* غصن باسق فى شجرة الخلود فى وحشة الليل، وسورة الغدر، ويقظة الجريمة، كان الباطل بما طبع عليه من غرور، وما جبل عليه من قسوة، وما مرد عليه من لؤم، كان مستخفيا ينساب فى أحياء القاهرة الغافلة يجمع سلاحه، ويبث عيونه، ويسوق أذنابه من الكبار والصغار ويعد عدته لكى يغتال حسن البنا.. مرشد الإخوان المسلمين. وليس قتل الصديقين والصالحين فى هذه الدنيا بالأمر الصعب! إن القدر أذن بأن يعدو الرعاع قديما على أنبياء الله، فذبحوا وهم يحملون أعباء الدعوة، أفكثير على في تلقفوا هذه الأعباء قبل أن تسقط على الأرض أن يردوا هذا المورد؟ ومن طلب عظيما خاطر بعظيمته. ومن هوان الدنيا على الله أن ترك كلاب المترفين فيها تشبع من المترفين، وأن ترك حملة الوحى فيها يهونون... مع الوحى! لا بأس. سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يقول: اللهم آتنى أفضل ما أتيته عبادك الصالحين!!. فقال له: "إذن يعقر جوادك ويراق دمك "، حتى الجواد يقتل مع صاحبه... لقد أصابه من الشهادة مسها القانى! ولو كان مربوطا بعربة بضاعة لعاش دهرا. وكذلك أبى ربك أن يسترجع إليه المختارين من عباده- بعد ما أدوا رسالتهم فى الحياة- وهم وافرون آمنون، نعم أبى أن يتركوا هذه الحياة سالمين من طعناتها الفاجرة. وجراحاتها الغادرة. فمزق علج من المجوس أحشاء عمر. وعدا مأفون غر على حياة علي. وقتل يزيد الماجن سبط الرسول الحسين. وتآمرت دولة الأوغاد على قتل حسن البنا. ولن تزال سلسلة الشهداء تطول حلقة حلقة ما بقى فى الدنيا صراع بين الضياء والظلام. عفاء على دار رحلت لغيرها فليس بها للصالحين معرج كدأب على فى المواطن قبله أبى حسن والغصن من حيث يخرج لقد قتل حسن البنا يوم قتل والعالم كله أهون شىء فى ناظريه! ص _039 ماذا خرقت الرصاصات الأثيمة من بدن هذا الرجل؟ خرقت جسدا أضنته العبادة الخاشعة، وبراه طول القيام والسجود. خرقت جسدا غبرته الأسفار المتواصلة فى سبيل الله، وغضنت جبينه الرحلات المتلاحقة إلى أقاصى البلاد، رحلات طالما عرفته المنابر فيها وهو يسوق الجماهير بصوته الرهيب إلى الله، ويحشدهم ألوفا ألوفا فى ساحة الإسلام! لقد عاد القرآن غضا طريا على لسانه. وبدت وراثة النبوة ظاهرة فى شمائله. ووقف هذا الرجل الفذ صخرة عاتية انحسرت فى سفحها أمواج المادية الطاغية. وإلى جانبه طلائع الجيل الجديد الذى أفعم قلبه حبا للإسلام واستمساكا به. وعرفت "أوروبا" البغى أى خطر على بقائها فى الشرق إذا بقى هذا الرجل الجليل. فأوحت إلى زبانيتها... فإذا الإخوان فى المعتقلات. وإذا إمامهم شهيد مدرج! فى دمه الزكى! ماذا خرقت الرصاصات من جسد هذا الرجل؟ خرقت العفاف الأبى المستكبر على الشهوات، المستعلى على نزوات الشباب الجامحة. لقد عاش على ظهر الأرض أربعين عاما لم يبت فى فراشه الوثير منها إلا ليالى معدودة، ولم تره أسرته فيها إلا لحظات محدودة. والعمر كله بعد ذلك سياحة لإرساء دعائم الربانية، وتوطيد أركان الإسلام، فى عصر غفل فيه المسلمون، واستيقظ فيه الاستعمار، ومن ورائه التعصب الصليبى ، والعدوان الصهيونى ، والسيل الأ حمر! فكان حسن البنا العملاق الذى ناوش أولئك جميعا حتى أقض مضاجعهم. وهدد فى هذه الديار أمانيهم. لقد عرفت التجرد للمبدأ فى حياة هذا الرجل. وعرفت التمسك به إلى الرمق الأخير فى مماته. وعرفت خسة الغدر يوم قدم رفات الشهيد هدية للمترفين والناعمين. قدم- من قبل- دم على مهرا لامرأة. عجبا لهذه الدنيا وتبا لكبرائها! وارحمتاه لضحايا الإيمان فى كل عصر ومصر! أكذلك يقتل الراشد المرشد؟؟ ص _040 ودعا أيها الحفيان ذاك الشخص إن الوداع أيسر زاد واغسلاه بالدمع إن كان طهرا وادفناه بين الحشا والفؤاد وخذا الأكفان من ورق المصحف كبرا عن أنفس الأبراد أسف غير نافع واجتهاد لا يؤدى إلى غناء اجتهاد * * * * الفدائيون: "إن أغبط آوليائى عندى لمؤمن خفيف الحاذ ، ذو حظ من صلاة، أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر، وكان غامضا فى الناس لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافا فصبر على ذلك".. ثم نقر- النبى صلى الله عليه وسلم- بيده فقال: "عجلت منيته، قلت بواكيه ، قل تراثه". هذا الحديث وصف جليل لرجال الدعوات الذين يعيشون لها ويفنون فيها، الرجال الذين يظهرون فى آفاق الحياة كما تظهر الشهب المنقضة فى جنح الظلام، ما أن تلتمع حتى تنطفئ! إنها فى سرعتها الخاطفة- وهى تشق إهاب الليل- تستنفد حياتها وحرارتها فى انطلاقها وحركتها. وكذلك رجال الدعوات يذيبون قواهم وشبابهم فى أداء رسالتهم ويسكبون دمائهم ويحرقون أعصابهم لتتألق بها الرسالات التى يعملون لها... فتتحول بهم إلى سيل جارف ويتحولون بعدها إلى رفات هامد، هذا سبيل الفدائية المحفور فى تاريخ البشر منذ الأزل. وقد كان محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الفدائى الأول لدعوته الكبيرة، خوف فى الله ما لم يخف أحد، وأوذى فى الله ما لم يؤذ أحد، ووقف مشاعره وجهوده وآماله وأحزانه وأفراحه على إنجاح رسالته، ثم سل من هذه الدنيا كما تسل الشعرة من العجين، فلم يمسسه شىء من كبرها أو جاهها أو راحتها، بل لقد سرت عدوى هذه التضحية إلى أسرته فلم ترث منه شيئا إلا البلاء والتشريد. وإن هذا النبى الكريم ليحدثنا أن أغبط أوليائه عنده أقربهم إلى مسلكه وأشبههم به فى تفديته وتضحيته: خفة فى تكاليف المعيشة، وزهادة فى ترف الحياة. إدمان على الصلاة، وجنوح إلى العبادة، ونزوع إلى الإخلاص، ورغبة عن الشهوة، واحتقار ص _041 للمظاهر. إقبال على العمل وإيثار للخفى منه على الظاهر المكشوف، وصبر على لأواء الحياة حتى تنقضى. هذه معالم العيش الذى يجب أن ينكمش فى حدوده الفدائيون. ما لهم وللمطامع والملذات؟ ما لهم وللرياء وحب الظهور؟ إن الجندى المجهول يرى فى الغموض والبساطة أفضل جو يعمل فيه وينتج. فإذا بدا فى الأفق ما يريب وأحس بالخطر على رسالته طارإلى أداء واجبه لا يلوى على شىء.. ولذا نقر النبى صلى الله عليه وسلم ثلاث نقرات. وإن القلب ليخفق إجلالا، وإن الرأس لينحنى إكبارا مع هذه الدقات الواعية المحصية. عجلت منيته! يقرب حب الموت آجالنا لنا وتكرهه آجالهم فتطول! هكذا مضت سنة الرجولة تعلم ذويها ألا نكوص ولا إحجام! قلت بواكيه..! ولم يقله البكاء على أولئك النفر الكرام من حملة الدعوات؟ ألئن الجهاد غربهم عن أوطانهم فماتوا بعيدا عن الأقربين ، كسيد الشهداء حمزة؟ سمع الرسول صلى الله عليه وسلم الباكين بعد غزوة أحد على ذويهم فقال: "لكن حمزة لا بواكى له" أم لأن البكاء عليهم كان جريمة يقذف بمرتكبيها فى ظلمات السجون، كما حدث فى مصرع الشهيد حسن البنا ؟ أم لأن رجال الإسلام كرههم عبيد الحياة فهم لا يحسون لفقدهم أسفا؟! قلى يكون ذلك، أو يكون الأمر أخفى مما نعلم. قل تراثه..! وهل لأصحاب المثل وأصحاب المبادئ العالية تراث يخلفونه؟ إنهم وما ملكوا وقود دعواتهم. وفداء أفكارهم. يا حملة المشاعل وسط العواصف الهوج. هذا هو النهج.. فاسلكوه. ص _042 * مناسر اللصوصية العالمية غاظنى أن تعترف الأمم المتحدة بإسرائيل فور إنشائها. وغاظنى أن تصر على إهدار حق العرب برغم تفانيهم فى استرداده. إن هذه المؤسسة العالمية لا شرف لها. - والناس يعرفون عن دول أوروبا أنها أقصت كل أثارة للشرف والخلق فى علاقاتها السياسية بأم الشرق. وأن الحضارة الغربية قد أسقطت جملة مكانة الضمير الإنسانى ، سواء فيما يدور بينها من منازعات أم فيما يدور بينها وبين غيرها من مشاكل وخصومات. والسياسة الأوروبية هى صاحبة مبدأ "الويل للمغلوب " ومبدأ "الغاية تبرر الواسطة " ومبدأ "المعاهدات قصاصات ورق ". ونحن نعرف أن إنجلترا حلفت بشرفها سبعين مرة وحنثت كذلك سبعين مرة! ونعرف أن إنجلترا فى ذلك تمثل النفسية العامة لدول الغرب، فليست خيرا ولا شرا من فرنسا أو إيطاليا... أو أمريكا!! بيد أن الأمر فى نظرنا قد وصل إلى حد يستحق التسجيل فقد تخون المرأة شرفها، وتقترف إثمها، فى تستر وخفاء، فتكون فى تسترها واستخفائها معترفة بأن للفضيلة منزلة تلزم رعايتها، ولو من الناحية الشكلية. أما إذا فتحت محلا للدعارة واشتغلت به مومسا فمعنى ذلك أنها قد باعت نفسها للشيطان! والدول الأوروبية التى لوثت تاريخ العالم بغدرها وخيانتها قد مضت فى طريق شائنة، وفى المؤسسات التى أقامتها لتنظيم العلائق العامة تحولت الجلسات والمفاوضات إلى أسواق تباع فيها الذمم. بل تحولت إلى مزايدات علنية خسيسة تقدم فيها الأصوات لمن يدفع أكبر ثمن. أمس باعت الهند صوتها بمليون طن من الحبوب قدمتها لها أمريكا. وأول من أمس باعت الدول اللاتينية أصواتها لليهود بثمن بخس. ومنذ أيام أصدرت محكمة العدل الدولية حكما لصالح إنجلترا فى قضية لا يجوز أن تنظرها لأنها ليست من اختصاصها، والمضحك أن هذه المؤسسات التى تديرها دول ص _043 أوروبا للدعارة السياسية لا تزال تحمل الأسماء والعناوين واللافتات التى تمثل كل ألوان الغش التجارى. فالتخريب بالجملة اسمه استعمار. والدول التى يراد أكلها توضع تحت الوصاية. والأحكام الجائرة المضللة تستصدر من محكمة العدل، والمجلس الذى جبن لشدة خوفه أن يقول كلمة حق فى وجه ظالم اسمه مجلس الأمن، والأمم التى تتهاوش تهاوش الكلاب المسعورة تسمى الأمم المتحدة. ولا غرو فالحضارة الأوروبية متخصصة فى هذا اللون من الكذب. وقد سقطت همتها الخلقية فبدلا من أن تجاهد هواها اعتبرت الهوى شريعة وسارت بإيعاز من وساوسه إلى ما تشتهى... وهى تريد أن تسير الدنيا كلها معها فى هذا المضمار الملوث. إن هذه المؤسسات العالمية أصبحت لا رجاء فيها لأوسع الناس أملا. فلنهجرها إلى غير رجعة، ولنبذل جهودنا لإصلاح أحوالنا في بلادنا نفسها وتحويلها إلى ميادين للكفاح ضد الاحتلال الداخلى والخارجى جميعا. فهذا وحده طريق الكادحين الناجحين. أما السمسرة الدبلوماسية فى "بورصة" مجلس الأمن فعمل باطل ابتدعه اليهود ليلعبوا بالفضائل ويقامروا بمستقبل الشعوب. ص _044 ذكريات من الريف غريب.. أبيت فين؟ سرى إلى نفسى الهدوء الخيم على أرجاء القرية الموشكة على الجوع، فانسابت أفكارى فى مجراها العميق هادئة هى الأخرى. وأحس رفيقى بأن حبل الصمت قد طال أكثر مما ينبغى فسألنى بلطف: ماذا بك؟ فأجبته باسما: لا شىء غير أن المرء إذا انتقل من الضجيج المضاعف فى المدينة إلى السكون المضاعف فى القرية، شعر كأنه يهبط فى هاوية من الصمت لا قرارلها، ثم ألست ترى هذه الآفاق المغبرة تستقبل المساء القادم البطىء؟ إن هذه الغبرة نضحت على القرية من المتربة التى تعيش فيها أبدا. قال لى صديقى- محاولا الفرار بى من هذه الأفكار الكئيبة-: دعك من هذه الخيالات، ولا تنس أن فلانا ينتظر حيث تواعدنا على اللقاء جميعا عند شاطئ "النيل ". إن مجلسنا هناك حافل بالأحاديث الشائقة وإن كانت أرضه مفروشة بالحشائش الجافة وحدها! ويممنا شطر المجلس العتيد، وإذا بالطريق إليه يعترضها مستنقع راكد من هذه المستنقعات التى يصنعها رشح الفيضان، وتتخلف فيها مياه المطر، فتوقفت كارها واستأنفت صمتى الأول، ثم أرسلت الطرف إلى الشاطئ الآخر للبحيرة الضحلة، ودرت به حول حدودها، ولكنى لم أتبين من معالمها إلا القليل، إنه ليل أشد سوادا من أفئدة المجرمين توارت فى طياته هذه الدور المبعثرة بما ضمت من إنسان وحيوان، وكأنها ألفت وحشته المريبة، فما تخلعها عن جدرانها البالية فى ليل أو نهار، وقرع أدنى صوت غناء ينبعث من بعيد، غناء صبية يسمرون ويلعبون غير أن ألحان غنائهم كانت تشق حجاب الليل، وتخترق صمته كما يشق الخنجر الحاد الأديم الحى. واختلج فؤادى اختلاجا عنيفا، إذ كانت نبرات غنائهم تكتنفها الكآبة وتغزو المشاعر بمزيج من الحسرة والتفجع! ما هذا؟. وأعرت انتباهى للصدى المتماوج مع هبات النسيم على صفحة المستنقع واستطاعت أذناى أن تلتقطا من أبيات المقطوعة التى يغنيها الأطفال هذا البيت الحزين: ص _045 ياليل! ياليل! ياليل غريب! أبيت فين؟ قلت لرفيقى فى لهفة: ما هذا الكلام يا أخى؟ من هذا الغريب؟ وما هذا المبيت؟ وما الذى جمع الأولاد على هذا النشيد الحزين؟ قال صاحبى- وقد سره أن يجد مجالأ للحديث يطرد به وطأة الصمت-: إن هذا الغناء نشيد القرية الدائم، ومرتلوه هم الصبية الفعلة من الفلاحين الفقراء، إنهم يرحلون إلى التفاتيش الكبرى بالمئات للعمل فيها، وهم يتزودون لهذه الترحيلات المضنية مما ثقل حمله ورخص ثمنه خبز جاف وجبن وملح، فإذا ملئوا بطونهم من هذه الأطعمة، كرعوا من قنوات الرى ما تفيض به من الماء العكر، حتى إذا آواهم الليل وجدوا فى إسطبلات الخيل متسعا يضم أجسامهم المتعبة، وهم بين مهاد الغبراء ولحاف الأجواء يطلقون حناجرهم بما سمعت من غناء. فى حين كان صاحبى يتكلم عاد الصدى السارى يقرع آذانى، بل يقرع أبواب قلبى، ويثير كوامن الحنان والأسى فيه! الغناء الكئيب يناجى الليل مرة أخرى: ياليل! ياليل! ياليل غريب! أبيت فين؟ حيران! ما بارتاح يوم والراحة تيجى منين؟ فقلت- وأنا أهمس إلى نفسى-: يا أولادى لستم غرباء، إنه وطن آبائكم وأجدادكم، ومن حقكم أن تبيتوا فيه ناعمين. لعن الله من ظلمكم وجعل طفولتكم تنبت فى هذا الهوان!. إن أمثالكم يحيون وادعين فى أمم الأرض الأخرى لا تشردهم إلا الحروب والغارات الطارئة. أما أنتم فمشردون أطفالا ومشردون رجالا! فى غير حرب ولا ضرب، إلا حرب الأوضاع الظالمة وضرب المجتمع الغشوم! فقال رفيقى- ولعله استحمقنى-: بماذا تهمس؟ فأسرعت إلى إجابته: لا شىء. واستطردت: وكيف يعودون من هذه الترحيلة؟ فقال: أتذكر الأوبئة التى تصيب الدواجن فى البيوت والدواب فى الحقول؟ إن هذه من تلك. طعام حقير وعمل من قبل الشروق إلى ما بعد الغروب، وأسواط المراقبين القاسين تلهب ظهر من يتوانى فى أداء الواجب، بل قد تلسع المشتغل حتى لا يفكر فى الكسل! وأجور ضئيلة يأكل نصفها السماسرة. وأيام متطاولة على هذا النحو العصيب مما يجعل الأولاد المحرومين من أحضان آبائهم يشعرون بالغربة، فهم يبتون الليل شكواهم الصارخة، ثم يعودون ص _046
صفحه ۴۶