49
كثيرا ما كانت تشعر خديجة بأنها وحيدة. ومع أن إبراهيم شوكت - خاصة منذ أن قارب السبعين - كان يعتكف في بيته طوال أيام الشتاء، إلا أنه لم يستطع أن يبدد وحشتها، ولم تهن في القيام بواجبات بيتها، غير أنها - الواجبات - باتت أهون من أن تستغرق حيويتها ونشاطها؛ فعلى تجاوزها السادسة والأربعين لم تزل قوية نشيطة وازدادت جسامة. وأسوأ من هذا أن وظيفتها كأم قد انقطعت على حين أن دورها كحماة لم ولن يبدأ أبدا فيما بدا. فإحدى الزوجتين ابنة أخيها، والأخرى موظفة لا تكاد تلتقي بها إلا فيما ندر من الأوقات والمناسبات. فكانت تروح عن صدرها المكبوت فيما يدور من حديث بينها وبين زوجها المتلفع بعباءته. - مضى أكثر من عام على زواجهما ولم نوقد شموعا!
فهز الرجل منكبيه استهانة دون تعليق فعادت تقول: لعل عبد المنعم وأحمد يعدان الذرية موضة قديمة كطاعة الوالدين!
فقال الرجل في ضجر: أريحي نفسك فهما سعيدان وحسبنا هذا.
فتساءلت في حدة: إذا كانت العروس لا تحبل ولا تلد فما فائدتها؟ - لعل ابنيك يخالفانك في هذا الرأي! - لقد خالفاني في كل شيء، ما أضيع تعبي وأملي ... - أيحزنك ألا تكوني جدة؟
فقالت في حدة تعالت درجتها: إن حزني عليهما لا على نفسي! - لقد عرض عبد المنعم كريمة على الطبيب فبشره خيرا ... - أنفق المسكين كثيرا وسينفق غدا أكثر، إن عرائس اليوم غالية الثمن كالطماطم واللحوم!
فضحك الرجل دون تعليق فاستطردت تقول: أما الأخرى فأستعين عليها بسيدي المتولي. - اعترفي بأن لسانها كالشهد! - مكر ودهاء، ماذا تتوقع من ابنة العنابر؟ - اتقي الله يا شيخة! - ترى متى يذهب بها «الأستاذ» إلى الطبيب؟ - إنهما زاهدان في هذا! - طبعا، إنها موظفة، فمن أين تجد وقتا للحبل والولادة؟ - إنهما سعيدان ما في ذلك شك. - الموظفة لا يمكن أن تكون زوجة صالحة، وسيعرف ذلك بعد فوات الأوان ... - إنه رجل ولن يضيره ذلك ... - ليس في هذا الحي كله شابان كولدي فيا للخسارة! •••
وكان عبد المنعم قد تبلور طابعه واتجاهه، فأثبت أنه موظف كفء و«أخ» نشيط، وقد انتهى الإشراف على شعبة الجمالية إليه فعين مستشارا قانونيا لها، وأسهم في تحرير المجلة، وكان يلقي المواعظ أحيانا في المساجد الأهلية. وجعل من شقته ناديا لإخوانه يسهرون عنده كل ليلة وعلى رأسهم الشيخ علي المنوفي. وكان الشاب شديد التحمس موفور الاستعداد كي يضع جميع ما يملك من جهد ومال وعقل في خدمة الدعوة التي آمن بكل قلبه - على حد تعبير المرشد - بأنها دعوة سلفية وطريقة سنية وحقيقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية ورابطة علمية ثقافية وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية. وكان الشيخ علي المنوفي يقول: تعاليم الإسلام وأحكامه شاملة تنظيم شئون الناس في الدنيا والآخرة، وإن الذين يظنون أن هذه التعاليم إنما تتناول الناحية الروحية أو العبادة دون غيرها من النواحي مخطئون في هذا الظن، فالإسلام عقيدة وعبادة ووطن وجنسية ودين ودولة وروحانية ومصحف وسيف ...
فيقول شاب من المجتمعين: هذا هو ديننا، ولكننا جامدون لا نفعل شيئا والكفر يحكمنا بقوانينه وتقاليده ورجاله ...
فيقول الشيخ علي: لا بد من الدعاية والتبشير، وتكوين الأنصار المجاهدين، ثم تجيء مرحلة التنفيذ ... - وإلام ننتظر؟ - لننتظر حتى تنتهي الحرب، إن الحقل مهيأ لدعوتنا، وقد نزع الناس ثقتهم من الأحزاب، وعندما يهتف الداعي في الوقت المناسب يهب الإخوان وكل مدرع بقرآنه وسلاحه ...
صفحه نامشخص