طبیعت و ما بعد طبیعت: ماده، زندگی، خدا
الطبيعة وما بعد الطبيعة: المادة . الحياة . الله
ژانرها
إذا كانت طبيعة الحياة مباينة لطبيعة المادة الصرف وقواها الفيزيقية والكيميائية، فما أصل الحياة؟ تلك هي المسألة الأخيرة في هذا الباب، ولا يعلم أصل الشيء إلا بعد العلم بطبيعته؛ ولقد كان عدم العلم بحقيقة الحياة سببا في تعدد الآراء في أصلها وبطلان هذه الآراء. فمنذ أمد بعيد كان الاعتقاد شائعا بأن بعض الحيوانات الدنيا تتولد من الماء الآسن والطين والجثث المتعفنة؛ أو أن الأحياء جميعا تولدت في مياه الأنهار والبحار، ثم تطورت إلى ما نشاهده الآن: وهذا ما يسمى بالتولد الذاتي، أي التولد الحادث عن الجماد مباشرة، لا عن حي سابق.
ولكن وجد من الفلاسفة عدد قليل لم يمنعهم هذا الاعتقاد من الإيمان بمبدأ العلية، وما يحتمه هذا المبدأ من علو العلة على المعلول، أو مساواته على الأقل، فلا تكون أدنى منه؛ فعلل أرسطو نشوء الحي من غير الحي بتأثير الأجرام السماوية في المادة الأرضية؛ وكانت هذه الأجرام، في نظره ونظر اليونان عموما، أجساما أثيرية تحركها أرواح، فكانت لها في ظنهم فاعلية أعلى من فاعلية العناصر الأربعة. واصطنع هذا الرأي الفلاسفة المسلمون والمسيحيون في العصر الوسيط، فأقروا بذلك بقصور العناصر الأرضية عن توليد الحياة، ووجوب إضافته إلى فعل الشمس وغيرها من الكواكب، اعتمادا على حكم العقل بأن الأكثر لا يخرج من الأقل أو أن الأكمل لا يخرج من الأنقص. وظل هذا الإيمان بالفاعلية السماوية سائدا إلى أن أثبت باستور بالتجربة القاطعة أن تلك الحيوانات تتولد من جراثيم حية لا ينالها البصر المجرد، وأن كل حي فهو من حي.
وارتأى القديس أوغسطين أن الله في البدء أودع المادة البحت غير المعضونة بذورا حية، كمنت فيها ونمت بعد ذلك في مختلف الأنواع على مر الزمان. وهذا الرأي جائز في حد ذاته؛ لأنه يرجع الحياة إلى فعل الخالق، ويرجع الأنواع الحية إلى أصول خاصة بكل نوع، فيحترم مبدأ العلية ونبذ الرأي القائل بالمادة الحية بما يتضمنه من التمييز البات بين الحياة والمادة، وما يضع تبعا لذلك من مبدأ للحياة متمايز من المادة هو الأصل البذري المودع من الله. وليس يمكن دحضه بالتجربة، فكل ما تشهد به هو أن الجسم الحي يخرج دائما من الحي «الآن»، أي في عهد التاريخ، ولا تدل بذاتها على أن الله لم يستخدم التولد المشكك لإيجاد الأحياء الأولى، غير أنه ليس من الطبيعي للبذرة الحية أن تكمن في المادة البحت لما بينهما من منافاة تعطل البذرة عن كل عمل أزمنة متطاولة إلى أن تطلق من أسرها وتشرع في نشاطها. وإذا كان الغرض من احتباسها على هذا النحو تنزيه الله عن تكرار الخلق، فإن هذا التكرار متحقق فعلا بالنسبة للنفوس الإنسانية على الأقل، وهي روحانية تعلو على الأسباب الطبيعية وتحتم خلقا من الله. فلا موجب لهذا الرأي.
ويشبهه رأي النظام المعتزلي، وقد صدر عن الغرض السابق، وأخذ مثل أوغسطين عن الرواقيين، فقال: «إن الله تعالى خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن، ولم يتقدم خلق آدم خلق أولاده، غير أن الله تعالى أكمن بعضها في بعض، فالتقدم والتأخر إنما يقع في ظهورها من مكامنها دون حدوثها ووجودها. وإنما أخذ هذه المقالة من أصحاب الكمون والظهور من الفلاسفة.»
3
وليس لدينا شيء نقوله بعد الذي قلناه ما دام الرأي واحدا عند أوغسطين وعند النظام.
وكان لابن سينا موقف غريب حاول به أن يجمع بين فاعلية المادة والفاعلية السماوية. قال: «وقد يتكون من العناصر أكوان بسبب القوى الفلكية إذا امتزجت العناصر امتزاجا أكثر اعتدالا، وأولها النبات ... فإذا حدثت مادة بدن يصلح أن يكون آلة للنفس ومملكة لها، أحدثت العلل المفارقة [الأرواح المحركة للكواكب] النفس الجزئية ... فالنفس تحدث كلما يحدث البدن الصالح. لاستعمالها إياه.»
4
ونحن ننكر جواز تكون أجسام صالحة لاستعمال النفس إياها، من العناصر، سواء أكانت العناصر فاعلة وحدها أو متأثرة بالكواكب، فإن فاعليتها الخاصة، وهي مادة صرف، لا تسمو إلى هذه المرتبة، وفاعلية الكواكب، خصوصا كما نعلمها الآن، لا تتناول مثل هذا التكوين، ولا تخلق نفوسا، فإن الخلق لله وحده.
وبدا لبعض العلماء المعاصرين، وأشهرهم هلمولتز، أن الجراثيم الحية هبطت إلى الأرض من بعض الكواكب. ولكن هذا الرأي يدع المسألة حيث هي؛ إذ إننا نفحص عن أصل الحياة أرضية كانت أو فلكية، وكل ما يفعله أصحابه هو أنهم يرجعون القهقرى إلى زمن مديد وعلة خارجة عن مشاهدتنا، وكان يتعين عليهم أن يفسروا أصل الحياة في تلك الكواكب، وذهب غيرهم إلى أن حرارة الشمس كانت في العصور الخوالي أشد بكثير مما هي الآن، فكانت أغنى بالأشعة فوق البنفسجية وأقدر على تركيب المادة الحية. ولكنهم غفلوا عن نقطة جوهرية هي أن مثل هذه الحرارة كانت خليقة أن تقتل الحياة لا أن توجدها.
صفحه نامشخص