ص _128 وتكون الخلاصة أن هذه المتاعب هى وحدها سبيل التفاوت والتفاضل، ومحك المبادئ والفضائل، وهى كذلك الأحجار التى يتعثر فيها الضعاف فيسقطون، وينتهى عندها الأدعياء فيقفون: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال والقرآن الكريم يعرف أبناءه صورة هذه الحياة على حقيقتها، ويبصرهم بمتاعبها، ولا يهون من قيمتها، ويذكرهم بأن هذه المتاعب مفروضة- بقدر مشترك- على الكافرين وعلى المؤمنين! لابد لكلا الفريقين من أن يتعب ويكافح ويتحمل : (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت). فلا ناصر الكفر- كما ترى- مراح من أعبائه، ولا ناصر الإيمان مراح من هذه الأعباء. فمن الحمق الفرار من متاعب الحياة، لأنها ستلاحق من لا يواجهها وتفرض نفسها عليه طوعا أو كرها. قال لى صديق: إن الاختيار الإلهى يصل إلى أن يوضع العنق تحت السكين فى انتظار الذبح. قلت له: إذن ينبغى ألا يزيغ اليقين ولو تحت حد السكين!. قال: وفى ثباته يكون الفرج العاجل. * * * إن الله عز وجل يحب أن يخذل الباطل بقوة أنصار الحق وتضحياتهم، وأن ينصر الحق بما يسوقه أهله بين يديه من مغارم الدم والمال، وعلى هذا القانون دارت المعركة من الأزل بين الحق والباطل! فالجهد البشرى المبذول من كلا الفريقين هو الذى يقرر المصير ويحدد النهاية، ولا يحب القدر أن يتدخل فى أدوار المعركة لمصلحة أحد الخصمين قبل أن يطبق عليهما قانونه العتيد، وقبل أن يستنفد الكفاح المر من طرفيه المتصارعين آخر ما فى طاقتهما من جهد، وآخر ما فى جعبتهما من صبر. ص _129 والمعجزات التى أيدت الأنبياء فى دعواتهم، ووضعت بذرة البقاء فى رسالاتهم خضعت هى نفسها لهذا القانون. فالعصمة لا تنافى المحنة، وضمان السماء لا يمنع ابتلاء الأرض، وقد كان الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، يواجه أخطار الهجرة وينزل على قوانين الأسباب والمسببات عندما كان يتوارى نهارا ويسير ليلا، وعندما كان يمحو من خلفه الآثار التى تدل على وجهته. ذلك كله فى الوقت الذى أيده الله بجنود لم تروها، وبث فى طريقه من الخوارق ما نعرف وما لا نعرف! ومن غفلة المؤمنين أن يتناسوا هذه الحقيقة وأن ينتظروا من قوانين الوجود أن تحابيهم فى كفاح، أو أن تتملقهم لأنهم أصحاب صلاة وصيام! فإذا احتدمت المعركة بين الحق والباطل حتى بلغت ذروتها، وقذف كل فريق بآخرما لديه ليكسبها، فهناك ساعة حرجة يبلغ الباطل فيها آخر قوته، ويبلغ الحق فيها أقصى محنته، والثبات فى هذه الساعة الشديدة هو نقطة التحول، والامتحان الحاسم لإيمان المؤمنين يبدأ عندها. فإذا ثبت تحول كل شىء عندها لمصلحته. وهنا يبدأ الحق طريقه صاعدا، ويبدأ الكفر طريقه نازلا ، وتقرر باسم الله النهاية المرتقبة... وانظر كيف كان المهاجران قاب قوسين أو أدنى من الموت فى الغار، وكيف كان إسماعيل قاب قوسين أو أدنى من الذبح، وكيف وصل الابتلاء بموسى وقومه لما طارده فرعون وجنده: (فأتبعوهم مشرقين * فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين * فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم * وأزلفنا ثم الآخرين * وأنجينا موسى ومن معه أجمعين). ألا فليؤد المسلمون واجبهم ثم لينتظروا نصر الله. ألا فليواجهوا الأخطار والمخاوف، ثم ليرتقبوا الفوز. أما قبل ذلك فليس فى الدنيا مكان للاهين واللاعبين. *** ص _130
* فريقان..!
صفحه ۱۲۹