فالعقل هو أساس الاتفاق بين الناس «وبقدر ما يعيش الناس متبعين العقل، تتفق طبيعتهم دائما بالضرورة.»
34
وكلما اتسع نطاق ممارسة المرء لعقله، ومعرفته لطبيعة الأشياء، زالت الحواجز بينه وبين الآخرين، بحيث إن «ما يرغبه الشخص الذي يتبع الفضيلة لنفسه، يرغبه أيضا لغيره، وتقوى رغبته هذه بقدر ما تزداد معرفته لله.»
35
وهكذا فإن من يسترشد في حياته بالعقل، يكون مصدر خير ونفع دائم لغيره من الناس؛ «فليس أنفع للإنسان في الطبيعة من إنسان يعيش متبعا للعقل»؛
36
ذلك لأن سعي الإنسان إلى نفعه الخاص، إذا استرشد بالعقل، يغدو في الوقت ذاته سعيا إلى نفع الآخرين.
ويأتي اسپينوزا في هذا الصدد بفكرة هامة في نظريته الأخلاقية، هي القائلة بأن الخير الحقيقي شيء لا يقتسم ولا يوزع، ولا يتأثر بكثرة من يشاركون فيه، بل إن من الممكن أن يكون لكل شخص فيه أكبر نصيب؛ ذلك لأن هذا الخير لو كان مالا أو منصبا أو نفوذا، لأدى التزاحم عليه إلى تفتيته على الدوام، بحيث ينبغي أن يشتد عليه التنافس والتشاحن بين الناس، طالما أن مقدار هذه الغايات محدود لا يتسع للجميع. أما حين يغدو هذا الخير هو المعرفة، فإنه يصبح متاحا للجميع، ولا يؤدي ازدياد عدد المشاركين فيه إلى إنقاصه، بل إن الأمر على العكس من ذلك؛ إذ إنه كلما ازداد الناس طلبا للمعرفة، اتسع نطاق هذه المعرفة ذاتها وترامت آفاقها. وهذا هو تفسير قضية اسپينوزا القائلة: «إن الخير الأسمى لمن يتبعون الفضيلة مشترك بين الجميع، وبالتالي يمكن أن يتمتع به الجميع على قدم المساواة.»
37
وفي ملحوظة هذه القضية ذاتها يقول: «... وهذا يستتبع - لا بطريقة عرضية، ولكن بناء على طبيعة العقل ذاتها - أن أسمى خير للإنسان مشترك بين الجميع، بقدر ما يستمد من ماهية الإنسان ذاتها، كما تعرف من خلال العقل.»
صفحه نامشخص