لم أكد أفرغ من كتاب «النقد المنهجي عند العرب» للدكتور محمد مندور، وأسجل رأيي في بعض ما جاء فيه - وهو رأي عارضه الدكتور مندور - أقول إني لم أكد أفرغ من ذلك الكتاب؛ حتى طالعت كتابا آخر لأديب آخر، ليس بين موضوعه وموضوع الكتاب السابق من أواصر القربى إلا ما يذهب إليه الأديبان من أن النقد الأدبي مرده إلى الذوق ... وأما هذا الكتاب الجديد الذي أعنيه؛ فهو «على هامش الأدب والنقد» للكاتب الأديب المطلع الذواقة الأستاذ علي أدهم.
وكم كنت أحب أن أستعرض هذا الكتاب للقارئ، وأن أقدم له قبسات منه تظهره على ما فيه من غزارة مادة وجمال صورة؛ ففيه خمس وعشرون مقالة أضيفت إليها مقدمة، كل مقالة منها - أستغفر الله - بل كل صفحة من صفحاتها، وأستغفر الحق، بل كل فقرة من كل صفحة؛ تضيف إلى علمك علما جديدا.
نعم، كم كنت أحب أن أستعرض هذا الكتاب للقارئ، لولا أني آثرت شيئا آخر لنفسي ولقارئي معا، وهو أن أجادل أديبنا الكاتب رأيه في اعتماد النقد الأدبي على الذوق، في كلمة أوجهها كذلك إلى الدكتور مندور، وإلى كل من يأخذ هذا الرأي في أساس النقد ... أريد أن أبسط رأيي في شيء من التفصيل؛ لأبين للقارئ ما أذهب إليه وأدين به، من وجوب اعتماد النقد الأدبي على العقل دون الذوق. •••
يا ويح نفسي من هذه الألفاظ تلوكها الأفواه، ويشتد حولها الجدال والقتال، دون أن يتمهل المجادلون المقاتلون لحظة واحدة يتبينون فيها معاني هذه الألفاظ التي شمروا عليها السواعد وأرهفوا الألسنة وشرعوا السيوف! يرحمك الله يا سقراط رحمة واسعة! إنك لم تطلب إلى الناس إلا هذا المطلب المتواضع؛ تحديد الألفاظ التي يستخدمونها في أحاديثهم ونقاشهم، ولو قد فعلوا؛ لاستراحت ضمائرهم، واطمأنت أفئدتهم في صدورهم.
إن موضوع الخلاف بيني وبين الأديبين الكبيرين هو أنهما يريدان النقد الأدبي أن يعتمد على الذوق، وأريد أن يعتمد على العقل. بعبارة أخرى، هما يريدان للنقد الأدبي أن يكون فنا، وأريد له أن يكون علما. انظر - نشدتك الله - إلى هذه الكلمات التي حشرناها حشرا في سطر واحد، ولو تناولنا واحدة منها بالتحليل والتحديد؛ لجاز أن ننفق أعمارنا دون أن نبلغ المدى: «فن»، «علم»، «ذوق»، «عقل».
ما معاني هذه الكلمات الأربع على وجه التحديد؟ ألا يجوز أن ينحسم الخلاف إذا ما اتضحت لنا تلك المعاني ؟ ذلك ما أنا فاعله الآن، غير زاعم أني أقول الكلمة الأخيرة في شيء، وكل ما أدعيه هو أني حين أقول إنني أريد للنقد الأدبي أن يعتمد على العقل دون الذوق، فإنما أقول ذلك وفي ذهني ما سأثبته الآن من معان لهذه الألفاظ.
ماذا أفهمه من كلمة «فن»؟
أنا الآن جالس إلى منضدة صغيرة أكتب هذا المقال، فحانت منى التفاتة من نافذة صغيرة إلى يساري، ورأيت غرابا يرف بجناحيه، نعق نعقتين كان في صوتهما تهدج، ثم هبط على غصن من شجرة لا أعرف نوعها. ولعله هبط على مكان من الغصن أوراقه متهافتة، فسقطت ورقة تأرجحت في الهواء، وهوت إلى الأرض هويا بطيئا.
هذه صورة مركبة من جملة عناصر، نكتفي الآن منها بثلاثة: أنا والغراب والشجرة (لأنك تستطيع أن تضيف عشرات العناصر الأخرى مما أراه وأسمعه وأحسه بخلدي، وأفكر فيه في هذه اللحظة عينها).
أما أنا فبديهي أني كنت في هذه اللحظة من لحظات حياتي في حالة معينة فذة فريدة، لم يسبقها قط منذ ولادتي، ولن تلحقها قط إلى مماتي؛ لحظة أخرى تطابقها كل التطابق من جميع الوجوه، فلا يعقل أن يتكرر موقفي إذ ذاك بما فيه ما يحيط بي من أشياء وملابس. وما أرى، وما أسمع، وما يدور في نفسي من خواطر، وأقل ما يقال في هذا الموقف الفريد الفذ، هو أني كنت قبل الآن أصغر مني الآن، وسأكون بعد الآن أكبر مني الآن.
صفحه نامشخص