قد زال عقلي يا ناس وراح
أتتنى جنوب تلطم على خدودها
وهي في عويل وكثر نواح
فقلت لها تحملي واصبري
إن طلبت باكر ما عز وراح
أنا إن سلمت يا جنوب إلى غدا
ترى الأعادي في بكا ونواح» «ولجأ أبو زيد إلى الحيلة، فسار إلى مضربه، وهو يؤمل ببلوغ مأربه، ولما أصبح الصباح نهض أبو زيد، ولبس أفخر الحلل، وتعمم بعمامة كبيرة، ولبس جبة قصيرة، وغسل وجهه ببعض العقاقير، فصار أبيض مثل الثلج، وأنعم من الحرير، لم يعد يعرفه أحد من الأنام، ثم ركب ظهر كديشة عرجا، ودخل مدينة الشام، وهو في هذا الزي والهندام، وجعل يجول في الأسواق وهو ينادي: أنا الطبيب، أنا الحكيم، فمن كان فيه علة أزلتها عنه بإذن الإله الفتاح. وما زال يطوف ويجول وينادي ويقول: أنا الحكيم، أنا الطبيب، حتى وصل إلى قصر شبيب، وكان لشبيب ولد مثل البدر، يقال له صقر، فاتفق أنه كان هناك، وسمعه من الشباك فقال في نفسه: إن هذا الطبيب رجل غريب، ولو لم يكن من الشطار والحذاق ما كان يطوف في الأسواق، فمرادي أن أتعرف بيه، أو أجعله يداويه لعله يشفيه. ثم طلبه فحضر وسلم، وقال: أنت حكيم؟ قال: نعم. قال: إذا شفيت أبي من هذه العلة والمرض، وأزلت عنه المرض أغنيتك إلى الأبد، وقدمتك إلى أطباء البلد. فقال: إني سأبذل الجهد وأداويه، ولا أخرج من هذا القصر حتى أشفيه. ففرح كل من حضر هناك بهذا الخبر، وزال عن قلوبهم الغم والتكدر، ولم يعلموا بأن الطبيب عدوهم الأكبر. ثم تقدم أبو زيد إلى شبيب في صفة حكيم وطبيب، وهو يترقب الفرصة ليعدمه بالحياة عن قريب، وكان رأسه معصوبا بمنديل، وهو يتنهد من قلب عليل، ففك العصبة، ومسح الدم، ووضع له المراهم، وقال: لقد زالت الأقدار بإذن الواحد القهار. فاتفق أن شبيب فتح عينيه، فرأى أبو زيد حوله فخاف وأندر، وأيقن بالموت الأحمر، فصاح من حلاوة الروح بصوت خفيف: هذا أبو زيد صاحب المكر والكيد. فقال الحاضرون: ما هذا الذي يقول أيها الطبيب؟ قال: يريد أن تملوا الأسراج زيت، أو تخرجوا جميعكم من البيت؛ حتى يستريح أو يزول عنه اليأس؛ لأن العليل تضيق أخلاقه بكثرة الناس. ففرحوا وخرجوا من القاعة، ولما خلى المكان أخرج أبو زيد من جنبه السكين، وذبح شبيب من الوريد إلى الوريد، وقد بلغ قصده، ثم غطاه إلى فوق رأسه وخرج، فسألته عن حال شبيب الجماعة، فقال لها: إنه بخير، فلا تدخلوا عليه إلا بعد ساعة، بينما يكون قد صحى من النوم، ولا بد أن يشفي من علته في هذا اليوم؛ لأني عالجته بأحسن علاج، فلا تكونوا في قلق. فشكروه على ذلك، ووعدوه بالخلع والأنعام ثم ودعهم وسار.» «وأما زوجة شبيب وباقي الجماعة، فإنهم بعد ذهاب أبو زيد بساعة، دخلوا على شبيب، فوجدوه على تلك الحال، وعلموا أن الطبيب كان أبو زيد المحتال؛ لأنهم كانوا يسمعوا عنه أشياء كثيرة، فاستعظموا الأمر، وأخذتهم الحيرة، وأقاموا العزاء والنحيب على وفاة شبيب، وهم يلعنون ذلك الطبيب، وكان لشبيب أخ اسمه الصحصاح، وكان من أبطال الكفاح، قال: لا بد لي أن أتبع هذا الغدار. وركب وسار وراءه، وهو يهدر كالأسد إلى أن التقى به بقرب طاحونة خارج البلد، فلما نظره أبو زيد، ورآه عرف أنه الصحصاح، وأنه يريد قتله ووفاته، فدخل على الطاحون وغير لونه بالأعشاب، ونزع منه الثياب، ثم خرج، ووقف على الباب، فلما وصل الصحصاح إليه اشتبه أمره، فقال له: علمني من صاحب هذا الكديش، فقال في الطاحون، فنزل على ظهر الحصان، وسلمه مع الرمح لأبي زيد، ثم سل سيفه، ودخل إلى الطاحون مثل المجنون، فلم يجد سوى الطحان هناك، فضربه وخرج في الحال، وهو يظن أنه قتل أبو زيد المحتال، فوجد أبو زيد على ظهر الحصان، يتعجب من ذلك الشأن، وقال له: من تكون قافلا؟ فما أتم كلامه حتى طعنه أبو زيد بالرمح في صدره، فوقع على الأرض قتيلا، وسار أبو زيد حتى دخل على الأمير حسن في الصيوان.» «أما أهل شبيب، فإنهم لما علموا بقتل الصحصاح زاد عندهم النواح، وأحضروه لجانب أخيه، وأقاموا عليهما النحيب، فتقدمت جنوب زوجة شبيب ترثيه بهذه الأبيات، وزادت عليهم الحسرات:
تقول جنوب الخير بما جرى
بدمع جرى فوق الخدود سكيب
الأيام والدنيا كفى الله شرها
صفحه نامشخص