طبقات مشاهير الدمشقيين من أهل القرن الرابع عشر الهجري
طبقات مشاهير الدمشقيين من أهل القرن الرابع عشر الهجري
ژانرها
ولد، رحمه الله تعالى، في شعبان سنة (1249) في القيطنة من ضواحي وهران، وتربى في حجر أخيه العلامة السيد محمد السعيد، السالفة ترجمته 2، حيث توفي والده قبل فطامه. ولما بلغ سن التمييز شرع في حفظ القرآن الكريم فحفظه عن ظهر قلب وهو دون البلوغ، ثم اشتغل بطلب العلم، فقرأ على أخيه المنوه به، وقرأ على ابنه السيد مرتضى، المتقدم ذكره 3، طرفا من النحو والوضع، وقرأ التوحيد على أخيه العارف الجليل الأمير السيد عبد القادر قدس سره، والفقه المالكي على الشيخ محمد بن عبد الله الخالدي، ولما اشتبك القتال بين أخيه الأمير عبد القادر وفرنسا، كان المترجم في سن المراهقة، فلهذا لم يحضر وقائعه المشهورة، ثم استصحبه أخوه في جملة العائلة الكريمة إلى فرنسا. ولما نقل الأمير إلى بروسا سار المترجم مع إخوته إلى مدينة عنابة من أعمال الجزائر وتزوج هناك وأقام هو وإخوته بها نحو خمس سنين، ورتبت لهم الدولة الفرنساوية المرتبات الكافية، ثم تراءى لأكبر إخوته السيد محمد السعيد أن يسير إلى مدينة تونس ويستوطنها مع إخوته، ورأى المقام بها أجود من عنابة لوفرة علمائها وفضلائها، فكاتب أحد أمرائها يستشيره فرحب به ووعده أن يقوم بجليل شأنه، فعرض أمر الرحلة على وكيل الفرنساويين في عنابة فأجيب بأنه لا يسرح ما لم يسلم بمرتبه، فأجاب بتسلمه، فلما سلم معاشه أصالة عن نفسه ووكالة عن إخوته تسليما رسميا، هيأت فرنسا وابورا 1 بحريا ونقلته مع إخوته وفيهم المترجم من عنابة إلى الشام، وألحقتهم بأخيهم الأمير السيد عبد القادر، ورفضت فرنسا الإذن لهم بتواطن تونس إبعادا لهم عن قارة المغرب كليا، خوفا من إقبال العموم عليهم، لما لهذا البيت في المغرب من عظم الشهرة وكبر الاعتقاد في نفوس العامة والخاصة، فقضت سياستهم إلحاقهم بأخيهم الأمير، فلما رأوا ذلك سقط في أيديهم، ولم يكن في بالهم هذا الحسبان، فقدموا دمشق سنة (1273) واضطر أخوهم الأمير إلى عمل مرتبات لهم مما رتبته له فرنسا، وجاء أقل من راتبهم السالف، ثم إن أحد إخوة المترجم طلب من والي دمشق أحمد باشا الشهيد سنة (1276) توجيه مرتب له كاف من الدولة العلية، فأمره بعمل مضبطة، فأجرى موجبها وسار إلى الآستانة، فوجه له معاش كاف، فلما رأى بقية إخوته ذلك تحركت همتهم لمثل هذا وتذاكروا في الذهاب إلى الآستانة، فعند ذلك جمعهم أخوهم الأمير قدس سره، وكتب مضبطة بأسمائهم وأرسلها مع السيد مرتضى، السالفة ترجمته 1، فسار إلى الآستانة ووجه له ولهم معاشات كافية، فكان لصفينا المترجم ألف قرش راتب شهري، وذلك سنة (1277) ولا زال يستوفي هذا المعاش إلى أن توفي أخوه الأمير، فوقتئذ انقسمت العائلة قسمين، قسم بقي على أنه من تبعة فرنسا، وقسم انخرط في تابعية الدولة العلية، ورتبت كلتا الدولتين لمن كان على تبعتهما المرتبات الكافية، فكان ممن بقي على تبعة فرنسا صفينا المترجم، فعينت له ألف قرش أيضا مشاهرة، ومنحتين في كل عام في عيدين لهم، كل منحة نحوا من خمس وعشرين ليرا فرنساوية على حسب أصولهم. ولما حصل اكتتاب النفوس سنة (1301) بدمشق طلب من المترجم أن يقبل التقييد في سجل النفوس العثماني ويعطى هو وعائلته أوراق النفوس فلم يقبل، فسعى بعض أقاربه ممن تعثمن 2 إلى الوالي حمدي باشا فوقف معاشه من الدولة العلية، فاعترض المترجم [على] هذا التوقيف بأن الدولة العلية لما رتبت له ما شرطت أن يكون من تبعتها، فلم يفد اعتراضه، وبقي معاشه موقفا ومعاش فرنسا جاريا عليه. هذا ولما قدم المترجم إلى دمشق أكب على تحصيل العلوم والفنون، فحضر في فن النحو، والتوحيد، والبيان، والمنطق، والوضع، والأصول، على العلامة المحقق الشيخ محمد الطندتائي، وقرأ في فن النحو على ابن عمته أيضا العلامة السيد مصطفى بن التهامي، وقرأ جانبا من التوحيد على الصوفي المبارك الشيخ محيي الدين العاني، وكذا على العلامة الشيخ يوسف المغربي، وحضره في «الجزرية» من علم التجويد أيضا وحضر في التفسير على أخيه العلامة السيد محمد السعيد، وسمع من سيدي وجدي العلامة الشيخ قاسم «صحيح البخاري» بطرفيه بعد العصر في جامع السنانية في شهر رمضان من سنتين مع طلبة أجلة، وإحضار شروح «الصحيح» والضبط التام والتحقيق البديع كما شافهني به المترجم مرارا، وكتبه لي في مشيخته، وكذا حضر على الجد قدس سره جملة من «تفسير البيضاوي» من أوائل سورة البقرة، وسمع على أخيه الأمير قدس سره «صحيح البخاري» و«مسلم» في مدرسة دار الحديث الأشرفية، وكتب له إجازة رأيتها، وحضره في مواقفه الشهيرة، وفي «الفتوحات المكية» في داره لما قرئت بحضوره بعد تصحيحها. وولع المترجم بفن التصوف وأدمن النظر فيه، وتلقن ذكر الطريقة القادرية من السيد محمد علي أفندي الكيلاني الشهير بحماه، ومن أخيه الأمير أيضا. واشتهر فضله ونبله وصلاحه وتقواه، وأقرأ في داره في فنون متنوعة، وكذا في جامع العناية في جواره من قسم باب السريجة درسا عاما بين العشائين مدة، وكان محافظا على أوقاته، يقسمها على الذكر وتلاوة التنزيل العزيز، ومطالعة العلم والتصنيف، وزيارة الإخوان في الله تعالى، وصلة الأرحام، ورياضة البدن أحيانا. وكان له ميعاد بين العشائين ليلتي الاثنين والجمعة في داره، يجتمع عنده فيهما بعض مريديه فيذكرون الله تعالى إلى العشاء ذكرا خاليا من شائبة الابتداع. وكان شديد المحافظة على الجماعة أول الوقت، فقل أن تفوته إلا أن يغلب عليها لأمر ضروري. وكان شديد المحافظة على قيام الليل حضرا وسفرا كما شاهدته في سياحتي في صحبته إلى بيروت مرة وإلى منازه الغوطتين في كل عام مرارا، يطيل القيام والركوع والسجود، اقتفاء للهدي النبوي، مجللا عند الخاصة والعامة، محببا للكافة، ويقصد لحل المشكلات، سمحا بجاهه، منتدبا لإغاثة الملهوف، فيه دعابة، وله شعر سليقي 1 ونثر حسن، وله ذوق عربي غريب، يقدر قدر البليغ من الكلام، ويقضي بما حوى من رقة وانسجام، مشربه الحديث والعمل به والدعوة إلى التمسك به والحث عليه، ألوفا، ودودا، متواضعا، حسن المحاضرة، كثير المفاكهة والمطايبة، يحفظ تواريخ المغرب ونوادره وجغرافيته البحرية والبرية، ويعلم حالة العصر السياسية ويدري داءها ودواءها. وله فراسة في الوقائع السياسية عالية، مما يشف على ذكاء الفؤاد ونباهة الخاطر. وكان لا يجيب دعوة من يعلم أن مكسبه حرام وإن اضطر إلى الحضور فلا يأكل بل يجلس على المائدة ويعتذر بأنه اضطر إلى طعام قبل حضوره، وإن أكل في بعض الأحيان فيتقلل منه ثم يتصدق بقيمة ما أكل، هكذا عادته، يتأثر بها بعض الصوفية ، وكان يقابل زائريه بالبشاشة الزائدة واللقي المدهش، ويرد الزيارة لمن زاره، ولا يتملق الأعيان، ولا يزور من لا يزوره منهم، ولا يبالي بصدعهم بالحق في المحافل إذا اختلفوا، وربما عول في صدعهم على اجتهاده، وإذا جودل يحرر المسألة المتنازع فيها ويرشحها بالأدلة والبراهين. وكم له في ذلك من مقالات فائقة، وله فتاوى عديدة في مواضيع مختلفة حسب الأسئلة التي كانت ترفع إليه يؤخذ منها فوائد كثيرة يعز وجودها في الأسفار النادرة، كما أن له مصنفات بديعة، منها: كتاب على قول الإمام علي، كرم الله وجهه: (العلم نقطة كثرها الجاهلون). سماها «نثر الدر» وبسطه وقد أطلع عليها 1 فضلاء عصره فقرظوها، وفي مقدمتهم مفتي دمشق العلامة محمود أفندي الحمزاوي ومن [في] طبقته، ورسالة على بيتي (توضأ بماء الغيث) الشهيرين شرحهما على لسان العارفين، قدس سرهم، ورسالة في السماع سماها «الجنا المستطاب والزبرج المذاب في الرد على من زعم أن سماع المعازف يحرك القلب لرب الأرباب» وقد قرظتها بقولي:
كتاب كريم علي الجناب ... بديع الفرائد عذب الخطاب
أبان عن الحكم في مشكل ... بأسمى مقال وأسنى جواب
وأرشد للسالك مطلوبه 2 ... وأدنى إليه سلوك الصواب
فدونك سفرا بدا وجهه ... يضيء وقد زال عنه النقاب
تمسك بإرشاده واتعظ ... ودع لهو دف الهوى والرباب
فذاك ابتداع وأي ابتداع ... وذاك حجاب وأي حجاب
أمور مناكير ما إن لها ... لسنة طه الرسول انتساب
توهم قوم وصولا بها ... فهيهات ما ذاك إلا سراب
فتعمير قلب الفتى ذكره ... لمولاه واللهو فيه الخراب
صفحه ۸۷