ما الذي يميزه عن سواه؟ والجواب هو سؤال: هل في هذا الرجل ما يميزه عن سواه؟
من السخف أن نشبهه بالأسد. من السخف تشبيه الإنسان بالحيوان. الشجاعة؟ متى تخلص الإنسان من الخوف «وباعها»، يتساوى مع الذين باعوها. القوة الجسدية؟ أنت وأنا نعرف من هو أشد عضلات منه. الفكر؟ هو تلميذ فلسفة عميق التفكير، ولكنني أعرف من يضاهونه. الأدب؟ في بيروت عشرات من هم أعلى منه أدبا بالمعنى الشائع. الإيمان؟ كلنا يؤمن بشيء، المرتشي يؤمن بالرشوة، وتاجر الوطنية يؤمن بالتدجيل.
إذن ما الذي يميزه؟
لا شيء، إلا أنه آمن بعقيدة نظمت تفكيره، ونسقت أعماله، عقيدة ارتكزت على العلم والقيم الإنسانية - أو بعبارة ثانية عقيدة صحيحة.
قالت له هذه العقيدة: اطلب القوة في نفسك وانتظم مع رفقائك. قالت له: أعط. وقالت له: ولاؤك الأول والأخير لأمتك ومصالحها. قالت له: أنت لا شيء وحدك، والمجتمع كل شيء معك؛ فشعر أنه كل شيء لأنه المجتمع. قالت له: كن شجاعا ولا تكن أزعر بهوارا، واغسل نفسك من أدران التفكير الحقير، وأوهام الطائفية، والإقطاعية، وعلم الغيب. ما استهوته بالخبز، ولا بممتلكات سواه، ولا أوغرت صدره على جيرانه فلم تغر بهيميته. بل قالت له: كلكم مواطنون متساوون - رجالا ونساء - حقا في الكسب، وواجبا في الإنتاج. لم تحتقر المادة ولم تؤلمه الروح؛ لأن الحياة كما نفهمها وكما هي، هي مادة وهي روح (هذه هي المدرحية).
لم تعده العقيدة بالحل الرخيص، ولا الطريق المختصر، ولم تقلده رقية من نشوة مبهمة، بل استهاجت القوى التي تؤمن أنها كامنة فيه؛ فهبت فيه الرجولة الواعية، الرجولة التي جاءت لتعطي وتصارع، لا الحقارة التي هرعت تحدوها الغريزة العمياء، لتنهب وتتمتع، فحين اشرأب الكبر في نفسه صار جورج عبد المسيح.
لا، لا، جورج عبد المسيح هو رجل عادي، آمن بشيء يؤيده العلم؛ فانتفضت عناصر نفسه، وانتظمت، بطولة فكر، وجرأة.
في يقيني أن في وسع أي واحد من مواطني هذه الأمة أن يصبح كجورج عبد المسيح، أو أفضل منه. تلك الورقة التي خط عليها الأمين عبد المسيح اسم أنطون سعادة ... لن تبقى بيضاء. إن السطر الأول، والاسم الأول، والقومي الاجتماعي الأول لن يكون السطر الأخير ولا الاسم الأخير.
قطعة الحبل التي تقلبها جورج عبد المسيح، خيوطها أبدا تتكاثر وتتفولذ، ذلك الحبل الذي التف على معصمي من آمن أن موته شرط لانتصار قضيته، سينشل الغرقى كلهم من مهاوي وادي أبو جميل إلى مشارف ضهور الشوير.
حين تروكب العدالة
صفحه نامشخص