إما إلي القبور واما إلي الدور . فإذا ساورتهم أحداث الماضى فى حاضرهم المنكود نزعوا إلى الغناء، كما سمعت. فقلت: كم يجنح هذا الشعب إلى الغناء الحزين ينفس فيه عن آلامه المكظومة، وكم سمعت أبناء الوجهين القبلى والبحرى يطلقون حناجرهم زرافات ووحدانا، يطلبون لدى "المجهول " ما لم يجدوه لدى "الواقع " لكنهم لا يجدون شيئا! إلا إذا كان هؤلاء الأطفال الغرباء فى وطنهم قد وجدوا المبيت الذى يلتمسون! وعادت أمواج الظلام تحمل غناء المظلومين المتواثبين على شاطئ المستنقع: ياليل! ياليل! ياليل غريب! أبيت فين؟ ياما أرخص الإنسان يتهان ورا قرشين ياليل! ياليل! ياليل غريب! أبيت فين؟ وأمى وأبوى الاثنين يبكوا بدمع العين ص _047 2 أديان مستغفلة قال صاحبى فى ضيق: أحسب أن المجلس الذى ينتظرنا قد التأم الآن شمله، ولعلنا وحدنا الذين تأخرنا. وإذا كان حضرة العمدة لن يطيل عتابنا، فإن فضيلة الشيخ المأذون سيحاسبنا على خلف الموعد. وعلى ذكر الشيخ هل تعرف أنى سمعته أمس يقول: إن الغناء حرام! فقلت مقاطعا: قبحك الله وقبحه! وهل سألتك عن رأيه فى شىء؟ خذ بنا أقرب الطرق إلى ما نبغى... وسرنا نذرع الطريق بخطوات فساح، واسترسل الصديق المخلص يقص على ما أجهل من أحوال البلد وأخبار أهله، فلما قاربنا غايتنا طالعتنا دقات طبل مزعج، وضوضاء مبهمة مختلطة، ونظرت إلى صاحبى فرأيت علائم الكدر مرسومة على وجهه وهو يتمتم: هذه حفلة زار ستؤذينا بضجتها! فقلت له: فى بيت من هذه الحفلة؟ قال: فى بيت فلان! قلت: يا عجبا! إن فلانا هذا رجل عاقل فماذا دهاه؟. قال: إنه مات من زمان! وقد مات ابنه منذ عدة أشهر. مسكين هذا الابن المنكود الحظ! لقد ذهب لأول مرة فى حياته مع ترحيلة من هذه "التراحيل " التى يتغرب فيها الأطفال صغارا، ثم عاد منها فلم يقض مع أمه عدة أسابيع حتى سمعنا نبأ وفاته.- فقلت: وبقيت الأم الثكلى وحدها؟- قال: نعم! وعرفت فى قرارة نفسى سر الزار فى هذا البيت المنكوب: إن أعصاب الزوجة تصدعت لفقد زوجها. فلما شب ولدها عن الطوق، وبدأ يحمل تكاليف المعيشة، ويسعى ليعول نفسه وأمه، بدأت الأم يعاودها الأمل فى الحياة! و!إذا بهذا الأمل ينطفئ، ويثوى فى مقبرة ضمت رفات ولدها بعد رفات بعلها، فاعتراها من تواصل الأحزان، وضنك المعايش، ما جعلها تتشنج وتترنح، فلم يعرف أقرباؤها إلا موسيقى الزار، يداوون بها المرأة التى خالطها الشيطان، وما مسها فى الحقيقة إلا شيطان المآسى والكربات. لعنه الله... مشيت مطرق الرأس، وئيد الخطا، ثم صحوت على صوت رفيقى يقول: إن الشيخ مأذون الشرع أفتى بأن الزار حرام، وسيحدثك كثيرا فى المجلس عن مضار هذه البدعة. فقلت له- وقد صممت على شىء-: اسمع، لن أستطيع الوفاء بموعد الليلة. فاذهب واعتذر عنى لحضرة العمدة ولحضرة الشيخ مأذون الشرع ولسائر الرفاق!. ص _048
صفحه ۴۸