نشعر بأننا نستخرج المعاني المجردة الكلية من الصور الجزئية المستفادة من التجربة بالحواس، وأن علومنا مطابقة للموجودات. وعلى المعاني المجردة تقوم أحكامنا واستدلالاتنا، فالحكم تحليل للمعنى المجرد، وتصور للنسبة بين المحمول والموضوع، وليست النسبة شيئا محسوسا، فتصورها يقتضي قوة غير محسوسة، هي العقل. كذلك الاستدلال إدراك لزوم منطقي بين النتيجة والمقدمتين، وليس اللزوم المنطقي شيئا محسوسا، فتصوره يقتضي قوة غير محسوسة. أما القوة الحاسة، فلارتباطها بعضو وتعينها بموضوع، لا تنفعل إلا بكيفية محسوسة، ولا تدرك موضوعا مجردا.
والعقل ينعكس على أفعاله، يحللها ويتأملها، كما نصنع في هذه البرهنة التي نحن ماضون فيها: ومثل هذا الانعكاس محال على قوة جسمية؛ وليست أفعال العقل محسوسة كالماديات حتى يدركها الحس بعضوه، وليست الرؤية ملونة، فالعين لا ترى رؤيتها. إن الانعكاس يدل على استقلال العقل عن كل عضو من حيث إن المادة لا تنعكس على ذاتها، بل يتطابق أجزاء منها بعضها على بعض. وبالانعكاس على الذات والاستدلال تعقل النفس اللاماديات مثل النفس والله والفضيلة والواجب والعلم وما إلى ذلك، والموجودات الذهنية، وهي لا مادية، وغير موجودة إلا في الذهن، ولا يمكن أن توجد إلا فيه، كالماهية أيا كانت، وكالنسب أو العلاقات الضرورية بين الأشياء، وليست النسبة أو العلاقة شيئا محسوسا يدرك بحس ما. وينسحب هذا الدليل على الأفعال الإرادية كما تقدم، فإن الإرادة تتجه إلى مطلق السعادة، وإلى خيرات لا مادية تفترض أفعالا لا مادية وفاعلا لا ماديا، كما أن الحرية دليل على التعقل والتجرد.
وعلى ذلك ليس الدماغ عضو الفكر، ولكنه شرط ضروري لتكوين الفكر، من حيث إنه مركز الصور الخيالية المفتقر إليها الفكر ليجرد منها المعاني ويركب الأحكام والاستدلالات. والاستقلال عن الدماغ بهذا المعنى، استقلالا ذاتيا من حيث الوجود ومن حيث الفعل، لا يمنع تبعية خارجية للدماغ. وهذا وجه حق في المذهب المادي لا نريد أن نغفله، فإننا محتاجون إليه للكشف عن أصل المعاني المجردة؛ وإذا أغفلناه اضطررنا إما إلى إنكارها كالحسيين فنقع في خطأ جسيم، وإما إلى وضعها في الفكر ابتداء كالتصوريين دون الاعتراف لها بقيمة موضوعية، وهذا خطأ لا يقل جسامة عن السابق.
وقد لخص ابن سينا هذه النظرية تلخيصا دقيقا رصينا، فقال من جهة واحدة: «لا شيء من المدرك للجزئي بمجرد؛ كل إدراك جزئي فهو بآلة جسمانية؛ والخيال لا يتخيل إلا أن ترتسم الصورة الخيالية فيه في جسم.» وقال من جهة أخرى: «لا شيء من المدرك للكلي بمادي. إن الجوهر الذي هو محل المعقولات ليس بجسم ولا قائم بجسم على أنه قوة فيه أو صورة له بوجه (وإنما هو مجرد).» و«تعقل القوة العقلية ليس بآلة جسدية، فإنه ليس بينها وبين ذاتها آلة، ولا بينها وبين أنها عقلت، ولكنها تعقل ذاتها وأنها عقلت، فإذن إنما تعقل بذاتها مع العلم بأن الحس لا يحس ذاته، ولا الخيال يدرك آلته.»
4
فليست نفس الحيوان مجردة أو روحانية؛ لأنها لا تدرك المجرد، وإن إدراك المشخص هو دائما بعضو جسماني متحد بالقوة المدركة؛ ونفس الإنسان تدرك المجرد، فهي مجردة غير متحدة بعضو.
هذه النفس المجردة الروحانية، هل هي جوهر قائم بذاته، كالملاك في تصور أفلاطون وديكارت؟ أم هي صورة الجسد تؤلف وإياه موجودا واحدا هو الإنسان، كما تتألف سائر الماديات من هيولي وصورة، ثم تعود الصورة إلى الكمون بانحلال التأليف؟ لقد طال الخلاف واشتد بين الأفلاطونيين وفريق من الأرسطوطاليين من جهة، وبين فريق آخر من هؤلاء يقال: إنهم اتبعوا ابن رشد. غير أن ما سبق لنا قوله من أن الإنسان طبيعة متوسطة بين الروح الخالص والحيوان الأعجم، يعني هنا أن نفسه روح تقوم بمهمة الصورة الجسدية. فالآراء في هذه المسألة ترجع إلى ثلاثة: الرأي الأفلاطوني، وهو روحانية حاسمة مسرفة؛ والرأي الرشدي، وهو وإن قال بوجود نفس ناطقة، إلا أنه سائر مع المادية ومسرف من الناحية المقابلة؛ ورأي الأرسطوطاليين المتوسطين المعتبرين النفس الناطقة جوهرا معطيا الجوهرية ما دامت متصلة بالجسد ومكملة له حتى يصير إنسانيا. «الأنفس الإنسانية متفقة في النوع والمعنى» من حيث إن الصورة مجردة والمادة هي المتشخصة: فكيف تتشخص كل منها بأعراض خاصة، وتتميز بعضها من بعض بعد مفارقتها للبدن؟ يحدث التشخص من جهة «نسبة النفس إلى البدن»، فإن الأنفس تنفرد باختلاف أبدانها وأزمنة حدوثها وسائر هيأتها.
5
هذا رأي ابن سينا، وهو الذي يبدو صوابا: تتباين الأنفس في مختلف أحوالها، مع اتفاقها بالماهية، وتتفاوت كمالا بتفاوت الأجسام في الكمال، تبعا لأحوال الوالدين البدنية والمعنوية، وحال الجنين في تأثره بجميع العوامل، ومجاوبات كل نفس على المؤثرات.
وهذه النفس الروحانية ما أصلها؟ قلنا: إن النفس النامية والنفس الحاسة تخرجان من قوة المادة. ولا نستطيع أن نقول مثل هذا عن النفس الناطقة؛ فإنها أرفع من المادة، ومضادة لها بالطبيعة، فلا تخرج منها ولا تعود إليها. ولا سبيل إلى إثبات رأي أفلاطون من أن الأنفس الأرضية صنع أنفس الكواكب من مزاج وزعه عليها الإله الصانع؛ وهذا الرأي أقرب إلى الأسطورة منه إلى الفلسفة. ولئن كان أرسطو صاحب القول بأن الصور الطبيعية تخرج من قوة المادة وتعود إليها، فإنه يستثني العقل أو النفس الناطقة، فيقول: إنها تأتي من خارج؛ ولئن كان لم يعين هذا الخارج فإن عبارته تنأى به عن زمرة الماديين، وتحشره في زمرة الروحانيين المعتدلين، أولئك القائلين بنفس روحانية هي صورة للبدن. وقال ابن سينا: «تحدث النفس كلما حدث البدن الصالح لاستعمالها إياه.»
6
غير أن البدن يحدث - فيما يرى - بتكون العناصر الأرضية الخاضعة للحركات السماوية، فكأنه اعتقد بكفاية العناصر، ولو بفضل الموجودات العلوية، أو بكفاية هذه الموجودات، لإيجاد الأنفس بطريق غير مباشر، وهذا الرأي يعطي كثيرا لأنفس الكواكب، بل يسند إليها خلق الأنفس الإنسانية كغيرها من الأنفس الأرضية، وسنقول الآن: إن الخلق غير مقدور لمخلوق ما، فلا الحيوان يخلق بدن الحيوان بالميلاد، ولا الإنسان يخلق بدن الإنسان بأي نحو كان.
هذه آراء بعض المتقدمين. وهناك رأي أقرب منها عهدا يشبه رأي ابن سينا من جهة كونه يفترض تكوين العلويات للأبدان النامية، وإنزال نفس نامية في كل بدن، فتبدو فيه ظواهر النمو، وتبدو ظواهر الحساسية، بتأثير تلك النفس النامية وبتأثير نفس خامسة تجيء بعدها. ثم تبدو ظواهر النفس الناطقة بتأثير نفس ناطقة تجيء بعد الاثنتين وقد أدتا رسالتهما. بيد أن الانتقال من النامية إلى الحاسة لا يجد له تعليلا مقبولا ما دامت النامية أدنى من الحاسة، وعاجزة عن إعداد النامي للإحساس. كذلك الانتقال من الحياة الحاسة إلى الناطقة لا يجد له تعليلا كافيا لعين السبب.
المعقول أن الخليتين الأوليين (الذكر والأنثى) حين تلتقيان يحدث كل منهما تفاعلا يفضي إلى تكوين «الخلية» الأم وإلى خلق الله للنفس الناطقة في تلك اللحظة، ما دامت هي روحانية عالية على قوة المادة، وما دام الخلق غير مقدور للمخلوق، ولكنه ميزة الخالق وحده، الواجب الوجود لذاته، القدير على أن يمنح منه ما يشاء أو ما يقتضيه النظام الكوني الموضوع منه، فتتحد الناطقة بالخلية الأم، فتتعاقب أفعال الحيوات الثلاث المطوية في قواها كلما تهيأت لذلك الأعضاء، أي: تكوين الجنين. ومن المهم للغاية أن نفهم أن هذا التدبير من جانب النفس الناطقة يصدر بصفتها علة صورية، لا علة فاعلية تفكر وتقدر وتنفذ حسب التقدير والتفكير، كما فهم بعض الفلاسفة الذين وجدوا في هذا النوع من العلية اعتراضا قويا على ضرورة وجود النفس، في حين أن العلية الصورية لا تقتضي أكثر من العمل الآلي طبقا لرسم غائي مطوي في الصورة الجوهرية فائق على مقدرة المادة على التركيب والفعل، كما يبدو بكل وضوح في الأفعال الفسيولوجية، كضرب القلب والتنفس والهضم واندمال الجروح وما إلى ذلك. هكذا توجد النفس الناطقة في البدن، وهكذا تفعل. (7) النفس الإنسانية: خلودها
إذا كانت النفس الإنسانية مستقلة بوجودها وبفعليها الخصوصيين اللذين هما التعقل والإرادة، فمن البديهي أنها لا تفنى بفناء الجسد، ولكنها تبقى متعلقة مريدة مدركة ذاتها بذاتها؛ لأنها في هذه الحال بريئة عن المادة، ومن ثمة معقولة بالفعل، بعكسها في حال اتحادها بالجسد حيث هي غير مدركة ذاتها بذاتها. وتلك هي مسألة الخلود العظيمة الأهمية للأخلاق وللدين. وعلى أهميتها هذه فالفلاسفة كثيرون الذين ينكرون إنكارا باتا بقاء النفس بعد الموت. أولئك هم أشياع وحدة الوجود، من قدماء الهنود إلى أيامنا، القائلون بعودة النفس إلى «الكل المطلق» وفقدانها الشعور بذاتها فيه، وأيضا الماديون المنكرون للروح إطلاقا، أو الحسيون أو الواقعيون أو التجريبيون إن سميناهم من جهة المعرفة، المنكرون لما يعلو على التجربة أو إدراك الحس أو إدراك الواقع؛ أو الظاهريون، إن سميناهم من جهة المعرفة كذلك، المنكرون للجوهر مادة أو روحا. الخلود الحق المقصود هاهنا هو البقاء الجوهري الشخصي للنفس، سواء مع تناسخ، تبعا لرأي البراهمة والفيثاغوريين، أو دون تناسخ.
نعود إلى الدليل المشار إليه في أول هذا العدد، وهو دليل ميتافيزيقي، ونضيف إليه دليلا نفسانيا مأخوذا من ميل فينا طبيعي أساسي للبقاء دائما؛ ودليلا خلقيا مستفادا من ضرورة الجزاء التام على أفعالنا الحرة، فنقول: أولا؛ إن النفس بسيطة غير مركبة من أجزاء يمكن أن ينفصل بعضها من بعض، والنفس الإنسانية روحانية، فينطبق عليها هذا السبب من باب أولى، فإن النفس الحيوانية، بل النفس النباتية بسيطة، ولكنها غير باقية على حيالها، كما قد بينا، فليست تكفي البساطة لصيانة الوجود المستقل، على ما اعتقد ديكارت، بل تكفي الروحانية البادية في فعلي التعقل والإرادة، ما دام للنفس أفعال خاصة بها تقوم بها بدون وساطة عضو ما.
ونقول: ثانيا؛ إن في الإنسان ميلا طبيعيا أساسيا للبقاء إلى غير انتهاء، والميل الطبيعي الأساسي يرجع إلى طبيعة الكائن، وإذن فطبيعة الإنسان أن يظل حيا دائما. إن كل حاصل على العقل يشتهي بالطبع أن يوجد دائما، ويحس أن هذا الاشتهاء لا يمكن أن يكون عبثا. هذا الميل نعرفه في أنفسنا وفي سائر الناس في جميع العصور: علاماته الرغبة في تأييد أفراحنا وأعمالنا واسمنا، والنفور من الموت، ذلك النفور الذي هو صورة أخرى للميل للبقاء، والدال عليه تكريم الموتى عند الشعوب قاطبة، والعناية بدفنهم، وتزويدهم بالمأكل والمشرب. ولا نقولن: إن فكرة الخلود آتية من عدم كفاية خيرات العالم لإشباع شهوتنا، فإن النفس - لكونها تحس أنها خالدة - لا ترضى بخيرات العالم، وتطمح إلى خيرات لا تزول. ثم يمكن دعم هذا الدليل، أو إعطاؤه قيمة ميتافيزيقية، باعتبار أن الكائن العاقل الذي يدرك الوجود مطلقا، لا معينا محدودا زمانا ومكانا كإدراك الحس، ينزع بطبعه إلى الوجود الدائم، ولا يجوز أن يذهب النزوع الطبيعي سدى. بل إن هذا النزوع الطبيعي يظهر أيضا في غير فكرة مطلق الوجود، أعني في فكرات الواحد والحق والخير والتجميل، أو لواحق الوجود، تلك الفكرات التي تبدو لنا كلية ضرورية، أزلية أبدية كالوجود نفسه.
ونقول ثالثا: لكي يكون الواجب الخلقي مفهوما وفعالا، يجب أن يكون الإنسان خالدا حقا، وإلا لم يوجد في الحياة الأرضية جزاء كاف على الأفعال الخلقية، لا من جهة الطبيعة، فإنها غير خلقية، غير مميزة بين الأفعال، غير مقدرة للجزاءات؛ ولا من جهة المجتمع، فهو لا يتناول سوى الأفعال الظاهرة، وهو مبني على الخداع؛ ولا من جهة الضمير، فإنه لا يحكم على نفسه، بل يحاول جهده التنصل من التبعة والتملص من العاقبة. ومن هذه الأوجه الثلاثة ما أكثر ما يشقى الصالح وينعم الطالح! فلا بد من حياة أخرى تتحقق فيها العدالة التامة ويسود النظام، وتكون هي رادعا قويا.
هل يجوز القول: إن الله قد يعدم الأنفس بعد أن يمنحها هذه العدالة الكفاية من الثواب والعقاب؟ الحقيقة أننا نطمح إلى السعادة الكاملة كما رأينا، وأن لا نهاية مدتها عنصر جوهري فيها، وأن تناهي المدة منغص للسعادة، وأن الله هو الذي أودع النفس ذلك الميل إلى السعادة الكاملة، فكيف يحدها ويلاشيها؟ لئن كانت القدرة الإلهية غير المتناهية مستطيعة من هذا الوجه إعدام أي مخلوق، إلا أن القدرة المضبوطة بالحكمة والطيبة لا تسلب الموجودات ما فطرتها عليه، والله هو الذي خلق النفس الإنسانية روحية غير فاسدة.
ماذا يصير بنفس الإنسان في الخلود؟ يجب الاعتراف أولا بأن المفارقة حال قسرية؛ لأن طبيعة الإنسان أنه نفس وجسد معا؛ فالمعقول أن يعد الموت حادثا قسريا، ويعد البعث ضروريا لإعادة الإنسان إلى طبيعته. فإن قيل: إن من المحال «جمع جميع أجزاء الإنسان التي كانت موجودة في جميع عمره» قلنا: إن استئناف خلق هذه الأجزاء «إيجاد لمثل ما كان لا لعين ما كان
7
لا سيما ونحن نعلم أن مادة الجسد تتجدد مرات خلال العمر، ويظل الشخص هو هو بنفسه. بيد أن هذا النزوع، وإن اعتبرناه طبيعيا، لا يصلح دليلا على البعث، لاستحالة البعث على قوة الطبيعة، أي لاستحالة عودة الجسد عودة طبيعية إلى التركيب والتنسيق؛ والبعث معلوم لنا بالوحي، ومنوط بإرادة الله وقدرته. وكل ما يصلح له هذا النزوع هو التدليل على أن البعث لا ينافي طبيعة النفس، بل على العكس يلائمها.
كذلك لا فائدة ترجى عقلية أو خلقية، من النظرية المعروفة بالتقمص أو التناسخ، والمراد بها انتقال النفس الناطقة من بدن إلى آخر، أو إلى بدن حيواني أو نباتي، على ما هو مأثور عن الهنود والفيثاغوريين وأفلاطون
8
بحجة التطهير من أدران الشر، فليس من دليل على أن المعاصي المرتكبة في هذه الحياة يجب أن يكفر عنها في هذه الحياة؛ وليس من شهادة للوجدان بأننا قد مررنا بحيوات سابقة؛ ولا ضرورة لما يستشهدون به من أن تفاوت بني الإنسان في الصفات الفطرية ليس صنع الله الكلي العدالة، فهو نتيجة حسن استعمال الأنفس للحرية، أو سوء استعمالها إياها من قبل، فإن لهذا التفاوت تفسيرا آخر هو الذي عرضناه حين قلنا: إن النفس تتشخص باتحادها بالبدن وأعراضه، فإن البدن يتفاوت استعداده، فتتفاوت صفات النفوس. والمذهبان (البعث والتناسخ) يرجعان إلى واحد، ففي كل منهما «استعمال النفس بعد خلاصها من البدن بتدبير بدن آخر»
9
بل البعث خير من التناسخ، إذ إنه لا يقلب الإنسان حيوانا أو نباتا، بل يحفظ عليه طبيعته.
يبقى أن النفس الناطقة يعود إليها الجسد استكمالا للطبيعة الإنسانية، وأنها تستأنف حياتها العقلية، ولو أن إشكالا يعترضنا هاهنا، ويبدو أسهل حلا في المذهب الأفلاطوني الذي طالما نقدناه، منه في المذهب الأرسطوطالي الذي كثيرا ما ناصرناه: ذلك أنه من المقررات الأساسية عند أرسطو أن النفس لا تتعقل شيئا دون ملاحظة صورة خيالية مصاحبة للتعقل؛ أعني دون مشاركة ما من العضو الحاس الذي كانت الصور الخيالية محفوظة فيه، وليس للنفس المفارقة مثل هذه الملاحظة لزوال ذلك العضو، فالنفس لا تقدر أن تتعقل شيئا في حال المفارقة، وهذا نقص خطير، على حين أنها في المذهب الأفلاطوني جوهر روحي بالذات، قد تحرر من الجسد وعاد إلى طبيعته المفارقة، وإلى تعقل المجردات بذاته.
لكن يمكن أن يقال من جهة أساسية: إن النفس تقدر أن تزاول التعقل بالمعاني المستفادة في الحياة الراهنة والمختزنة فيها، أي أن تتذكرها وتؤلفها بعضها مع بعض. ويمكن أن يقال من جهة فرعية مع اللاهوتيين: إن النفس تعقل على نحو ما بمعان تقبلها من لدن الله، كما تقبل الملائكة المعاني المفاضة عليها.
هوامش
الباب الثاني
ما بعد الطبيعة
الفصل الأول
علم الطبيعة
(1) موضوع هذا العلم
يرجع لفظ «ما بعد الطبيعة» إلى أحد أتباع أرسطو، وقد عني بترتيب كتبه، فوجد لواحد منها ثلاثة أسماء، هي الحكمة والفلسفة الأولى والعلم الإلهي؛ لاشتماله على ثلاثة مباحث كبرى؛ أولها: مبادئ المعرفة إطلاقا، والثاني : الأمور العامة للوجود، والثالث: الألوهية رأس الوجود. وهي مباحث تشترك في أعلى درجة من درجات التجريد، وتؤلف علما واحدا بهذا الاعتبار، يقع بعد الطبيعيات في الترتيب، فأطلق عليه ذلك التابع اسما مأخوذا من مكانه، وهو اسم إن لم يجد شيئا في التعريف بالمدلول، فإنه يضم أجزاءه ويوفر له وحدة الموضوع اللازمة للعلم، وقد عالجنا مسألة المعرفة، ومبحث الأمور العامة في كتاب «العقل والوجود»، ونعالج هنا مسألة الألوهية.
إن الشعوب قاطبة اعتقدت دائما بموجودات أرفع من الإنسان، دعتها آلهة وأربابا، ودانت لها بالخشوع والخضوع، واعترفت بإشرافها على الحوادث السفلية، ونستطيع أن نقول: إن العلماء - حتى الممعنين منهم في المذهب الحسي المستمسكين بالمنهج التجريبي - مجمعون على أن الدين أقدم المظاهر الإنسانية وأعمقها تغلغلا في الحياة، فردية واجتماعية. وفي مقدمة الجاحدين لوجود الله أو الآلهة، الماديون والتصوريون. والحزبان متفقان على رفض معاني الروح والجوهر والعلة، اعتقادا منهم أن العقل قاصر عن إدراك ما يجاوز نطاق التجربة. ومن الجاحدين أيضا، ومن أشهرهم في عصرنا، معظم العلماء الاجتماعيين، أو كلهم، وهم فرق في مختلف البلدان الغربية، ولكل فرقة نظرية، وربما كانت أشهرها نظرية دوركيم وتلاميذه، وهم يذهبون إلى أن فكرة الألوهية هي عين فكرة المجتمع مجولة إلى خارج ومنصوبة ماهية عليا بما للمجتمع من سلطان قاهر وأثر بالغ، يحس في الاجتماعات، وبخاصة بمناسبة الأعياد والمراسم والأحداث القومية، حيث تهزه روح من العزة والشجاعة والحماسة ترفعه فوق مستواه المألوف.
فما بعد الطبيعة علم خاص موضوعه تلك المسائل الثلاث، وأهمها من غير شك موجود معين بيده أمر العالم أجمع، أو موجودات معينة لكل منها بعض الأمر. وهذا العلم من هذا الوجه أجدر بأن يسمى «ما قبل الطبيعة» أو «ما فوق الطبيعة» لعلو موضوعه واستناد العلم الطبيعي عليه كاستناد الطبيعة نفسها على القدرة العظمى، فهو متقدم عليها. والفرق جسيم بين البعدية المكانية والتبعية الوجودية.
وهو علم فلسفي يرمي إلى استكشاف العلة الأولى للأشياء وتحديد صفاتها، بالعقل وحده، دون اللجوء إلى العاطفة ولو كانت العاطفة الدينية. وقليلو الثقة بالعقل ومبادئه ومناهجه هم الذين يثيرون الريبة حوله، حتى المؤمنون منهم. كان بسكال مؤمنا أشد إيمان، ومن جهة أخرى معتقدا أن العقل قوة استدلالية ليس غير، يستنبط النتائج من المقدمات، ويصل إلى معان مجردة، لا إلى شخصيات، والمطلوب بصدد الله الحصول على معرفة حدسية محسوسة بالقلب، يعني على إله الشخصي، إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، كما يقول، لا الوصول إلى فكرة الله أو إله الفلاسفة والعلماء، والبراهين الفلسفية معقدة صعبة بعيدة من استدلال الجمهور. ذلك موقف بسكال وموقف كثيرين قبله وبعده. والحقيقة أن وجود الله مفتقر إلى البرهان، بدليل كثرة المتشككين في قوة البراهين، فضلا عن المنكرين، والبراهين مبنية على بديهيات يقرها العقل الصريح، ويدركها كل من سلم عقله من النظريات الزائفة، بحيث لا يغتفر الجهل بها أو التشكك فيها، ولو أن تفسيرها الفلسفي يحتاج إلى إمعان نظر. (2) إجمال الآراء
ولزيادة إيضاح هذا الموضوع نجمل الآراء فيه، وهي كثيرة دقيقة موجهين التفاتا خاصة إلى الأحادية أو مذهب وحدة الوجود بلا تمييز بين الله والعالم، وهو أشنع المذاهب في حق الله، أشنع من الإلحاد الصرف؛ لأن الإنكار البات لوجود الله أهون من تشويه حقيقته، والإهانة فيه أخف. وهو أشد المذاهب خطرا على الأخلاق والدين؛ يلح أنصاره في الإيمان بالله، وما الله عندهم سوى لفظ أجوف يطلقونه على جملة العالم، أو على روح غير معين، وفي الحالين على شيء خلو من الشخصية، يصطنعون التصوف، وما تصوفهم إلا غرور يلتمسون من سبيله لذة نفسانية.
نقول إذن: لعل الهنود أول شعب ظهر فيه هذا المذهب، أو ظهر بمثل ما نعرف له عندهم من قوة وسمو. كانوا على الشرك أو تعدد الآلهة يؤلهون قوات الطبيعة، ويتصورون الأشياء مريدة كالإنسان، وبخاصة الأجسام المضيئة وظواهرها الضوئية. ثم انتقل تفكير كهنتهم البراهمة إلى الجمع بين الآلهة، وانتهوا إلى ثلاثة: أحدهم خالق، وآخر حافظ المخلوقات، وثالث معدم ما يعدم منها، أو هم ثلاث وجهات لقوة واحدة، تنبثق الموجودات من براهما كينبوع عام دون تمايز حاسم إلا في الظاهر. والإرادة في براهما عبارة عن شهوة التكثر والتعدد، فولد الضوء بقوة عقله. والضوء الذي خلقه أحس الشهوة عينها، فخلق المياه، وأحست المياه عين الشهوة وخلقت الأرض.
ولما نشأت الفلسفة اليونانية كان من أقطاب الطبقة الأولى أشياع لهذا المذهب. ولا نستبعد أن يكونوا تأثروا بالتعاليم الهندية. فبحثوا عن أصل الأشياء وطريقة تكوينها، فآثر كل منهم مادة جعل منها الأصل الذي تتكون منه الأشياء باجتماع بعضه مع بعض، أو بالتكاثف، وتفسد بافتراق بعضه عن بعض، أو بالتخلخل، آثر طاليس الماء، وانكسيمانس الهواء، وهرقليطس النار، واعتقد كل منهم في مادية الحياة والفكر. فبمقتضى هذا التصور كان الوجود واحدا، لما هو واضح من أن المركب هو من جنس أصله وطبيعته، وكان هرقليطس أعمقهم نظرا وأكثرهم صراحة، قال: إن هذا العالم لم يصنعه إله أو إنسان، ولكنه كان أبدا، والنار الأثيرية هي الله. وقال: إن الأشياء جميعا في تغير متصل وتطور مستمر بقوة باطنة وقانون ذاتي، وبهذه الأقوال توفرت له وحدة الوجود، وحدة مادية باشتراك الأشياء أصلا وصيرورة.
ولكن التغير والتطور مزاج من وجود ولا وجود، هو وجود بما هو بالفعل، ولا وجود بصيرورته من حال إلى حال. فاستكبر معاصره بارمنيدس هذا التناقض الصارخ، ورفع صوته مجلجلا يقول: «يجب التسليم قطعا إما بالوجود أو باللاوجود، واللاوجود محال فلا ييقى إلا الوجود. وكيف يمكن أن يوجد (بالذات) شيء غير الله، فالوجود هو الله.» وتوفرت له بهذه الأقوال وحدة منطقية أو ميتافيزيقية بالمقارنة بين معنيي الوجود واللاوجود، وتحقيق الأول، وتزييف الثاني. وكان أستاذه إكسانوفان قد «نظر إلى عظمة السماء وقال: إن العالم واحد».
وتأثر أفلاطون بما بين أجزاء العالم من نظام وترابط، فأرجع العالم إلى نفس كلية تدبره كما تدبر النفس الجزئية الجسد الحالة فيه، وأبقى عالم المثل كثرة روحية، فكانت الوحدة عنده مادية جزئية. ونشر الرواقيون فكرة الوحدة المادية الكلية بالصورة التي رسمها هرقليطس، وقد اصطنعوا فلسفته بتمامها. وازدادت انتشارا بجهود الأفلاطونية الجديدة، ولا سيما أفلوطين، بكتبه اليونانية وترجماتها اللاتينية والسريانية والعربية.
يتساءل أفلوطين: كيف تصدر كثرة عن الواحد ؟ ويجيب بقوله: إنه بسيط كل البساطة، واحد كل الوحدة، حتى ليجب أن ننفي عنه التعقل والفهم، تعقل ذاته وسائر الأشياء لنكثر العاقل والتعقل والمعقول. فإذا جاء شيء بعده فإنما يجيء بتوجه الواحد إلى ذاته أبدا. وما يأتي من الواحد يأتي من دون ميل ولا إرادة؛ إذ ليس خارجه موجود يتحرك إليه ... كل موجود يصل إلى كماله يلد، فالموجود الكامل دائما يلد دائما ... إنه باتجاهه إلى ذاته يرى، وهذه الرؤية هي العقل (الكلي) الذي هو كلمته وفعله وصورته. ويتأمل العقل الأشياء التي في مقدور الواحد، فيلد النفس (الكلية). ومن هذه الكثرة يولد العدد والكم والكيف، ثم تأتي سائر الأشياء، فإن النفس (الكلية) تنظر صوب العقل (الكلي) فتحصل على معانيها، وتلد موجودات أدنى منها: هي التي خلقت الحيوانات بأن نفخت فيها الحياة، وخلقت الكواكب، والسماء الرحيبة، ووضعت فيها النظام. وبسبب هذه النفس كان العالم إلها في مظاهر مختلفة.
وقد عرف المفكرون الإسلاميون مواقف الفلاسفة اليونان في الألوهية، ووجد بينهم من اصطنعوا المواقف المتطرفة على ما في ذلك من خطر. وجد «معطلة» لا يثبتون الله، بعضهم قصروا في التوحيد بين الله وصفاته حتى وصفوا الخالق بصفات الأجسام، وبلغ بعض السلف في إثبات الصفات إلى حد التشبيه بصفات المحدثات، فدعوا بالمجسمة والمشبهة، ولو أنهم استدركوا بقولهم: ومع ذلك جسم لا كالأجسام، ولا يشبه شيئا من المخلوقات. وغلا المعتزلة في التوحيد بين الله وصفاته حتى وصلوا إلى التعطيل بنفي الصفات، قائلين: إن الله عالم قادر بمعنى أنه ليس بجاهل ولا عاجز. ووجد «دهريون» يزعمون أن «الدهر دائر» لا أول له ولا آخر، فيجوزون مرور العلل إلى غير نهاية بالذات، ويدعون أن العالم لم يزل موجودا كذلك بنفسه لا بصانع. ويلاحظ ابن رشد أن أحدا من الحكماء ليس يجوز وجود أسباب لا نهاية لها؛ لأنه يلزم عنه وجود مسبب من غير سبب، ومتحرك من غير محرك. ووجد من المشبهة من مال إلى مذهب الحلولية، وقال: يجوز أن يظهر الله بصورة شخص، وقد يكون الحلول بجزء، وقد يكون بكل كما في الأحادية. والحلول مذهب الغلاة من الشيعة.
1
أما الأحادية بالذات فقد زخرت أخبارها ووفرت كتبها، من فلسفية وتصوفية، اتبع الفارابي وابن سينا أفكار أفلوطين في صدور الموجودات عن الواحد، الأول، فقالا مثله: إن عن الواحد لا يصدر إلا واحد، أو كان في الله كثرة، وهذا محال. والواحد الصادر صدر عن ضرورة لا عن إرادة وخلق. ثم صدرت عقول أخرى بعدد الأفلاك؛ صدرت هي وأفلاكها كل عن الذي قبله.
وعلى ذلك نقول: إن الموجودات صادرة عن ذات الله، وإنها من ثمة إلهية. وهذا معنى كلمة الحلاج «أنا الحق»، أي إنه مظهر من مظاهر الله. وقال محيي الدين ابن عربي: «ما وصفناه بوصف إلا كنا نحن ذلك الوصف، فوجودنا وجوده، ونحن مفتقرون إليه من حيث وجودنا، وهو مفتقر إلينا من حيث ظهوره لنفسه.»
ووجد في المسيحية - أثناء القرنين الثاني عشر والثالث عشر - أحاديون سافرون، قال أحدهم، واسمه أموري دي بين: «الله وجود الكل.» وإن معنى الخلق إعلان الموجود الأوحد عن مظاهر من ذاته، وإن كل إنسان فهو عضو إلهي كالمسيح، فهو فوق الخطيئة، وكل فعل إنساني فهو صادر عن الله الموجود الأوحد، فلا تغاير بين الخير والشر، ولا موجب لإباء أي شيء على الطبيعة، بل تمنح كل ما تشتهيه. واصطنع دافيد دي دينان الأحادية المادية، فأنكر كل فرق بين المادة والروح والله؛ وقال: إن المادة الأولى أو الهيولي هي الله، والوجود واحد؛ ودليله أنه لكي يختلف شيئان يجب أن يكون فيهما عنصر مشترك وعنصر فاصل أو فارق، وليس بين المادة والروح عنصر مشترك، فليس هناك شيء يفصل بينهما، فهما واحد بالماهية. وقال إيكارت: «ما ليس عين الوجود فهو لا وجود.» ناسيا - كما نسي بارمنيدس - أن ما ليس موجودا بذاته قد يوجد بغيره نوعا من الوجود. وكثيرون غير هؤلاء لا فائدة من إيراد أقوالهم.
وأشهر القائلين بالأحادية في العصر الحديث: جيوردانو برونو، وباروخ سبينوزا، وأربعة ألمان هم: فختي، وشلنج، وهجل، وشوبنهور، وصلوا إليها عن طريق مناقشة فلسفة كنط. أقام برونو فلسفته على فكرتين أساسيتين: هما الوحدة واللانهاية. الوحدة ترابط الأجزاء ونظامها، واللانهاية امتداد الكون إلى غير حد في المكان وفي الزمان. من حيث المكان الكون مليء بعوالم لا تحصى، ما نظامنا الشمسي إلا واحد منها. ويملأ الكون أثير لا متناه منطو على بذور أو عناصر الأشياء، وغاياتها، وقوانين نموها. وهي مادية روحية معا، أزلية أبدية، وهذه هي اللانهاية في الزمان، تجتمع وتفترق، فتؤلف الأشياء. لم يخلقها الله بالإرادة أو عن شهوة (كما قال الهنود)؛ إذ ليس الكمال الأعظم بحاجة إلى شيء، بل وجدت عنه بضرورة ذاتية. وهو حاضر لدى الأشياء حضور الوجود للموجود، أو حضور الجمال للجميل. هو الواحد المطلق؛ هو جميع الأشياء؛ وليس شيئا منها. وهو ليس عقلا؛ إذ إن المعرفة تفترض عارفا ومعروفا؛ والواحد أرفع من هذه الثنائية، وهو أرفع من الوجود، بمعنى أنه منبع كل وجود. فلا نضيف إليه أي محمول، لا الوجود ولا الماهية ولا الحياة، فإنه أعلى من هذه الإضافات، وإنما نقول: إنه يلد العقل (الكلي)، والعقل يلد النفس (الكلية). والنفس تلد جميع الصور المطوية فيه.
وسبينوزا معدود إمام المذهب في الفلسفة الحديثة: صاغه صياغة محكمة بمبادئه ونتائجها ونتائج نتائجها، مبرهنة كلها على الطريقة الهندسية، كي يتفق شكله القياسي مع موضوعه النازل من المبدأ الأول إلى الصفات والأحوال. المبدأ أن الوجود أجمع جوهر واحد، له صفات كثيرة جدا، لكنا لا نعرف منها سوى اثنتين، هما الفكر والامتداد، والجزئيات أحوال للصفات: النفوس أحوال الفكر، والأجسام أحوال الامتداد، وهو علة ذاتية أو باطنة، لا علة مفارقة؛ إذ ليس للأشياء قدرة وفعل. وإذا قلنا: إن الله علة حرة، فليس ذلك بمعنى أن الأشياء كان يمكن أن تحدث على خلاف ما هي، بل بمعنى أن الكل يفيض ضرورة عن طبيعته، كما يفيض عن طبيعة المثلث مساواة زواياه لقائمتين. فالبرهنة على وجود الله في هذا المذهب ترجع إلى برهنة على وجود مبدأ وحدة باطن في العالم ذاته. ومبدأ الوحدة أن لكل شيء قدرة ذاتية على الوجود بقدر ما له من حقيقة موضوعية، والله غير متناه، فله قدرة مطلقة على الوجود، وهو موجود مطلقا ، فإن كمال الشيء لا ينتزع منه الوجود، بل على العكس يثبته، وإلا كانت المتناهيات الموجودة بالفعل أعظم قدرة من موجود لا متناه غير متحقق، وهذا خلف. وليس الله كائنا شخصيا، فإن كل شخصية (أو أنا) تتضمن تمايزا من أي شيء آخر (أو تعارضا بلا أنا) ومن ثمة ماهية ما معينة، وكل تعيين فهو حد للماهية المعينة دون سائر الماهيات، وهذا متعارض مع الطبيعة الإلهية اللامتناهية، أي اللا معينة. والله والعالم واحد، وما بينهما سوى فرق في وجهة النظر؛ الله هو «الطبيعة الطابعة»، أي معتبرا في كل ما يلزم ضرورة عن الطبيعة الإلهية، والعالم هو «الطبيعة المطبوعة»، أي جملة الأحوال المتناهية العابرة المعبرة عن الصفات. ولكن الأحوال ضرورية كالصفات، تتطور بضرورة مطلقة: «لا إمكان ولا حدوث في الطبيعة.»
وكان لسبينوزا تأثير قوي في ألمانيا، فضلا عن تأثيرات أخرى، فوصل أربعة فلاسفة معدودين، هم فختي وشلنج وهجل وشوبنهور، إلى وحدة الوجود عن طريق مناقشة فلسفة كنط. رأى فختي فيها صعوبتين عاتيتين: إحداهما أن الموضوعات الحساسية آتية إلينا من التجربة، وليست موضوعات العقل آتية منها، بل من العقل نفسه، فكيف يتفقان؟ الصعوبة الثانية: إذا لم يكن لمبدأ العلية قيمة موضوعية - على ما يقرر كنط - فكيف تصدر الظواهر عن الجواهر؟ لأجل حل الصعوبة الأولى يمحو فختي الجواهر، وهي على كل حال غير معلومة، فلا تعود هناك حاجة لتطبيق مبدأ العلية، ويقول: إن الظواهر آتية من الذهن كالمعاني العقلية، مادة وصورة؛ من الذهن يعني من الأنا، فالأنا هو المطلق، هو كل شيء. إنه بإحساساته ومعانيه يثبت نفسه، وبإثباته نفسه يثبت اللا أنا. والحل عند شلنج أن من الضروري رد اللا أنا أو الطبيعة إلى الوجود، كأحد وجهين للوجود. وقال هجل: ليست الأشياء آتية من الأنا كما عند فختي، إنها آتية من المطلق كما عند شلنج، والطلق فكر أو مثال يتطور من أبسط حال إلى مختلف المركبات، كالفن والعلم والدين والفلسفة؛ فليس الله فعلا محضا، كما قال أرسطو، ليس الله متحققا بالتمام والكمال، وإنما هو قوة تتطور لكي تتحقق. وآمن شوبنهور بالأنا المطلق، ولكنه جعل منه إرادة تبعث التطور. هذه المذاهب هي - بعد مذهب بارمنيدس - الصيغة التصورية لوحدة الوجود.
هذا؛ وقد يجد البعض أننا أسهبنا وأسرفنا فيما كان الغرض منه التلخيص، لكنا أردنا أن نستعرض المسائل التي ثارت بصدد الألوهية، شرحا لموضوع هذا العلم وتمهيدا لمناقشتها.
هوامش
الفصل الثاني
البرهنة على وجود الله
(1) ثلاثة براهين عامة
جعلوا من البرهنة على وجود الله معضلة كبرى، وهي في الحقيقة من أيسر البرهنات، خلافا لما ظن بسكال وأضرابه، بل لعلها أيسرها، لدورانها على معان غاية في البساطة، كمعنى الفعل والقوة، وعلى مبادئ غاية في البيان، كتقدم الفعل على القوة. فما إن نتأمل معنى الفعل حتى ندرك تقدمه على القوة.
وما إن ننظر في شواهد القوة حتى ندرك بساطتها وبيانها وخضوعها لهذا المبدأ خضوعا مطلقا لا يحتمل أدنى تردد، بل يقودنا رأسا إلى اليقين الناصع.
1
هذه الشواهد هي: التركيب، والتغير، والحدوث، والتناهي: أربعة وجوه يتبين منها نقص العالم، واحتياجه إلى موجود كامل يفسره. وهذا هو الأصل في اشتغال العقل بالفحص عن وجود الله وماهيته.
فالمركب تابع لأجزائه لاحق عليها، وليس التابع اللاحق مفسرا بنفسه، بل بأجزائه، وبالعلة المركبة. والمتغير لا يتغير بذاته من الوجه الذي هو فيه بالقوة، فليس للساكن أن يتحرك إلا بمحرك حاصل على قدرة التحريك بنفسه، أو متحرك بآخر، حتى نصل إلى محرك بنفسه. والحادث، أي الموجود بعد لا وجود، لا يوجد ذاته، وإلا كان سابقا على ذاته، وهذا بين البطلان في كل ما لا يوجد بنفسه. والموجود المتناهي المحدود محصور في ماهية معينة، وفي مكان وزمان معينين، وينقصه ما خلا ذلك من ماهيات وأمكنة وأزمنة، فلا يكون مبدأ أولا مفسرا بنفسه. وغير صحيح أن فكرة اللامتناهي الكامل سابقة في عقلنا على فكرة المتناهي الناقص. ولأجل أن نعلم أن موجودا ما هو ناقص، فلا حاجة إلى مقارنته بالكامل، بل تكفي مقارنته بموجود أقل نقصا منه.
هذا إجمال للبراهين على وجود الله، قد يقنع به المتأمل في معانيها ومبائدها برؤية بريئة من تقليد المنكرين وإغرابهم. ولكن المنكرين قد أسرفوا حقا في الاعتراض والتخريج والإغراب، فلابد من استئناف النظر في تلك البراهين لزيادة جلائها، ودفع الشبهات عنها، ودحض الاعتراضات عليها، كي تخرج جلية ناصعة شارحة للصدور. ولم نشأ أن نجمع كل ما أسمي برهانا أو دليلا، فإن منها الضعيف الحقيق بالإبطال، وأخصر من الإبطال والإغفال، والنتيجة واحدة. بل اقتصرنا على ثلاثة براهين عامة، أي شاملة للموجود بما هو موجود أعني لجميع الموجودات، وخمسة منطبقة على طائفة معينة أو ناحية من الوجود. (2) برهان من الحركة إلى محرك ثابت
كل موجود طبيعي؛ فهو متحرك إما بالنقلة من مكان إلى آخر، أو من حال إلى غيرها، أو من مقدار إلى أكثر منه، وبالعكس. فالحركة ظاهرة عامة في الطبيعة. ومبدأ البرهان أن ليس يمكن أن يكون شيء بعينه محركا لنفسه، وإلا لزم وجوده قبل نفسه، وهذا محال، حتى الكائن الحي الذي نقول إنه متحرك من ذاته. فإنه منتظم من قوى ومن أعضاء يحرك أحدها الآخر. فكل متحرك هو في الحقيقة متحرك من غيره. وسنبين الآن أنه لا يجوز التداعي إلى غير نهاية في سلسلة العلل المحركة، وأن لا بد من الانتهاء إلى محرك أول غير متحرك.
وليس المقصود فقط الحركة المادية الآلية، بل كل تغير أو خروج من القوة إلى الفعل، كخروج الإرادة التي هي قوة روحية، فنصل إلى محرك كلي يحرك كل موجود، مباشرة لا بالواسطة، فإن العلة الأولى تفعل في كل فعل؛ لأنها علة كل وجود، والفعل وجود، لكن بحيث يكون لكل موجود أيضا فعل خاص، على ما سنوضحه بعد.
وليس المقصود الرجوع إلى لحظة أولى بدأت فيها علية الله، كما يتوهم كثيرون، بل الصعود في الآن الحاضر وفي كل آن إلى علة أولى. بغض النظر عن قدم العالم وحدوثه. وهذا يعني أن البرهان يعتمد بالذات على علل مقتضاة بالذات للمعلول ومرتبة فيما بينها، فهي متناهية العدد حتما ، وإلا لم يوجد هذا المعلول. والفارق بين هذا الترتيب أو التسلسل بالذات وبين التسلسل الزماني أو بالعرض أنه ليس يستحيل أن يتولد الإنسان من إنسان إلى غير نهاية إذا افترضنا قدم العالم، وهذا تسلسل بالعرض، بينما يمتنع التسلسل لو كان توليد إنسان متوقفا على إنسان وعلى العناصر الطبيعية وعلى الشمس، وهكذا إلى ما لا يتناهى.
وامتناع التسلسل في العلل يعني عدم الوصول أبدا إلى علة أولى، أو عدم وصول العلية إلى المعلول، فيظل المعلول الذي نطلب علته معلقا بلا علة، ويبطل مبدأ العلية، وهو بديهي لا يمكن إبطاله. وليس معناه أن لكل موجود علة، كما ظن كنط، بل إن لكل معلول علة، أي لكل ما يظهر للوجود ويدل بهذا الظهور على افتقاره، وإلا لأدى مبدأ العلية إلى إنكار العلية، كما تقدم، وهذا خلف. وتتضح ضرورة الوقوف عند علة أولى إذا عكسنا السير وحاولنا التأدي من العلة إلى المعلول، فإننا نرى حينئذ استحالة هذه المحاولة أيضا، من حيث إننا افترضنا مسافة غير متناهية بين الحدين، والمعلول مع ذلك ماثل أمامنا. فهل هناك برهان أبين من هذا؟ (3) برهان من النظام إلى منظم
يمضي هذا البرهان من النظام البادي في الأشياء وفي علاقاتها بعضها والبعض، حتى العاطلة عن المعرفة، فإنها جميعا توجد في هيئة مخصوصة متناسقة، وتفعل دائما أو في الأكثر على سياق مطرد، إذا لم يعقها عائق، كما يبين من تجربتنا اليومية ومن القوانين العلمية، فتصون وجودها وتصون النظام في العالم؛ مما يقطع بأنها لا تبلغ إلى غايتها مصادفة، بل قصدا، والمصادفة لا تجري على نظام، ولا ترمي إلى نظام. وإذا فرضنا المستحيل وسلمنا جدلا أنها قد تؤدي إلى النظام مرة، فليس يعقل أن تكون هي سبب تحقيق النظام في جميع الكائنات، وسبب استمراره واطراده، ومبدأ البرهان أن الكائن الخالي عن المعرفة، لا يتجه إلى غاية ما لم يوجه إليها من عارف، وأن المتباينات لا تتسق بعضها مع بعض ما لم يطبعها طابع على الاتساق. والنتيجة أن لا بد من موجود عارف صنع الكائنات، ورتب لكل منها هذين النوعين من النظام، واحد له في ذاته ، وآخر له مع غيره.
ومما تجب ملاحظته أن هذا البرهان، في حد ذاته، لا يقتضي إثبات نظام شامل في العالم أجمع، بل حتى لو أربت جملة الاضطراب على جملة النظام - وهذا محال - يبقى من المتعين الفحص على علة النظام حيثما وجد. والعلامة المميزة للمصادفة، والمفرقة بينها وبين الغائية، هي عدم الاطراد وعدم النظام، بينما النظام السائد في العالم ثابت كل الثبات، مطرد بلا تخلف على تعقده، تحكمه قوانين نتوقع معلولاتها توقعا يقينيا: فكيف يدعى أن مثل هذا النظام المطرد ناتج مصادفة، أي من عدم النظام وعدم الاطراد؟ ومع ذلك فهذا ما يدعيه منكرو الغائية. وهم يؤيدون دعواهم بقولهم: إن جميع الذرات المركبة للأشياء قد تحققت تركيباتها مرة أو أخرى ضرورة في غضون أزمنة متطاولة.
ونحن نرد بأن من الممكن جدا بل من الراجح جدا أن تكون أبسط المركبات هي التي تحققت، وهي التي تعود إلى ما لا نهاية لقلة ذراتها وسهولة اجتماعها، ولا تكون عادت المركبات المعقدة. ونسألهم: ماذا تفيد المركبات المعقدة لو عادت ملايين المرات؟ كيف نسلم بأن الحياة والفكر ينتجان عن اجتماع ذرات مادية، أي عن قوى عمياء؟ إحدى اثنتين: إما أن موجودا عاقلا صنع العالم المادي، أو أن العالم المادي صنع العقل والعاقل، ولا وسط بين الطرفين؛ ولا ريب أن الطرف الأول أكثر رجحانا وأيسر قبولا.
وعلى ما لهذا البرهان من قوة وحظوة في كل عصر، فقد عارضه كثيرون. أهم اعتراض أن العالم متناه، فلا يقتضي سوى منظم متناه، وأن الانتقال من المنظم المتناهي إلى منظم غير متناه، غلط منطقي هو أشبه شيء بغلط دليل القديس أنسلم حيث ينتقل من الموجود الكامل المتصور في الذهن إلى موجود كامل في الحقيقة. والجواب أن هذا القول كان يصح لو أن نظام العالم ترتيب أشياء جاهزة واستخدام علاقات خارجية على ما يصنع صانع الساعة، أو أي آلة من آلاتنا؛ حينئذ كان يمكن أن يقال: إن هذا البرهان يؤدي إلى مهندس متناهي الذات ليس غير؛ ولكن نظام العالم ناتج من تجهيز الأشياء أنفسها بإيجادها على نحو معين منسجمة الأجزاء ثابتة التركيب باقية الخصائص؛ فهو صنع صانع الأشياء، مادة وصورة. ثم إن هذا الصانع إما أن يكون وجوده بذاته، فلا يعود للاعتراض وجه؛ إذ يكون هو الإله اللامتناهي الذي نفحص عن وجوده؛ وإما ألا يكون بذاته، فيصبح هو موضوع سؤال ومطلوب برهان، حتى نصل إلى العلة الأولى اللامتناهية. وأخيرا فلا جدوى من هذا الاعتراض؛ لأننا نصل على كل حال إلى علة أرفع منا، وإذا سلمنا بها، أي بمهندس للكون، فما الذي يمنع من التسليم بإله خالق غير متناه؟
وقد وجه هنري برجسون إلى هذا البرهان هجوما لم يخطر لأحد من قبل، قال: إن النظام على نوعين، أحدهما آلي، والآخر إرادي، والنظام ضروري دائما على إحدى هاتين الصورتين، وما يسمى عدم نظام تعبير منا عن حالة لم نكن نتوقعها أو لا نريدها، كما إذا قلنا عن غرفة: إنها غير منظمة، فمعنى هذا أننا كنا نتوقع أن نرى فيها نظاما إراديا، وإذا بنا أمام نظام آلي، ومن هنا نرى أن فكرة عدم النظام فكرة زائفة، وأن من العبث التساؤل عن سبب النظام، فهذه مسألة يجب محوها.
2
وجوابنا أن التسليم بهذين النظامين لا يمنع من تصور عدمهما جميعا. فمن الضروري التساؤل عن سبب النظام متى وجد؛ لأن كل نظام فهو معلول، وليست الآلية مصدر نظام، وعلى ذلك فليس يوجد نظام آلي إلا بافتراض منظم للعلل الفاعلية، فيرجع النظام الآلي إلى الإرادي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن انتظام الموجودات كل في ذاته وكلها فيما بينها، يوجدان في نفس الوقت، فإن النظام العام يعني أن الموجودات مختارة لهذا الغرض من بين الممكنات. وأخيرا إن النظام نسبة الوسائل إلى الغاية، والنسبة أثر من آثار العقل، وعدم النظام أثر عدم العقل، والعلل الفاعلية لا تشرع في العمل إلا إذا كانت موجهة إلى غاية؛ لذا كانت الغاية علة العلل. فمتى وجد النظام وجدت له علة ، وهي علة عاقلة أو مرتبة من عاقل.
ومن الطبيعي أن يخطر اعتراض آخر ، فيقال: كيف يمكن أن تؤثر الغاية غير الموجودة بعد، وأن يؤثر المستقبل في الحاضر، وما ليس موجودا فيما هو موجود؟ وجوابه: أن الغاية علة حقة بما هي متصورة ومرادة، فيسبق لها وجود في فكر الفاعل، وإما بما هي مرتسمة في طبيعة الفاعل، دافعة به إلى العمل، كما نشاهد في تطور الجنين، إذ تنبت أعضاء مخصصة في تتال مخصص، دون أن يكون لها شأن بحاضره، وإنما هي تهيئة لمستقبله. وجميع الطبائع الجمادية والنباتية والحيوانية فاعلة على هذا النسق، موجهة إلى بقاء الموجود وخيره بكليته. وليس يمكن أن ينتج مثل هذا الانسجام آلي، ولكن ينتج من سبق تدبير طبيعي. قد نخطئ إذا ظننا أن غاية الخراف توفير حاجتنا من الصوف، وغاية البنجر توفير حاجتنا من السكر، والغاية من صياح الديك منعنا من الاسترسال في النوم، وأن الشمام رسمت فيه الطبيعة قطعا كي يؤكل في الأسرة. هذه غايات ظاهرة تجيز لخصوم الغائية أن يتندروا بها وبأمثالها. ولكنا لا نخطئ إذا توخينا الغايات الباطنية، واعتقدنا أن الغاية من صوف الخراف إمدادها بالحرارة اللازمة لحياتها، وأن الطبيعة وفرت وسائل أخرى للمحرومين من الصوف.
وعلى أي حال فليس احتجاج خصوم الغائية بحاسم، فقد تكون الغاية هدفا يقصد إليه، كما ندعي نحن، وفي نفس الوقت نهاية أفعال آلية دون قصد كما يقولون. أجل إن الطير يطير؛ لأن له جناحين، وإن الساعة تسجل الوقت؛ لأن أجزاءها متناسقة؛ ولكن أجزاء الطير وأجزاء الساعة اتسقت للطيران ولتسجيل الوقت، لا لشيء آخر، ولولا هذا الاتساق لتعطل الطير وتعطلت الساعة حتما، فإنكار وجود صانع صنع الساعة عن قصد وعقل غلط ليس له أدنى مسوغ. كذلك الطيران هو العلة الغائية للجناحين، وهو الملحوظ في تركيب الطير هذا التركيب المعين. وإنما يبدو القصد والعقل من النسب المتناسقة والوسائل الكفيلة بإنتاج نتائج جميلة نافعة. والعالم مصنوع تسطع فيه أعجب الأنظمة وأدق الوسائل للغايات المنشودة. فهو إذن صنع علة عاقلة. ثم إن للإنسان عقلا، وليس هو صانع نفسه، فكيف لا يكون صانعه عاقلا؟
وقد كان خليقا بالمتندرين أن يحذوا حذو أصحاب الغائية، ويمتحنوا شواهدها التي لا تحصى كي يروا إن كانت متفقة مع المنهج العلمي، ذلك ما فعله ابن رشد في صفحة نريد أن نثبتها هنا مثالا للاستدلال السليم، قال: إن الشمس لو كانت أعظم جرما وأقرب مكانا لهلكت أنواع النبات والحيوان من شدة الحر. وكذلك لو كانت أصغر أو أبعد لهلكت من شدة البرد. وتظهر العناية في أنه لولا فلكها المايل لما كان هنا صيف ولا شتاء ولا ربيع ولا خريف.
وهذه الأزمان ضرورية في وجود أنواع النبات والحيوان. ولولا الحركة اليومية لم يكن ليل ولا نهار، وكانت تكون نصف السنة نهارا، والنصف الأخير ليلا، وكانت الأشياء تهلك من الحر في النهار، ومن البرد في الليل. وأما القمر فأثره بين في تكون الأمطار، وإنضاج الفواكه؛ ولو كان أعظم أو أصغر أو أبعد أو أقرب، أو لم يكن نوره مستفادا من الشمس، لما كان هذا الفعل، وأيضا لو لم يكن له فلك مايل، لما كان يفعل أفعالا مختلفة في أزمان مختلفة؛ ولذلك تسخن به الليالي في زمن البرد، وتبرد في زمن الحر: أما سخونتها في زمن البرد فلأن وضعه منا يكون كوضع الشمس في زمن الحر بأن يكون أقرب إلى سمت رءوسنا إذ كان فلكه أكثر ميلا. وأما في زمان الحر فيكون الأمر بالعكس إذ كان أبدا إنما يظهر في الجهة المقابلة للشمس ... وليس ينبغي أن يتوهم أن ذلك لغير العناية بما هاهنا. وعلى مثال ما قلنا في الشمس والقمر ينبغي أن يعتقد الأمر في سائر الكواكب.
3 (4) برهان من الممكن الوجود إلى الواجب الوجود
الكائنات المختلفة تتكون وتفسد، تظهر وتزول، فهي قبل التكون والظهور ممكنة، قد توجد وقد لا توجد، وليست معينة بذاتها وطبيعتها لأحد هذين الطرفين، فلا توجد إلا لأمر مرجح، بعكس الممتنع لذاته وطبيعته، فإنه لا يوجد أصلا، كالدائرة المربعة؛ وبعكس الواجب لذاته وطبيعته، فإنه موجود ضرورة، كالله، على ما سنذكر بعد، فلو لم يكن هناك موجود واجب، وكانت جميع الكائنات ممكنة وقتا ما ، لما كان يوجد شيء الآن، ولن يوجد شيء أبدا. والممكنات الموجودة كثيرة جدا، وإذن يوجد موجود واجب.
وليس يمكن أن يكون هذا الموجود مجموع الكائنات، فإنها متغيرة، والمجموع متغير مثلها: إنه مزاج من فعل وقوة، ومن ثمة غير موجود بذاته، والتغير في عمومه يقتضي علة منزهة عن التغير، كما بينا في برهان الحركة.
ومحال التداعي إلى غير نهاية في سلسلة الممكنات، كما أثبتنا آنفا. وحتى لو كانت هذه السلسلة أزلية، فإنها عاجزة عن توفير علة كافية للوجود موجودة بذاتها. وإذن يوجد موجود ضروري لذات ماهيته.
ولا نقولن مع الغزالي:
4
إن من التناقض إثبات صانع العالم مع الاعتقاد بقدم العالم، كما فعل الفلاسفة؛ إذ ليس الصنع متعلقا بسبق العدم، وإنما هو لازم لإيجاد الممكن في أي زمان كان، وسنبين في مسألة حفظ الله للمخلوقات أن المخلوق مفتقر إلى الله في كل آن.
ويدعي كنط أن هذا البرهان مركب على غرار دليل القديس أنسلم المدعو بدليل الأنطولوجي الذي يستنتج من فكرة الموجود الضروري فكرة وجود موجود كلي الكمال، وهذه نتيجة إذا عكسناها عادت «الموجود الكلي الكمال موجود ضروري، أي يوجد ضرورة». ولكن برهاننا يمضي من الوجود الواقعي لموجودات ممكنة لاستنتاج وجود واقعي تقتضيه. (5) خمسة براهين خاصة
تلك هي براهين عامة، أي شاملة لكل موجود طبيعي. وهي يقينية لأول وهلة إذا خلصنا اليقين من الشوائب التي غشوه بها. تستند على يقينيات كالمشاهدات التجريبية ومبدأ العلة الفاعلية، ومبدأ العلة الغائية، بحيث تبدو أنها وفطرة العقل شيء واحد. وهنالك براهين أخرى خاصة، أي مأخوذة من موجودات معينة أو وجهات معينة للموجودات، لا تقل عن تلك إحكاما وضرورة ويقينا:
برهان أول:
من حيث العموم والشمول موضوع تضاؤل الطاقة في الطبيعة: فقد كان المعتقد أن الطاقة ثابتة للمادة، لا تخلق ولا تندثر، وأن المادة لا تخلق ولا تندثر، ثم تبين أن الطاقة تنتظم من قسمين، قسم عامل يتحول إلى كيفية من الكيفيات الطبيعية كالحرارة مثلا، أو كالحركة، وقسم ساكن عديم الأثر كأنه معدوم، وأن القسم العامل تتضاءل كميته باستمرار، فدل ذلك على أمور هامة للغاية:
أمر أول:
أن الطاقة - وبخاصة الطاقة العاملة - ليست للمادة بماهيتها، كما اعتقد كثيرون في مقدمتهم الماديون، فهي إذن آتية من علة مغايرة لها، وأن لوجود المادة نفسها علة.
أمر ثان:
أن العالم ليس أزليا؛ لأن تضاؤل الطاقة العاملة يعني أنها متناهية ذاهبة إلى النفاد، فلو كانت الطاقة أزلية لنفدت حتما.
أمر ثالث:
أن العالم ليس أبديا ما دامت الطاقة متروكة لشأنها، وهي زائلة، فإذا بقي العالم كان بقاؤه بفضل علة متمايزة منه.
برهان ثان:
مأخوذ من علم الحياة. وهو أضيق نطاقا من البرهان السابق: مؤداه أنه يمتنع تفسير الحياة بالعناصر المادية وحدها، فلا بد من خالق لها، على ما بينا هنا في مبحث الحياة النامية.
برهان ثالث:
مستمد من غرائز الحيوان، وهي جزء من كيانه لا يتجزأ، وهي وكيانه أعجب ما يكون من بين الغائيات تنوعا ودقة.
برهان رابع:
أو براهين لا تحصى مستمدة من وجهات تبدو فيها استحالة تعليل أي شيء كان بدون الله. وهي براهين خلف تعدل البراهين المستقيمة قوة ودلالة.
برهان خامس:
متخذ من النفس الإنسانية، وما نشعر به من اشتهاء السعادة اشتهاء ضروريا، وتجربتها أن الخيرات الجزئية لا توفر لها إلا سعادات جزئية زائلة قد يكون جلها زائفا خادعا، وعلمها بأن السعادة لا تتحقق إلا بالخير بالذات البريء من كل شائبة؛ وأن من المستحيل ذهاب النزوع الطبيعي عبثا، إذ إنه يكون حينئذ بلا غاية ولا علة، وما كان هكذا فهو متناقض معدوم، فإن للنزوع الطبيعي نسبة إلى غاية وميلا إليها؛ فتحكم النفس بوجود موجود هو الخير بالذات الذي يرضي ذلك الميل تمام الرضى. وما لمبدأ الغائية من قيمة مطلقة يعطي هذا البرهان قيمة مطلقة. وإذا اعتبر كل إنسان هذا الميل الأساسي والتزم به، اتجه إلى الفضيلة وانحلت المشكلة الخلقية، إن توقان النفس إلى الخير والكمال - ولو مرة واحدة - لهو الدليل الأقوى على وجود الله.
هوامش
الفصل الثالث
صفات الذات الإلهية
(1) الصفات الإلهية بالإجمال
البراهين المتقدمة أظهرتنا على وجود علة أولى لجميع الكائنات، بل أيضا على طرف من ماهية العلة الأولى: فالله هو المحرك الثابت، والمنظم العليم، والموجود الواجب، وصفات أخرى لازمة عن هذه، يجب الفحص عنها، تحقيقا لمعنى العلم القاضي باستيفاء موضوعه، وإرضاء للميل الطبيعي الدافع إلى تشوف معرفة العلة حالما نعرف معلولا ما، وإلا بقي العقل حائرا قلقا. كل علة فهي تفعل طبقا لماهيتها، وكل معلول فهو يحمل في كيانه فعل العلة، وينم عليها بمحمولات غائبة عن المشاهدة، فتجتمع لدينا في هذا العلم «صفات» سميت هكذا تفاديا من تصورها أعراضا زائدة على الذات مركبة معها، وليس الحال كذلك في حق الله، كما سنرى في شواهد كثيرة.
على أن العلم هاهنا مشوب بخفاء كثيف، لكونه استدلاليا مكتسبا بواسطة، وليس حدسيا واقعا على المعلول نفسه؛ وهذا شأن الإنسان بإزاء كل علة يستدل عليها بمعلول لها، ويقيس غائبها على الشاهد. يضاف إلى ذلك أن المعلوم نفسه مجاوز لفهمنا لعلو الألوهية على مراتب الموجودات، فليس من الحكمة في شيء الانقياد إلى اللائحات الفكرية الأولى والصور الخيالية. إن الإخلاص للحق يقضي علينا بأن نوطن النفس على هذا الخفاء، وأن نلطف من قلقنا وحيرتنا بالاستمساك بالقضايا الثابتة عند العقل، وبالنتائج اللازمة عنها لزوما منطقيا، فنذكر تنبيهين، إذا علمنا بهما اجتنبنا أخطاء عديدة:
التنبيه الأول:
أن معرفة الغائب تحصل بالحكم لا بالتصور الساذج؛ لأن التصور يكتسب في الحقيقة بالمشاهدة، فإذا حكمنا بأن الله عليم مريد، كان هذا الحكم صادقا لابتنائه على شواهد قاطعة، ولكن لا ينبغي أن نحاول تصور العلم الإلهي أو الإرادة الإلهية في ذاتهما، أي النحو الذي توجد عليه الصفة في الله، فإن مثل هذا التصور ممتنع علينا لغيبة الماهية الإلهية عن عقلنا، وللفرق اللامتناهي بين عقلنا وبينها. ولا ينبغي أن نتهم علمنا من أجل قصور تصورنا، كما يفعل اللاأدريون الذين يدعون أننا لا نعرف عن الله شيئا.
التنبيه الآخر:
أن كل ما نحكم به في حق الله يقال بالتشكيك، أي تبعا للماهية الإلهية، لا بالتواطؤ، أي تبعا لماهية المخلوقات، فلا نتصور الله على مثالنا، ولما كان الله غير معلوم لنا علما مباشرا، تظل الصفة المحكوم بها خافية دون أن ينقص هذا الخفاء من قوة الحكم، ويتحتم علينا أن نحتاط من التواطؤ وأن نرسم الحدود لإضافة الصفة لله، فإذا قلنا: إن الله عليم مريد، امتنعنا من تصور العلم والإرادة في الله قوتين متمايزتين من الذات، متدرجتين في الفعل، متناولتين موضوعات جزئية عديدة، كما هو الحال في الإنسان، وسنرى من الأمثلة ما يزيد هذا الإيجاز إيضاحا.
والصفات طائفتان: صفات الذات، وصفات الفعل. الطائفة الأولى لوازم لمعنى العلة الأولى، مقتضاة لها ضرورة بهذا الاعتبار، كالبساطة المطلقة واللانهاية، والثبات أو عدم التدرج والتغير، والوحدانية والسرمدية، أي البقاء أزلا أبدا، والعظم أو الوجود في كل مكان، وفوق ذلك صفات الموجود بما هو موجود، المتحققة إلى أقصى حد في الوجود الأعظم، وقد أسهبنا في شرحها في كتاب «العقل والوجود»، وهي أنه الحق بالذات، والخير بالذات، والجمال بالذات.
والطائفة الثانية تشمل آثار العلية الإلهية، بالنسبة إلى تدبير العالم والعناية بالإنسان، مثل العلم، والإرادة، والمحبة، والحرية، والقدرة، وفيما يلي إثباتها بأدلتها، وبيان كيفية تصورها. (2) البساطة أو عدم التركيب
أول صفة تلزم عن فكرة العلة الأولى الواجبة الوجود، هي وجودها بذاتها، لا بعلة أخرى، وهذا يعني أنها بسيطة كل البساطة، غير مركبة أصلا لا من أجزاء مادية، ولا من هيولي وصورة، ولا من جنس وفصل نوعي، ولا من جوهر وعرض، فإن مقتضى العلة الأولى أن تكون بسيطة من كل وجه؛ إذ إن التركيب يتبع المركب لأجزائه المركبات ويؤخر وجوده عن وجودها، ويقتضي علة للتأليف بينها، فلا تعود أولى تلك العلة المقولة أولى، ولما كان التسلسل إلى غير نهاية في سلسلة العلل غير جائز، ولزمنا أن نتوقف، وأن نعترف بأن العلة الأولى وجود محض، دون تعين بماهية خاصة، وأنها فعل محض، دون اختلاط بقوة. وهذه نقطة على أعظم جانب من الأهمية، وسنعود إليها مرارا للاستدلال على الصفات التالية . إنها تقفنا على أخص ما يخص الذات الإلهية، وعلى الأساس الذي تقوم عليه سائر الصفات في عقلنا، ولو لم يكن في الله متقدم ولا متأخر.
هذا معنى البساطة. فليس المقصود بساطة الموجود الهزيل الناقص الذي إن ائتلف مع غيره ألف وإياه شيئا أقل هزالا ونقصانا. إن المقصود بساطة من حيث الكيف لا من حيث الكم، هي بساطة موجود يتكمل بها نفسها؛ لأنه غير معين للاتحاد بأي موجود آخر، غير مشتمل بحال على أجزاء متمايزة. إنه الموجود المطلق المنزه عن كل تعيين وكل نسبة.
هنا يستوقفنا هملتون وسبنسر وباقي أنصار نظرية نسبية المعرفة، قائلين: إن المطلق غير مدرك، والفكر الذي يتصوره يحده ويحيله غير مطلق.
ونحن نقول: أجل، إن المطلق يعلو على النسبة علوا كبيرا، وإن معانينا المكونة من المحسوسات لا تلائمه تمام الملاءمة، ولكن أليس يعتبر مجرد وضع المطلق ضربا من الإدراك؟ والعالم صنع الله، فهل يمكن أن يكون مظهر المصنوع مغايرا للصانع إلى حد أن لا ينم عليه بتاتا؟ إن لنا أن نضيف إلى المطلق صفات مستفادة من العالم، على ألا نضيفها بالتواطؤ، بل بالتشكيك أو بالتناسب، كما قلنا الآن، والفكر الذي يتصور المطلق لا يحده ولا يحيله غير مطلق، بل يعلم في نفس الوقت أن المطلق قائم بذاته، وأنه هو معلول له متعلق به، فيرد إليه إطلاقه، ولا يتخذ من النسبة الظاهرية بين الفكر والمطلق في التصور، دليلا على أن الله قد صار نسبيا. إنها نسبة من جانب الفكر لا من جانب المطلق. (3) اللانهاية
للاتناهي معنيان: أحدهما اللاتعيين واللاحد، مثل أي موجود بالقوة قابل لأن يصير أي شيء، ومثل قبول المادة للانقسام إلى غير حد، ومثل التسلسل إلى غير حد، وهذا هو اللامتناهي بالقوة، لا يتم أبدا، بل يتدرج زيادة أو نقصانا، كما تتدرج الأعداد. والمعنى الآخر كمال الوجود، أو الوجود فعلا محضا. وهو معدول كالأول مستفاد بسلب الحد والتناهي، ولكن بينهما فرقا عظيما: هو أن الثاني محصل ثبوتي في ذاته، فإذا وصفنا الله باللانهاية، فبمعنى أن الله غير محدود، ولكنه كفيل باستيعاب كل كثرة والعلو عليها.
وقد زعم ديكارت أن معنى الكامل سابق في معرفتنا على معنى الناقص، وأننا نكتسب معنى الناقص بالحد من معنى الكامل. وليس هذا بصحيح، بل الصحيح هو العكس، على ما نشاهد في فكرنا، فإن المتناهيات هي الحاضرة لنا واللامتناهي غير حاضر. وزعم لوك أن معنى اللامتناهي مستفادان بإضافة المتناهي إلى المتناهي. هذا حق في الماديات اللامتناهية بالقوة القابلة للقسمة والإضافة. أما الصفة الإلهية فهي لا نهائية الكمال، لا لانهائية المادة، وليس الله جسميا أو مقبولا في جسم. فقد خلط لوك بين اللامتناهي بالفعل أو الله، واللامتناهي بالقوة أو الماديات.
من هذه التعريفات يلزم أن الموجود اللامتناهي بالفعل بسيط كل البساطة، كما قلنا: إن البسيط لامتناه بالفعل؛ إذ لو كان مركبا قابلا للقسمة لكان كل جزء من أجزائه متناهيا، وكان هو وأجزاؤه كلا لامتناهيا، وهذا خلف. وما القول بلانهائية الله سوى تعبير آخر عن الكمال؛ لأن الله وحده كامل مطلق، لا لامتناه نسبيا، كأنه يفوق المخلوقات وحسب؛ لذا لا يعود هناك وجه للتساؤل إن كان العالم يزيد وجودا على وجود الله. كلا؛ فإن العلة تحتوي وجود المعلول على نحو أعلى، فكيف نجمع بينهما؟ هل نجمع الأضواء المنتشرة على الأشياء إلى ضوء الشمس مصدرها؟ هل نجمع العلم المخطوط في كتاب إلى علم مؤلف الكتاب؟ هل يزيد الضوء المنتشر في العالم شيئا على ضوء الشمس؟ أو هل يزيد العلم المدون في كتاب شيئا إلى علم المؤلف؟
والأصل في وصف الله باللانهاية التفكير المسيحي، فقد كان آباء الكنيسة أو أئمتها ينفرون من صفة المحرك الأول؛ لأن الحركة ظاهرة مادية، والله روح صرف، الأليق به صفات روحية دالة على الذات الإلهية نفسها، لا على فعل أيا كان من أفعالها. قال القديس ألبرت الأكبر: إن الحكم بوجود ذات لامتناهية ابتداء من المعلولات المتناهية، خروج بمبدأ العلية إلى أبعد مما يجوز، إذ إن هذا المبدأ لا يتطلب سوى علة متناسبة مع المعلول، والمعلول الذي هو العالم متناه. وقال دنس سكوت: إن إله المسيحية لامتناه، وإن هذه هي الصفة الأساسية التي تميز الخالق من المخلوق، فيجب أن يمضي البرهان على وجود الله من مقدمة تؤدي رأسا إلى هذه النتيجة، وبرهان المحرك الأول، على ما له من قيمة ضرورية لابتنائه على مبدأ العلية، يبلغ إلى العلة بالحركة التي هي ظاهرة مادية حادثة على كل حال، فلا يعرفنا الله إلا بواسطة أدنى كمالاته، ولا ينتج بالذات أن الله لامتناه؛ لأن الأول في جنس معين قد يكون متناهيا. هذا غير صحيح؛ لأن المحرك الأول ليس متحركا أول كالفلك المحيط في العلم القديم، ولكنه المحرك غير المتحرك، أي العلة الأولى للحركة، فهو علة خارجة عن المتحركات، وإلا كانت مفتقرة إلى علة، وتسلسلنا، فلم نصل إلى علة حقة. فالعلة الأولى موجود لامتناه بالضرورة من حيث هو علة أولى. (4) الوحدانية
من بساطة الذات الإلهية؛ ومن لا نهائيتها، تلزم الوحدانية: وهي غير الواحدية التي تعني عدم انقسام الموجود في ذاته، وانفصاله عما سواه، بينما الوحدانية تعني عدم وجود نظير أو شبيه أو مثيل. والواقع أن ليس يوجد، وليس يمكن أن يوجد سوى إله واحد أو وحداني. أما أن الوحدانية تلزم من البساطة فلأن الموجود بطبيعته وذاته موجود بهما غير متكثر، وأما أنها لازمة من اللانهاية، فلاستحالة وجود لامتناهيات عدة، من حيث إن اللامتناهي مستوعب كل شيء، وإذا تعددت الآلهة، فلا واحد منهم غير متناه، أي لا واحد منهم إله، بل كل واحد عادم شيئا، وليس حاصلا على كل كمال الواجب للإله.
كان آباء الكنيسة الأولون يدللون على وحدانية الله بوحدة العالم ووحدة نظامه: ولكن هذا الدليل ضعيف، فإن تعدد العوالم يتفق مع وحدانية الخالق؛ إذ من الممكن أن يصنع واحد مصنوعات مختلفة، كما هو ظاهر في الجزئيات المحيطة بنا. ثم إننا لا نعلم كثرة العوالم حتى نحكم أن الكون أجمع واحد.
وإذا أبى العقل تعدد الآلهة، فقد لا يأبى الثنائية، ذلك المذهب القائل بمبدأين يدبران العالم، أو يدبره أحدهما ويفسده الآخر. يرجع هذا المذهب إلى أوائل عهد الفلسفة. قال أنكساغوراس: إن المادة كانت مختلطة مضطربة، فنظمها العقل، أي الإله العاقل . وقال أفلاطون مثل ذلك. والمانويون ثنائيون، لكن الفرق عندهم بين المبدأين ليس الفرق بين العقل وعدم العقل، وإنما هو الفرق بين الخير والشر، وكلهم يأبون التسليم بحدوث الناقص عن الكامل، ويفضلون اشتراك مبدأين، لكل منهما معلولات من جنسه.
ونحن نقول: ليس يمكن أن يحدث الكامل كاملا؛ لأن الموجود المحدث ناقص بالضرورة، من جهة ماهيته التي تعينه وتحده، ومن جهة وجوده وفعله من حيث إنه محدث. فمجرد كونه محدثا يحط به عن الكمال. هذه حجة عامة موجهة إليهم جميعا. فإذا التفتنا إلى الفلاسفة اليونان قلنا: ليس يمكن أن توجد المادة بذاتها أزلا أبدا؛ إذ ليس فيها ما يسوغ مثل هذا الوجود. وليس يمكن أن تكون المادة لامتناهية، وهي متناهية بالذات لها شكل وأبعاد، سواء في مجموعها وفي أجزائها، وليس يمكن أن يوجد كائن شرير بالطبع وإلى أقصى حد؛ إن الشر عدم الخير، والشر اللامتناهي عدم لامتناه، أي: لا وجود مطلق وليس يمكن أن يوجد لامتناهيان متعارضان متحاربان. وأخيرا إن تصور الله منظما فقط للمادة هو إتباعه لها وجعله نسبيا إليها، أي: نزول به عن مرتبة الألوهية، وهذه أدلة عديدة قوية ضد الثنائية، ومن ثمة لصالح الوحدانية.
الفصل الرابع
صفات الفعل الإلهي
(1) تقسيم الفعل الإلهي
طبيعة الإنسان تميل به إلى تصور الأشياء على مثاله، فتخيل إليه فعل الله على شاكلة فعلنا، صادرا عن قوة زائدة على الذات، موزعا إلى أفعال متمايزة؛ ذلك أن الجسم ليس مجرد آلة منفعلة طيعة، وإنما له خصائصه ومقتضياتها، فله قوة بجانب قوة النفس، يسوقها بها إلى تغليب الحس والخيال على العقل، سواء في المعرفة وفي العمل. فيجب الاحتراز في الأفعال والمعارف كيلا ننقل إلى أحد المضمارين، المحسوس والمعقول، إلى المضمار الآخر، وبخاصة في العلم الألوهي، حيث الموضوع عال كل العلو، دقيق غاية الدقة. وسنحاول السير خطوة خطوة، من بديهية إلى بديهية، حتى نصل إلى الحق الميسور لنا في هذه المسائل الجليلة الخطيرة.
إن أقل تأمل في ذات الله وفي مقتضياتها، يقودنا إلى أن البساطة تستتبع ضرورة ألا يكون في الله سوى فعل واحد، يشتمل على جميع الأفعال، ويتضمن جميع المفعولات. وترجع الأفعال الإلهية في اعتبارنا إلى العلم والإرادة، تلحقهما القدرة والحرية، ويلحق القدرة الخلق والعناية: كلها يتبع بعضها بعضا، وكلها فعل واحد، ومفعولاتها هي المتنوعة، فبالطبع لا بد من النظر فيها على الترتيب المتقدم، ومن محاولة التوفيق بين الكثرة فيها وبين الوحدة الواجبة للعلة الأولى. (2) العلم الإلهي
بيد أن البساطة تستتبع نتيجة معارضة للنتيجة السابقة، أدنى كلفة، وأخصر بيانا، هي التعطيل وإنكار الصفات والأفعال، فنعفي أنفسنا من تحليلها ومحاولة ردها إلى الوحدة، وهذا ما نرى له مثالا في صفة العلم، فقد نزه أرسطو الله عن العلم بالموجودات ظنا منه أن هذا العلم يضيف إلى الله كثرة من المعلومات، والماهية الإلهية تأبى كل كثرة أشد الإباء، وإبقاء على البساطة بدقيق معناها، وصونا لعلوه واستقلاله، فلا يقبل معلومات من خارج، خصوصا وأن الماهيات الخارجية أدنى من ماهيته، وزاد أفلوطين أن الله لا يعلم حتى ذاته؛ لأن هذا العلم يدخل عليه ازدواج العالم والمعلوم، وشأن الازدواج شأن الكثرة الخارجية بالتمام.
لكن أرسطو نفسه قال في موضوع آخر: إن سلب العلم عن الله يجعله بمثابة النائم، ومن ثمة أقل الموجودات حكمة وكرامة. كذلك قال: إن أساس العلم الروحانية؛ لأنها تقبل صورة المعلوم كما هي، والله روحاني، فهو عقل، ولما كان مطلق الوجود، فهو العقل بالذات. فمن حيث علم الله بذاته، لا يجوز عليه كثرة ولا ازدواج؛ وذلك لأن المخلوق يعلم بقوة زائدة على ذاته، كالحس أو العقل، فهو يعلم المعلومات واحدا واحدا كلما خرج من القوة إلى الفعل، والله يعلم ذاته بذاته أولا ودائما لتجرده كل التجرد عن المادة العائقة للعلم لعدم تجردها، وبسبب تجرد الذات الإلهية هي معلومة أولا ودائما، فيتلقى العالم والمعلوم، وهذا معنى كلمة أرسطو المشهورة: «إن الله عقل العقل.» والعلم بالذات لا يسبب ازدواجا؛ إذ إنه رجوع العارف على المعروف؛ والمعروف هنا هو الذات الإلهية نفسها التي هي في الغاية من التجرد والبساطة.
والرد على سلب العلم بالكثرة عن الله، شبيه بالرد السابق: فإن الموجودات محاكيات للذات الإلهية، والعلم بالذات علم بها في نفس الوقت وفي وحدة الذات. والذين يسلبون عن الله العلم بالموجودات يظنون أن هذا العلم هو بالنسبة إلى الله كعلمنا بالنسبة إلينا. وقد قلنا الآن: إن الله لا يعلم بقوة زائدة على ذاته، تخرج إلى الفعل ونعد أفعالها، وإنما هو يعلم ذاته، ويعلم في ذاته بكل ما سواه بحسب وجود ما سواه فيها، أي في وحدة وبساطة.
يضاف إلى ما تقدم أن علم الله بالأشياء علم العلة لمعلولاتها، لا معرفة أشياء مغايرة للعارف وجودا وماهية؛ لذا نعجب لوقوف ابن سينا عند صعوبة لا محل لها إلا في نظام للمعرفة سار على المخلوق لا على الخالق: هذه الصعوبة في أن معرفة الماديات هي معرفة حسية، وأن ليس لله حواس ظاهرة ولا مخيلة يعلمها بها. وقد أبنا أن الله يعلم الأشياء باعتباره علتها، أي علة وجودها بماهيتها وأعراضها، على حين أن علمنا بها علم بموضوعات مغايرة لنا معروضة علينا من خارج. ونعجب لأفلوطين كيف يجرد الله من كل علم، مع أن الله خالق الأشياء، ولا بد أن يكون لها وجود سابق في علمه، وإلا كان صدورها عنه صدورا آليا بحتا؛ وفوق ذلك أن الله خالق لكائنات عاقلة، فكيف يكون لها علم ولا يكون لله خالقها علم؟
يبقى أن ننظر في كيفية العلم الإلهي، وأن نرسم الحدود التي تعينه تبعا للذات وبساطتها، فنقول: يجب أن يكون الله عالما بكل شيء. ويجب أن يكون علم الله بالجزئيات على الوجه المقدس العالي على الزمان، فلا يعلمها منها هي، وإلا كان لغيره فيه تأثير، ولا يعلم المتغيرات مع تغيرها، فيكون متغير الذات،
1
بل يجب أن يكون العلم الإلهي علما بالذات الإلهية، وبكل شيء في الذات الإلهية التي هي أصل الوجود ونموذجه، وأن يكون حدسيا حاصلا دفعة واحدة لحضور الذات الإلهية لذاتها حضورا تاما. وعلى ذلك يعرف الله الحادثات بحسب وجود معانيها فيه، وقد يكون منها مستقبلات بالنسبة إلينا ويعرف المركبات دون تفصيل ولا تأليف؛ لأن ما في شيء فهو فيه بحسب حال ذلك الشيء، والله واحد كل الوحدة، بسيط كل البساطة، فيجب أن يكون علمه على هذا الحال.
مر بنا أن ابن سينا ينفي عن الله العلم بالجزئيات، بحجة أن الله روح صرف، لا يدرك المحسوس بما هو جزئي محسوس، بل بما هو كلي معقول، ولا يدرك المتغير مع تغيره، بل مع تجرد ماهيته وثباتها، ونريد أن نلخص الردود على هذه النظرية لأهميتها، فنقول: إن الله يعلم الجزئيات كما تعلم العلة معلولاتها، والمعلولات هنا هي الموجودات بماهيتها وأعراضها، فيجب أن يتناولها العلم الإلهي بكليتها، وأن تتناولها القدرة الإلهية بكليتها، فتخرج إلى الوجود مشخصة لا مجردة، ولعلنا قد أوضحنا مسألة العلم الإلهي من جميع نواحيها، وفيما سيأتي من القول عن الإرادة الإلهية والخلق مزيد بيان. (3) الإرادة الإلهية
لله علم، وإذن لله إرادة، فإن العاقل مريد ضرورة، إذ إن العقل يدرك مطلق الخير، وما بينه وبين الخيرات الجزئية من تفاوت، فيستطيع أن يطلبها، كما يستطيع أن ينبذها؛ لأن هذا التفاوت يجعلها في مقدوره، بينما مطلق الخير يعلو على المقدور، فلا ينبذ، بل يزاد حتما - على ما شرحنا في مفتتح الفصل المخصص للإرادة في الباب الأول. وتتبع القدرة الإرادة، ولا معنى للإرادة بدون القدرة، فإن المريد العاجز عاجز حتى عن الإرادة، ولا يقال له مريد، وتتبدى الإرادة الإلهية في خلق الكون وتدبيره، وبكلمة واحدة: في إيجاد كل ممكن، «والعجز إنما هو عن المقدور لا عن المستحيل، ولا يسمى عاجزا من لم يقدر على فعل الممتنع.»
2
ولا وجه لقول أبي الهذيل العلاف: «إن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على ما علم أنه لا يفعله.»
3
فثمة فرق بين القدرة في ذاتها، وبين النزول على شيء منها، والمقتضى لله القدرة على جميع الممكنات، والحرية بإزائها.
يضاد الجبر الإرادة والقدرة والحرية: وهو «نفي الفعل حقيقة عن العبد، وإضافته إلى الرب تعالى».
4
قال جهم بن صفوان: «الإنسان ليس يقدر على شيء، وإنما هو مجبور في أفعاله ... وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات، وتنسب إليه الأفعال مجازا كما يقال: أثمرت الشجرة، وطلعت الشمس وغربت. والثواب والعقاب جبر.»
5
هذا موقف متطرف لا نعود إلى إدحاضه بعد الذي قلناه في الباب الأول، بل هو يجاوز كل تطرف بالعبارة القائلة: إن الثواب والعقاب جبر كما أن الأفعال جبر، فإن جبرية الثواب والعقاب ظلم محض لا يجوز بحال إضافته إلى الله.
إنما يضاف إلى الله الحرية متضمنة الإرادة والقدرة، بالرغم مما يبدو من صعوبات، فما إن يقال: «الحرية الإلهية» حتى يخيل إلى الأكثرين أنها على شاكلة الحرية الإنسانية تتضمن مشورة وتغيرا، فينفيها منهم العارفون بالتعارض بين التغير والمشورة من جهة، وبين بساطة الذات الإلهية من جهة أخرى. لكن يجب أولا الإقرار لله بالحرية؛ لأنها لازمة لزوما منطقيا عن الإرادة، والإرادة لازمة مثل هذا اللزوم عن العقل؛ ولأنها في ذاتها كمال، والله كامل حائز لجميع الكمالات. ويجب ثانيا رفع ذلك التعارض وتطهير معنى الحرية الإلهية مما يلحقه به من نقص التشبيه بالحرية الإنسانية. وهذا هو المنهج السليم. إن التعارض ظاهري ناشئ من ذلك التشبيه. ففي الإنسان الإرادة قوة من قوى النفس، يضاف إليها الفعل الحر كما يضاف العرض إلى الجوهر. أما الله فلا تخالطه قوة، لكنه فعل محض، فإذا تصورنا الفعل الحر مبرأ من كل نقص وكل قوة، صار حينئذ والفعل الإرادي الضروري واحدا، وفي هذا التوحيد لا يقال إن الحرية انعدمت، ولكنها على العكس توجد خالصة من حيث إنها السيادة المطلقة للفعل المحض بالنسبة إلى المخلوقات.
أجل، إن الله فعل محض، فلا يمكن أن يكون فعله إلا واحدا وضروريا. غير أن هذا الفعل الواحد الضروري يتناول ممكنات كثيرة، يحققها دون أن يكون فيها وجه ضرورة بالنسبة إلى الموجود المطلق، فمن اللازم إرجاع إيجاد الممكن إلى الحرية. فإن الفعل الحر في الله هو باعتبار نسبته إلى موضوع ممكن، غير متكافئ مع الله، وغير مضطر له، وهذه شروط الفعل الحر. إن العالم بأجمعه ممكن، فهو إذن حادث، والحدوث هو من جهته لا من جهة علته؛ إذ ليس له ضرورة في ذاته؛ لذا يصدر صدورا لا ضروريا، هذا ولسنا ندعي أننا قد نورنا المسألة كل التنوير، ولكنا نعتقد أن الأمر يجب أن يكون هكذا، ولا يمكن أن يكون بخلاف.
أمام منكري الحرية الإلهية فلاسفة أشهرهم دنس سكوت وديكارت يقرون بها، بل يذهبون إلى حد الاعتقاد بأن الله قد كون معاني الممكنات أو ماهيات الأشياء من تلقاء إرادته، دون أن يوجد فيها أية ضرورة تجبره على مراعاة طبائع عناصرها وهيئات تأليفها. كان في مقدور الله أن يخلق الأشياء على غير ما هي عليه الآن، فلا تكون زوايا المثلث مساوية لقائمتين، بل تكون أكثر أو أقل؛ ولا يكون جبل بلا واد، ولا واد بلا جبل. وأمعنوا في هذا الرأي حتى قالوا: إن القانون الخلقي ما هو قانون إلا بموجب الأمر الإلهي، وإنه كان لله أن يفرض قواعد خلقية غير القواعد المفروضة، وكانت تكون عادلة؛ كان لله أن يأمرنا بالكذب، وينهانا عن الصدق، وينهانا عن عبادته ومحبته، وما كان على ذلك اعتراض.
نلاحظ على هذا الرأي ملاحظتين اثنتين: إحداهما أنه يسوق إلى الشك المطلق سوقا من حيث هو يكذب العقل فيما يراه العقل حقا، بالبداهة أو بالبرهان، ويفترض تعادل النقائض. والملاحظة الثانية أن القوانين، سواء الطبيعية والخلقية، تعتمد على طبائع الأشياء، وأدنى تعديل فيها ينزل بها اضطرابا جسيما، إن لم نقل انعداما تاما، كيف تصير زوايا المثلث غير مساوية لقائمتين، وبين هذه المساواة وطبيعة المثلث علاقة ضرورية؟ وكيف يكون جبل بلا واد وليس يكون الجبل إلا بالنسبة إلى واد، وليس يكون واد إلا بالنسبة إلى جبل؟ وكيف يمكن أن ينهانا الله عن عبادته ومحبته فننتهي ونحن مدينون لله بكل شيء. إن بين القوانين من جهة، وبين الإنسان والأشياء من جهة أخرى، علاقات ضرورية لا يراد غيرها إلا ويراد ما يخالف طبيعة الإنسان وطبائع الأشياء، وليس هذا مما يجوز صدوره عن الحكمة الإلهية.
هنا تجيء مسألة علاقة إرادة الإنسان بإرادة الله، تلك المسألة التي حيرت العقول وشككتها في الإرادتين. قلنا: إن العلم الإلهي بالموجودات ليس مستفادا من الموجودات أنفسها، وإلا كان منفعلا بها، والله فعل محض. فالنتيجة المحتومة أن الله هو الذي يعين أفعال الموجودات، ويعلمها في هذا التعيين. وبعد بيان هذه القضية نبين أن ليس فيها عبث بالحرية الإنسانية. كثيرون يظنون أن الحرية تقتضي أن يصدر فعل الإرادة عنها أصلا، وهذا غير صحيح، فإن الله المحرك الأول الذي يحرك كل قوة إلى فعلها، وليس هذا التحريك قسرا؛ لأن المقسور هو الذي يتحرك بعكس ميله، والله يحرك الإرادة بأن يؤتيها ميلها فتتحرك من تلقاء نفسها؛ لذلك لا يرتفع الثواب أو العقاب، وإنما كان يلزم الارتفاع لو كانت الإرادة تتحرك من الله ولا تتحرك أصلا من تلقاء نفسها.
لننظر إلى الأمر من أعلى. إن الله يفعل في كل فاعل؛ لأن الفعل وجود والله علة كل وجود، ولسنا نعني به سلب الفعل عن الخليقة، هذا مستحيل لسببين: لو كانت الأشياء غير فاعلة لكان عجزها راجعا إلى عجز الخالق عن منحها القدرة على الفعل؛ ولما كان لوجودها فائدة، إذ إن كل شيء فهو موجود لأجل فعله. فالله يفعل في الأشياء بحيث يكون للأشياء أيضا فعل خاص، وإنما يمتنع صدور فعل واحد عن فاعلين متى كانا متحدي الرتبة، لكن ليس يمتنع صدور فعل واحد عن فاعل أول وفاعل ثان، والله يعامل كل مخلوق بحسب الطبيعة التي فطره عليها، والمخلوقات الناطقة حاصلة بالطبع على حرية الاختيار، فليس يجبرها الله، وإنما تأثيرها عليها إمالتها باطنا على مطلق الخير أو الخير الكلي الذي تميل إليه ضرورة، ثم إمالتها إلى الخير الجزئي فتختاره بذاتها. فليس هناك جبر وإكراه، بل فقط إمالة وميل ذاتي عن طواعية. وبذا يبطل الاعتقاد بأن سابق إرادة الله وعلمه بأفعالنا هو علة الهلاك أو النجاة: فليس يعقل أن يريد الله الهلاك لأحد، وإنما المعقول أن الموجود خير؛ لأن الله أراد له الخير، وأنه مهما يكن لدى الإنسان مما يوجهه إلى النجاة فإنه راجع إلى الانتخاب الإلهي، حتى الاستعداد له فإنه هو أيضا لا يتم إلا بمدد من الله، وهذا كلام لازم عن فكرة العلة الأولى. فالحرية الإنسانية والقدرة الإلهية حقيقتان متبرهنتان، وحين تتبرهن حقيقتان بالحجج التي تناسبهما، فيجب الاستمساك بهما جميعا، حتى ولو لم ندرك النسبة التي تربط بينهما. (4) الخلق «فالق ظلمة العدم بنور الوجود.»
6
كلمة جليلة بديعة تبين عن أخص خاصية لله بالنسبة إلى العالم، وتلك هي أنه موجد لغيره، خالق لا من شيء، مبدع بدون مادة متقدمة أو آلة سابقة. وهذا معنى لازم أولا عن ذات الله: فمتى كان الله هو الموجود بالذات، كان واحدا أو وحدانيا، وكان كل ما سواه موجودا به، ولم يمكن اتباعه للمادة. وهذا المعنى لازم ثانيا من برهان العلة الغائبة، حيث أبنا أن منظم الموجودات هو خالقها بالضرورة؛ لأنها تمضي إلى غاياتها من باطن، لا بترتيبها ترتيبا ظاهريا كالطوب المرصوص. وثالثا من برهان واجب الوجود، فإن الممكن الوجود إن كان مركبا من مادة سابقة كان حائزا على جزء ضروري، وشارك واجب الوجود الذي لا يقبل مشاركة في الوجوب. وبذا نستبعد أولا الثنائية التي تشطر الوجود شطرين ضروريين: أحدهما المادة الأزلية، والآخر الصانع الأزلي، وليست المادة موجودة بذاتها. وقد أسلفنا القول عن هذه النظرية.
ونستبعد ثانيا نظرية صدور الموجودات عن ذات الله، كما جاءت عند أفلوطين وابن سينا: فإن ما يصدر عن الذات صدورا ضروريا، على ما يصفان، فهو مثل الذات؛ إلهي بجميع الصفات الإلهية وليس كمثل الله شيء. أجل، إن من شأن الوجود البسيط كل البساطة، والواحد كل الوحدة، كالله، أن يصدر عنه واحد فقط، كما يقول ابن سينا، فإن صدرت عنه كثرة، كانت دليلا على تكثر ذاته. ولقد كان يصدق قول ابن سينا لو كان الله فاعلا بالطبع فقط، فإن كل فعل يصدر طبعا هو فعل شبيه بالفاعل لضرورة طبيعة الفاعل. ولكن الله يفعل بالإرادة أيضا، والإرادة متصلة بالعقل، والعقل يمثل معاني كثيرة، فالله يفعل بما يشاء من المعاني التي يعلمها، يزاد على ذلك استحالة ما يقرران من صدور الموجودات بعضها عن بعض؛ لأن المخلوق أعجز من أن يمنح الوجود، ووجوده نفسه مستعار، والخلق عبور مسافة من اللاوجود إلى الوجود، وهذه مسافة لامتناهية، والمخلوق متناه. وأخيرا «أي مناسبة بين كونه (أي العقل المخلوق المدعى له بالخلق) ممكن الوجود وبين وجود فلك منه؟ على حد قول الغزالي».
7
وعلى هذا القياس نقول: أي مناسبة بين كونه واجب الوجود بالأول ووجود عقل منه؟ وأي مناسبة بين كونه واجب الوجود بالعقل الذي قبله ووجود نفس فلكية منه؟ على أي وجه قلبنا هذه النظرية وجدناها ملفقة لا تفسر صدور الموجودات، بل لا تفسر نفسها. (5) العناية
من البديهي أن الخالق معني بخلقه مدبر له، وإلا خالف الحكمة والطيبة. من البديهي أن الله رسم للعالم برنامجا، وعين له بالإجمال، ولكل شخص من أشخاصه بالخصوص، هدفا يسعى إليه ويؤيده هو فيه. فالملقبون بالطبيعيين، المؤمنون بالله، المنكرون للعناية، يناقضون أنفسهم مناقضة ظاهرة. وأفلوطين وأتباعه يؤولون العناية طبقا لمذهبهم العام. عرفها ابن سينا بقوله: إنها «إحاطة علم الأول بالكل، وبالواجب أن يكون الكل على أحسن نظام، وبفيضان الخير في الكل».
8
إن هذا غير كاف: ليست العناية مجرد إحاطة علم الأول بالكل، ولكنها توجيه فعال إلى غاية، وتوفيق فعال إلى الأفعال والغايات، ولا سيما بالنسبة إلى الإنسان الكائن العاقل الحر، البادي امتيازه في أحداث التاريخ، وبنوع أخص في النظام الخلقي الذي هو أعلى وأهم من الطبيعة المادية، فإنه هو الذي يخلع على العالم القداسة والجمال. ما العالم الذي يفترضه الكثيرون من مادة بحتة؟
وتشتمل العناية على حفظ الموجود في وجوده الممنوح له بالخلق؛ إذ لو كانت المخلوقات تبقى موجودة بدون مدد من الله لكانت مستغنية عنه، أي لصار وجودها واجبا لها، ومحال أن ينقلب الوجود الممكن وجودا واجبا، ولكنه يظل ممكنا محتاجا للتثبيت في الوجود، وقد عرف ديكارت الحفظ بأنه «خلق مستمر»، ولا بأس بهذا التعريف على ألا يفهم منه أن الله يدع المخلوق يعود إلى اللاوجود في كل آن ويخرجه منه في كل آن، فإن هذا الفهم قد يؤذن بسلب العلية عن المخلوقات؛ بل بسلب ذاتيتها وإنيتها بحيث تستأنف في كل آن وجودا جديدا، ويكون لها في كل آن شخصية جديدة تمحو الماضي وعواقبه. الواجب أن نعتقد أن الحفظ والخلق فعل واحد بعينه، وأن لا فرق بين حفظ الله للموجودات في الوجود الذي منحها إياه مرة، وبين منحها إياه دائما.
هوامش
الفصل الخامس
بطلان الأحادية
(1) ليس الوجود متناقضا ولا واحدا
باستعراض صفات الذات وصفات الفعل حاولنا أن نحدد ماهية الله بما يستطاع من دقة، فعرفنا كل صفة، ورددنا طائفة من الاعتراضات والإشكالات توسمنا فيها المعونة على التدقيق، مستبقين طائفة أخرى إلى الفصول التالية، ننظر فيها فنزيد الصفات شرحا وجلاء. فبهذا الفصل نعرض للأحادية كنانة المعارضة ومجمع الإشكال. وبالفصل التالي يستوفى الحديث عن الصفات فيما تثير من مسائل مختلفة، ثم نبين الرأي الصحيح في مسألة الشر المعتبرة منذ زمان طويل أخطر اعتراض على وجود الله.
نقدم المسائل العامة على الخاصة، فنبدأ بمعنى الوجود، حيث أمعن شبهات الأحاديين تطرفا، فإذا رتبناها بهذا الاعتبار، وضعنا في رأسها قول هجل أن معنى الوجود متناقض؛ لأنه خلو من كل ماهية، غير معين أصلا، واللاتعيين المطلق هو لاوجود مطلق. فهجل يؤول اللاتعيين كأنه استبعاد لجميع أنحاء الوجود بحيث لا توجد بأي حال، وهذا المعنى غلط، بدليل أن الموجودات المعينة تتالى في تجربتنا. فالمعنى المقبول للاتعيين أن معنى الوجود على تجريده، يحتوي بالفعل، احتواء ضمنيا غامضا، على أنحاء الوجود، دون تخصيص واحد منها، ولا استبعاد واحد.
ومن موقفه الأول هذا، جنح هجل إلى القول بغير الله وتطوره، فتصوره كالبذرة ينمو في صور أكمل فأكمل، هو نعسان في النبات، وحالم في الحيوان، ويقظان مفكر في الإنسان، لكي يترقى به ومعه صوب مثل أعلى يسعى إليه دوما، ولا يبلغ إليه أبدا. ويسلم هجل وأضرابه أن الجزئيات متناهية ناقصة، ولكنهم يستدركون فيقولون: إن العالم في جملته حائز على قوة التطور والاستكمال، وإن جملة العالم هي الموجود الضروري. كلا، إن الله ثابت كامل دائما، والموجود المتغير الصاعد من أسفل إلى أعلى لا يمكن أن يكون إلها، سواء افترضناه شخصا أو جملة.
وللأحاديين شبهة تتعلق باسم الوجود وما يقال عليه من أنحاء، فقد ظنوا - وفي مقدمتهم البراهمة وبارمنيدس وسبينوزا كما رأينا - أن اسم الوجود ينطبق على جميع الموجودات بالتواطؤ، أي بنفس المعنى، كما ينطبق اسم الجنس على أنواعه، واسم النوع على أفراده؛ واعتبروا مختلف الماهيات مظاهر موجود واحد مقابل للمعنى المتواطئ. وهذا أيضا غلط؛ إنه وهم توحي به المخيلة، على حين أن العقل إذا أنعم الروية لا يلبث أن يدرك أن الوجود ليس من قبيل معاني الأجناس والأنواع.
إن تحت كل جنس أنواعا مشتركة في ماهية، كاشتراك الحيوانات في الحس، فيجرد العقل تلك الماهية عن الأنواع، فيقع المعنى المجرد هكذا على ماهية معينة متكررة بالذات في كل نوع؛ كذلك تحت كل نوع أفراد مشتركة في ماهيته، كاشتراك بني الإنسان في الحيوانية والنطق، فيجرد العقل تلك الماهية عن الأفراد، فيقع المعنى المجرد هكذا على ماهية معينة متكررة بالذات في كل فرد، أما الوجود، فليس تحته مشتركات في ماهيته يجمع بينها في معنى واحد، وإنما تحته متغايرات ماهية وأعراض، فيحفظ على كل منها الماهية والأعراض أيضا؛ لأنها داخلة تحت الوجود، فلا يكون معينا إلا ضربا من التعيين، في تضمن وغموض، لاشتماله على متغايرات، فهو واحد بالشكل ولدى المخيلة، كثير بالموضوعات. وهذه الكثرة تمنع الدلالة المتواطئة وتردنا إلى التشكيك الذي يعني اتفاقا من وجه واختلافا من وجه، وتردنا إلى التناسب الذي يعني أن الصفة المشتركة بين متغايرين بالماهية يجب أن تكون في كل منهم على قدره وتبعا لماهيته، وتجعلنا نفكر أن صفة المعرفة مثلا لا تكون في الله والملاك والإنسان والحيوان على نحو واحد، بل تكون في كل منهم على حسب ماهيته، بحيث تكون المعرفة في الله بالنسبة إلى الذات الإلهية كالمعرفة في الإنسان بالنسبة إلى الطبيعة الإنسانية، وعلى هذا يطلق الوجود بمعنى حق على كل موجود، لكن بالتناسب، أي مع ملاحظة أن الوجود في كل موجود على حسب هذا الموجود، والنتيجة الأخيرة أن ليس الوجود واحدا لا في الواقع ولا في العقل، خلافا للمبدأ الأساسي الذي يصطنعه الأحاديون. (2) مباينة الله والعالم
ذلك هو الجانب الميتافيزيقي للمناقشة. وهناك جانب آخر عقلي ميتافيزيقي أيضا، ولكنه أقل تجريدا، وأقل اقتضاء للتعمق وإمعان النظر، وأخصر سبيلا، ولو أنه قاطع مفحم؛ قوامه أن دعوى الوحدة يسقطها إظهار المباينة، وتقضي عليها بادئ ذي بدء البراهين على وجود الله. إن هذه البراهين تؤدي إلى إثبات موجود أعظم مختص بصفات لا مثيل لها، من بساطة وكمال ولا نهاية وثبات، بينما العالم مركب ناقص متناه متغير، وإذن فليس هو حاصلا على علة وجوده، ولا يمكن أن يعتبر هو الله، ولا أن يندمج الله فيه: كيف يتكون الكامل من آحاد ناقصة؟ كيف يتكون اللامتناهي من أجزاء متناهية؟ إن التعارض تام حاسم بين الماهية الإلهية وبين الطبيعة.
وامتداد العالم في المكان والزمان يفصل أفعاله وانفعالاته بعضها من بعض: فأي جزء منه فاعل محرك للباقي، وأي جزء منفعل متحرك؟ ولم يختص هذا بالحركة وذاك بالتحريك؟ أليست هذه الاختصاصات منافية للوحدة؟
أجل إنهم يردون إلى الله كل فعل وانفعال، ولكن الله في مذهبهم ليس مستقلا مسيطرا على الطبيعة، وإنما هو متحد بها موزع إليها: فأين تقع الأفعال والانفعالات؟ لقد تصور سبينوزا الله تصورا كميا، أي: جسما هو الطبيعة، وزاد عليها صفة اللانهاية ليحيلها إلهية؛ وصنع مثله كثيرون. ولكن محال أن تكون المادة غير متناهية، إنها متناهية محدودة بسطحها، ولكل مادة شكل كما هو ظاهر، ومحدودة بقوتها، فإن قوة المتناهي متناهية مثله. إن اللانهاية إذا لم تكن لا نهاية كيف وكمال مفارقة للعالم متعالية على المكان والزمان، فما هي بشيء سوى لفظ أجوف نخدع به أنفسنا؛ وإذا قلنا: إن الله في كل مكان وزمان، عنينا أنه في المكان بقدرته، وأن قدرته لا تقف عند حد؛ وعنينا أنه في كل زمان بثباته وبقائه فعلا محضا.
وكيف يكون الوجود واحدا وليست تظهرنا التجربة على اتحاد وجودنا بالوجود الكلي؟ إنها على العكس تؤكد استقلالنا عن كل وجود سوى وجود وجداننا وشهادته بفاعليتنا: كيف نفسر الفردية والشخصية؟ وكثرة الوجدانات من شأنها أن تؤيد تجربتنا وتزيد في الفصل بين الموجودات. إنهم إذ يردون جميع الأفعال إلى الله، غير آبهين بالشخصية وكثرة الشخصيات بحجة أن الوجود واحد والفاعل واحد، يلغون الحرية وما يترتب عليها من معان خلقية، كالواجب والحق، والعدالة والظلم، وكل فضيلة ورذيلة. ويا ليتهم يضيفون إلى الله الحسنات وحسب، ولكن منطق مذهبهم يضطرهم إلى إضافة السيئات أيضا، من معاص وأخطاء، واعتبارها ضرورية في نظام العالم، ما دام العالم كلا وما دامت أحداثه لازمة عن ذاته الضرورية، فيعفون الله من العصمة والقداسة، ويعفون الإنسان من المسئولية والسعي إلى التحلي بمكارم الأخلاق. (3) اعتراضات وردود
وللأحاديين اعتراضات على الأديان المخالفة لهم، نرد عليها إتماما لبيان مذهبهم وإبراز مواضع ضعفه:
اعتراض أول:
أن الجوهر موجود بذاته، وأن الوجود بالذات خاصية الله، فكل جوهر هو إلهي. والجواب أن في هذا الاستدلال خلطا بين الوجود في الذات، الذي هو تعريف الجوهر بالإجمال وخاصية كل جوهر، تمييزا له من العرض، الذي هو الوجود في الغير، وبين الوجود بالذات الذي هو خاصية الله.
اعتراض ثان:
لو كان الله متمايزا من العالم لكان العالم حدا لله فلا يكون الله لا متناهيا. هذه النتيجة كانت تصح لو كان التمايز راجعا إلى كمال للعالم دون الله؛ أما والله متمايز من العالم بكمال ماهيته، فالنتيجة باطلة. وقد سبق لنا القول: إن الضوء المنتشر عن بؤرة لا يزيد شيئا على قوتها، وإن العلم المأخوذ عن أستاذ لا يزيد شيئا على علمه مهما بلغ عدد الآخذين، وكل ما هنالك وجود أشياء مضاءة وأشخاص متعلمون. كذلك وجود الموجودات لا يزيد على وجود الله شيئا، ولا يحده ما دام وجودها هو الوجود الإلهي؛ وكل ما هنالك وجود موجودات أكثر عددا، لا وجود أعظم.
اعتراض ثالث:
إن الخصب الإلهي يظهر بالخلق، والحياة الإلهية خصب دائم، فلم يكن الخلق حرا. نقول: ليس العالم خصبا إلهيا، فإنه أدنى من الله بما لا يقاس، ولا يعود على الله بخير ما، ولكنه محض خلق حر أو وجود دافق من قبل الله لخير العالم نفسه.
اعتراض رابع:
إن العالم نظام محكم، جميع أجزائه مترابطة متضاعفة، فهو واحد، كما أن الكائن الحي واحد على تعدد أجزائه وترابطها. هذا التشبيه غير جائز، فإن الوحدة نوعان: جوهرية وعرضية. الوحدة الجوهرية هي ذات الكائن وعدم انقسامها وتلاشيها إن قسمت. والوحدة العرضية ارتباط كثرة من الجواهر المتمايزة فيما بينها وعدم انقسامها من جهة هذا الارتباط؛ أي إنها كثرة بالفعل ووحدة بالتركيب، فالعالم واحد بوحدة عرضية قائمة في تركيب أجزائه، وكل من أجزائه واحد بوحدة جوهرية ضرورية له، بينما الوحدة العرضية طارئة على الأجزاء، ولا تنعدم الأجزاء بانعدامها.
والخلاصة أن من العبث التحدث عن الله في الأحادية كما لو كان الله فيها موجودا حقا، شخصا حقا. ما هذا المذهب إلا صورة علمية للإلحاد، ولا فرق بين القول بأن الله هو الكل، وبين القول بأن الله غير موجود، فإن إشاعة الله في كل غير معين وغير ذي شخصية ملاشاة له، والقولان متعادلان نظريا وعمليا. إنه مذهب يشوه الفكرة الحقة عن الله، والفكرة الحقة عن الطبيعة، ويحل نظاما جبريا محل النظام الخلقي، فينتهي إلى المادية الصريحة.
الفصل السادس
حل إشكالات في الصفات
(1) كيف تعين الصفات؟
عينا الصفات الإلهية تبعا لما لزم لدينا عن البراهين على وجود الله، ورتبناها ترتيبا منطقيا بحسب علاقاتها بعضها ببعض، ولكن المشبهة المجسمة قالوا: إن الأشياء جميعا مخلوقة من الله، فهي جميعا في الله مادة وصورة، ويجب أن تؤخذ الصفات من هيئة الإنسان، فغفلوا عن ضرورة تنزيه الله عن كل تركيب، والمادة مركبة من أجزاء تنقسم وينفصل بعضها عن بعض. ثم إنها في ذاتها غير قابلة للتعقل، وإنما تعقل بالصورة المتحدة بها، والصفات العقلية لازمة لماهية الله ولفعله. فيجب سلب المادة عن الله سلبا باتا، وليس يمكن بحال إشراك صفات الأجسام في استقراء صفات الله، أجل إن الماديات في الله لكونه خالقها، لكنها ليست في الله ذاتا، بل بالتضمن وعلى نحو عال يتفق والماهية الإلهية الروحية، أعني بمعانيها وبقدرة الله على إيجادها.
هل نأخذ الصفات الإلهية من صفات النفس. هكذا ارتأى ديكارت فقال: «لأجل أن أعرف طبيعة الله بقدر ما في وسع طبيعتي، لم يبق إلا أن أعتبر في كل فكرة أجدها عن الله في نفسي إن كانت كمالا أم لا؛ إذ ليس في الله نقص، وإنما فيه جميع الكمالات.»
1
هذا المنهج سائغ بشرط أن نبعد من صفات النفس كل حد وكل نقص، وأن نحسب أكبر حساب للفارق الفاصل بين الله وباقي الموجودات، فإن الواجب الوجود مغاير كل المغايرة للممكنات الحادثات، ويقتضينا أن نتصور الصفات فيه لانهائية كماهيته بريئة عن التدرج والامتداد والحركة والعدد، وما إلى ذلك من علامات الحد والنقص. فالطريقة التي اتبعناها أخصر وأصح وآمن، والصفات المكتسبة بها هي الأصل والأساس للصفات المستقرأة. ألسنا نعرف الصفات أولا بالعقل خالصة نقية، ثم ننظر إن كانت في الله حقا وعلى أي وجه هي في الله؟ (2) كيف توجد الصفات في الله؟
أما صفات الذات فأمرها هين؛ إذ «إنها الموجود نفسه، إما مع إضافة، كما لو قيل: إن الله جوهر، أي مسلوب عنه الكون في موضوع، وإما مع سلب، كما لو قيل: إن الله واحد، أي مسلوب عنه القسمة بالكم أو بالقول أو بالشريك، فهي اعتبارات مختلفة لا توجب مغايرة ولا كثرة» على حد تعبير ابن سينا.
وأما صفات الفعل فيلوح أنها متغايرة ومن ثمة منافية للبساطة الواجبة للعلة الأولى، كالعلم والإرادة والقدرة والمحبة والعناية، فإن هذه الألفاظ وما شاكلها تدل عندنا على قوى وأفعال، بحيث نجد أنفسنا مضطرين إما أن نمحو البساطة بإثبات وجود عيني للصفات، وإما أن نمحو الصفات بإثبات البساطة.
وقد قيل: لما كانت الصفات دالة على ذات واحدة بسيطة، فهي مترادفة لا مقابل لها في الذات. كيف تكون مترادفة وهي تدل على مفهومات متباينة، ممثلة في الكائنات، فلا بد من مقابل لها في الذات، ولو أنها لا توجد فيها منفصلة كما توجد المعاني في عقلنا.
وقيل: إنها سالبة أحرى منها أن تكون موجبة، مثلما لو قال قائل: «إن الله حي.» يكون المراد أنه ليس كالجماد خلوا من المعرفة والشعور، وهكذا في سائر الأسماء. ولكن المتكلم يقصد إلى وصف الذات الإلهية، فهذا التأويل مخالف لقصده. ثم إنه عديم الجدوى في تعريفنا بالله؛ إذ لو كان الله حيا بمعنى أنه ليس كالجماد، وكان خيرا بمعنى أنه ليس شريرا، فما هو؟
النتيجة المحتومة أنه يجب وضع الصفات في الذات، ويجب من جهة أخرى التوفيق بينها وبين البساطة، من أمثلة التوفيق قول أبي الهذيل العلاف: «إن الباري تعالى عالم بعلم وعلمه ذاته، قادر بقدرة وقدرته ذاته، حي بحياة وحياته ذاته، وإنما اقتبس هذا الرأي من الفلاسفة الذين اعتقدوا أن ذاته واحدة لا كثرة فيها.»
2
وهذه عبارة جامعة تضع الصفات في الله بقول: إن الله عالم بعلم، قادر بقدرة، حي بحياة، وتصحح هذا الوضع بقول: إن علم الله ذاته، وقدرته ذاته، وحياته ذاته، بيد أن هذا التصحيح ظاهري لا يعدو الجمع بين القضيتين.
وإذن فكيف توجد الصفات في الله؟ قلنا: إن مفهوماتها متباينة كتباينها في عقلنا، خلافا لرأي ابن سينا، الذي قال: «واجب الوجود ليست إرادته مغايرة الذات لعلمه.» (وهذا صحيح) «ولا مغايرة المفهوم لعلمه» (وهذا غير صحيح) وتخلص من الصعوبة على أهون سبيل. غير أننا لا نقول: إن التباين عيني كما هو في عقلنا، وإلا أدخلنا الكثرة على الذات الإلهية، بل نقول: إنه ذهني، لكن مع هذا الفارق بينه وبين سائر الذهنيات، وهو أنه يعتمد على أساس عيني هو الكمال الإلهي، فإن هذا الكمال يستوعب الوجود ويقابل أحكامنا الصادقة في حق الله، وهذه هي الوجهة الموضوعية للمسألة دون افتراض تغاير عيني، لبساطة الذات وكمالها، أما التمايز في العقل فمنطقي صرف ناشئ من فعل العقل لا من طبائع الأشياء. إنه كالتمايز بين الوجود ولواحقه حين نقول: إن الوجود واحد حق خير جميل، فإن هذه وجهات للوجود لا فارق بينه وبينها، أو كالتمايز في الإنسان بين النفوس الثلاث ، وليس للإنسان سوى نفس واحدة، ولكنها حائزة في وحدتها على ما للنفسين الأخريين (النامية والحاسة) من قوى وأعضاء. ولما كانت الصفات الإلهية غير متناهية، فإنها تتضمن بعضها بعضا وتندمج في اللانهاية. (3) الصفة الرئيسة
الصفات متحققة إذن في الله تمثل كمالاته التي هي عين ماهيته، دون تمايز ولا تفاوت، ولكن بعض المفكرين - قدماء ومحدثين - أرادوا أن يجعلوا بينها ترتيبا، في اعتبار العقل على الأقل، وأن يعينوا الصفة الرئيسة التي تهيمن على سائرها، وتعد لب الماهية والتعريف الحق لله، فمنذ أوائل الفلسفة، سمي أنكساغوراس منظم الأشياء بالعقل. وهكذا قال سقراط. ومع موافقة أفلاطون على هذا القول، آثر صفتي الخير والجمال؛ لأن الموجود الأول مفيض للخير بصنعه للأشياء، وجميل بروحانيته وقداسته.
وعاد أرسطو إلى تقديم العقل؛ لأن العقل روحاني صرف، ومن ثمة عاقل ومعقول، يعقل ذاته بذاته، فهو «عقل العقل». وأضاف أرسطو صفة ثانية هي أن الله محرك العالم، المحرك الأول، المحرك غير المتحرك، فأثبت لله العلو على العالم، وأثبت له روحانيته من هذا الطريق؛ لأن الجسم لا يحرك إلا إذا كان هو متحركا، مع أن تحريك الله للعالم عند أرسطو ليس فاعليا، وإنما هو غائي، أي: انجذاب المتحرك صوب المحرك.
وذهب دنس سكوت وديكارت وغيرهما من بعدهما مذهبا آخر، فمالا عن العقل إلى الإرادة، وقالا: إن لله حرية غير متناهية، لا يحده حد ذاتي ولا خارجي، له أن يصنع ما يشاء، دون أن يتقيد بقانون، حتى القوانين التي شرعها، ودون مسئولية عما شاء وفعل.
أجل إن العقل جليل مقدس كما ينعته أفلاطون، ولكنه ليس الصفة الرئيسة. إنه حال للوجود، فيجب أن يتأخر عنه. قبل التعقل يجب أن يوجد المتعقل، وأن يوجد بذاته إذا كان تعقله هو التعقل الأسنى. وهذه هي «القيومية» أي: قيام الموجود بذاته، وهذه هي الصفة الرئيسة، من جهة مفهومها ومن جهة أنها خاصة بالله وحده لا يشاركه فيها كائن. والإرادة أكثر بعدا عن مفهوم الوجود من العقل، فإنها تابعة للعقل يدلها على المراد. ومحال تصورها دونه فاعلة بغير إدراك وروية. فهي لا تصلح صفة أولى.
القيومية إذن أو الوجود بالذات أو وجوب الوجود، هي الصفة الرئيسة: إليها انتهت البراهين على وجود الله، ومنها استخلصنا الصفات، وهنا يجب التمييز بين علة الوجود وعلة الإيجاد، فهذان معنيان أولهما مقبول وثانيهما غلط، وقد اصطنع ديكارت وسبينوزا وآخرون المعنى الثاني بديلا من الأول في تفسير الوجود بالذات، ظانين أن الله أوجد ذاته بذاته، وهذا خلف ظاهر. والتفسير الصادق أن ماهية الله عين وجوده، أو أن وجود الله هو له بماهيته. فلسنا نعني ما عنى الغزالي من أن مقصد الفلاسفة هو أن واجب الوجود ليس له إلا وجوب الوجود، وليس ثم ماهية يضاف الوجود إليها.
3
كلا؛ مقصدهم أن واجب الوجود لما كان منبع الماهيات ومحل الكمالات فهو لا يحصر في ماهية معينة محدودة، ولا يختص بكمال مفرد تضاف إليه محمولات. ولقد كان لابن سينا كبير الشرف بإبرازه هذا المعنى، وباصطناعه كبرهان ممتاز على وجود الله عن بينة وبصيرة. قال: «تأمل كيف لم يحتج بياننا لثبوت الأول ووحدانيته وبراءته عن الصمات، إلى تأمل لغير نفس الوجود، ولم يحتج إلى اعتبار من خلقه وفعله، وإن كان ذلك دليلا عليه، لكن هذا الباب أوثق وأشرف.»
4
هوامش
الفصل السابع
بين التشاؤم والتفاؤل
(1) التشاؤم
في الأحادية نظرية تعد مثال الإلحاد القاطع الشامل، أرجأنا الكلام عنها لما تتطلب من شرح وتدقيق وموازنة بغيرها: تلك هي مسألة الشر، وما أكثر المعتقدين أنها مسألة المسائل في علم الألوهية، وامتحان عسير للموحدين يطوح بآرائهم في الهواء جملة وتفصيلا. ليس الأحاديون كلهم متشائمين: فالهنود متبرمون بالحياة الأرضية، ولكنهم مترقبون الحياة الأخروية تشرح صدورهم؛ إذ تفتح لهم باب «النرفانا» مقر السعادة، وإن تكن سعادة لا شعورية لا تفترق بشيء عن العدم. بل إن جل الأحاديين متفائلون لهذا الاعتبار البسيط، وهو أن العالم صنع الله، والله كامل خير جواد، فلا بد أن يكون العالم مسهما في هذه الصفات. وإلى مثل هذا ذهب بالفعل جيوردانو برونا وسبينوزا. أما النظرية المتشائمة فترجع إلى شوبنهور وتلميذه هارتمان.
قالا: إن العالم رديء بالذات؛ لأن كل موجود فهو فاعل، وكل فعل جهد مؤلم، ففي العالم إرادة شريرة لاشعورية تتمثل في كل فعل وكل قوة كالجاذبية والألفة الكيميائية وما إليهما في سلم الوجود؛ وهي تدفع إلى الحياة، والحياة ألم. وتدلنا التجربة على أن اللذات موهومة، وأنها تربى على الشرور.
الألم قانون الحياة ونسيجها، يغتالنا بالمرض والشيخوخة والموت والنكبات المختلفة، وتقلب الأحوال والعواطف، ولما كان أصل الألم اشتهاه الوجود، فالدواء الوحيد قهر «إرادة الحياة» بالعدول عن العمل لكي نصل رويدا رويدا إلى إفناء شخصيتنا في «النرفانا».
لكن ليس بصحيح أن كل عمل فهو مؤلم، الحقيقة أن ليس لنا من لذة إلا بالعمل؛ وأن العمل لا يعود علينا بالألم إلا متى تجاوز قدرة الفاعل فأرهقها. أليس العمل العقلي المدرك للحق والجمال، المولد للإعجاب والنشوة، هو لذة حقة، وأرفع أنواع اللذة؟ فمن السهل رد حجة شوبنهور بقولنا: إن الحياة عمل، والعمل لذة، فالحياة لذة لا ينبغي قصر الاستشهاد على اللذات الجسمية، فإن للإنسان من اللذات العقلية والخلقية أكثر منها وأرق وأعلى. يقال: إن اللذة وقف الألم، فهي حالة سلبية، والألم حالة إيجابية، والأمر على العكس، فإن اللذة تعمل على تنشيط الفرد وحفظه ونمائه، بينما الألم يتلف ويفسد. (2) الشر
هذه المناقشة الموجزة مفيدة في تعريف الشر؛ فنقول أولا: إن الشر «لا ذات له، بل هو إما عدم جوهر، أو عدم صلاح جوهر». من هذا التعريف بالعدم نفهم أن الشر لا يؤثر لذاته، لا يطلب من جهة كونه ضارا أو مؤلما، كما تنبه عليه التجربة الباطنة، بيد أنه إذا لم يكن للشر ذات، فنحن نخلع عليه شبه ذات بنسبته إلى ما ينتقص به أو يفسد، كتصورنا الصمم عدم السمع. فالشر في شيء ما عدم خير مقتضى لطبيعة الشيء، كاقتضاء الصم للإنسان، وعدم اقتضائه للنبات والجماد.
بناء على هذا التعريف يجب استبعاد ما سماه ليبنتز بالشر الميتافيزيقي وأراد به حرمان المخلوق كمالات كثيرة بسبب تناهي طبيعته واقتصارها على بعض العناصر، وإذا سلمنا بهذا النوع من الشر لزم أن يحصل كل مخلوق على جميع الكمالات، والحقيقة أن هذا ليس حرمانا من شأنه أن يفوت على الموجود كمالا من كمالاته، وإنما هو محض نفي، أي حد أو نقص، وواضح أنه لم يكن من الممكن أن يتفاداه الله إلا بعدم الخلق؛ لأن كل مخلوق فهو محدود بالضرورة. كما قلنا الآن، بحيث ترجع المسألة إلى هذا السؤال: هل خير للمخلوق أن يوجد محدودا من ألا يوجد أصلا؟ ومثل هذا السؤال يحمل الجواب على نفسه. فهل يريدون أن يقولوا: «كان على الله أن يحبس خيرا كثيرا تحرزا من شر قليل؟ وذلك مثل خلق النار، فإن منافعها جمة، وهي لا تفضل فضيلتها إلا بحيث تؤذي، أجل إن الشر كثير، ولكنه ليس أكثريا، كالأمراض فإنها كثيرة، وليست أكثرية.»
1
أما الشر الفيزيقي أو الألم الجسماني والشعوري، فله فوائد لا يستهان بها، إنه حامي الحياة البدنية، ينبهنا إلى كل خطر يتهددنا، وهو مهماز الترقي يدفع بنا إلى التخلص من الألم فيفتق الحيلة ويقود إلى بحوث واختراعات لم تكن لتتسنى لنا لولاه. بل إنه شرط الفضيلة إذا كان نتيجة لرذيلة تبين حينئذ أنها يجب الإقلاع عنها. فضلا عن أنه إذا قبلناه وقدسناه كإرادة إلهية وامتحان رباني، كان كفارة للذنوب. فليس الألم ضدا للحكمة، أما الموت فحقيقته أنه ليس نهاية الحياة. ولكنه انتقال إلى حياة جديدة سعيدة إذا كنا صالحين. وأخيرا لنا أن نقول: إن عدد اللذات يربو على عدد الآلام، بدليل أن كل كائن ذي شعور يؤثر الحياة على الموت.
وأخيرا الشر الخلقي، وهو أكثر الشرور خطورة، وأشدها منافاة لله الطاهر القدوس. لكن ليس يمكن أن يكون الله علة هذا الشر من قريب ولا من بعيد. بيد أنه منح الإنسان منحة عظمى إذ خلقه حرا، فكيف يمنع الإرادة الحرة من فعل الشر إلا بتجريدها من حريتها وحطها إلى مستوى الحيوان؟ وكيف يجردها من حريتها، والحرية من صميم الطبيعة العقلية. وإذا لم يكن للشر ذات، وكان مجرد عدم الخير، فليست الإرادة بحاجة إلى البحث عن فاعله، وليس للعدم فاعل . هذه ردودنا بكل اختصار على الاعتراض بالشر على وجود الله، تنزل به إلى درجة باقي المسائل الخلافية. وعلى المعترضين أن يذكروا أن الإنسان علة مسئولة لكثير من آلامه، يسببها ويزيد فيها بأهوائه، من غيرة وحسد وحب للذات وطلب للذة غير المشروعة؛ فلا يطرحوا عن كواهلهم تلك المسئولية ولا يلقوا بها على الله. (3) التفاؤل
المؤمنون متفائلون طبعا. إنهم واثقون بكمال الله وطيبته وعدالته، فلا يخشون ظلما ولا إعراضا. إنهم واثقون أنه لا يدع للأحداث الكونية الغاشمة أصحاب الإرادة الصالحة والضمير النقي. غير أنهم يختلفون في معنى التفاؤل، وينقسمون فريقين: فريق يرى أن الكمال الإلهي يقضي بأن يكون العالم خير العوالم الممكنة؛ لأن الكامل لا يحتمل أي نقص. قال أفلاطون (في محاورة تيماوس): إن الله خير الموجودات، فليس يمكن أن يكون قد صنع إلا خير مصنوع. وقال سبينوزا: «لما كان العالم ناشئا من النمو الضروري للطبيعة الإلهية، فيلزم أن يكون حاصلا على أعلى مرتبة من الكمال.»
وهذا هو التفاؤل المطلق، يلتقي فيه بعض الأحاديين وبعض المؤمنين. وهو يضيف إلى العالم أعلى كمال، ويقصر حرية الخلق على هذا الكمال الأعلى. ولكنا نلاحظ أن «خير عالم» فكرة لا تتصور؛ إذ ليس يوجد وليس يمكن أن يوجد حد أخير للحسن والكمال، ومهما يكن حسن العالم فيمكن دائما أن تتصور حسنا أعظم بالزيادة والإصلاح، وحقيقة المصنوع أنه متناه من حيث إنه محدث، فالمسألة بينه وبين الكمال مسافة لامتناهية، فيستحيل أن يصنع لامتناهيا، والاستحالة آتية هنا منه لا من الله القادر على جميع الممكنات.
إذا لم يكن التفاؤل المطلق جائزا، فإنه يدع مجالا لتفاؤل نسبي أساسه ما في العالم من كمال وجمال ولذة. واعتمادا على حكمة الله وجوده نستطيع أن نعتقد أن العالم الراهن خير عالم، مع إمكان كونه خيرا مما هو. يلوح أن أنصار التفاؤل المطلق يعتقدون أن الخير الأقل هو شر، وأن الخير إما أن يكون كاملا، أو ألا يكون خيرا. ولكن كل شيء يحتوي على درجة من الوجود ومن الكمال، فهو خير ويمكن أن يكون موضوعا لإرادة عاقلة.
هوامش
خاتمة
تسبيح وتمجيد (1) الدين
خلاصة الكلام في الله أن من الضروري وضع علة أولى، وأن العلة الأولى فعل محض، موجودة بذاتها، فلا تغاير في الله بين ماهية ووجود، بينما الوجود ليس متضمنا في ماهيات المخلوقات، ولا داخلا في تعريفها، وإلا لوجدت دائما وعلى حال واحدة كالماهية، فالعلة الأولى هي الوجود القائم بذاته، وهي حاصلة على الصفات الواجبة للموجود بذاته، وعلينا أن نحتفظ بالبساطة كصفة أساسية، وأن نتصور الصفات بطريق التناسب من طريقي التشكيك.
ومن يفهم هذه الضرورات يستوعب علم الألوهية كله، ولا تزعجه قضية من قضاياه، ولا اعتراض من الاعتراضات، مهما تبد القضية عسيرة القبول، ومهما يبد الاعتراض قويا. فلعل هذا العلم أشبه العلوم بالرياضيات، متى قبلنا المبدأ خرجت منه النتائج حتما، والمبدأ هنا أن الفعل متقدم على القوة، ولا ينكره إلا من ينكر العقل وبديهياته.
إذا كان هذا شأن الله، وكان شأننا أننا خلائقه حبانا بالحياة الإنسانية وأسبغ علينا سائر النعم، فقد تعين أن نعبد جلاله، ونحب قدسه، ونبثه عواطف العبادة والمحبة، مقابلة لإحسانه بالحمد والثناء. وهذا معنى الدين: إنه علاقة المخلوق بالخالق، يبدأ الله بها ونتمها نحن. وكل تضييق لهذا المعنى قضاء عليه ونزول به إلى درك مهين لله وللعدالة الموحية به، وإنما يجيء التضييق من جانب المتشككين في وجود الله أو في صفاته. قال كنط معبرا عن رأيه ورأيهم: «إن الواجب الديني قاصر على العلم بواجباتنا الطبيعية وأدائها كأنها أوامر إلهية.» وشرح هذه العبارة فقال من جهة: إن علمنا بالله غامض غير يقيني لا يلزم عنه واجب؛ وقال من جهة أخرى: إن التفاوت بين المتناهي واللامتناهي عظيم للغاية لا يبقى معه على المتناهي واجبات بمعنى الكلمة نحو اللامتناهي.
والجواب أن علمنا بالله كاف ليبين لنا أن الله هو المثل الأعلى للكمال، وأنه خالقنا ومشرعنا وعنايتنا وغايتنا: وهذه صفات تدعو - وفقا للعادة - إلى واجبات بمعنى الكلمة من احترام ومحبة. فإن السبب الأول للواجب ليس النفع المستفاد، وإنما هو حكم العقل طبقا للعادة، بأن الموجود يحترم ويحب تبعا لقيمته، بصرف النظر عن التناهي وعدمه، أو النفع وعدمه . وما داموا قد فتحوا هذا الباب نقول لهم: إذا كان الله بغير حاجة لاحترامنا ومحبتنا، فإننا نحن بحاجة إلى أن نحترمه ونحبه «لما نفيده من قيمة باطنة، بغض النظر عن المنفعة المادية، وهي خارجة عن الحساب على كل حال».
الأفعال التي نؤدي بها هذه الواجبات تؤلف العبادة. ولما كان الإنسان مركبا من نفس وجسد، وكان بطبيعته مدنيا عائشا في مجتمع، انقسمت العبادة إلى باطنة وظاهرة، فردية وجماعية. العبادة الباطنة أرقى من الظاهرة، لعلو النفس على البدن، وإليها ترجع العبادة كلها. إنها الصلاة ترتفع بها النفس نحو الله لإجلاله وحمده والتماس غفرانه ومعونته. ومن الفلاسفة فريق يسلمون بالصلاة العابدة الحامدة، ويأبون الصلاة المستغفرة السائلة. قال روسو: «أعبد الله، ولا أسأله شيئا، فإن السؤال يعني التشكك في عناية الله وطيبته.» وقال كنط: إن الله عليم بكل شيء، طيب للغاية، ميال بذاته إلى معونتنا، وهو يعلم حاجاتنا خيرا مما نعلمها، فمن الفضول الإعراب عنها بالصلاة. وقال كثيرون: إن الإرادة الإلهية لا تتغير، فمن الغرور محاولة تبديلها بالصلاة.
الحقيقة أن الصلاة ليست تشككا في الله، وإنما هي رجاء وطيد يدفع بالنفس إلى الاستعانة على الشر بإله خير قدير. إن الضعف البشري محسوس من الجميع، ومحاولة الاستقواء عليه دليل على التوبة وحسن النية. ثم ليس الإعراب لله عن حاجاتنا فضولا، وإنما هو اعتراف بالقدرة الإلهية، ومشاركة منا في الانتصار بها. ثم ليست ترمي الصلاة إلى تغيير أحكام الله، وإنما هي أولا: وضع الأمور في نصابها الحق، الذي هو أن المخلوق قابل لا مانح، وثانيا: أنه بالصلاة يصير مستحقا نوال ما يسأل، وصلاته واستجابتها داخلتان في الأحكام الإلهية، كما أن عدم الصلاة داخل في الأحكام كذلك، وليس في هذه الحالة ما يدعو إلى قضاء الحاجة، سيما وأن هذا القضاء قد يبدو إغراء بالصلف والكبرياء. أما العبادة الظاهرة فأقل أهمية في ذاتها من العبادة الباطنة، ولا معنى لها ولا قيمة بدونها. بيد أنها إلزامية كذلك، فإن الجسد جزء جوهري من الإنسان، فنحن ملزمون بإشراكه في العبادة، وهو في الواقع يشترك في كل فعل باطن لما بينه وبين النفس من اتحاد جوهري. بل إن له رد فعل خاصا به: فما إن يفعل حتى يكسب فعله وموضوعه رسوخا ونماء، وهذا ما كان يتوخاه بسكال بنصحه غير المؤمن بعد بممارسة أفعال العبادة تقوية وتعجيلا للإيمان، كأنه يقول: اعمل كما لو كنت مؤمنا فتؤمن. فالعبادة الظاهرة ترسخ وتنمي العبادة الباطنة، وهذا الترسيخ وهذا الإنماء واجبان. وأما العبادة الجماعية فملزمة أيضا؛ لأن الله سيد الجماعات كما أنه سيد الأفراد، فهو حقيق بالعبادة بهذا الاعتبار. والأسباب المذكورة تأييد للعبادة الظاهرة تعود كلها هنا.
مما تقدم يبين بوضوح أن كل مذهب يأبى العلم على الله، كمذاهب أرسطو وأفلوطين وابن سينا، هو مذهب هدام للدين. ما الإله الذي لا يعلم بخلائقه ولا يعنى بهم؟ وأي معنى للصلاة، وكان أتباع الأفلاطونية الجديدة يقرونها مع ذلك، بل يجعلون منها رأس الشعائر الدينية؟ فإن قالوا: إن عدم الفائدة الموضوعية لا يمنع فائدة ذاتية للمصلي نفسه، كما ذكرنا منذ هنيهة، قلنا: ومتى علم المصلي بذلك عادت صلاته نفاقا، واضطربت نفسه بالتناقض بين رأي مذهبي يأبى العلم على الله، وبين عاطفة ضرورية للدين.
بقي أن ننظر في المعجزات، وهي في كثير من الأديان دلائل على صدق الدعوة، وعلى مدى القدرة الإلهية. المعترضون عليها هم أولئك الفلاسفة المدعوين بالعقليين لرجوعهم في هذه المسألة إلى حكم العقل، كما يقولون، وادعائهم أن العقل يؤيد ثبات القوانين الطبيعية، وينكر الشذوذ عنها. والغريب أنهم أشياع الحسية والتصورية المنكرتين لمبدأ العلية ولكل مبدأ ضروري. لم يعترض على المعجزات؟ يقولون: لأنها غير مفهومة. هل في العالم كائنات أو ظواهر مفهومة؟ فليختاروا أي كائن أو أي ظاهرة شاءوا مما عرفوه وألفوه؛ فإنهم يجدونه غير مفهوم. هل تحول الأكسجين والهيدروجين، وهما عنصران متباينان، إلى ماهية أخرى، أمر مفهوم؟ هل نمو حبة القمح أو أي نبات آخر، أمر مفهوم؟ ونستطيع أن نذكر ما لا يحصى من الأمثلة حتى تنتهي إلى أن الطبيعة بأسرها غير مفهومة على الوجه الذي يقصدون، سواء في الجماد والنبات والحيوان بما فيه الإنسان. كلما صعدنا سلم الأشياء وجدنا تعقيدا أكثر وفنا أدق. ولكن ألفتنا لها هي التي تجعلنا نستسيغها، وندهش للنادر الوقوع. ولا يقولن قائل: إن المعجزات تدخل جديد من جانب الله، وإنكار للقوانين التي شرعها. كلا، فإن الحادثات كثيرة جدا، ولا يقدح حدوثها في ثبات الطبائع وقوانينها. إن الجديد هو من جانبها لا من جانب الله. لم تكن، ثم حدثت طوعا لإرادة إلهية أزلية، وهذا كل ما في الأمر.
ولا بد من كلمة أخيرة عن القوانين الطبيعية وضرورتها. إنها ضرورية في ذاتها بضرورة تركيب ماهيات الأشياء، أو ضرورة خصائصها، أو ضرورة نتائجها: فمن الضروري، إن وجد الإنسان أن يكون مركبا من نفس وجسد وبالهيئة المعلومة، وضحاكا، ومدنيا. ولكن القوانين غير ضرورية الوجود، وإنما هي ممكنة لأن الموجودات الطبيعية أنفسها ممكنة الوجود وعدمه، والقوانين خصائص لها وأغراض وقواعد لأفعالها متوقفة على شروط وظروف هي ممكنة التحقق وعدم التحقق؛ وهذا باب مفتوح للمعجزات: فإذا شاء الله ألغى أثر النار فلم تحرق، ولا تناقض في وقت العرض، وإذا شاء شفى المريض دفعة، والشفاء حادث طبيعي، لكن الشفاء دفعة ليس طبيعيا، فهو يتطلب تدخلا من الله لا يصاحبه ولا يلزم عنه تناقض أو إلغاء قانون. وبهذا المعنى جميع القوانين ممكنة، أو هي ضرورية بضرورة شرطية متى توفرت لها شروطها وظروف الشروط، ونحن نرى أفعال الأشياء تتعدل بتعدل كتلتها مثلا، أو مسافتها من أشياء أخرى. والمسألة دقيقة من غير شك، فلا نزيدنها دقة بسوء الفهم أو سوء التأويل، مثال ذلك: مسألة البعث، فقد أريد أن يكون إيجادا لعين ما كان، وأن تجمع جميع أجزاء الكائن المبعوث التي كانت موجودة في جميع عمره فيه. فرد عليهم الغزالي بأن البعث إيجاد لمثل ما كان، لا لعين ما كان، وأن جمع جميع الأجزاء محال
1
وليس ضروريا حتى يحتج باستحالته. وهكذا في مسائل جمة، والمؤمن الذي يراجع الأمور بما ينبغي من فطنة وحذر، لا يجد صعوبة عاتية في حفظ إيمانه، خصوصا إذا ضاهى الصعوبات بما في علم الألوهية من براهين قاطعة وشواهد دامغة، وبما في الحياة الدينية من رفعة وغبطة، إذ يبين فيها الله مثال الحق والخير والجمال، وأبا رحيما قديرا ناصرا للخير ناشرا للتفاؤل. (2) تسبيح وتمجيد
والواقع أن عباقرة الإنسانية عبدوا وسبحوا وأنشدوا الأناشيد للعزة الإلهية. ونحن نريد أن نختتم هذا البحث بنقل نشيدين أو ثلاثة اخترناها مما جادت به قرائح فلاسفة نعتوا بالوثنيين وما كانوا إلا مؤمنين. قال أبكتاتوس الأخلاقي الرواقي المشهور: «لو كان عقلنا قويما فماذا كان ينبغي أن نصنع كلنا معا وكل واحد على انفراد، إلا أن نمجد الله، وأن ننشد له الثناء، وأن نرفع إليه الشكران؟ أليس ينبغي علينا، ونحن نشق الأرض، ونطعم منها أن ننشد نشيد الله؟ ولكن ما لأجله ينبغي أن ننشد أعظم نشيد هي القوة التي منحنا إياها لإدراك مواهبه، واستعمالها بطريقة منهجية. إنكم عميان، يا سواد بني الإنسان! ألم يكن من اللازم أن يقوم واحد بهذه المهمة، وأن ينشد بالنيابة عن الجميع، نشيد الألوهية؟ ماذا يسعني أن أفعل - أنا الشيخ المسن الأعرج - إلا أن أمجد الله؟ لو كنت بلبلا لأديت مهنة البلبل، ولو كنت بجعا لأديت مهنة البجع. إني كائن ناطق، فيجب أن أمجد الله. تلك مهنتي، وأن أؤديها، ولن أتخلف عنها ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وأحثكم على أن تنشدوا معي.»
وقال أفلاينتوس - أحد مؤسسي الرواقية: «سلام عليك يا أمجد الخالدين! أنت الكائن المعبود تحت ألف اسم، أنت جوبتير القدير أزلا أبدا، أنت سيد الطبيعة الذي يدبر الأشياء جميعا. واجب على كل فان أن يرفع إليك صلاته؛ لأننا ولدنا منك، وأنت الذي وهبتنا الكلام من بين الكائنات التي تحيا وتسعى على سطح الأرض. وعلى ذلك أقدم إليك ثنائي. إن هذا العالم الرحيب الدائر حول الأرض يلائم بين حركاته وبين غرضك، ويطيع أوامرك دون تذمر. أنت الملك الأعظم للكون، وسلطانك يشمل جميع الأشياء، ما من شيء على الأرض - أيها الإله الجواد - يتحقق بدونك، لا في الأثير السماوي الإلهي، ولا في البحر، ما خلا الجرائم التي يقترفها الأشرار بحماقتهم. يا جوبتير صانع جميع الخيرات، أيها الإله المحجوب وراء السحب القاتمة، يا سيد الرعد، أنقذ البشر من جهالتهم المشئومة.»
وما أكثر النصوص التي من هذا الطراز، ولكنا نجتزئ بسطرين لأفلوطين - الزعيم الروحاني الأشهر - قال: «حين ننظر صوب الله فتلك غايتنا وراحتنا ... إننا بقدر ما نستطيع الحصول على مثل تلك الرؤية، نرى أنفسنا ساطعين نورا، مليئين نورا معقولا ... أو بالأحرى نصير نحن نورا خالصا وكائنا رقيقا غير ذي ثقل، نصير إلها متقدا حبا. تلك حياة الآلهة والبشر الإلهيين السعداء.»
تباركت اللهم تباركت!
هوامش
صفحه نامشخص