انطلقت لأداء رسالتها، وعرفت أنها متمردة على الأوضاع الباطلة، ثم هى مسرورة بهذا التمرد، أنسة به، وأنه يزداد سرورها عندما يعلم الكفار ذلك، وعندما يوقنون بأن الكتيبة المؤمنة قد بنت حاضرها ومستقبلها على ذلك، فلن ترجع إلى الكفر حتى يلج الجمل فى سم الخياط.. والرسول العظيم فى هذه الخطة يقتفى أثر جده إبراهيم لما نابذ قومه بالخصومة، ونجعل من أهله المؤمنين حزبا يمثل الحق وينافح عنه. (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين * وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون). * * * على أن الصبر على أعباء الرسالة التى تدبر للإنسانية حدثا ضخما، يعارضه من الناحية المقابلة صبر من الجامدين على موروثاتهم المقدسة واستماتة فى الدفاع عنها. وهنا يدخل الفريقان فى مبارزة بالصبر أقسى وأنكى من المبارزة بالسلاح، والفائز فيها أطول الفريقين إصرارا. وأشدهم تحملا، وأكثرهم بذلا وأرضاهم بتقديم التضحيات الجسيمة، وأجرؤهم على اقتحام الأهوال العظيمة. ولن يكتب النصر للإيمان إلا إذا توفرت هذه الشرائط كلها لأتباعه، فإن الباطل سيسخر من الحق سخرية لاذعة طويلة اللسان: (وإذا رآ ك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون). وسيبدى الباطل أنه لم يأبه للصيحات التى تناولته، وأن هذا الحق الجديد وأصحابه المغرورين به ليسوا إلا سحابة صيف عن قليل تنقشع، وأنها لم تغير شيئا مما كان. ولن تستطيع ذلك.. ويقولون فى عناد: (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا * إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا). ص _096 وسوف يجنح الكفار إلى المال- وما أقوى سلطان المال- يستغلونه للرشوة وشراء العقائد وتخريب الذمم، فإن عجزوا عن ذلك استغلوه فى إشعال حرب مهلكة لتأديب الثائرين- كما يقولون- ولإعادة المياه إلى مجاريها! والعدل فى البيئات الظالمة كالنور فى الليالى المظلمة، كالتوحيد فى الأم المشركة، كل ذلك خروج عن المألوف. فهو ثورة تستنكر ويحارب أصحابها. وعلى الموسومين بأنهم ثوار أن يصبروا على هذه التسمية وما تستلزمه من معاملات يفرضها ناموس الأوضاع القديمة إلى أن يأذن الله بزوال هذه الأوضاع.. وقد كان الرسول الكبير صبارا على مطالب رسالته، ناهضا بأعباء دعوته، وهو يعالج أمة فى أخلاقها وحشة ورهبة، وكأنها ظلال للصحراء التى تسكنها من قديم. وفي كنف هذا الرسول تربى جيل من البشر هيهات أن يوجد مثله بلاء ووفاء وتقديرا لقيم الرسالات ووزنا للرجال بمعاييرها الصحيحة. إنه جيل لم ينكص أمام أى نوع من أنواع التضحية طلب إليه.. ضحى بكل شىء لكى يسلم له دينه فحسب. خرج صهيب مهاجرا فاتبعه نفر من مشركى قريش فنزل عن راحلته ونثل ما كان فى كنانته وقال: والله لا تصلون إلى أو أرمى بكل سهم معى، ثم أضرب بسيفى ما بقى فى يدى.. وإن شئتم دللتكم على مال دفنته بمكة! وخليتم سبيلى. فقالوا: دلنا! ففعل. فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت فيه هذه الآية: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رء وف بالعباد). ومن عمل العقيدة العميقة فى النفس أنها تهيج صاحبها حتى تجشمه فوق طاقته من عمل. فإن الله عز وجل عذر فى الهجرة من لا يستطيعها من الشيوخ العجزة، ولكن شيخا مريضا من بنى ليث حدثته قوة الإيمان فى نفسه، وأوحت إليه الرسالة الصادقة التى يعمل لها، أنه أهل للهجرة، فقال: والله ما أنا ممن استثنى الله عز وجل وإنى لأجد حيلة . ولى من المال ما يبلغنى المدينة وأبعد منها . والله لا أبيت بمكة، أخرجونى . ص _097 فخرجوا به يحملونه على سرير حتى جاوزوا قريبا من مكة، فبرحت به العلة وحضره الموت. فضرب بيمينه على شماله- كهيئة المبايعة- ثم قال: اللهم هذه لك. وضرب مرة أخرى وقال: وهذه لرسولك، أبايعك على ما بايع رسولك.. ثم مات... وبلغ خبره أصحاب رسول الله صلى الله عله وسلم، فتمنوا لو أن الرجل وافى المدينة! فنزلت الآية: (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما). إن الرجل صاحب الرسالة يؤثر فى الحياة ولا يتأثر بها، ويوجه الأمة ولا يندرج مع تيارها. وكل عام يلوح هلاله فى الأفق، يذكر المسلم الحر، بأن النفس والمال والأهل والوطن، فدى للإيمان الصحيح، والإخلاص لله ورسوله. ص _098 المنقذ المجهول تمخضت متاعب المسلمين فى مكة عن الهجرة منها. فغادرها الرسول صلى الله عله وسلم وصحابته إلى يثرب، وهناك استطاعوا بناء الأمة التى يريدون، وإقامة الحكم الذى يبتغون. ولكن المسلمين- كبقية الأمم- لا تنتهى أمامهم سلسلة المتاعب، بل لابد من أن يواجهوا شتى الصعاب التى شرعت من أجلها فريضة الجهاد، وقررت عقيدة الكفاح. ولما كانت مراحل التاريخ الفسيح لأية أمة تتراوح بين الضعف والقوة، والهبوط والرفعة، فقد لاحظ العلماء أن الأمم- إبان ضعفها وذلتها، وتنكر حاضرها لها وسير أمورها على غير ما تهوى- تؤمل أبدا أن يكون غدها أكرم وأعز، وترتقب فى هذا الغد الزعيم الذى يحقق آمالها، ويبدد آلامها، ويدرك لها ثأرها من عداتها. وربما تطورت هذه الأمنية التى تتنفس فيها الرغبات المكبوتة إلى عقيدة عميقة يصاحبها الانتصار الطويل أو القصير! وليس يهمنا الحكم على هذه الملاحظة من الناحية النفسية، ولا من الناحية التاريخية، إنما يهمنا أن يطمئن القراء إلى قيمتها من الوجهة الإسلامية، فقد صح عن صاحب الرسالة العظمى إخباره: أن الله يرسل لهذه الأمة كل قرن من يجدد لها أمرها! لست أقتنع بقصة المهدى المنتظر كما يتصورها بعض المسلمين من أنه متربص فى محبسه من اثنى عشر قرنا ينتظر أن يؤذن له فى الخروج فينطلق فى فجاج الأرض يملؤها عدلا كما ملئت جورا...!!! إن هذا الاحتباس الغريب شىء يعز على التصديقات... ولكنى أرحب بفكرة المهدى على أنه أى امرئ مسلم يغضب الله. ويغار على دينه وعباده. ويزدرى الضلال السائد بين الخاصة والعامة. والركود الذى يوهن المسلمين ويسلط عليهم عدوهم. فيقوم لله قومة مؤمن خالص القلب صادق الجهاد. ولا يزال ينفخ من روحه المقدام فى أرواح من حوله حتى يجعل ريح الإسلام تهب بعد ذهاب وتنتشر فى آفاق الأرض بعد طول غياب. ص _099 ومن ثم لا ينبغى أن يقنط المسلمون فيتركوا التفكير العملى فى شئونهم، فإن الله يتعهدهم بين الحين والحين بمن يدفع نهضتهم إلى الأمام، وينفخ فيها من روحه حتى لا يخبولها ضرام. وقد يقال إن هذا المعنى يدعوا إلى الكسل لا إلى العمل! وهذا خطأ وقع فيه المسلمون لأنهم لم يحسنوا فهم كثير من العقائد والتعاليم على وجهها الصحيح. ألا ترى أن عقيدة القدر كان يجب أن تترك فى كل نفس آثار الشجاعة التى لا ترهب أحدا، والتضحية التى لا تبقى على شىء. ولكن الحمقى جعلوها أساسا للنكوص والتواكل وسقوط الهمة. كذلك أراد الإسلام ألا نستنيم لضيم، وألا نستكين لهوان، بل يجب أن يبقى الشعور بالظلم كمينا بين الجوانح ينتظر العاصفة التى تلهبه، فيستطيع كل زعيم قوى المنهاج أن يستغله وأن يوجهه. حتى إذا وجد هذا الشعور وتوافر معه التطلع إلى هذه القيادة المنقذة المجددة من بين أصحاب المواهب النابغة، عاد ذلك كله على التاريخ الإسلامى بالخير الجزيل. وتحضرنا قصيدة لابن الرومى يصف بها عدوان الحكومة فى عهده، واضطهادها للمطالبين بتغيير "بنى العباس " فهو يتهددها قائلا: وخلوا ولاة السوء منكم وغيهم فأحر بهم أن يغرقوا حيث لججوا نظار لكم أن يرجع الحق راجع إلى أهله يوما فتشجوا كما شجوا على حين لا عذرى لمعتذريكم ولا لكم من حجة الله مخرج ثم هو ينتظر مع المنتظرين هذا المنقذ المجهول، ويصف الجيش الذى يكون على رأسه وصفا يستغرق نحو سبعة عشر بيتا من عيون الشعر العربى تدلك على مبلغ هذا الأمل من القلوب وشدة تعلقها به. لعل لهم فى منطوى الغيب ثائرا سيسمو لكم والصبح فى الليل مولج بجيش تضيق الأرض عن زفراته له زجل ينعى الوحوش وهزمج فيدرك ثأر الله أنصار دينه ولله أوس آخرون وخزرج ويقضى إمام الحق فيكم قضاءه تماما وما كل الحوامل تخدج ص _100 ثم تراه يشفق على الإسلام من تصرفات حكامه الحمقى فى ذلك العهد، ويحذرهم عاقبة المضى فى هذه الطريق التى تتنكر لدين الله وأحكامه فيقول: وإنى على الإسلام منكم لخائف بوائق شتى بابها الآن مرتج لعل قلوبا قد أطلتم غليلها ستظفر منكم بالشفاء فتثلج ونحن مع تشجيعنا لهذه الفكرة، فى حدود ما أوضحنا، نريد أن نذكر نوعا من الدجل أبى إلا أن يسايرها حتى كاد يذهب بجلالها ويمحو آثارها. ذلك أن كثيرا من شيوخ الطرق أو قطاعها أعطوا أنفسهم لقب المهدى، وارتدوا ملابس الزعامة الإسلامية، فانقلبوا فيها ممثلين ممقوتين، وانقلبت أعمالهم مساخر لا آخر لها. وتلك من نكايات الزمن بمقدسات هذه الأمة فى دينها ودنياها. إن أمتنا تتجدد كل قرن لتغالب عوامل الفناء، فلنواجه، نحن المسلمين، مستقبلنا بقلب جديدة العزم، وعقول جديدة الفكر، ولننتظم فى صفوف الحياة الراكضة لنكون أبدا طلائعها الأولى. إن كياننا راسخ تميد الجبال ولا يميد! ونحن فى حراسة الحفظ الإلهى ما بقينا أبناء القرآن! فاحرصوا على رسالتكم أيها الأخوة. من يدرى؟ لم لا يكون من بينكم هذا المنقذ الكريم. هيا... ركضا إلى الله. * * * * القلة.. والضعف: حرم الإسلام على بنيه الذل، كما حرم الخمر، وكما حرم سائر الفواحش والمناكر. وليس يغض من قيمة هذا التحريم الحاسم أنك تجد أفرادا من المسلمين مخمورين لتعاطيهم المسكر، أو أنك تجد شعوبا من المسلمين مظلومة "لتعاطيها" الذل وتخبطها فى سكرته !. وتحريم الذل بعض ما أوحى بالهجرة إلى المدينة، ومن قبل المدينة إلى الحبشة، ولم يكن الذين أقاموا بمكة إلى حين الهجرة العامة مستكينين إلى ضيم يراد بهم. كلا! فقد كانت الكرامة الإسلامية مثلا فى الأنفة والترفع والاعتزاز، وكانت المبادئ الإسلامية تجعل أصحابها فى الذروة من الروح المعنوية الغلابة.، ولكن المسلمين كانوا قلة فى العدد، وقلة فى المظاهر المادية التى لابد منها للانتصار المادى. ص _101 ومن ثم استضعفهم أعداؤهم حتى اضطروهم إلى التحول عن وطنهم، فتحولوا تحول العزيز الذى يكره أن يكون ضعفه ذلا، وتحول الأبى الذى أعوزته أسباب النصر فى ميدان فذهب يبحث عنها فى ميدان آخر، وتحول المصمم الذى قد يدور فى طريقه مرة ومرة ولكن عينيه شاخصتان أبدأ إلى هدفهما الفريد!!. ولو كان المسلمون فى مكة كثرة نسبية. أو كثرة ذاتية، لأصبح رأس أبى جهل تتلاعب به أقدام صبيتهم. ولطاحت رؤوس تريد أن تفق المسلمين بجبروتها وسطوتها. وأن تطفئ نور الله بجهالتها وغفلتها. أجل! فإن نقمة الإسلام على المستكبرين لا تعدلها إلا نقمته على المستضعفين. وفى عصرنا هذا طرأت على المسلمين محن قاسية. فمنذ سقطت خلافتهم الكبرى. وانتقض شمل الجميع. وعربدت القوى الساطية فى أرجاء الإسلام وأهله. صحا نفر من المسلمين فوجدوا أنفسهم قلة فى دول صنعت صناعة ليكون السلطان فيها بعيدا عن أيدى المسلمين. ووضع هذه القلة شائك. فهى تهفو بروحها إلى الالتحاق بالكيان الضخم الذى سلخت عنه. ولكنها لا تستطيع ذلك، ثم هى تحاول أن تقيم مجتمعا تبرز فيه ملامح الإسلام وتنفذ شرائعه ولكنها لا تستطيع. وقد تحيا فى جو من الفتنة والإرهاب يستهدف إذابة عقائدها. ومحو معالمها فماذا تصنع؟ إن العبء ثقيل على كل قلة إسلامية. فرضت عليها الأقدار الاضطهاد والغربة. والرأى أن تبقى حيث هى إذا كانت كثرة ذاتية، فإن الأمل أن يؤدى بقاؤها على دينها إلى توطن الإسلام فى تلك المنطقة، وأن ترسخ فى ثراها شعائر التوحيد، من أذان وصلاة وتواص بالحق والصبر. ومن يدرى لعلها تكون المفتاح لخير واسع يصيب بقية الأرجاء المحرومة من أنوار الإيمان. أما إذا كانت قلة تخشى على نفسها أو على أعقابها التنصر أو الارتداد إلى أية نحلة، فمن حقها، بل يجب عليها أن تنزح إلى دار الإسلام، وأن تلحق بالجمهرة العظمى من المسلمين، كى تأمن على صلتها بربها. ص _102 ونحن نعتبر جماهير المسلمين فى روسيا وفى يوغوسلافيا كثرة ذاتية. وكذلك فى الهند والصين.. وهم كثرة فى الحبشة وغانا وأوغندة وغيرها. ذلك، وقد وضع الإسلام حدا للكثرة وللقلة التى تترتب على بيانها الأحكام الآنفة. فما ينقص عن اثنى عشر ألفا يعتبرون قلة، وعلى هؤلاء القلائل أن يتركوا بلادهم إذا ما اضطهدوا واعتدى عليهم، وفى أمثالهم تساق الآيات: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها). أما ما يربو على اثنى عشر ألفا فلن يهزم اثنا عشر ألفا من قلة، فعلى أولئك أن يستقتلوا فى الدفاع عن دينهم وعن وطنهم، وأن يتفانوا فى الحفاظ علي البقعة التى ارتفع فيها لواء القرآن، وفى ذلك يساق الحديث: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا .. " وليس هناك موقف بين عزة الكاثر وقلة الضعيف إلا موقف المسلمين اليوم ذلك الموقف الذى يجب إرجاعه إلى واحدة من الحالتين السابقتين. * * * * علم أم جهل: التصرفات التى تمليها البداهة كثيرة لا يتساءل عن عملها، بل يجب أن يتعجب من تركها، لأن تركها جرى على غير السنن المألوف! وللإيمان الصحيح تصرفات يجب أن تصدر عنه صدورا لا تكلف فيه ولا افتعال، لأنها أثره الذى لا يتخلف ولا ينقطع. وقلما يجهل اتجاه المؤمن فى أية ناحية تعرض له لأنه قلبه "يشير" دائما إلى جهة محدودة معروفة.. وإن لم يحددها له أحد أو يعرفها له معلم: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم). وعلى ضوء هذا الكلام تستطيع أن تعرف عمل كل مؤمن حق فى هذه الفترة من تاريخ الإسلام السياسى. لأن عمله لا يشتبه ولا ينبهم. ص _103 فإذا انشغل بغيره فهو إما منافق لا إيمان له، وإما مغفل لا عقل له. وكلا الرجلين لا نسأله عن دنيا، ولا نستفتيه فى دين!!. جاءنى أحد الناس يقول: ما رأيك فى هذه المسألة التى اشتجر فيها السلف والخلف! قلت: لا أريد أن أعرفها ولا أن أدلى برأى فيها! قال: كيف وقد خاضت فيها أقلام، وألفت رسائل، وقامت جماعات، وشغلت المسلمين فى هذا العصر؟!. فقلت له: إن هذا هو المؤسف. لقد شغلت المسلمين فى هذا العصر أمور تافهة جدا، لقد ألفت رسالة فى حكم المسبحة، وهاجت أقلام فى حكم المحراب، وكونت جماعات لدفن الموتى كما كونت جماعات لإحياء خلافاتهم العتيقة!. وربما لا أسىء الظن بقلوب هؤلاء، ولكنى أشك فى عقولهم. قال لى: ولم هذا التحامل على البحوث العلمية المجردة؟!.. قلت له: يا صاحبى، هل تتصور أن أحدا من مسلمى الصدر الأول يرى حال المسلمين قبل الهجرة، أو عند إحاطة الأحزاب بالمدينة، ثم يستبيح لنفسه أن يثير عجاجة البحث العلمى حول "مسألة المحيرة" في الحيض والنفاس، أو حول "المسألة الحمارية" فى مشكلات الميراث، إن هذا سيبوء حتما بأحد الوصفين: النفاق أو الحماقة..! إن أى علم يصرف المسلمين عن واقعهم، وإطالة الفكر فيه، والعمل له. إنما هو جهل، فاعلم هذا جيدا... ص _104 الوطن الإسلامي الكبير إن المسلمين المعاصرين يواجهون الدنيا فى كبوة من تاريخهم، وانفصال عن أنفسهم ورسالتهم، والظروف المفروضة عليهم جعلت بعضهم ينكر بعضا، ويظن أنه جنس آخر يغا يره فى الشعور، والفكر، والسلوك، والهدف، والألم، والأمل... وراية "القومية" التى ارتفعت على كل شلو من أشلاء هذا الوطن الكبير الممزق ترمز إلى هذه الغربة القاحلة القاتلة، وتريد أن تمد ظلالها على اليوم والأمس، كأن لم تربطنا على طول القرون رسالة الإسلام، وأخوته، ووحدته الكبرى..!! إننا نريد أن نحارب بكل قوانا هذا الإحساس المدمر.. نريد أن نرسم صورة الوطن الإسلامى فى مخطط يستوعب كل جزء من الأرض تخفق عليه قدم مسلم. فهذا المجال الرحب لا غير هو وطننا... أخشى أن تترك الأحوال العامة التى أصابت المسلمين أخيرا أثرا سيئا فى تفكير الأجيال القادمة، فتشب وهى تحسب أن اختلاف الألوان على خريطة العالم الإسلامى يدل على اختلاف طبيعى فى جوهر هذا الوطن الكبير، وفى شخصية من يعمرونه من أبناء هذا الدين الحنيف! عندما كانت الشعوب الإسلامية أسرة واحدة تظلها راية واحدة كان المسلمون أمة متعارفة متعاطفة، يحنو القريب على البعيد، ويهتم بشئونه، ويستمع لندائه. فلما تغلب على بلادنا الغزو الصليبى الحديث مزقت هذه الأمة شر ممزق، وغرق كل قبيل فى مشكلاته الخاصة فهو لا يدرى شيئا عن أخيه، ولا يكترث له. ومضت السنون العجاف على تلك الحال المنكرة، ونبتت على أنقاض الأمة الكبيرة أجيال معزولة مستوحشة، غذى الاستعمار عزلتها النفسية والفكرية، فلو سئل المسلم فى وادى النيل عن أخيه فى وسط إفريقيا أو غربها ما أجاب بشىء، بل لو قيل له لا يوجد مسلمون فى هذه البقاع لصدق!! ومن أدراه وهو الذى تربى فى مدارس أنشأها الاستعمار لتفصم عراه بدينه وأمته وتاريخه. ص _105 وأنت خبير بأن هناك وحدة من صنع الله لا من صنع البشر تربط بين المسلمين كافة من شطآن المحيط الهادى إلى شطآن المحيط الأطلسى، وأن حقيقة هذه الوحدة تجعل مصور الخرائط الجغرافية يصبغها بلون واحد، ويجمعها فى نسق واحد. ويحقق بذلك آية القرآن: (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون). ولكن لأمر ما تتقسم الألوان: السود والصفر على المجموعة الموحدة. ثم تشيع بين الناس على هذا الشذوذ الذى بها!! والذى أقترحه أن ترسم خريطة الوطن الإسلامى الكبير رسما موضحا بالنسب الصحيحة للسكان مذيلا بشروح موجزة عن العواصم والبلدان، ثم نجتهد فى نشر هذه الخريطة فى حجرات الدور، وفصول المدارس، وأمكنة العمل. وفى صدور الاحتفالات والمجتمعات... إلخ. وبذلك نغالب النسيان أن يطغى، وروح الانفصال أن تسود، ونضع بذور الوحدة الكاملة التى نرويها بأعمالنا وجهودنا، حتى تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها. هذا مظهر شكلى من مظاهر إخلاصنا الواجب لديننا العظيم، ولكنه بعيد الأثر إذا حققناه. * * * * لابد من أعداء: هل يستطيع امرؤ مهما بلغ من صفاء النفس، ورقة الخلق أن يعيش فى هذه الحياة من غير أعداء يضيقون به، ويكيدون له؟ أظن ذلك لا يحدث! نعم قد يوجد أشخاص يعيشون ويموتون من غير أعداء، ومن غير أصدقاء كذلك، وهؤلاء وأمثالهم إنما يقضون أعمارهم فى الدنيا كالضيف العابر لا يهيئ لنفسه قرارا، ولا يترك خلفه أثرا. وموقفهم بإزاء الأمور سلبى لا يحسب له حساب. وقد قال شاعر جرىء لواحد من هؤلاء: إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يرجى الفتى كيما يضر وينفعا!! ص _106 أما أصحاب المواهب الكبيرة، والرسالات الخطيرة، فيستحيل أن يخلو طريقهم من الأعداء المتربصين. والخصوم الحاقدين الذين إن وجدوا خيرا دفنوه. أو لحظوا شرا أذاعوه، وإن استطاعوا إدارة خصومتهم على غير قانون من خلق أو شرف فعلوا غير مبالين. إذ لا هم لهم إلا إشباع نفوسهم المحرجة. وإرضاء صدورهم الموغرة. وقديما كفر قوم بالله واليوم الآخر، لا لشىء إلا لأن قلوبهم أكلها الغل الكامن فأصبحوا يحيون من غير قلوب!!. وفى هذا يقول الله عز وجل: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا). وفى آية أخرى يقول الله جل شأنه: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا). إن لرسالات السماء أعداء موغلين فى الخصام، لهم بيان حسن ومقالات مزخرفة، واغترار بالباطل، وتأميل فى نجاحه وكسب المعركة به. وأعداء الإسلام من هذا القبيل لن ينقطعوا، ولن يهادنوا. ترى أيغنى فى لقائهم الإحساس البارد، والقلب الفارغ، والابتسام المبذول؟. (فلا تطع المكذبين * ودوا لو تدهن فيدهنون). والواجب ألا نتوجس من هذه الخصومات، أو نعتبرها عقبات كئودا أو نتشاءم من الحياة، لأنها اتسعت لنذالة الحاسدين والشانئين، بل الطريقة المثلى أن نأخذ من ذلك مددا ندعم به أنفسنا، ونذكى به مشاعرنا ونحكم على ضوءه أمورنا، ويعجبنى فى ذلك قول الشاعر: وقد زادنى حبا لنفسى أننى يغيض إلى كل امرىء غير طائل وأنى شقى باللئام ولا يرى شقيا بهم إلا كريم الشمائل ثم لنمض بعدئذ إلى غايتنا المرسومة، لا نفكر فى أعدائنا إلا يوم يعترضون سيرنا، ولا نتعرض لهم إلا لكى نواصل هذا المسير إلى نهايته المنشودة. *** ص _107 نقد وتوجيه * التربية الجميلة: لم يفلح رجال الدين فى تكوين جيل من المؤمنين ذوى العواطف الحارة والمشاعر المشبوبة، التى تتصل بالله عن حب ورغبة وإعجاب، فقد كان جهدهم موجهآ إلى تخويف الناس من مبدع السماء، وإفهامهم أن الوصف الأول الله عز وجل أنه جبار السموات والأرض، مرسل الأقضية القاسية، والأحكام المعنتة، والأحوال التى لا تعرف حكمتها، ولا تفقه علتها. وتعريف الناس بربهم على هذا النحو لا يكون عقيدة ناجحة، ولا يؤسس أعمالا مثمرة، والأولى أن تربط قلوب الناس بالله عن طريق الحب لذاته. والإعجاب بمجده، والإحساس بصنيعه، والاعتراف بمآثره... وقد كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم موصول الفؤاد بالله على هذا الأسلوب: إذا جاءت بواكير المطر فى الشتاء تعرض لها بجسمه وثوبه وهو يقول: "هذا مطر حديث عهد بربه ". وهى كلمة تنضح بما فى قلب صاحبها من شوق لربه وحبيبه. وإذا طلعت بواكير الفاكهة قبلها، لأنها قريبة عهد بمن أبرزها، بديعة الألوان والطعوم وسط حمأ مسنون. وعندما حضرته الوفاة هتف فى استبشار: "إلى الرفيق الأعلى". وعلى هذا الغرار كان الرسول الكريم يربى أصحابه ويغرس فى قلوبهم بذرة الحب المكين لربهم ولدينه العظيم. فآتى هذا الحب ثماره اليانعة. إقبالا على الخير. وعزوفا عن الشر. وحماية للحق. وصبرا على المكاره. ورغبة فى التضحية. ورصانة عند انهمار النعم فى السراء. وعند إدبارها فى الضراء. وهذه النتائج كلها لا نصل إليها، ولا إلى بعضها، لو بنينا الإيمان على الخوف المبهم، والرهبة الخفية. ص _108 ولا ننكر أن الدين الحنيف يقرن تعاليمه، فى أحيان شتى، بالترهيب وسوق النذر وإيقاد الشرر، لكن هذه الشدة مواضعها المحددة عند تأديب النفس، وكظم الشهوات، ومحاربة الجرائم... وليست الأساس الأول الناجع من طرق التربية الصحيحة. . والقرآن الكريم يتألف النفوس ويطبعها على أن تعرف الله بما يرسل من رحمات ويبث فى الأرض من بركات، ولذلك يطوى ذكر الشرور فلا يصرح بنسبتها إلى الله، على حين يذكر الأفضال جلية النسبة فيقول: (وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا). فليعرف رجال الدين كيف يحببون الله للناس، فإن طرائقهم الآن تنطوى على تنفير من دينه وإبعاد عنه. * * * * لو يستريح الدين من هؤلاء: هناك أقوام يؤدون مظاهر العبادات أداء منظما، ويحرصون على أن يعرفهم الناس بهذا حرصا شديدا، ولعلهم لا يؤدون هذه المراسم إلا ليعرف الناس منهم هذا التعبد المريب!! ولهؤلاء أعمال أخرى يرتكبونها سرا أو علنا، كلها محادة لله ورسوله، وخروج عن مبادئ الدين وآدابه، هم لا يتركون هذه الأعمال لأنهم بنوا عليها حياتهم، وأقاموا عليها معايشهم، ولكنهم إلى جانب ذلك لا يريدون أن يفرطوا فى أداء مظاهر العبادات وصور الطاعات التى جاء بها الدين!! وهنا الداهية التى أحاذرها.. رأيت أحد هؤلاء يصلى فتمنيت من أعماق قلبى لو ترك الصلاة وخرج من المسجد من غير ركوع ولا سجود ولا محاولة للاتصال بالله؟ قلت: إن الآية انعكست مع هذا الشخص: إن العبادة لا تطهره، ولكنه هو الذى يلوث العبادة؟ ص _109 وكما تمر المياه العذبة بالأرض السبخة الملحة فتخرج منها وقد فقدت عذوبتها وحلاوتها ونقاءها، تمر العبادات بهذه الطبائع الخبيثة فتتكدر حقيقتها، ولا تذهب كدرا، ويغير جوهرها ولا تذهب غيرا، وإذا أنت تقف أمام عبادة مثقلة بأغراض صاحبها الصغير فلا يمكن أن ترتفع عن الأرض أبدأ!! تمنيت أن ينقطع هؤلاء عن عبادتهم، لا لأنهم لا ينتفعون بها فحسب، ولكن لأنهم يخلقون جوا من إساءة الظن بالعبادات كلها، ويجعلون الكثيرين يغضون من قيمتها وتأثيرها، وتمنيت أن يقل علم هؤلاء بالدين حتى تقل ثرثرتهم بما يعرفون، ويتساوى جهلهم وعبثهم، ولا ينخدع الناس بما يسمعون منهم!! سألنى بعض هؤلاء عن أمور فى الدين فتجاهلت علمها وقلت فى نفسى: أحرمهم من التطاول بها فى المجالس والخروج عليها بسوء العمل، وسأكتم هذا العلم عنهم كما قال القرآن فى أمثالهم: (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم). ولكنهم، مع الأسف، سيجدون ما يطلبون، وسيبقى الدين يعانى المتاعب من هؤلاء الدجالين. ص _110 التشريع الإسلامى.. فى متحف!! "أمر معالى وزير العدل بإنشاء متحف للمحاكم الشرعية يضم الإشهادات والأحكام والحجج الشرعية المنبثة بين أدراج المحاكم للمحافظة عليها، لما لها من القيمة التاريخية، وللوقوف على تطورات القضاء الشرعى فى مصر". قرأت هذا النبأ ثم طويت الصحيفة عاجبا ساخطا. عهدنا بالمتاحف أن تضم بين جدرانها آثارا مما ترك الأقدمون الذين طال عليهم الأمد، ولفهم الموت فى أكفانه، ولكننا الآن أمام متحف تاريخى من نوع آخر، هو متحف المحاكم الشرعية الملىء بالوثائق الخطيرة! إنه يدل على أن هناك، لتلك المحاكم، ماضيا مجيدا كان القضاء الشرعى يتولى فيه شئون القضاء كلها من شخصية ومدنية وجنائية. أليس هذا اكتشافا عظيما، ومفاجأة تستحق التسجيل؟ بلى. فقد بعث من القدم ذكريات اختفت 60 سنة! وليست 60 سنة قبل الميلاد أو بعده، ولكنها 60 سنة من يوم الناس هذا- كانت قبلها المحاكم الشرعية هى كل شيء، ثم جاء بعد ذلك الغزو الثقافى والحربى فأصبحت القوانين الوضعية هى التى تعمل، وأصبح التشريع الإسلامى فى.. متحف يضارع متاحف الفراعنة البائدين!! والأمر الذى نريد أن نقف لديه قليلا هو جهل كثير من الناس بحقيقة التشريع الإسلامى، فهو إذا ذكر وثبت إلى رؤوسهم صور شوهاء عن قطع يد السارق، وجلد الزانى، والسكير و... و... إلخ ، مع أن هذه الأحكام لا تأخذ من كتاب الفقه الإسلامى الواسع إلا صحائف محدودات، ويبقى بعدئذ الفقه كله، أو الدين كله مليئا بالنصوص والأصول التى تقيم الأمم ولا تقوم بغيرها الأمم.. هذه الحماقة فى فهم التشريع الإسلامى هى التى جعلت بعضهم يسوق فى معرض الغرابة والدهشة أنه وجدت فى متحف المحاكم الشرعية "وثيقة مكتوبة بصفة الأمر من القاضى الشرعى يحظر فيها ذبح الأنثى من البقر إلا بإذن خاص من القاضى ، وذلك محافظة على نسل الماشية كما تفعل وزارة الزراعة الآن، سواء بسواء". ص _111 ولعل الكثيرين كانوا يحسبون هذا التصرف مدنيا بحتا بل ربما ظنوه منقولا نقلا حرفيا عن بعض "سلخانات باريس " وهذا من الأخطاء الفاضحة فى فهم طبيعة التشريع الإسلامى التى ترد هذا التصرف وأمثاله إلى باب المصالح المرسلة المعروف جيدا فى كتب الفقه القديمة. كذلك وجدت وثيقة حكم شرعى من قاضى أسيوط خلاصتها "أن القاضى تلقى بلاغا عن حادثة معينة ثبت من التحقيق فيها كذبها فحكم القاضى على مقدم البلاغ بعقوبة الحبس وتعويض مالى.. ". وهذه القضية، كسابقتها، رجعت فيها المحكمة الشرعية إلى مصادرها فى الفتوى، فكان حكمها مشابها لما نظنه الآن وليد التشريعات العصرية الحديثة وما هو إلا الإسلام الحكيم يؤخذ منه كل إصلاح، ولا يحتاج أبناؤه إلى تسول الإصلاحات من هنا ومن هناك. من البداهات أن نعرف أن النصوص الجزئية ليست هى جملة الفقه الإسلامى الزاخر، بل إنه إلى جانب ذلك توجد الأصول الجامعة، والقواعد العامة التى ترد إليها الحوادث المتجدد، وتعرف منها الأحكام التى لا تتقيد بمكان ولا زمان. هذه المبادئ الكلية الثابتة فى الإسلام من أهم دعائمه التشريعية، ومن أسباب صلاحيته الذاتية للعصور كلها، وهى التى تتيح للقاضى استعمال القياس، والنظر إلى المصالح فيما يعرض له من شئون الناس، وهى منبع النظريات القانونية التى تصاغ على ضوئها المواد، وتصدر المراسيم والقوانين. وقد استند إليها الصحابة والتابعون منذ العصر الأول. وحبذا لو أضيف إلى متحف المحاكم الشرعية الحكم الذى أصدره عمر بشق ترعة فى أرض مملوكة لأحد المسلمين، وقد اعتمد فى حكمه على صاحب الأرض بأن ذلك لا يضره، على حين أنه ينفع غيره من الناس، ومرجع الحكم فى ذلك إلى المصالح المرسلة!! وهى وغيرها ليست إلا مجموعة من المبادئ المرنة أخذت أخذا من كتاب الله وسنة رسوله. وفى مقدمة هذه المبادئ مثلا دفع الضرر. وسد الذرائع، ورفع الحرج. وترك الريبة. وتقرير العدل. وسؤال أهل الذكر- أى الرجوع إلى المتخصصين- وتحقيق ص _112
صفحه ۱۱۲