135

31

فإذا استبدلنا بتعبير الحب الإلهي، التعبير المرادف له عند اسپينوزا، وهو فهم النظام الكلي أو الضروري للكون، أصبح المعنى الواضح هو أن من يفهم ذاته وانفعالاته يفهم النظام الكلي للأشياء والضرورة الكونية، وأن الإنسان يغدو أقدر على هذا الفهم الأخير كلما ازداد معرفة بنفسه وبانفعالاته؛ وعلى هذا الأساس أيضا يفسر قول اسپينوزا (في القضية رقم 18 من الباب الخامس) إن أحدا لا يمكن أن يكره الله: ذلك لأن معرفة النظام الشامل للكون، وطبيعة الضرورة السائدة فيه، لا تترك أي مجال لمشاعر جزئية محدودة كالكراهية، وكل ما نشعر به إذا توصلنا إلى هذه المعرفة هو إدراك ارتباطنا الوثيق بهذا النظام الشامل، ومثل هذا الإدراك، إذا جاز أن يقترن بانفعال. فلا بد أن يكون ذلك انفعال الحب لا الكراهية.

وفي رأينا أن الحل الذي أتى به اسپينوزا لمشكلة التغلب على الانفعالات، لا عن طريق محاولة التخلص من هذه الانفعالات بطريق مباشر، وإنما عن طريق معرفتها والتفكير العقلي فيها وربطها بالسياق العام لظروف الإنسان الخارجية والباطنة - هذا الحل ينطوي على بعض أوجه الشبه مع فكرة التحليل النفسي (وإن لم يكن لنا أن نمضي في التماس أوجه الشبه هذه أبعد مما ينبغي)؛ ففي التحليل النفسي بدوره يقال بإمكان التخلص من المشكلات النفسية عن طريق الخروج بها من اللاشعور إلى عالم الشعور، وعن طريق الإدراك الواعي لها. والعنصر المشترك بين الطرفين هو أن اختلال التوازن النفسي يمكن أن يستمر طالما أن المشكلة لا تأخذ طريقها إلى ذهننا الواعي، وأن طريقة إعادة التوازن السليم هي إدراك هذا الاختلال عن وعي ووضعه في سياق الطبيعي، سواء عن طريق المعرفة العقلية، في الحالة الأولى، أو عن طريق مجرد الوعي به في الحالة الثانية؛ ففي كلتا الحالتين يكفي لتخليص الإنسان من هذا الاختلال إلقاء ضوء عليه، وإخراجه من الظلمة التي كان غارقا فيها أثناء تعرضنا التلقائي له، ونقله بالتفكير الواعي من مجاله الضيق ومن الظروف المحددة الغامضة التي كان يمارس تأثيره فيها. •••

وأخيرا فلا بد من إشارة خاصة إلى النتائج الاجتماعية الواضحة التي يستخلصها اسپينوزا من نظريته في قهر الانفعالات. هذه النتائج تلخص في أن الانفعالات هي أساس الشقاق بين الناس، وأن العقل أساس التقريب بينهم. فإذا كان العقل هو وسيلتنا إلى قهر الانفعالات، فلا بد أن سعي الإنسان إلى التغلب على انفعالاته يؤدي هو ذاته إلى تأكيد المعاني الاجتماعية في نفس الإنسان.

وتتسم آراء اسپينوزا في هذا الصدد بطابع مزدوج، يرتبط بطابع مزدوج مناظر في الحل الذي وضعه للتغلب على الانفعالات؛ فهو من جهة يقول إن الانفعال لا يقهره إلا انفعال آخر أقوى منه، ومن جهة أخرى يقول إن التفكير في الانفعالات وربطها بالنظام الضروري للأشياء هو الكفيل بالقضاء عليها. وصحيح أنه يربط بين هاتين الوسيلتين على نحو ما حين يقول، في نص سبق اقتبسناه: إن معرفة الخير والشر هي انفعال اللذة والألم، بقدر ما نكون على وعي بهما، ولكن لا شك، رغم ذلك، في أن هناك نوعا من التمييز بين الوسيلتين؛ إذ إن الوسيلة الأولى، وهي استخدام انفعال أقوى، تستبقي على أية حال نوعا آخر من الانفعال. أما الوسيلة الأخرى فمن الممكن، إذا مضينا إلى أبعد مراحلها، أن تؤدي إلى حالة لا يعود فيها مجال لأي انفعال، ويتسم فيها كل شيء بصبغة الضرورة المطلقة، ونستطيع أن نعد الوسيلة الأولى مرحلة ممهدة للأخرى؛ أي إن التغلب على الانفعال يمكن أن يكون بانفعال آخر أقوى منه، وهذه هي الوسيلة الأسهل والأقرب مثالا، ويمكن أن يتم عن طريق الفهم الكامل لموقع كل حادث في النظام الكلي للأشياء، وهي أصعب الوسيلتين، وأبعدهما عن متناول الناس.

وسواء أكانت وسيلتنا إلى قهر الانفعالات هي الأولى أم الثانية، فإننا في كلتا الحالتين نقضي على أقوى سبب للشقاق بين الناس إذ نقضي على الانفعالات. «فبقدر ما يكون الناس نهبا للانفعالات السلبية، لا يمكن أن يقال، من هذه الناحية، إنهم منسجمون بطبيعتهم.»

32

فإذا اتبع الإنسان الوسيلة الأولى، وهي البحث عن انفعال أقوى ، فسوف يؤدي ذلك حتما إلى التقريب بينه وبين بقية الناس؛ إذ إن انفعال الخوف من أن يلحق الإنسان، إذا سعى إلى الإضرار بغيره، ضرر يفوق ما يلحق الآخرين، يؤدي إلى تنازله عن رغبته الغريزية في تحقيق النفع لنفسه على حساب الآخرين. «وعلى أساس هذا القانون يمكن قيام المجتمع، طالما احتفظ هذا المجتمع لنفسه بالحق الذي يملكه كل شخص في الانتقام لنفسه من الأذى، والحكم بنفسه على ما هو خير وما هو شر، وطالما أن للمجتمع القدرة على وضع قاعدة عامة للسلوك، وإصدار قوانين يدعمها التهديد، لا العقل الذي يعجز عن قهر الانفعال. مثل هذا المجتمع الذي يبنى على قوانين وعلى قوة قادرة على حفظه يسمى بالدولة، ومن يعيشون في حمايته يسمون رعايا.»

33

ولكن إذا كان اسپينوزا قد أكد في النص السابق عجز العقل عن قهر الانفعال، فلنذكر - كما أوضح في ملحوظة القضية رقم 17 من الباب نفسه - أنه يعالج المسألة في هذا الباب من وجهة نظر الضعف البشري وعبودية الإنسان، وأن هناك وجهة نظر أخرى على مستوى أرفع، هي وجهة نظر «تحرر الإنسان»؛ أعني تلك التي يكون العقل فيها قادرا بالفعل على تخليص الإنسان من انفعالاته بالتفكير فيها، وفي هذه الحالة أيضا تؤدي محاولة الإنسان قهر انفعالاته إلى التقريب بين الناس وتأكيد القيم الاجتماعية في النفس البشرية، ولكن على مستوى أعلى من مستوى الخوف المتبادل الذي أدت إليه الوسيلة الأولى.

صفحه نامشخص