إلى القارئ‏

ظلم‏

يوم الميلاد‏

رسالة إلى صديقة أدبية‏

بغير مرآة‏

شبكة الصياد‏

المئذنة والهرم‏

حمل الهموم‏

سحر الكلام‏

النجاح والفشل‏

الصداقة العابرة‏

قميص السعادة‏

حمى الحياة‏

الآدمية الصحيحة‏

عندما أطللت من النافذة‏

وضع العقل في غير موضعه‏

الأخلاق التي لا تزال بخير!‏

الطاغية الصغير‏

غير مطلوب‏

سيجار‏

9 شارع الكرداسي‏

خبرة السنين‏

أرقام‏

قلوب‏

أصنام تحطمت‏

الببغاء والقفص‏

درع من ذهب‏

من طبائع الناس‏

القصد في القول والعمل‏

الرأس والساعد‏

مطلوب إنسان!‏

التعميم في الحكم‏

التفكير النظري والتطبيق‏

بين الأماني والواقع‏

من وحي العزلة‏

الطير الذي طار وارتفع‏

المتفرج واللاعب‏

الصفر النفيس‏

شمال وجنوب‏

جناية الصحافة على الأدب‏

حامد سعيد‏

طوائف تتنافس‏

الأديب بين يومه وغده‏

السحر والساحر‏

عريان يحلم‏

جمل في حركة المرور‏

نملتان في الفلفل‏

مراحل الطريق ...‏

بين الأدب ونقده‏

دفاع عن الأدب1‏

القطة السوداء‏

التصوف والمعرفة‏

التاريخ لا يعيد نفسه‏

بداية قصة‏

إلى القارئ‏

ظلم‏

يوم الميلاد‏

رسالة إلى صديقة أدبية‏

بغير مرآة‏

شبكة الصياد‏

المئذنة والهرم‏

حمل الهموم‏

سحر الكلام‏

النجاح والفشل‏

الصداقة العابرة‏

قميص السعادة‏

حمى الحياة‏

الآدمية الصحيحة‏

عندما أطللت من النافذة‏

وضع العقل في غير موضعه‏

الأخلاق التي لا تزال بخير!‏

الطاغية الصغير‏

غير مطلوب‏

سيجار‏

9 شارع الكرداسي‏

خبرة السنين‏

أرقام‏

قلوب‏

أصنام تحطمت‏

الببغاء والقفص‏

درع من ذهب‏

من طبائع الناس‏

القصد في القول والعمل‏

الرأس والساعد‏

مطلوب إنسان!‏

التعميم في الحكم‏

التفكير النظري والتطبيق‏

بين الأماني والواقع‏

من وحي العزلة‏

الطير الذي طار وارتفع‏

المتفرج واللاعب‏

الصفر النفيس‏

شمال وجنوب‏

جناية الصحافة على الأدب‏

حامد سعيد‏

طوائف تتنافس‏

الأديب بين يومه وغده‏

السحر والساحر‏

عريان يحلم‏

جمل في حركة المرور‏

نملتان في الفلفل‏

مراحل الطريق ...‏

بين الأدب ونقده‏

دفاع عن الأدب1‏

القطة السوداء‏

التصوف والمعرفة‏

التاريخ لا يعيد نفسه‏

بداية قصة‏

شروق من الغرب

شروق من الغرب

تأليف

زكي نجيب محمود

إلى القارئ

هذه صفحات كتبتها إلا قليلا جدا منها، في الأعوام الثلاثة: 1948م، 1949م، 1950م. وهي سنوات عصفت فيها العواصف بنفسي، وتجهم الأفق أمام عيني ، ورأيت خريف عمري يتساقط أمامي على الأرض أوراقا صفراء يابسة، كنت أسمع لها خشخشة كأنها حشرجة المحتضر.

ونظرت فإذا بقيتي بعد جهاد طويل حطبة جافة من ساق وفروع، تعرت عن الورق والزهر والثمر، تعوي في ثناياها الريح عواء الأمعاء الجائعة، وليس على مرمى البصر منها إلا اليباب.

فخلخلت التراب حول الفروع والساق، وحملتها تجاه الغرب إلى طرف ناء من الصحراء، حتى إذا ما أغمضت الشمس جفنيها من غروب، أشعلت النار في بقيتي، وبقيتي حطبة يابسة، فتراءت من بعد أمام عيني العشواءين كأنما هي الشمس قد عادت إلى الشروق، لترسل من حر أنفاسها شعاعا جديدا، قبل أن تعود إلى مهدها في ظلام الغيب. •••

فمن الغرب تمنيت لو أشرق على بلادي شعاع من نور، من الغرب الذي شاءت له إرادة الله أن يكون في عصرنا مبعث المدنية ومنارها؛ فيه ينتج العلم والفلسفة والأدب والفن، وتنشأ النظم الاجتماعية والسياسية، وبين أهله تقوم الثورات التي تحطم أسوار القديم لتنبت في الأرض نباتا جديدا.

أليست المدنية الإنسانية تغمر العالم موجة في إثر موجة، والموجات تارة يكون مسراها من هنا إلى هناك وطورا من هناك إلى هنا؟ ... خرافة أن يقال في الحضارة البشرية: شرق وغرب وشمال وجنوب. والصدق أن يقال: إنسان العصر وحضارته، أينما كان الإنسان على وجه الأرض، وأيا ما كانت حضارته. «إنني في ساعات حلمي، حين أحلم لبلادي باليوم الذي أشتهيه لها، فإنما أصورها لنفسي وقد كتبنا من اليسار إلى اليمين كما يكتبون، وارتدينا من الثياب ما يرتدون، وأكلنا كما يأكلون، لنفكر كما يفكرون، وننظر إلى الدنيا بمثل ما ينظرون ...» (ص 223).

وإذن فستقرأ في هذا الكتاب صفحات تصور لك نفسا اكفهر فيها الأفق وتلبدت سماؤها بالغيوم، كما تطالع فيه كيف راحت تلك النفس - في ظلماتها - ترسل من غربها شعاعا، كأنه البصيص الخافت ينفذ خلال الرماد، راحت ترسل شعاعها ذلك الضئيل الخافت، قبل أن ينطوي ظلامها في ظلام الغيب.

أول فبراير سنة 1952م

زكي نجيب محمود

ظلم

كان الفتى في عامه الثاني عشر أو الثالث عشر ، طويلا نحيلا، في عينه اليمنى حول ظاهر، ولا يفارق عينيه منظار التوت ذراعاه فمال على أنفه. وكانت تبدو على الفتى علامات البلاهة التي لا يخطئها النظر.

سأل أباه ذات يوم، إذ هما على مائدة الغداء، فقال: كلمة «ظلم» ما معناها؟ - وأين سمعتها؟ - سمعت رجلا يصيح بها في الطريق. يصيح بها وهو يدفع عربة صغيرة عليها بطيخ وشمام. وكان الشرطي من ورائه يصفعه ويركله. - الظلم هو أن يوضع الإنسان في غير موضعه اللائق به. فإذا جلست الخادمة على مقاعدنا الحريرية فذلك ظلم، وإذا أسندت الرياسة إلى من لا يستحقها فذلك ظلم، وإذا أخذ العامل أجرا على غير عمل فذلك ظلم، وإذا ظفر بالراحة من لم يعمل فذلك ظلم، وإذا نزل العقاب على غير مستحقه فذلك ظلم. كذلك من الظلم أن يفلت من العقاب من هو حقيق به، وهكذا. كل هذه أمثلة لناس وضعوا في غير أماكنهم الصحيحة.

سمع الفتي هذه الإجابة من أبيه في إنصات ظاهر، وكأنما أعجبه رنين الكلمة، فراح يرددها وهو بعد على مائدة الغداء. وبلغ إعجابه بالكلمة أن كان ينطق بها في نغمات مختلفة، ثم يضحك ضحكاته البلهاء.

ولما أصبح صباح اليوم التالي، ارتاعت أم الفتى لما رأته في كل ركن من أركان الدار ... إذ راح الغلام منذ الصباح الباكر يكتب بقطعة من الطباشير كلمة «ظلم». يكتبها على المقاعد والموائد والجدران، يكتبها أينما وجد فراغا يصلح للطباشير أن يخط عليه، فهي على أواني المطبخ، وهي على البلاط، وهي على جوانب الأثاث، وهي على السجاد القائم.

ونودي الغلام وسئل عما فعل، فلم يزد على أن ضحك ضحكة بلهاء. وماذا يصنع الأبوان في ابن لهما يعلمان فيه البلاهة؟ انتهرته أمه ونهره أبوه وتهدداه بالعقاب الصارم إذا عاد إلى مثل هذا العبث. ثم طفقت الأم من فورها تمسح «الظلم» من أجزاء بيتها بخرقة بالية!

ومضى يوم واحد. جاء بعده الجيران يشكون الغلام لأبويه، فقد ظفر بقطعة من الفحم، وراح يتسلل إلى حيث استطاع سبيلا من دورهم. وأخذ يخط كلمة «ظلم» على الأشياء فيفسدها، حتى أتلف للجيران أبوابهم ونوافذهم وجدرانهم وأثاثهم.

فضربه أبوه، وسأله في غيظ قائلا: ما الذي يغريك بهذه الكلمة، تكتبها في كل مكان، تكتبها لنا بالطباشير، وللجيران بالفحم؟

فأجاب الغلام بعينين دامعتين: لست أدري يا أبت! اعف عني هذه المرة، ولن أعود.

لكن لم يكد يمضي يوم آخر، حتى جاء أصحاب الدكاكين المجاورة يشكون الغلام لوالديه، فقد ظفر هذه المرة بما ليست تمحى آثاره في يسر، كما محيت آثار الفحم والطباشير. ظفر بوعاء فيه طلاء أسود وفرجون، جاء به من عمارة قريبة يقام بناؤها، وراح يغافل أصحاب الدكاكين ويكتب أمام متاجرهم، على الطوار: «ظلم»، «ظلم». فشوه الطريق بخطه الرديء من ناحية، وأساء إلى المتاجر وأصحابها من ناحية أخرى؛ لأن هؤلاء يريدون إغراء الزبائن بما يكتب أمام متاجرهم، لا تنفيرهم بالمعنى السيئ والشكل الرديء.

وها هنا بلغ الغيظ من الوالد أبلغ مداه، وجاء بغلامه أمام الشاكين يضربه ضربا مبرحا هذه المرة؛ حتى مست الرحمة قلوبهم، وهم الغرباء، قبل أن تمس قلبه وهو الوالد.

وسأله أبوه من جديد: ما الذي يغريك بهذه الكلمة تكتبها لنا بالطباشير، وللجيران بالفحم، ولهؤلاء الناس بالطلاء؟

فأجابه الغلام بصوت مخنوق بالبكاء: لست أدرى يا أبت! اتركني هذه المرة، ولن أعود إلى مثل ذلك أبدا.

لكن الغلام لم يكن عند وعده هذه المرة أيضا، فمضت ثلاثة أيام لم يعكر صفوها «ظلم» يصيب أحدا من الناس. وفي اليوم الرابع تأخر الغلام عن موعد عودته من المدرسة، وشغل الأبوان وبحثا عنه في مظانه كلها، فلم يعثرا له على أثر، حتى إذا ما كانت الساعة العاشرة أو نحوها في الليل، دق الجرس وأسرع الأبوان في لهفة إلى الباب، فإذا ابنهما في صحبة رجل من رجال الشرطة.

قال الشرطي: هذا ابنكم وجدناه ينقر بابا لدار من دور الحكومة بمبراة، فأخذناه إلى قسم الشرطة، وكتبنا عن الأمر «محضرا». لكنا نريد مواصلة سؤاله وعقابه غدا، ورأينا أن نسوقه إلى داره ليقضي ليلة مع والديه؛ حتى لا يشغلا عليه بالا.

ونظر الغلام إلى أبيه نظرة يطلب بها العفو والعطف، فلم يسأله أبوه عن شيء، وبات محزونا.

حتى إذا ما جاء الصبح، وذهب إلى الدار الحكومية التي أتلف الغلام بابها بمبراته، وجد ابنه قد حفر على الباب كلمة «ظلم». حفرها كلمة كبيرة عميقة، حتى ليدهش الرائي كيف استطاع أن يصنع ذلك كله في ظلمة الليل! وأين كان الحارس طول الساعات التي استغرقها الفتى في حفر هذا كله على باب من الخشب الصلب المتين؟!

واتفق رجال الشرطة مع الوالد الحيران أن يخلوا له سبيل الغلام، وكان ذلك بمشورة طبيب استشاره الوالد في أمر ولده، فأشار الطبيب بأن يصحب الأبوان ابنهما إلى مكان من الريف؛ لتهدأ أعصابه لأنه مريض.

وكم عجب الوالدان وهما في القطار أن سمعا عجلاته تقرقع على القضبان في صوت واضح لا سبيل إلى إنكاره: ظلم، ظلم، ظلم!

يوم الميلاد

هذه سطور أكتبها يوم ميلادي الثالث بعد الأربعين.

1

وأقول «يوم» الميلاد ولا أجعله لنفسي «عيدا» من الأعياد؛ فإني أشهد الله أنه يوم ما أقبل قط في حياتي مرة بحيث استقبلته بنفس مرحة طروب. بل إني لأعجب عجبا لا ينقضي من رجل يحتفل لنفسه بمثل هذا اليوم من حياته، أو يرضى أن يحتفل له الناس به. فنحن من هذه الأعوام التي تكر ماضية عاما في إثر عام، بمثابة من وقف على جسر النيل، وفي يده عقد أخذ يلقى حباته في الماء حبة وراء حبة. أفكلما نقصت لؤلؤات العقد لؤلؤة فرحت لنقصانها مسرورا؟!

لكن لعل هؤلاء المحتفلين بأعوامهم تمضي أعقل مني وأحكم؛ فقد تكون الحياة عبئا ثقيلا، ينقض ظهور الرازحين تحت حمله، فكلما انزاح من أجزائه جزء سر حامل العبء وابتهج. نعم، قد تكون الحياة عبئا ثقيلا ينقض الظهور أكثر منها كنزا ثمينا يشرح الصدور ... ومهما يكن من أمر هؤلاء وأمري، فنحن على اتفاق أننا أبدا سائرون إلى نقصان، ما دمنا قد اجتزنا قمة الشباب في العشرين أو نحوها، على اختلاف بيننا في فهم هذا النقصان؛ فيرونه كسبا وأراه خسرانا .

وليس يخلو من المعنى أن يكون مولد العام الجديد أقوى أثرا في نفسي من يوم ميلادي. فيستحيل أن يمر اليوم الأول من يناير، وأنا عنه لاه ساه غير آبه ولا حافل. أما يوم ميلادي فما أ كثر ما يمر لا أذكره ولا أحسه ولا أشعر به، حتى إذا ما فات وانقضى أذكر عرضا أنه فات وانقضى وأصبح تاريخا يروى. وأرجح الظن أني في ذلك لا أشذ عن كثير من الناس. أيكون ذلك؛ لأن مولد العام الجديد يسجل للإنسانية بأسرها، بينا يسجل يوم ميلادي لفرد واحد؟ أم يكون لأن مولد العام الجديد تسجيل للحوادث؟ وأما يوم ميلادي فرقم لا يدل على شيء سوى ما انقضى من عدد السنين، وأن هذا العدد بغير الحوادث التي تملؤه رقم أجوف فارغ؟

رقم أجوف فارغ! لقد سألت نفسي يوما: لو أرخت لحياتك ودونت ما مر بها من حوادث؛ فماذا أنت ذاكر؟ إن من الرجال من يكتبون قصص حياتهم، فإذا هي حافلة بأحداثها. تقرؤها فكأنما تقرأ قصة من خلق الخيال البارع. فأين من ذلك ما عشت من حياة فارغة جوفاء؟! وهنا رأيت الشبه مائلا بيني وبين ساعي البريد. أرأيت كيف ينفق هذا الرجل حياته ساعيا بين الناس ببريده؟ إنه لا يمس «الظروف»، إلا من ظاهرها دون أن ينفذ إلى قلوبها ولبابها. إنه لا يعلم من الرسالة إلا عنوانها أو بعض عنوانها. فأين ذلك من صاحب الخطاب؟! إنه يفض غلافه ويمس شغافه، ويقرأ السطور وما بين السطور. إنه يستروح من كلماته أنفاس الحبيب، أو هو ينظر إلى الألفاظ فإذا هي ألحاظ الصديق ناظرة إليه تباسمه وتناجيه.

لكأنني من هذه الحياة إزاء مدينة حصينة سورت بمنيع الجدر. ولكأنني منها طواف يطوف حولها ويطوف، ثم لا يجد إلى جوفها من سبيل ... صه! أذلك همس؟ إنهما حبيبان يتغازلان؟ أتلك ضحكات طروب؟ إنها جماعة أخذتها نشوة ومرح. أذلك أنين؟ إنه بكاء حزينة ثكلى. يا ويح نفسي! أريد أن أهمس كما يهمس الهامسون، أريد أن أضحك كما يضحك الضاحكون، بل أريد أن يكون لي في حياتي ما أبكيه وأرثيه! أين يا صديقي الجواز الذي يبيح لي الدخول في هذه المدينة الصخابة فأشتريه؟!

رأيت الناس ذات صيف حرور يصطافون، فأقسمت لأكونن كسائر عباد الله مصطافا. ذهبت إلى الشاطئ مع الذاهبين، فسرعان ما برزت من إهابي شخصية الساعي؛ أقف على الشاطئ ولا أغوص. الناس يمرحون في الماء ويلعبون، والأطفال يتقلبون مع الموج ويضحكون، والنساء كعرائس الماء غائصات طائفات صائحات ضاحكات، وليس لي من كل ذلك شيء. ونظرت حولي، فإذا أنا واقف بين أكوام الملابس نضاها أصحابها. ويشاء القدر الساخر أن يكون أقربها إلي حذاء مخلوع، فأدركت عندئذ في يقين، أني بين هذه الأحياء كالقوقعة الفارغة، يرتسم على سطحها الحيوان ولا تحتويه، ولم أستطع أن أواجه هذا الحق المخيف، فقفلت إلى الدار راجعا.

رقم أجوف فارغ، إذن، هذه الأعوام تنقضي من حياة الأمة، فلا يكاد يتغير من وجهها شيء! نعم يا قائد الثورة الفرنسية «إن أربعين قرنا تنظر إلينا من قمة هذا الهرم». وكأنها أربعون لسانا يقول للمصري: ماذا صنعت يداك؟ هذه هي ذخيرة العلم توشك بقوتها أن تميل بالأرض عن مسراها، فماذا لك منها؟ إذا أرخت لحياتك ودونت ما مر بها من حوادث، فماذا أنت ذاكر سوى أن ساسة الأمم ما زالت تعترك عليك وتصطرع، وأنت بينهم واقف كالصبي الأبله، وضع إصبعه في فمه، وأخذ ينقل نظراته بين هذا وذاك؟ حسبك من البقرة «نعيرها»، كما يقولون. ويكفيك أن تكون حياتك معدودة بعشرات القرون!

لست إذن أرى في حياتي الخالية الخاوية ما يستحق أن أحتفل له إذا ما انقضى من الحياة عام. بل إني ما فكرت فيها بيني وبين الأيام من أخذ وعطاء، إلا ورأيتني قد نلت من الأيام صفقة المغبون. فقد ظللت كما يظل كل إنسان منذ مولده حتى يبلغ من الشباب ذروته، ظللت آخذ من دنياي مادة أكثر مما أعطيها، فأزداد بهذا الكسب المادي لحما وعظما، ثم بهذا اللحم والعظم أنمو صبيا ويافعا وشابا. لكني لقاء ذلك الكسب في وزن البدن، كنت محروما من المال، فلم أكن أرى منه ، إبان ذلك العهد، إلا قروشا قليلة يعطينيها أبي رحمه الله، مليمين مليمين، أو على أحسن الحظوظ قرشا قرشا، حينا بعد حين. وقد كان يحدث أيام العيد أن يتبادل أبي وعمي «الأعياد» للأولاد. فكنت آخذ من عمي ريالا أو نصفه، فلا يكاد الريال يستقر في كفي حتى يتقاضاه أبي من جديد إذا ما خلا بي. ولم أكن أفهم لذلك معنى حتى شببت وازددت علما، فعرفت أن قد كان للأمر اقتصاديات عليا لا يفهمها الصغار، على نحو ما يفعل رؤساء الحكومات اليوم. فهم يضبطون الصادر والوارد، بحيث يكون لهم في نهاية الأمر ميزان متعادل. والناس، إزاء هذا الذي يحدث في السماء العالية من دنيا الاقتصاد، لا يعرفون إلا أن السكر كان يصرف لهم بالأمس أقات تسعا، فإذا هو اليوم يصرف لهم سبعا، وأنهم كانوا يأكلون الخبز أبيض خالصا، فإذا هم اليوم يأكلونه مخلوطا أسود.

حتى إذا ما جاوزت قمة الشباب، وانتهى من الحياة طريقها الصاعد، وأخذت أسلك منها سفحها الهابط، تغير الموقف رويدا رويدا، حتى انعكس الوضع؛ فخسارة من اللحم والعظم، وكسب من المال؛ ذلك أني بدأت الآن أعطي دنياي من بنيان جسمي أ كثر مما تعطيني. فأسنان تفسد ثم تخلع، وشعر يضعف ثم يتساقط، وعضل يفتر ثم يترهل، وجلد ينكمش ثم يتغضن. بعد أن كانت الأسنان والشعر والعضلات والجلد تزداد مع الأيام قوة وفتوة. فهذا جانب الخسارة، ويقابله زيادة في كسب المال؛ فقد كانت وحدة نقودي مليما أو قرشا، فأصبحت أفكر فيها بلغة الجنيهات، وأخشى أن أقول بعشراتها، فيظن بي القارئ ثراء أو ما يشبهه، ولست من هذا بحمد الله في عير أو نفير. لكنها هذه السنوات السود التي أضاعت جزءا عزيزا من حياتنا، هي التي علمتنا ذلك الحساب كرها وقسرا. فلم أعد أدفع أجر مسكني بلغة الجنيه الواحد كما كنت أفعل، بل أدفعه مبلغا ذا رقمين سواء استطعت إلى ذلك سبيلا أو لم أستطع. ولم أعد أشترى البدلة بلغة الجنيه الواحد كما كنت أفعل ، بل أشتريها بالعشرات راضيا أو كارها . وهكذا تراني اليوم، بالقياس إلى يفاعتي، أخسر في بنيتي وأكسب في ثروتي، أنقص في دمي ولحمي وأزداد في مالي. فكأنني إزاء هذا كله أشترى الضلالة بالهدى، وأبيع سمسما مقشورا بسمسم غير مقشور ... ولست أدري ماذا تقول أنت في مثل هذه الصفقة؟ لكنها عندي صفقة المغبون، وبمثل هذه الصفقة الخاسرة يذكرني يوم ميلادي.

لو خيرت في الأمر لسرت بالحياة في طريق معكوس، بحيث تأتي الشيخوخة أولا والشباب آخرا، فالخمسون تأتي قبل الأربعين، والأربعون قبل الثلاثين، والثلاثون قبل العشرين، حتى أنعم بالصعود في سلم الحياة، ولا أحزن لمثل هذا الهبوط. وأنا مسئول عن كل النتائج التي تترتب على هذا الوضع المعكوس ... لو كنت موظفا مدنيا في الحكومة؛ فسأبدأ بالدرجة الأولى وأتمتع براتبها الضخم، وأنا بعد في سن العشرين. ولا بأس عندي أن أعقب عليها بالثانية فالثالثة وهلم جرا، بحيث أنحدر في الدرجات والمال كلما دب في جسمي الهزال؛ لأننا على هذا الوضع الراهن بمثابة من يخزن البندق حتى تزول عن فكيه الأضراس والأنياب. فقل لي بربك: ما غنى هذه الدرجات تعلو، وهذه النقود تزداد، ولم يعد لها في الجسم مستقبل أو مستجيب؟ هذه هي السوق قائمة، وتلك هي الحلوى معروضة أمام بائعيها كما عهدتها وكما اشتهيتها أيام الصبا. وهذا هو المال في جيبي، فلماذا لا أشتري الحلوى ولطالما تمنيتها؟ أما وقد تهيأت لي الأسباب فلماذا لا أشتري الحلوى، ولطالما سال مني عليها اللعاب؟! ... لأنني خزنت البندق، حتى زالت الأضراس والأنياب!

ولو كنت موظفا عسكريا؛ فسأبدأ الشوط بكتف مملوءة بكل ما عندهم من أنجم وتيجان. ولا بأس عندي أن تتساقط عن كتفي هذه اللوامع واحدة بعد واحدة كلما تقدمت بي الأعوام، كما تسقط عن الشجرة أوراقها في الخريف بعد أن أينعت ناضرة عاطرة في الربيع. وإلا فحدثني بربك ما معنى أن يكون ربيع على الكتفين وخريف في صميم البدن؟!

ولو كنت كاتبا فسأبدأ الحياة بكومة من الكتب هي كتبي، ومئات من المقالات جرى بها قلمي؛ فأزهى بهذا كله يوم يكون للزهو معنى مستساغ . ولا بأس عندي أن يخفت على مر الأيام صوتي، ويقل صيتي، وينكمش اسمي سيرورة وذيوعا. فذلك كله عندي خير ألف مرة من أن أزداد في درجات الحكومة رفعة، أو أزداد في كتفي التماعا، أو أزداد في دولة الأدب أو العلم شيوعا وذيوعا، حتى إذا ما اكتمل لي من هذا أو ذاك قدر أحسد عليه؛ لم أجد له في نفسي صدى، فكأنما أمتلئ من خارج، إن صح هذا التعبير، وأخلو وأفرغ من داخل ... ولست أدري: ماذا تقول أنت في هذه الصفقة؟ لكنها عندي صفقة المغبون، ومثل هذه الصفقة الخاسرة يذكرني يوم ميلادي.

رسالة إلى صديقة أدبية

أهديها إلى الآباء والأمهات الذين قد ينزلون بأبنائهم السوء من حيث لا يعلمون. ***

صديقتي أ ...

يشاء الله يا صديقتي أن تكون أولى رسائلي إليك صادرة عن قلب مكروب مكلوم حزين، وقد كنت أوثر أن يجيء أول اللقاء ابتسامة صافية لا تشوبها شائبة من هذه الهموم التي أترعت بها نفسي. لكننا تعاهدنا - ألا تذكرين؟ - تعاهدنا على الصدق الذي ينثر مكنون القلب نثرا، ولا يفتري على الحق شيئا ... أفلا تذكرين ذلك اللقاء السريع العابر، والبحر يطن في مسامعنا صداه، حين اختلجت يداك، ولمعت عيناك، في إيمان صادق، وقلت صارخة: حرام، حرام أن يعيش الناس في جو من أكاذيب ... فلنكن نحن صادقين في رسائلنا، ولنسكب خواطرنا ومشاعرنا على الورق خالصة لوجه الفن، لا نخشى في تصوير الحق لومة لائم.

هذا القلب الجريء الذي لا يخاف لوم اللائمين هو أملي، وهو علة إخفاقي في آن معا!

نعم يا صديقتي، فلست أرجو لنفسي شيئا أعز من أن يكون لي قلب حر جريء، مثل عقلي الحر الجريء! ... فقد أشرفت بنفسي على تربية رأسي وتغذيته بالفكر، جاء عقلا لا يتردد لحظة في تحطيم الأصنام كائنة ما كانت تلك الأصنام. فلا يعتز بقديم لقدمه، ولا يهوله جبار لجبروته ... لكن قلبي - وا حسرتاه! - صنيعة سواي! أشرف على تربيته والدي رحمه الله، فجاء قلبا رعديدا جبانا، يريد له الرأس أن ينهض فيكبو، يريد له أن يطير معه في أجواء الحرية الطليقة، لكنه يسقط ويهوي، يريد له أن يحطم الأصنام فيعبد الأصنام! يا حسرتي من هذا القلب الضعيف الخائر الذي أحمله بين جوانحي!

في هذا الصراع بين رأسي وقلبي، يا صديقتي، تقع مأساتي. يقرأ الناس ما أكتبه، فيتوهمونني سيلا عرمرما دفاقا كاسحا. هيهات أن توقف مجراه سدود أو حدود، ثم يلقاني من يلقاني، فإذا أنا المستكين الخائف الخائر المتهافت، الذي لا يثبت على قدميه أمام التوافه!

من لي بمن يعلم هذا القلب الجبان أن التخلص من الخوف هو حكمة هذه الحياة؟ من لي بقلب جريء مثل رأسي، فلا تهوله أرض ولا سماء ولا يروعه عرف ولا تقاليد؟

لكنه أبي - رحمه الله - هو الذي حطم بين أضلعي قلبا خلقه الله وثابا؛ فقد أنسى كل شيء من أحداث طفولتي ويفاعتي، قبل أن أنسى كف والدي التي قست على ذلك الطفل مني أو اليافع. وهل أنسى يوما أجلسني فيه والدي أمامه - وكنت لا أجاوز الخامسة - وسألني سؤالا في الحساب ولم أسرع له بالجواب، فضربني بكتاب ضخم كان أمامه ضربة لا أزال أشعر بالدوار كلما ذكرتها. وكان بالغرفة أضياف، فضحكوا ضحكات تهز الهواء من حولي حتى الآن. وقال منهم قائل وهو غارق في ضحكه: «قد ضربته بالدنيا كلها على رأسه.» وترددت الكلمة في سمعي دون أن أفهم لها معنى، لكنني سأنسى كل شيء، قبل أن أنسى كيف عز على نفسي أن أضرب «بالدنيا كلها على رأسي» مع أني بريء. فانفجرت باكيا، لا أملك لدمعي زماما، ولعلك تعلمين يا صديقتي أن الطفل كثيرا ما يبكي مؤخرا؛ فقد يصاب بجرح وهو لا يدري، حتى إذا ما نبهوه أن دماءه تسيل، أخذ في البكاء ... ودارت الأيام، وجاء يوم كنت فيه تلميذا بالمدرسة الابتدائية، وتسلمت «الأطلس الجغرافي» بين ما تسلمته من الكتب أول العام الدراسي، وأخذت أقلب صفحاته، وأدير فيه البصر معجبا بألوانه، فإذا جاري يهمس لي: «الدنيا كلها في هذا الكتاب الذي في يدك»، فانتفضت لعبارته انتفاض الجريح؛ لأني ذكرت عندئذ حادثة طفولتي التي جرحت فيها كبريائي جرحا لم يندمل حتى اليوم. ويومئذ فقط، أدركت معنى ما قاله ذلك الخبيث الذي قال لوالدي ضاحكا: لقد ضربته بالدنيا كلها على رأسه.

وطلب مني والدي ساعتئذ أن أكف عن البكاء. فلما عجزت عن طاعته؛ صفعني بكفه على وجهي صفعة أسمع الآن رنينها، وأعاد لي أمره بالسكوت. ولست أدري الآن كيف استطعت أن أوقف البكاء، لكني فعلت، وأنا أنتفض بين يديه جزعا فزعا. ولم أجرؤ على رفع بصري إلى الجالسين، خجلا من كبريائي الجريحة ... وأعاد والدي رحمه الله سؤاله من جديد، وأراد الجواب السريع. لكني كنت في هذه المرة أعجز عن الجواب مني في المرة الأولى، فحملني بين ذراعيه حملا، وقذف بي خارج الغرفة. وكان الباب على بعد منه لا يقل عن مترين أو ثلاثة أمتار، قذف بي كما يقذف اللاعب بالكرة، وقال لأضيافه في نغمة المزهو الشامخ بأنفه: لن يعيش لي ولد خائب؛ فإما أن يفلح أو يموت!

أقسم لك بالله يا صديقتي، أن دمعة كادت تطفر مني، وأنا أكتب هذه السطور. لعلها دمعة باقية في محجري منذ ذلك اليوم! ... إنني لأنظر الآن إلى الناس من حولي، وكأني أرى في وجوههم الضاحكة انعكاسا لوجوه هؤلاء الأضياف الذين كانوا يجلسون إذ ذاك مع والدي. يشهدون ويضحكون، أنظر إلى الناس من حولي الآن، يضحكون، فأكره منهم هذا الضحك: ترى هل تضحكهم خيبة رجائي في حياتي كما كان يضحك أضياف أبي عند خيبتي في حل المسألة التي ألقاها إلي أبي وأراد الجواب؟! ترى هل يرضى عني روح والدي لو ألقيت بنفسي في اليم لأحقق له مبدأه الذي ألقاه في مسمعي، وأنا بعد في سن الخامسة؟ ولا تزال آثاره عالقة برأسي، تحركني في مسالك الدنيا يمنة ويسرة: إما أن يفلح أو يموت!

ماذا يا أبت لو لم يكن نجاح، والنجاح ليست عناصره كلها في يدي؟

واحر قلباه! ... ألا إن الجواب عن هذا السؤال مخيف فظيع. لقد عشت ما عشت يا صديقتي، وجاهدت ما جاهدت، فلم يفتح علي الله من أبواب النجاح بمثل ما يفتح على سواي من الناس، وأحاول ما استطعت أن أشيع الرضى في قلبي القلق الثائر، فلا أستطيع. ترن في رأسي عبارة أبي ألف مرة في اليوم الواحد: إما أن يفلح أو يموت، ثم أفكر في اليوم الواحد ألف مرة في تحقيق ما أراده لي أبي!

إنه لا يعلم إلا الله مدى ما أثر ذلك اليوم المشهود في مجرى حياتي. فكما عز على نفسي عندئذ أن أرفع بصري إلى وجوه الحاضرين وأنا موصوم بالعجز والخيبة، لا أزال حتى اليوم عاجزا عن مواجهة الناس، كلما ظهر في حياتي مظهر جديد من مظاهر الخيبة؛ فما أسرعني إلى الانزواء والانطواء كلما هاض إلى الزمن جناحا ...

معذرة، يا صديقتي، فلم أرد أن يجيء هذا الخطاب في هذا السواد، ولكننا تعاهدنا على مقربة من هدير البحر ساعة الغروب، ألا يخفي أحد منا في رسائله شيئا، فهل تذكرين؟

بغير مرآة

نزلت أسبوعا في غرفة من فندق ريفي (في فرنسا) كانت بغير مرآة، فمن ظن - كما ظننت - أنه ضيق بنفسه صدرا، ولم يعد يملك على حياته صبرا؛ فليسكن - كما سكنت - أسبوعا في غرفة بغير مرآة.

لم أكن أدري كم أحببت نفسي، حتى حرمت - خلال ذلك الأسبوع - من رؤية نفسي. ترى أكان اليونان في أساطيرهم جادين أم هازلين، حين رووا لنا عن «نارسيس» أنه رأى صورة وجهه لأول مرة معكوسة على صفحة الماء، فأحبها - وهو لا يدري أنها صورته - وأراد أن يضم إلى صدره هذا الحبيب، فلم يجد إلى ضمه من سبيل. ثم تمضي الأسطورة في قصتها، فتروى أن «نارسيس» لما عز عليه الحبيب - الذي هو نفسه - اعتزل الحياة محزونا على حافة الغدير حتى فارقته الحياة. وسمعت عرائس الجن بموته فأرادت أن تواري جسده في جدث يزوره الرائح والغادي، ولكنها لم تجد جسده الذي ذوى وذوى ثم ذوى. لم تجد إلا زهرة نبتت على حافة الماء، حيث كان الحبيب يتأمل وجه الحبيب، يتأمل الحبيب البعيد وهو قريب. نبتت زهرة مكان جثمانه الذاوي، فأطلقت عرائس الجن اسمه على الزهرة وما يلحقها في نوعها من زهرات فجعلوا اسمها «نارسيس»، ومعناها النرجسة. فكلما رأيت نرجسة - أي قارئي الكريم - فارفق بها، واعلم أنك تبصر فيها رمزا نسجته يد الطبيعة؛ تخليدا للمرء يحب نفسه حبا قد يودي به إلى الفناء.

كنت أتوهم، قبل الأسبوع الذي عشته بغير مرآة، أن اللحى تنبت على وجوه الرجال كارثة أصيب بها الرجال؛ لأنهم بين اثنتين إما أن يطلقوها أو يزيلوها. فإن هم أطلقوها ذوائب تنوس على صدورهم؛ نفرت منهم جموع الغانيات، ثم ... ثم إذا أنت أطلقت للرجال لحاهم؛ فأين يكون الفرق بين الكواسر والرجال؟ وإن هم تعقبوها بالحلق كل صباح؛ فيا له من عناء موصول لا يدري فداحة رزئه إلا الرجال!

ولم أدر إلا خلال ذلك الأسبوع أن اللحى فضل من الله ونعمة ... «وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها» ... هي فضل من الله ونعمة؛ لأنها ذريعة يتوسل بها الرجال لينظروا إلى وجوههم في المرآة كل صباح. فلا بأس على المرأة إن هي استهلت يومها بالنظر إلى مرآتها لتطمئن على جمالها. لكن ماذا عسى أن يصنع الرجل المسكين، وقد عد عارا أن يطمئن على جماله؟ بماذا يبرر أمام ضميره وأمام الناس نظره إلى المرآة، بحيث لا تشوب رجولته شائبة من التخنث والتأنث؟ هي اللحية أطال الله بقاءها، هي اللحية التي تبرر لك أن تجلس إلى مرآتك كل يوم، فيسبق إلى وهم الناس أنك حلاق بريء عن الهوى، أملت عليك الصناعة مواضعات المجتمع وضرورة العيش بين الناس؛ لأن الناس - لسبب لا أدريه - يريدون للرجال أن يبدوا بأوجه ملساء. أما الحق الذي لا مراء فيه ولا خداع، فهو أنك تجلس أمام مرآتك كل يوم، حبا لنفسك وإعجابا بها. ومن ظن أني أفترى على الرجال كذبا؛ فليختلس نظرة إلى رجل جالس إلى مرآته ليحلق لحيته، فسيراه يلوي عنقه يمنة ويسرة في عجب وإعجاب، ويربت بيده على خده في رفق وحنان، بل فيما يشبه العشق والهيام.

والناس في هذا العشق يختلفون درجات؛ فمنهم من يشبه «روميو»، ومنهم من يصور «المجنون». ولست أدري كم أغرم قارئي هياما بنفسه، فأحب أن أسأله: كم صورة لك علقتها على جدران دارك؟ وكم منها قد وضعته على المناضد ليطل على الزائرين في ابتسامة الظرفاء؟ وفي أي إطارات مزخرفة، مزركشة قد وضعت تلك الصور؟ أحب أن أسأله: كم تأخذك هزة الفرح الخفي الخفيف حين ترى نفسك - عند الطرزي مثلا - معكوسا في كثير من المرايا في وقت واحد، فتتلفت إلى نفسك هنا وهنا وهناك وعلى شفتيك ابتسام. حتى إذا ما أقبل الطرزي أو صبيه نظرت إلى الأمام في تجهم خفيف؛ لتوهم القادم أنك رجل جاد مع نفسك صارم، تضن عليها بكل ما ينم عن حب وإعجاب. هذه فطرة في نفسي لا أكتمها، ولا أظن أنك كاتم. ولقد ظللت حينا طويلا من الدهر، أغالب هذه الفكرة من نفسي، فلا أجلس أبدا أمام آلة التصوير، حتى اضطرني القانون أن أصور نفسي لتتم الشروط لجواز السفر. لكني ما كدت أبصر نفسي مصورة على الورق؛ حتى أخذت أطيل النظر إليها. أضع الصورة في غلافها ثم أخرجها لأعيد إليها النظر، ثم لم أملك سوى أن أعود إلى المصور ليرسمني مكبرا اثنتي عشرة مرة دفعة واحدة!

إنه لتعجبني من أجدادنا الأولين صراحة لم تعرف خداعا ولا رياء. فإذا ما أحسوا في فطرتهم شهوة أشبعوها، وأطلقوا لها السراح. ففيم كتمان ما فطرنا الله عليه؟ كان هؤلاء الأجداد الأولون يرون صورهم معكوسة على الماء أو غيره من صقيل الأجسام، فيحبونها كما يحبون أنفسهم بل يحبونها لأنهم يحبون أنفسهم، ثم لا يكتمون هذا الحب. فيغارون على تلك الصورة ويشفقون عليها من اعتداء الأعداء، فيحيطونها بالطلاسم والرقى؛ حتى لا ينال منها سحر الساحرين، فلا فرق في عالم السحر بين المرء وصورته. وإن أعز المرء صورته فقد أعز نفسه، والحق أن أجدادنا هؤلاء كانوا يحارون لهذا الازدواج العجيب لنفوسهم، فما الجسم وما صورته؟ أين الحقيقة منهما وأين الخيال؟ أيكون هذا الازدواج من قبيل ازدواج الأرواح وأشباحها؟ إذن فليوضع في قبر الميت صورة له أو صور، وتمثال له أو تماثيل، حتى لا يحرم في غربته من هذا الحبيب ورفقته.

ونحن نحب نفوسنا إلى هذا الحد، بل إلى أبعد من هذا الحد، ثم نخفي ونستحيي!

الصديق مرآة صديقه، كما يقول شيكسبير. قد كنت أفهم هذا القول فهما صبيانيا تافها قبل ذلك الأسبوع الذي عشته بغير مرآة. كنت في سذاجتي أظن أن شاعر الدنيا بأسرها إنما أراد بقوله هذا أن يدلني هذا الصديق أو ذاك عن رباط الرقبة؛ أهو في موضعه أم ينحرف قليلا إلى يمين أو يسار؟ وبذلك يكون الصديق مرآتي إذا عزت المرآة! أو كنت إذا أوغلت في الفكر والنظر أظن أن الشاعر إنما أراد بقوله إن الصديق يدل على نوع صديقه، كما تدل الصورة على شكل صاحبها، على نحو ما يقال عندنا: قل لي من تعاشر أقل لك من أنت. لكني حين افتقدت المرآة في ذلك الأسبوع فلم أجدها، تنبه في ذهني معنى آخر؛ أني أريد الصديق كما أريد صورتي، أريدهما معا لأثبت وجودي! لست بالموجود الكامل حتى أراني معكوسا في جسم آخر، ولست بالموجود الكامل حتى أجد الصديق الذي أتحدث إليه فيجيب، فيكون في جوابه انعكاس لروحي كما يكون في الصورة انعكاس لوجهي على صفحة المرآة. إنني أنظر إلى السماء والأرض وما بينهما فلا أجد في كل ذلك شيئا واحدا يدل على وجود العين التي ترى! ... لولا أني أراها معكوسة في المرآة! ... كذلك أعيش وأحيا، أحس وأفكر، وأنعم وأتألم، دون أن أجد شيئا واحدا يدلني على وجود هذا الذي يحس ويفكر وينعم ويتألم ... لولا أني أراه - أي أرى نفسي - معكوسا في إنسان يجاوبني حين أوجه إليه الحديث! يا إلهي، كيف تكون الحياة بغير سمر وحديث؟! أبعد هذا ألوم من يمتنع عليه المسامر فيحدث نفسه؟! يا ليت شعري هل خلقت حواء إلى جنب آدم ليتم بوجود اثنين كلام، فتتم الحياة؟

يتحدث الصديق إلى صديقه ليسمع بأذنيه برهان وجوده، وينظر المرء إلى صورته في المرآة ليرى بعينيه أنه هناك كائن بين الكائنات .

نحن إلى هذا الحد البعيد نحب أنفسنا، نحب أن نراها مصورة بالكلام المنطوق والرسم المرقوم ... ثم نخفي ونستحي!

والأمر في الأمة كلها كالأمر في الفرد الواحد. تريد الأمة إن كانت تجري في عروقها دماء الحياة، تريد أن ترى صورتها مرقومة وأن تسمع صوتها منطوقا، له في نفوس الآخرين رجع وترديد. وعرف الناس ذلك الطبع في جبلتهم، فراحوا لأنفسهم بالريشة يصورون وبالقلم يكتبون، حتى إذا ما تقاطر الناس إلى جدران المتاحف، وجدوا الصور، صور نفوسهم، أخرجتها لهم ريشة المصور، أو قلبوا صفحات الكتب، وجدوا الصور، صور نفوسهم، دبجتها لهم يراعة الكاتب. والأمة التي ترى صورتها معكوسة على جدران المتاحف، مبسوطة على صفحات الكتب، لا يساورها القلق على وجودها؛ فها هي ذي نفسها مرسومة مرقومة على مرأى منها ومسمع.

ونحن كسائر الأمم، إلى هذا الحد البعيد نحب أنفسنا، ونحب أن نراها بالعين ونسمعها بالأذن، لكننا نخفي ونستحيي!

وإذا لم يكن بنا من إخفاء أو استحياء؛ فقل لي بربك: أين مرآتنا التي نرى فيها أنفسنا معكوسة مصورة، صامتة أو ناطقة، وإن بيننا لأدباء ومصورين، وإنهم على فنهم لقادرون؟

رفعت القلم الآن، وأمسكت عن الكتابة لحظة، ونظرت خلال نافذة ضيقة على يميني إلى الأفق البعيد، فصورت لنفسي أدباءنا في قصر منيف، يقلبون كتبا ويفحصون أوراقا لعلهم واجدون ما يصلح غدا أن يكون مقالة! ... وأمام القصر ميدان واسع فسيح، زاخر بجموع الشعب الحاشدة. وقد تحلق أفراده في الزحمة جماعات جماعات؛ فلاح القرية والشيخ والعمدة، مأمور المركز والحارس وضابط البوليس، طالب المدرسة والأستاذ والناظر، كاتب الديوان والحاسب والرئيس، الكواء والحذاء والساعي، والكناس والبواب وبائعة اللبن، الحبيبان اللذان التقيا بين أعواد الذرة في الريف، والحبيبان اللذان التقيا في ظلمة السينما في المدن؛ لأن الشعب لا يعترف بالحب ولا يعرفه. وإلى جانب هؤلاء وأولئك جماعات من طير وقطط وكلاب، وبعوض وذباب، وثيرة وأبقار.

ازدحم الميدان الواسع الفسيح بهذه الجموع الحاشدة الزاخرة، محتجة صاخبة، وليس احتجاجها هذه المرة على صعوبة المناهج في المدارس، ولا على كثرة ساعات العمل في مراكز البوليس، ولا على درجاتهم المالية التي اضطربت وأصبحت في حاجة إلى التنسيق والتنميق. لكنها احتجت تريد هذه المرة ما هو أخطر من ذلك، تريد أن تطمئن على وجودها، تريد لأنفسها الرسم والتصوير.

إننا لنحس في أنفسنا حبنا لأنفسنا، وإن أدباءنا على فنهم لقادرون، لكننا نخفي ونستحيي!

شبكة الصياد

صبت صديقتي الشاي في قدحي، فتناولته ساهما ساكنا، وأخذت أتحساه على مهل، وكأنما بدا على وجهي ساعتئذ شرود الفكر، فسألتني، قالت: ماذا دهاك؟

قلت: إنه اليوم الأول من شهر فبراير. إنه يوم مولدي.

قالت: إذن؛ فهو يوم تفرح فيه، فما لي أراك قد بترت حبل الحديث وأخذك الوجوم؟

قلت: لا، ليس ما بي من وجوم، إنما هي خلقة طبعها الله على وجهي، فأبدو واجما ولست بواجم.

قالت: لكنك شطحت بفكرك في السحاب.

قلت: بل سرحت به دبيبا على هذه الأرض، كررت به راجعا عشرين عاما، إلى العام الذي أتممت فيه دراستي العالية، واستعرضت في مثل اللمح بالبصر كل ما كان، وكنت قد بدأت أحاسب نفسي.

قالت: أعد لي ما دار في رأسك، لأبدأ معك حسابك لنفسك.

قلت: كان البحر مضطربا، وكانت السماء مكفهرة دكناء، حين خرجت بشبكتي أقصد الصيد، وكان معي فريق من الزملاء، حملوا شباكهم على أكتافهم؛ إذ كانوا كذلك إلى الصيد يقصدون.

خرج الصيادون جماعة واحدة، يحملون شباكهم، كل قد حبك الشبكة حبكا يتفق مع وجهة نظره فيما يراه أنفع في الحياة وأجدى، وكل لا يكاد يدري شيئا عن شبكة زميله. فكان الصيادون في جملتهم يعتقدون أن الشباك قد تقاربت نسجا وحبكا. فإن اختلفت عيونها سعة وضيقا، وإن تباينت خيوطها شدة وضعفا؛ فاختلافها في رأيهم يسير على كل حال، لن يؤدي إلى تفاوت كبير فيما يصيدون؛ لذلك لم يكن بينهم يومئذ حسد ولا حقد، ولم تدب في نفوسهم يومئذ شحناء أو بغضاء، حتى لقد ذهب بهم الوهم الجميل إلى الإيمان بأنهم سيظلون أحبابا أصحابا؛ فقد أخرجتهم إلى الصيد قرية واحدة، وأسكنتهم تلك القرية منازل متجاورة متقاربة.

أقلعت الزوارق بجماعة الصيادين من مكان واحد عند الشاطئ ، ثم أخذ الموج المضطرب الهائج يباعد بينها. فهذا زورق يمضي قدما في خط مستقيم، وذلك زورق ينحرف ذات اليسار، وثالث يتجه إلى اليمين، ورابع لم يكد يسبح قليلا حتى ارتطم بالصخر ووقف حيث كان.

وها أنا ذا، يا صديقتي، أصور لنفسي جماعتنا، وقد عادت إلى الشاطئ بعد رحلة الصيد.

قالت: فماذا رأيت؟

قلت: هالتني الفوارق بين صيد وصيد.

هذا صياد قد أخرج من شبكته سمكة واحدة ضخمة جبارة، لم يكد يراها الزملاء حتى خجلوا من صيدهم الهزيل.

وسألناه جميعا بصوت المشدوه المبهوت: كيف كان ذلك؟ فقال: حبكت شبكتي منذ البداية على هذا الأساس، فجعلت عيونها قليلة لكنها وسيعة، وكنت أعلم منذ البداية أني مغامر مخاطر مقامر. فإما عدت بغير صيد على الإطلاق، أو عدت بمثل هذا الصيد السمين؛ ذلك أن معظم السمك في البحر - كما تعلمون - متوسط الأحجام أو صغيرها، وشبكتي هذه عيونها أوسع من أن تمسك بمتوسط أو صغير.

فقال له زميل، وهو يبلع ريقه الذي جف في حلقه غيرة وحيرة: لقد ركنت إلى الحظ فواتاك! فأجابه الصياد الناجح ضاحكا مزهوا بنجاحه: ليس الأمر كله حظا مواتيا. يا صاحبي لا يحملنك الفشل على غمط الناس حقوقهم، أني حين حبكت شبكتي على نحو ما حبكتها، كنت أصدر عن روية وتفكير وإرادة وتدبير. ثم جاء أوان الصيد فتخيرت الموضع الذي ألقي فيه شبكتي. وليس التخير الصحيح من قبيل الحظ المواتي والمصادفة العمياء ... نعم قد كان من الجائز أن أحبك عيون الشبكة على نحو ما فعلت، وأن ألقي بها حيث ألقيت، فلا تصادفني السمكة الكبيرة التي رجوت. لكن الحياة السليمة الصحيحة القوية هي في التعرض لمثل هذا الخطر، فهو تعرض للخطر قائم على حسن الروية لا على الطيش والجنون، ثم هو تعرض للخطر يحدوه الأمل.

وكان طبيعيا أن تلتفت أنظارنا إلى شبكة الزميل المعترض، فإذا هي مليئة بالسمك الصغير. إن صيده كثير غزير، ومع ذلك فقد أفرغ شبكته خجلا، ونظرنا إليه في ابتسامة الساخرين! فاعجب لكثرة تبعث على السخرية وتدعو إلى الخجل ! لقد رسم هذا الصياد خطة صيده على أساس الحذر الشديد والحرص الشديد؛ فأعد لنفسه شبكة ضيقة العيون لا تفلت منها سمكة شاردة أو واردة من صغار السمك، لكن كبار الأسماك وأوساطها ليست من نصيبه. إن السمك الصغير موجود في كل موضع من البحر، فأينما ألقيت بالشبكة الضيقة العيون جاءتك منه بعدد كبير، وأهم ما كان يهتم له هذا الزميل الصياد، حين بدأنا رحلة الصيد؛ ألا يعود من الرحلة صفر اليدين. إنه أراد حصادا مؤكدا، فكان لا بد له أن يستغني عن أوساط السمك وكبارها.

لا، فإني أذكر الآن صديقا ثالثا، كان أكثر من ذلك عناية وأشد حرصا؛ فقد استوقف صيده أنظارنا بأنه خليط من متوسط وصغير. وسأله سائل كيف كان ذلك؟ فأجابه بأنه قد تحوط للأمر فحمل معه شبكتين، ووقف في زورقه ممسكا إحداهما بيمناه، والأخرى بيسراه، وعاد بما عاد به من صيد يستوقف الأنظار. لكنه مع ذلك يدعو إلى الإشفاق على صاحبه؛ لأن المسكين قد أجهد نفسه إجهادا أضناه وأشقاه، حتى ليكاد ينظر إلى صيده نظرة المتحسر الذي يحس أنه قد صاد الصيد لسواه.

قالت صديقتي: إنك لم تذكر شيئا عن صيدك أنت، فما لي الآن ولصيد زملائك؟ إن اليوم يوم ميلادك، وقد حلا لك أن تشطح عني بفكرك إلى ماضيك تستعيده؛ لتنصب لنفسك ميزان الحساب.

قلت: كانت عيون شبكتي أقرب إلى الضيق منها إلى التوسط أو السعة؛ فأمسكت بسمكات قلائل، كلها أقرب إلى الصغر منها إلى التوسط فضلا عن الكبر والضخامة.

قالت: أفهم أن تجيء أحجام السمك في صيدك أقرب إلى الضآلة منها إلى التوسط أو الكبر، لكني لا أفهم أن تكون سمكاتك قلائل، فما شأن الشبكة وعيونها بكثرة السمك أو قلته؟

قلت: ها هنا يا صديقتي يقع الخطأ الأكبر في رحلة صيدي، فقد أخطأت الحساب وألقيت الشبكة في غير موضع الغزارة والدسم. فجعلت أطرحها وأجذبها، ثم أطرحها وأجذبها، مرة بعد مرة، ولا أظفر في كل مرة بأكثر من سمكة أو سمكتين .

قالت: ولماذا لم تتحول عن ذلك الموضع إلى سواه؟

قلت: إنه يا صديقتي أمر عجب، أن يدرك الإنسان مدى إخفاقه في موضعه، ثم يستحيل عليه أن يتحول عنه إلى غيره، كأنما قد أصابه الشلل فلا يقوى على الحركة! وأعجب من ذلك أني إلى اليوم لا أقصد إلا إلى ذلك المورد من البحر كلما أردت صيده، أطرح الشبكة نفسها في المكان نفسه وأعود مثل ما عدت به من الصيد في كل مرة!

لكني فيما مضى كنت ألقي التبعة على الحظ الأنكد، كأنما هذا الحظ رجل من لحم ودم يضطرب معنا في سبل الحياة، فيعين هذا ويعرقل الطريق لذاك. فلما كبرت وازددت خبرة ودقة، أدركت أن تبعة الصيد الهزيل واقعة لا محالة على الصياد. فالشبكة من نسج يديه، وموضع الصيد من اختياره، إن هذا «الحظ» المسكين الذي نلطخه بأوحالنا، ونفرغ على رأسه قمامتنا، مظلوم مغبون. إنه بريء إلا بمقدار ضئيل جدا مما يصيبنا. ليتني أعرف أين يسكن هذا الذي ظلمه الناس وقسوا عليه؛ لأبعث إليه بقطعة من الحلوى اليوم، يوم ميلادي؛ تكفيرا عما ألقيته في فمه من حنظل مر في سالف الأعوام.

ثم ابتسمت لصديقتي وسألتها: ترى أين يكون موضعك أنت من هذه الأنواع المختلفة من الشباك والصيد؟

فقالت ضاحكة: نحن النساء لنا شباك أخرى وصيد آخر.

المئذنة والهرم

على مقربة من داري مسجد، مررت به ألوف المرات، ولم أصعد بصري إلى مئذنته مرة، حتى كان الأمس ... فقد كنت ماشيا أمامه ساعة العصر في طريق إلى غايتي، مطرق الرأس، مفكرا في هموم دنياي. وإن همومي لمن الصغائر الحقائر، وإن دنياي بأسرها لمن التوافه. وإذا بصوت المؤذن ينبثق من شرفة المئذنة صارخا: «الله أكبر.»

علوت ببصري إلى المؤذن عن غير عمد، لكني بعدئذ أمهلت الخطى عامدا. وأخذت أصعد نظري في المئذنة وأصوبه، وأدور به مع بنيانها حيث يدور. وأحاول جاهدا - ما استطاع بصري الضعيف الكليل - أن أرى ما ازدانت به المئذنة من زخارف ونقوش؛ لأنها في جملتها قطعة فنية جميلة، تراها قائمة كأنها العروس ازينت من رأسها إلى القدمين .

مضيت في طريقي، ولم تزل المئذنة ماثلة نصب عيني، ثم أخذت تتلاحق في ذهني خواطر تمت إلى المئذنة من قريب أو بعيد. وحمدت الله أن صرف عني بهذه المئذنة ما كان يضطرب به رأسي من وساوس وهموم.

كان طبيعيا أن تذكرني المئذنة بالإسلام، ثم بالعرب في فورتهم الجامحة. وذكرت فتح العرب لمصرنا فتحا جاءها كالموجة الكاسحة، فانتزع من أفواه الناس لغة قديمة ليجري مكانها لغة جديدة، واجتث من قلوب الناس ديانة ليبث فيها ديانة أخرى وليدة. وفي غمرة هذه الخواطر المنسابة سألت نفسي: ماذا لو لم تغزنا هذه الموجة العربية الثائرة الفائرة القوية العارمة؟ ولم ألبث أن همست لنفسي في دخيلة نفسي مجيبا: جاءنا الفتح العربي بالمئذنة ... وكان لدينا الهرم! فانظر ما تنطوي عليه المئذنة، وما ينطوي عليه الهرم؛ تر الانتقال من حال إلى حال كيف كان.

كلاهما فارع سامق شامخ بأنفه في الفضاء، وكلاهما من وحي الدين يعبر عن القلب وما يختلج به، أكثر مما يعبر عن الرأس وما يضطرب فيه ... لكن المئذنة عروس في جلوتها، والهرم مارد عملاق. تذكرك المئذنة بالصائغ الذي ينقر السوار وينقشه ويزخرفه ويزركشه، وهو جالس لا يتحول عن مكانه ولا يريم. أما الهرم فيذكرك برباع يحمل الأثقال بجسمه القوي وعضله المفتول. وإن كان ذلك كذلك، فانتقالنا من هذا إلى تلك كان انتقالا من الوثوب إلى القعود، ومن الطموح إلى الخمود، ومن عزة الغالب إلى ذلة المغلوب.

وتذكرك المئذنة بمن طال فراغه؛ فأخذ يطيل الوقوف عند التفصيلات والدقائق. أما الهرم فيذكرك بمن قصر فراغه؛ فراح يركم الجلاميد في لهفة العجلان. وإن كان ذلك كذلك؛ فقد كان انتقالنا انتقالا من حياة لاهثة كادحة إلى أخرى هادئة وادعة، من المشغلة إلى الفراغ، من حمل لهموم دنيانا بأنفسنا إلى اعتماد على سوانا يحمل لنا همومنا.

المئذنة تنشد الجمال، والهرم يريد الجلال. الأولى تهدف إلى الرقة والرشاقة، وأما الثاني فهدفه الضخامة والرسوخ. الأولى أملها أن تكون زينة الناظرين، وأما الثاني فأمله أن يكون خشنا صلبا قويا فتيا. إن راعتك المئذنة فكما تروعك الزهرة الرقيقة التي تحبها وتعطف عليها، وإن راعك الهرم فكما يروعك الجبل الأشم، تهابه وتخشاه. إن أوحت إليك المئذنة فإنما توحي برقة العصفور الغرد، وإن أوحى إليك الهرم فبالصقر وقف ساكنا، لكنك تلمح في سكونه تحفزا لانقضاضه. إن حركت في نفسك المئذنة شيئا فهو الخشوع، وإن حرك في نفسك الهرم شيئا فهو الحكم والجبروت.

المئذنة صفير ناعم فيه العذوبة الحلوة، كصفير الناي تسمعه فريدا وحيدا في جوف الصحراء إبان سكتة الليل، فيميل بك إلى النعاس الهادئ. والهرم كضربات الطبول التي ينخلع لدويها قلبك فيستحيل عليك النوم والرقاد وهي ملء أذنيك. المئذنة رقيقة رقة الإناء الجميل تستحسن شكله، وتخشى عليه سرعة الزوال، وأما الهرم ففيه معاني الرسوخ والثبات والصمود لأحداث الزمان.

المئذنة شاعر والهرم فيلسوف، والشاعر انفعال والفيلسوف تفكير. الأول ثورة والثاني روية وتدبير. المئذنة شعر، والهرم نثر. جمال المئذنة في سلامة الوزن واطراد القافية، وروعة الهرم في عمق المعني وبعد النظر. الأولى إيقاع يفتن القلوب، والثاني حقيقة تأخذ بالعقول، أو قل إن المئذنة بمثابة القصيدة الغنائية الرشيقة. والهرم بمثابة الملحمة التي تحتدم فيها المعارك وتقع فيها ضخام الأحداث. فإن أشبهت المئذنة شاعرا مثل بترارك ظل يتغنى بحبيبته؛ فإن الهرم شبيه بشاعر مثل دانتي يصف الخطوب ويخوض بك مشاهد الأهوال.

المئذنة كالأديب المصنوع، والهرم كالأديب المطبوع. الأول يفكر كيف يزخرف ويزركش، والثاني لا يبالي كيف جاء التعبير عن نفسه؛ لأنه تعبير صدر عن قلب خصب عميق. المئذنة كالبستان الذي قلمت أشجاره وهذبت أطرافه حيث يصلح تحفة في قصور الأغنياء والأمراء تنظر إليها العيون ولا تدوسها الأقدام. والهرم كالغابات والأحراش إن أخطأت النظرة الأولى جماله؛ فهو قمين أن يستثير الإعجاب عند النظرة الثانية البطيئة المتمهلة.

لو كانت المئذنة سمرا خفيفا لطيفا لا تمل سماعه؛ فالهرم هو صمت الراهب في صومعته، يفكر صامتا ويتأمل صامتا. المئذنة أشبه بالضاحك لخلاء باله من الهموم، والهرم أشبه بالمتجهم لما يحمله فوق كتفيه من أثقال وأعباء. المئذنة ملهاة ، والهرم مأساة. المئذنة رجز، والهرم من البحر الطويل. المئذنة كرجل أنيق يعنى كل العناية بهندامه، يهذب شاربيه شعرة شعرة، ويمشي بحساب ويقف بحساب ويجلس بحساب؛ حتى لا يفسد وضع الثياب على جسده، وأما الهرم فشبيه برجل شغله باطنه عن ظاهره.

قف إلى جانب المئذنة ثم قف إلى جانب الهرم؛ تحس إحساسا عميقا عند الهرم أنك إزاء أثر يعبر عن أمة بأسرها، وتحس عند المئذنة أنك إزاء أثر أقامه فرد بماله. فبناء الهرم كالذي يبني بيته بيده، وبناء المئذنة مأجور على صناعته؛ لأنه كالذي يبني لغيره. فلو قيل لك: من بنى الهرم؟ أجبت: المصريون. وإن قيل لك: من أقام هذه المئذنة؟ قلت: فلان. الهرم يوحي بالمجد التليد، والمئذنة كالنعمة المستحدثة. فلو سئلت: من بنى الهرم؟ قلت: آباؤنا الأولون. أما إن قيل لك: من أقام هذه المئذنة؟ أجبت: لست أدري! •••

المئذنة مثل شروق الشمس، والهرم مثل غروبها. المئذنة كالسماء المشرقة الصافية، والهرم كاليوم العابس المتجهم. إن كانت المئذنة أقرب إلى فرحة العرس؛ فالهرم أدنى إلى كآبة المأتم. المئذنة ولادة والهرم موت. المئذنة غناء والهرم رثاء.

في المئذنة طلاقة الحرية، وفي الهرم معنى الإذلال (لا الذل). طبقات المئذنة واحدة فوق أخرى وسلمها واحد، فلكل أن يرتقي ذراها إن أسعفه جهده ونشاطه. وأما الأهرامات فمتفرقات بينها حواجز، أقصى جهد الصاعد في هرم أن يبلغ قمته دون أن ينتقل إلى الهرم الذي يليه. ففي الأولى مساواة بين الناس مع تفرقة على أساس مجهودهم. وفي الثانية تفرقة على أساس الطبقات، لا يجوز لفرد في طبقة أن يجاوزها إلى طبقة سواها. التفاوت فسيح بين قاعدة الهرم وقمته، أي بين الشعب وحاكمه، لكنه ضئيل في المئذنة، حتى ليكاد التفاوت بين الأسفل والأعلى أن يكون اختلافا في الوضع بغير تفاوت في القيمة.

المئذنة صريحة تنطق بسرها على لسان هذا المؤذن، وسرها بسيط قوي لا تخشى عليه من الذيوع شيئا، بل إن شئت فقل إنها تريد لسرها أن يذيع ويشيع. أما الهرم فكتوم ضنين بسره بين جوانحه. ترى ألأنه سر عظيم أم لأنه متهافت يخشى ضوء النهار؟ لكن السر إن كان عظيما فمن الخسارة كتمانه، وإن كان تافها فمن العبث كتمانه. المئذنة تفصح، أما الهرم فيلغز ويومئ. المئذنة جنينها حي يخرج من جوفها يدب ويسعى، والهرم جنينه ميت دفين يخرج من جوفه ليكون تحفة للناظرين.

وبعد، فماذا لو لم تغزنا هذه الموجة العربية الثائرة الفائرة القوية العارمة؟ ... إذا أردت لنفسك جوابا - هكذا همست لنفسي - فقل: جاءنا الفتح العربي بالمئذنة، وكان لدينا الهرم.

حمل الهموم

قلت لنفسي بمناسبة ما يحيط بي هذه الأيام من هم وغم، وما يكتنف نفسي من هواجس ووساوس: يومك هذا هو غدك بالنسبة لأمسك. ألم تكن بالأمس محزون النفس مكروب الفؤاد، تفكر فيما عسى أن يتكشف عنه الغد؟ ها هو ذا غدك المخوف قد جاء وكاد ينقضي. وكانت الشمس على إشراقها والسماء على صفائها، وكان الناس هم الناس والأشياء هي الأشياء. وهكذا سيأتي غد وينقضي، كما سينقضي بعد الغد وما بعده إلى آخر أيامك المعدودة في هذه الحياة.

الحق أن أمر الإنسان عجب في حمله لهمومه؛ فتكاد لا تجد إنسانا بغير عبء من الهموم ينقض ظهره، ثم تكاد لا تجد من بين هؤلاء واحدا لا ينسى همومه هذه بعد حين، لكنه ينساها ليضع مكانها أخرى! ماذا لو نظرنا إلى همومنا الحاضرة بنفس العين التي سننظر بها إليها بعد حين؟ إنك بعد حين يقصر أو يطول، ستذكر هذا الذي كان يهمك ويشغل بالك، فإذا به في عينك تافه حقير، فهلا وزنته بهذا المثقال نفسه الآن؟

لعل قارئي قد أتاه نبأ الصداقة التاريخية الشهيرة بين الدكتور جونسن، الأديب الإنجليزي الكبير، وزميله المعجب به «بوزول» الذي كتب كتابا في سيرة صديقه وأستاذه «جونسن» فأصبح كتابه هذا مثلا يضرب لأدب السيرة في أرجاء العالم كله، بل اشتقت اللغة الإنجليزية من اسم «بوزول» فعلا يدل على علاقة الإعجاب التي تقوم بين متبوع في الرأي وتابعه. فيقال: فلان «يبزول» لفلان؛ أي: يبدي له من الإعجاب ما يكاد يفنيه في شخصه. جاء «بوزول» هذا ذات صباح عابس الوجه إثر معركة كلامية نشبت بينه وبين صاحبة المنزل الذي كان يسكن في غرفة منه - والمعارك بين ربات المنازل والساكنين في بيوتهن معروف شهير متصل لا تنقطع أسبابه - فقال له «جونسن» حين سمع النبأ: اقض بخيالك يا سيدي اثني عشر شهرا، ثم انظر كم يبدو هذا الأمر في عينيك من تفاهة الشأن بعدئذ. ويذكر لنا «بوزول» هذه العبارة في السيرة التي كتبها عن زميله وأستاذه، ثم يعقب عليها بقوله: «لو أننا طبقنا هذه النظرة على معظم حوادث الحياة الصغيرة التي تثير الغضب في صدورنا، والتي تقلق طمأنينة نفوسنا قلقا شديدا؛ لكفينا أنفسنا كثيرا من الإحساسات المؤلمة. ولقد حاولت ذلك مرات عدة، فنعمت بأطيب النتائج.»

ولست أذكر اسم الأديب الإنجليزي الذي قرأت له مقالا ممتعا رائعا عنوانه «جبل الهموم» الذي يقول فيه: إن جماعة من الناس لاحظ بعضها على بعض أن كل فرد من أفرادها يحمل في صدره هما ثقيلا، فظنوا أن ما هو هم بالنسبة لهذا قد لا يكون هما بالنسبة إلى ذاك، على أساس الفكرة القائلة بأن مصائب قوم عند قوم فوائد. فاتفقوا على أن يخرجوا جميعا إلى قطعة أرض خلاء، حيث يلقي كل منهم بهمه، ثم يختار له بعدئذ ما شاء من هموم الآخرين، وتم ذلك. فألقيت الهموم من الصدور بحيث تكدس بعضها فوق بعض جبلا عاليا، وانطلق الأفراد بعد ذلك يختار كل منهم ما يحلو له من كومة الهموم، فإذا بكل واحد منهم يؤثر همه السابق على هموم سائر الناس، فيحمل همه القديم ويقفل إلى داره راضيا قانعا، يحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه ... وإنما يخيل إلينا أننا المنكوبون وحدنا، المهمومون وحدنا، وأن سائر الناس في راحة بال وطمأنينة نفس؛ لأننا لم ندخل صدور هؤلاء الناس، ولو تغلغلنا في ثنايا قلوبهم، إذن لعلمنا أن الناس في الهموم سواء، كل يحمل منها قسطا موفورا.

لقد ارتسمت على وجهي ابتسامة عريضة حين وقعت منذ أيام في إحدى المكتبات على كتاب حديث لكاتب أمريكي، عنوانه : «كيف تتخلص من عادة حمل الهموم .» وقرأت في مقدمته أسطرا قلائل، هي التي رسمت الابتسامة العريضة على وجهي. لكني لم أشتر الكتاب؛ لأني قلبت صفحاته فوجدتها مفعمة بالنصائح، وقد آمنت بعد خبرة حياتي الماضية أن ألف ألف نصيحة لا تساوي جناح بعوضة إذا قيست إلى أثر الخبرة نفسها. وإنما استثار ابتسامتي ما يقوله المؤلف من أنه حين أراد الكتابة في موضوع الهموم، ذهب إلى المكتبة العامة في نيويورك ليطالع الكتب التي كتبت في الموضوع نفسه. فأخرج من دليل الكتب الحرف الأول من الكلمة التي معناها «هموم» - وهو نفسه الحرف الأول الذي تبدأ به الكلمة التي معناها «دود» - فكم كانت دهشته قوية عميقة، حين وجد في المكتبة العامة ما يقرب من مائتي كتاب عن «الدود»، ولم يجد إلا عشرين كتابا في موضوع «الهموم»! وتساءل في عجب: أيمكن بعد ذلك أن نقول صادقين: إن الأدب تصوير للحياة، وإن الكتاب يعكسون اهتمامات الناس في مرايا كتبهم؟ إنني ما سألت إنسانا واحدا إلا وجدته «مهموما»، مع أني لو بحثت عمن يهتمون بأمر «الدود» لما وجدت إلا نفرا قليلا. فكيف نهمل موضوعا هو من حياة كل إنسان في الصميم؟! اسأل من شئت من الناس: كيف حالك؟ فإن أخلص لك في الجواب وزالت بينك وبينه الكلفة، أخذ يقص عليك همومه، على اختلاف الناس في تلك الهموم. فهذا همه صحته وما أخذ يتعاورها من أسباب العلة. وذلك همه ضيق ذات يده عما تقتضيه الحياة من نفقات. وثالث يشكو ما يعانيه من لؤم في طباع الناس. ورابع همه أبناؤه، فليسوا من النجابة أو من العافية؛ بحيث كان يتمنى ويشتهي. وخامس يحب فيضحك الناس من حبه مع أنه هو جاد فيه. وسادس وسابع وثامن ...

لماذا لا نعد أنفسنا لأسوأ حال؛ حتى إذا ما جاءت الحال خيرا مما توقعنا، انشرحت لها صدورنا واطمأنت نفوسنا؟ كم من مرة غيرت بدلتي، فلما دسست يدي في جيب سروالي وجدت عشرة قروش أو عشرين، كنت قد نسيتها هناك، فيكون لها في نفسي فرحة كبيرة ، كأنما عثرت على كنز دفين! لماذا ؟ لأن الحال الواقعة خير من الحال المتوقعة. توقعت جيبا خاليا، فإذا به يحمل في طيه القروش! ولا عبرة بعد ذلك قلت تلك القروش أو كثرت ... ترى أتكون فرحتنا بالحياة موصولة لا مقطوعة ولا ممنوعة، لو أننا رسمنا خطتها على هذا الأساس؟ أعني لو أننا توقعنا في كل موقف أسوأ حال ممكنة، فمهما جاءنا بعد ذلك من نزر قليل؛ كان في أعيننا فيضا غزيرا.

لو أنني جعلت من نفسي مقياسا لسائر الناس؛ لقلت في غير تردد: إن حركة الجسم أفعل أداة تزيل الهموم الجاثمة على صدر المهموم. أجلس إلى مكتبي فتتراكم في رأسي همومي، فأرتدي بدلتي وأنزل من فورى وأمشي مشية سريعة قوية، فإذا الرأس قد خلا مما كان به! ولا بد أن أرد الفضل في هذا إلى صاحبه؛ فقد كسبت هذه الحيلة البسيطة النافعة من «ثورو» منذ أعوام طوال، حين قرأت له موازنة جميلة بين حياة الإنسان وحياة الحيوان، وهو يفضل الثانية على الأولى. وكذلك ورد العلاج نفسه في إحدى قصائد «رديارد كبلنج»؛ إذ قال: إن الإنسان إذا ما نال منه الهم، فليس علاج حاله أن يجلس ساكنا أو أن يقطب الجبين وهو مكب على كتابه بجوار المدفأة، بل علاجه أن يحمل منجلا كبيرا ومجرافا، ويأخذ سمته نحو حقل أو غابة، ويظل يقطع النبت والشجر، ويجرف تربة الأرض حتى يقطر جسمه بالعرق. فإذا لم يؤد ذلك إلى زوال همومه؛ فلا أقل من أنه ينبت للناس خضرا قد يملأ بعض البطون الجائعة!

ورد ذلك كله على خاطري حين أخذتني الهموم هذه الأيام، «وتفلسفت» على نفسي ما شاءت لي قدرتي، فما رأيت في كل ذلك نفعا كبيرا ... فالظاهر أن الكلام شيء، والواقع شيء آخر!

سحر الكلام

لئن زعمت لك أن للكلام سحرا، فإنما أقصد السحر بمعنى الكلمة الدقيق، ولا أرسل الكلمة إرسالا على سبيل المجاز. فلكم شهدت بعيني رأسي أناسا أحلامهم أتفه من أحلام العصافير، ووهبهم الله نعمة الكلام المعسول. شهدتهم يتحدثون إلى هذا الرئيس، فيحكم لهم الرئيس المتزن العاقل برجحان التفكير ! وشهدتهم يتحدثون إلى تلك الفتاة فتحكم لهم الفتاة الحذرة المتريثة بخفة الدم، ثم تفتح لهم قلبها على مصاريعه! ولم يكن ذلك الرئيس عبيطا، ولا كانت هذه الفتاة حمقاء ... لكنه سحر الكلام! فوالله لو انفتحت لي أبواب السماء لأتمنى؛ لما تمنيت منك يا رباه إلا أن تهبني طرفا من حلاوة الكلام التي تستميل عقول الرجال، وتنفتح لها قلوب النساء ... ليت صديقتي تعلم أني كلما عدت إلى دارى بعد لقائها، جعلت أقرع نفسي تقريعا وأؤنبها تأنيبا هامسا لنفسي: كان ينبغي أن تقول هذا، ولم يكن ينبغي أن تقول ذاك. كيف يمكن - يا أحمق - لإنسان أن يظفر بقلب إنسان بغير حلاوة الكلام؟! وأذهب من جديد، معتزما مصمما، فإذا بالكلام الجميل الذي فكرت فيه قد أوصدت دونه الأبواب. وإذا باللسان يتلعثم، والقول يلتاث علي سبيله ... إنها طبائع، بل إنها نعمة الله يهبها من شاء، ويحرمها من شاء، بغير حساب.

ومتى كان الكلام بغير سحر؟ هذه شهرزاد قد سحرت السلطان بحلو كلامها؛ فإذا هو يبقي على حياتها ألف ليلة وليلة؛ لينصت إلى قصصها الجميل، الذي لولاه لطار عنقها بعد ليلة واحدة. بل نستطيع أن نعمم القول تعميما يشمل سائر النساء وسائر الرجال، فنقول إن سيادة المرأة على الرجل مرهونة بحسن كلامها؛ فما شهرزاد إلا واحدة تمثل جنسها كله، وما السلطان إلا رجل يصور كافة الرجال ... ومن يدري؟ لعل الله - جلت حكمته - قد وهب النساء ثرثرة الحديث من أجل هذا. فإذا ما عاد الزوج منهوك القوى مهدود الجسد بارد القلب جامد اللسان، فكيف تكون الحال لو سكتت الزوجة؟! الكلام وحده هو مفتاح القلوب، هو الذي يشيع في الهواء روح الود والمحبة. وإن كان ذلك كذلك؛ فما ينبغي لنا أن نعيب في المرأة انطلاق لسانها، وإنما العيب كل العيب ألا تكون كذلك.

إن الحياة الاجتماعية لتقتضينا - رضينا أو كرهنا - أن نتكلم حتى إن جاء الكلام خاليا خاويا لا يقول شيئا. فإذا جاءك ضيف، أو إن قابلك صديق؛ فحتم عليك لا مفر منه أن تتكلم، ولن يلتمس إلي الناس عذرا إذا أمسكت عن الحديث. وها هنا يتفاوت الناس تفاوتا فسيحا؛ فمنهم من «تدور أسطوانته» بغير انقطاع وفي أي لحظة شاء. ومنهم من يظل ينكت رأسه نكتا ليستخرج كلمة واحدة يقولها فلا يجد. وهذه الطائفة الأخيرة هي التي حل بها غضب الله ونزلت بها نقمة المجتمع! الكلام مع الناس واجب، ومن قصر في أداء هذا الواجب الاجتماعي، كان جزاؤه الإهمال، بل كان جزاؤه الكراهية والمقت. وإن أنس لا أنس يوما دخلت فيه على رئيس أطلب حقا ضائعا، واستقبلني الرجل استقبالا طيبا كريما، ولكن عز على نفسي أن أقف موقف الذي يطلب شيئا؛ فانعقد لساني، وزمت شفتاي، وسرت في جسمي رعدة، وظننت أن قد أصابني شلل. فعجب الرجل عجبا، وابتسم ابتسامة الذي لا يفهم، وذهب الحق الضائع مع الرياح أباديد؛ لأني حرمت نعمة الكلام! فقل شيئا من لا شيء. تكلم في غير معنى مقصود، وإلا نبذك الناس نبذ النواة. نعم إني أعترف لك أن الثرثرة الفارغة فن يحتاج إلى قدرة ومهارة - أين أنا منهما يا رباه؟! - لكنه فن واجب. وفي هذا الصدد يتندر الإنجليز عن فتاة لم يتقدم إلى خطبتها خاطب، وكاد أوانها يمضي. فقيل لها: العلة في انصراف الناس عنك هو أنك لا تتكلمين. تكلمي ثم تكلمي وتكلمي؛ ينجذب إليك الشباب انجذابا، فالكلام وحده هو أحبولة الصيد! وصممت المسكينة على أن تتكلم مع جارها في أول حفل للشاي عقدته صديقة لها، وجاء أوان الحفل وجلس إلى جانبها شاب كما تمنت، لكن أين في رأسها الكلام الذي أرادته؟! اللهم احلل من لساني عقدة وألهمني ما أقول! وأخيرا، وبعد جهد ولأي، قالت لجارها الشاب: أتحب القهوة غير مخلوطة باللبن؟ فأجابها الشاب بقوله: لا، وسكت! فرغ الحديث؛ فماذا تقول؟ وأعادت السؤال في صورة أخرى: وأختك، هل تحب القهوة غير مخلوطة باللبن؟ فأجابها: ليس لي أخت. ماذا تقول بعد ذاك؟ أعادت السؤال في صورة ثالثة: لو كان لك أخت؛ فهل كانت لتحب القهوة غير مخلوطة باللبن؟ فضحك الشاب وضحك السامعون سخرية. وحكم المجتمع على المسكينة بالطرد من حظيرته طردا لا رجعة لها بعده ... لأنها لم توهب نعمة الكلام!

للكلام سحر عجيب فطن إليه أقدم القدماء، فجعلوا للكلمات المعينة فعلا معينا، أو قل جعلوا للكلمات «أسرارا». فتستطيع - مثلا - أن تشفى من مرضك لو كتبت كذا وكذا، وحملت المكتوب معك «حجابا». وتستطيعين أن تظفري بحب حبيبك المارق إن قلت كيت وكيت، بل إن الجلمود الثقيل في سفح الجبل لينزاح من مكانه إذا نطقت بلفظة «سمسم»، كما جاء في بعض الأساطير. ولو كررت هذه اللفظة المعينة ألف مرة ساعة الفجر انفرجت كروبك.

إن من بين الآلهة المنقوشة في الهرم إلها اسمه «الكلمة»؛ ذلك لأن «الكلمة» لم تكن في عصور السحر رمزا نشير به إلى هذا أو إلى ذاك، لكنها قد تكون مصدرا لقوة تحرك النفوس، بل تحرك الطبيعة إلى حيث يريد لها الإنسان أن تتحرك. فإن جفت عيون السماء وأجدبت شعاب الأرض؛ ففي مقدورك أن تستنزل الغيث بكلمات، وإن حاربت العدو فقد تنتصر عليه بكلمات. ثم انظر إلى الخطيب وما يستطيع أن ينزله بنفوس السامعين من أثر! واذكر أن معظم الخطب القوية الفعالة لا تحمل ألفاظها إلا قليلا جدا من جيد المعنى، لكنه الكلام وسحره!

الحق أنك تخطئ أفحش الخطأ لو ظننت الكلام «حبرا على الورق» أو موجات صوتية يهتز بها الفضاء. إن كل كلمة كائن حي ينبض بالدماء الدائرة في عروقه وبالتنفس تهتز به رئتاه. كم ألف ألف من البشر قد ألقوا بأنفسهم في التهلكة من أجل كلمة! الحرية، الديمقراطية، الوطنية، وما إلى ذلك من كلمات تحرك بقوتها جحافل الجيوش ... إنها كلمات، لا أكثر ولا أقل. وبربك لا تقل إن هؤلاء الألوف إنما يزهقون أرواحهم في سبيل ما وراء هذه الكلمات من معان؛ لأني أراهنك بنفسي إن وجدت رجلا واحدا يفهم على وجه الدقة ما وراء هذه الكلمات من معنى. لست أشطح مع الخيال الجامح إن زعمت لك إن الكلمة من هؤلاء لها شخصية حية قد تكون أفعل وأقوى من شخصية الإنسان؛ لأن الإنسان لا يتحرك ولا يحرك إلا بفعلها.

وهل تظن أسماء الأشخاص - وهي كلمات - مجردة عن الحياة؟ إن اسمك جزء منك لا يتجزأ، تحب له أن يكرم وأن يعلو ذكره. إنك إذا قصدت إلى ساحرة، تريد بأحد عندها خيرا أو شرا، حسبك أن تذكر الاسم لينوب عن المسمى. والبدائيون - وأشباههم من الأمم المتحضرة - يكرهون أن تذكر أسماؤهم علنا. أرأيت كيف يخفي الزوج اسم زوجته والزوجة اسم زوجها؟ لأن الاسم ليس مجرد كلمة تقال ورمز يشير، بل هو في ذاته «شخصية» حية. ولا عجب أن ترى عامة الناس يطلقون أحيانا على أبنائهم أسماء ذميمة كريهة، إذا ما أرادوا أن يبعدوا عنهم رسل الموت.

إن كلمات اللغة قماقم مشحونة بالفكر والعاطفة، ويتكثف في بعضها تاريخ طويل؛ لذلك قد تربط كرامة الفرد أو كرامة الأمة كلها بكلمة أو كلمات ... وإن كان ذلك صحيحا بالنسبة للكلام يجيء كما اتفق؛ فما ظنك بالكلام الذي يبلغ أن يكون بيانا؟! ألا إن من البيان لسحرا.

النجاح والفشل

أصبت فشلا في أمر من أمري، فقلت لنفسي وأنا متزن الأعصاب هادئ التفكير: «لعله خير.»

وهذه العبارة التي قلتها لنفسي، كثيرا ما تدور على ألسنة الناس كلما أصابوا في أمرهم فشلا، وهم يعنون بها: «لعل هذا الفشل أن يكون نجاحا.»

وتوقع النجاح من الفشل فيه تناقض ظاهر؛ لأنه إن كان فشلا فيستحيل أن يكون في الوقت نفسه عاملا من عوامل النجاح؛ وإلا لكان الاسم هنا مطلقا على غير مسماه.

لكنه تناقض ظاهر. وأما المتعقب للأمور في بواطنها فقد لا يجد تناقضا بين فشل الساعة الراهنة ونجاح المستقبل القريب أو البعيد. وإني إذ أستعرض حياتي الماضية وحياة من أعرف من الناس لأستخرج عشرات من الأمثلة لحادثات كانت فشلا محققا في حينها، وإذا بالأيام تدور دورة سريعة وتخلف الظنون؛ لأن ذلك «الفشل المحقق»، في ظاهره قد كان في حقيقته نجاحا لا شك فيه. فحوادث الأيام سلسلة متصلة حلقاتها، كل حلقة فيها نتيجة لما مضى وسبب لما هو آت. ونتائج الحادثة الواحدة لا عدد لها، ولا تقف عند حد. وربما خيل إليك أنها حادثة عابرة قصيرة العمر جاءت لتوها ومضت لتوها. والحقيقة هي أن الحادثة مهما تكن تافهة؛ فقد تتسلسل نتائجها إلى أمد بعيد، فكأنما الحادثة الواحدة حجر ألقي به على صفحة ماء بغير شطآن، فتظل حلقات الماء تتسع وتتسع لغير نهاية معلومة. وما أصدق الكاتب الإنجليزي الذي قال: إنه يستحيل الحكم على إنسان بنجاح أو بفشل حتى يموت ويصبح جزءا من الماضي؛ لأنه مادام حيا فهناك احتمال أن يظهر بعض النتائج في مجرى حياته مما يغير الحكم عليه بهذا أو بذاك.

فهذه فتاة أعرفها، خطبها طبيب شاب، ولم تكن تتوقع أن يخطبها كل هذا الشباب المزدهر وكل هذا المستقبل المديد العريض؛ لأنها من أسرة متوسطة الحال، وليست على كثير من الجمال بحيث تفتن العقول وتسحر الألباب. لكن شاءت المصادفات أن يتصل ذلك الطبيب بأخ لها، وأن تكثر الزيارة بينهما وأن تكثر رؤيته لها في تلك الزيارات، ثم شاءت المصادفات لهذا الطبيب أن يفكر في الزواج في هذا الحين، وكلما فكر لم يثب إلى خاطره إلا تلك الفتاة ... فخطبها إلى أخيها. وقل ما شئت عن نشوة الفرح التي أخذت الفتاة وأهلها جميعا؛ لأن ما هو أبعد من الأحلام قد تحقق في مثل اللمح بالبصر! وراح أبناء الأسرة يتهامسون في عجب: فلانة خطبها فلان؟! وهنا كنت تسمع من تعليقات السامعين ما يبعثك على التأمل حينا، والضحك أحيانا.

واتفق على يوم تعلن فيه الخطبة وتلبس الخواتم في الأصابع، ويجيء اليوم المضروب، ويدعى أفراد الأسرة جميعا، ويصطفون صفوفا على الكنبات والمقاعد، وتدار أقداح «الشربات» وقطع الحلوى أشكالا وألوانا. ولم تكن أسرة الفتاة بقادرة على تلك النفقات كلها، لكن «العريس» صفقة رابحة جدا، ويستحق هذا كله وأكثر من هذا كله.

وما هو إلا أن جاء الخاطب الشاب وأبوه، ولم يكن في صحبته أم ولا أخوات؛ ما جعل العيون تتلفت والشفاه تهمس. لكن ما قيمة الأم والأخوات، بل ما قيمة الدنيا كلها، مادام «العريس» بنفسه وشخصه قد جاء؟ جاء في سيارته الخاصة، ولم يكن يخطر على رأس إنسان من محيط الفتاة أن تقف على بابها سيارة خاصة ... وما أسرع ما تشعر القلوب بالخطر حين يقبل! ما أسرع ما تخفق القلوب وتنبض خفقا غريبا ونبضا عجيبا حين يحس الإنسان بأنه قادم على كارثة قريبة الوقوع! لكن الإنسان في مثل هذه الحالات لا يزيد على قوله لنفسه ولأصدقائه الخلصاء: «إن قلبي يحس خطرا.» ثم يمضي فيها هو ماض فيه إلى آخر الشوط! أين أين هذا الإنسان الذي يزعم لنفسه ولنا أنه يسير في حياته وفق العقل والمنطق؟ أين هو لأضرب له ألف مثل ومثل على سير الإنسان في حياته مدفوعا كأنه الحجر الأصم ينزلق على سفح الجبل، لاحول له في ذلك ولا قوة، يدرك الخطأ في سيره، ويرى الخطر في طريقه، ثم يمضي فيما هو ماض فيه إلى آخر الشوط!

إذن، فقد أقبل «العريس» ولم يكن في صحبته إلا أبوه، وتلفتت الأعين وهمست الشفاه ورجفت القلوب إحساسا بالخطر. وما هو إلا أن أعلن الخطر عن نفسه وتبدى؛ ذلك أن الطبيب الشاب قد جلس مطرقا من هم ظاهر، وما هكذا يكون «العريس». وأما الوالد فما لبث أن نقر الأرض بعصاه، وأعلن أنه جاء ليعتذر عن إتمام الخطبة؛ لأن الظروف غير مواتية من بعض وجوهها.

وانفض كل شيء، وبكت الفتاة ما شاء لها البكاء، ورثت لحظها المنكود ما وسعها الرثاء، وكانت تشاركها أمها بكاءها ورثاءها حينا، ثم تعزيها عن مصابها حينا ... ومضى شهران، وخطبت الفتاة وتزوجت. وأما صاحبنا الطبيب الذي كانت الدنيا قد فتحت له آفاقا؛ فقد اندك صرح حياته في لمحة واحدة؛ إذ قرأنا في الصحف نبأ اشتراكه في جريمة؛ مما انتهى به إلى السجن حيث لا يزال في غياهبه. وقال قائل: إنه لم يجرم عن رذيلة مطبوعة في نفسه، لكنها الحوادث لفته لفا في أحابيلها وهو لا يدري.

وليس من شأننا الآن أن نعلم أكان الطبيب في حقيقة الأمر مذنبا أم بريئا. لكن الذي نكتب من أجله ، هو أن الفتاة وأهلها جميعا راحوا يغبطون أنفسهم على هذا الحظ الجميل الذي أفلتت به الفتاة من زوج كان على قيد أشهر قليلة من السجن ... وهكذا كان «الشر» «خيرا»، بل هكذا يكون الشر الظاهر خيرا في حقيقته في كثير جدا من الحالات.

وليس يمكن أن نجد تعبيرا عن هذا المعنى خيرا مما ورد في القرآن الكريم عما دار بين موسى والخضر عليها السلام:

قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا * قال إنك لن تستطيع معي صبرا * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا * قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا * قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا * فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا * قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا * قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا * فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا * قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا * فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا * قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا * أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا * وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا * فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما * وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرا (الكهف).

كم وجها عابسا من حقه أن يبتسم إذا عرف صاحبه أن ما ظنه فشلا قد أصابه إنما هو في حقيقة الأمر نجاح إذا قيس إلى نتائجه البعيدة؟! إن الإنسان قد يدرك عاملا واحدا من عوامل الحياة الجارية ويفوته ألف عامل. ثم تراه يحكم بما علم، وما خفي عليه واستتر كان أعظم. يقول الناس عن فلان إنه نجح في حياته وعن فلان إنه فشل، والنجاح والفشل لا يكونان إلا بالنتائج. والنتائج لا تقف عند حد؛ فكيف يمكن الحكم؟ لقد قيل عن هتلر في غضون الحرب: إنه نجح لأنه انتصر، ثم قيل: بل فشل لأنه انكسر. ثم قرأت مقالا منذ عام للسير بيفردج يقول عنه: إنه المنتصر حقا؛ لأن ألمانيا زاد سكانها في آخر الحرب عنهم في أولها، وستكون العبرة آخر الأمر بالسكان. وهكذا ستظل النتائج الجديدة التي تتكشف عنها الأيام تحملنا على تغيير حكمنا بالنجاح أو بالفشل كل يوم مرة.

وإن كان ذلك كذلك؛ أفليس جديرا بالإنسان العاقل أن يبتسم متفائلا لكل ما تجيئه به الأيام؟

الصداقة العابرة

كثيرون هم أولئك الذين كتبوا عن الصداقة والأصدقاء، فوفقوا وأجادوا. أذكر منهم على وجه التخصيص أرسطو وبيكن. لكني لا أحسب أحدا من هؤلاء جميعا قد كتب شيئا في نوع من الصداقة عجيب، يمر في حياة الإنسان مرور الأطياف والأحلام، فلا يستغرق أمده إلا ساعة أو ساعتين، أو قل يوما أو يومين، ومع ذلك تراه يترك في النفس أثرا قد يبلغ من الشدة والعمق ما لا تبلغه الصداقة الثابتة الدائمة.

وإنما أردت بذلك تلك الصداقة العابرة التي تنعقد أواصرها بين اثنين يلتقيان في قطار أو في فندق أو على شاطئ البحر، أو ما إلى ذلك من أماكن لا تتيح للمجتمعين إلا حينا قصيرا، حتى إذا ما بلغ القطار غايته، أو انفض الاجتماع حيثما كان، تفرق الصديقان، ولم يعد للصديق منهما شأن بصديقه. بل قد تنعقد أواصر هذه الصداقة العجيبة وتتوثق عراها، دون أن يعرف أحد من الصديقين اسم زميله!

وقد التقيت منذ قريب بطيف من هاتيك الأطياف العابرة، التقيت به في فندق أقيم فيه، حيث شاءت لنا المصادفات أن يكون مكانه في غرفة الطعام على نفس المائدة التي أجلس إليها ... أكلنا الوجبة الأولى معا، دون أن ينطق أحد منا بكلمة لأخيه. أما هو فإنجليزي نشأ وتربى على أن يلتزم حدود نفسه، لا يكلم أحدا ولا يتدخل في شأن أحد إلا إذا دعي إلى ذلك. وأما أنا ففي خلقي من هذا الالتزام شيء كثير، أضف إليه موجة مؤقتة من الكآبة وضيق النفس تغمرني، فلا تكاد تترك لي متنفسا أستنشق منه الهواء النقي الطليق. وهي بالتالي لا تدع لي من فسحة الصدر متسعا يفتح شهيتي لمبادلة الناس الحديث.

وجاء وقت الوجبة الثانية، وبدأنا صامتين، لكن الظروف لم تلبث أن دفعتنا دفعا إلى الكلام ... وما هو إلا أن أخذ الرجل يبدي إعجابه بالقاهرة؛ فقد جاءها زائرا لأول مرة، وتمنى لو أتيحت له الفرصة فيعمل فيها ويقيم. وهكذا بدأت سلسلة الحديث بيننا. لكنها سرعان ما غاصت بنا في أعماق نفسينا، وراح ينفض لي هذا الزميل شيئا من أخص خصائص نفسه؛ إذ أخذ يقص علي كيف نشبت خصومة حادة عنيفة بينه وبين أبيه؛ بسبب فتاة إيرانية أراد أن يتزوجها؛ التقى بها في أكسفورد حيث كانا يدرسان معا، وأحبها وصمم على الزواج منها، وأبوه لا يريد أن يتم بينهما هذا الزواج ... فكأنما وجدت في ذلك ذريعة كنت أنشدها منذ أيام. وجعلت بدوري أفرغ في أذنيه كلاما كان حبيسا في صدري، لم أبح به إلى أخلص الأصدقاء. واستمع الرجل إلي في صبر جميل واهتمام ظاهر، كأنه أراد أن يدرس أوضاع الأمور في مصر من حوادث قصتي. ومهما يكن من أمره في ذلك؛ فقد وجدت أنا في ذلك الصديق العابر متنفسا لحمم كانت تضطرب بين جنبي كما تضطرب النار في جوف البركان لتلتمس لها مخرجا.

لقد أخلصت الحديث لهذا الصديق العابر، وأوشكت ألا أبقي في صدري شيئا دفينا. كأنما كان الرجل قسيسا، وكأنما كنت آثما أراد أن يزيح عن صدره عبء إثمه بالاعتراف به في حضرة ذلك القسيس. ولو كان هذا الصديق العابر صديقا من أصدقائي الملازمين الدائمين؛ لقلت مما بنفسي شيئا وأخفيت شيئا.

فالصديق العابر في مثل هذا التنفيس والترويح خير من الصديق الأصيل الدائم؛ لأنه لا يعرف عنك إلا أنك إنسان يبادله الحديث. فلا شأن له بماضيك ولا حاضرك، لا شأن له بأصلك وفصلك وآمالك وآلامك ومطامحك ومطامعك ودخائل نفسك. فلا ترى وأنت تنفض إليه جملة حالك ما يبرر لك أن تكتم عنه من سرك شيئا ... إن موقفه منك كموقفك من الممثل، تراه على المسرح أو على الشاشة البيضاء؛ فلا تدري من أمره إلا ما يقوله في هذا الدور المعين من هذه الرواية المعينة، ولا شأن لك به بعد ذلك.

إن الصداقة الدائمة مهما بلغت من الشدة والعمق والإخلاص؛ فلا تخلو من تنافس بين الصديقين. بل ماذا أقول؟ أأقول في غير تحفظ إن التنافس لا يشتد إلا بين الصديقين؟ إن روح التسابق تكاد تنعدم وأنت غريب بين غرباء، ولا يكون تسابق وتنافس وتنازع إلا وأنت في دنياك الاجتماعية الخاصة. وما دنياك هذه إلا جماعة معارفك وأصدقائك؛ فلا غرابة - إذن - أن تجد من نفسك حافزا يحفزك على كتمان شيء من نفسك على أصدقائك الخلص؛ لأنهم - على شدة إخلاصهم لك وإخلاصك لهم - هم منافسوك. وليس من صالحك أن تطلع منافسك على كل سرك. أما الصديق العابر الذي لن يلازمك إلا ساعة أو ساعتين في قطار، أو يوما أو يومين في فندق؛ فلا يكون بينك وبينه سباق على شيء ولا تنافس في سبيل شيء. إنها ساعة أو ساعتان أو يوم أو يومان، ثم ينصرف كل منكما بعد ذلك إلى سبيله. فهو إذن خير متنفس للمكروب المغموم، وأفضل من يبثه الإنسان همومه وأحزانه.

عجيبة هذه الصداقة العابرة في سرعة نموها وسرعة ازدهارها. فكأنها شجرة وضعت في ظروف صناعية لتثمر فاكهتها قبل أوانها المعهود. كأنها شجرة لم تترك للعوامل المناخية الطبيعية تتولاها فتعينها على النمو مرة وتعوقها مرة، ولا تسمح لها على كل حال بطرح الثمر إلا بعد شهور معلومة، بل وضعت في بيت من زجاج ، نفخت فيه تيارات هوائية بدرجة الحرارة المطلوبة؛ فلم تجد الشجرة إلا العوامل المواتية المساعدة دون المعاكسة المعرقلة، فأسرعت نموا وإيراقا وازدهارا وإثمارا. نعم، إن هذه الصداقة العابرة عجيبة في سرعة نموها؛ فقد تبلغ بعد ساعات قليلة من الشدة وحرارة العاطفة ما لا تبلغه الصداقة في الظروف الطبيعية في أشهر وأعوام، وكأنما هي تعوض عن قصر أمدها بعمق شعورها، تعوض عن قلة اتساع السطح بزيادة العمق وبعد الغور.

وتدنو هذه الصداقة العابرة من نهايتها مسرعة؛ فيتولاك شعور فريد في نوعه، شعور افتراق لا لقاء بعده. هو شعورنا إزاء الموت، لكنه بدرجة أخف وألطف وأبعث للنفس على الخصب والفاعلية. تنظر إلى صديقك هذا الذي عرفته منذ حين قصير، والذي توثقت بينك وبينه الصلة على نحو أتاح لك فرصة تفرغ فيها كل ما يثقل نفسك من شواغل الهموم التي لا تجيز لنفسك أن تبوح بها لأحد من أهلك وأصدقائك. تنظر إليه بعين المتحسر على هذا اللقاء الجميل الذي لم يكد ينشأ حتى كان ختامه، تنظر إليه وصوت في نفسك يهمس متعجبا: هذا صديق لن أراه إلى الأبد.

لقد أمسكت عن الكتابة هاهنا لحظة؛ فأخدت تنساب في رأسي صور متلاحقة لأشخاص التقيت بهم هنا وهنا وهناك، ودامت الصلة بيني وبينهم ساعات أو أياما. اشتدت فيها العلاقة بيننا حتى امتزجت نفوسنا امتزاجا، واندمجت قلوبنا اندماجا، ثم تفرقت بنا سبل الحياة؛ حيث لا لقاء بعد ذلك إلى الأبد!

قابلت «م»، في قطار «السهم الذهبي» بين لندن وباريس، ولم نكد نبدأ الحديث حتى خيل إلينا أننا أصدقاء منذ أمد بعيد. جعلت أخبرها وجعلت تخبرني. كان حبل الحياة متصلا بيننا، ثم بلغ بها القطار غايته، ولعلي كنت أحس بهذه الخاتمة القريبة، ولعلها كانت تحس، فأخذت صداقتنا تتكثف وتغزر لحظة بعد لحظة، كأنما عز علينا أن يتبدد هذا اللقاء، فتشبثنا ممسكين بقبضتين قويتين على هذا الود الوليد، لعله يدوم. لكن القطار بلغ بها غايته وافترقنا إلى الأبد.

وقابلت غير «م» كثيرين وكثيرات هنا وهنا وهناك، وتوثقت بيني وبينهم أسباب الصداقة الحقة والود الصحيح. وها هي ذي ذكرياتهم تنساب الآن في رأسي متلاحمة، هذه أذكرها بابتسامتها، وهذا بعبارات معينة تحدث بها إلي، وتلك بنبرة صوتها ... كل هؤلاء قد ضربت الأيام بيني وبينهم إلى الأبد.

أليست هذه الصداقة العابرة - بكل ما تترك في نفس الإنسان من أثر يدوم عميقا مع الأيام - جديرة من الكاتب بالتحليل والتسجيل؟

قميص السعادة

يحكى أن رجلا ضاق بنفسه وضاقت به نفسه، ومل الحياة وملته الحياة، لا يكاد يستقر في مكانه من مأواه حتى يخرج هائما على وجهه في الطريق، ثم لا يكاد يهيم في الطريق على وجهه حتى يقفل راجعا إلى مكانه من مأواه. ولبث على هذا النحو حينا، فاشتد به القلق، ولم يعد في قوس الصبر عنده منزع.

وما هو ذات يوم إلا أن ضرب المنضدة أمامه بجمع يده، وقال لنفسه في لهجة حازمة جازمة: إما موت وإما حياة، كما يقول هاملت. إما موت يقضي على هذه الحياة الخيالية الخاوية الفارغة إلا من التافه السفساف، وإما حياة خصبة مليئة غزيرة بعيدة الأغوار ... فأما الموت فلست أشتهيه لنفسي. وإذن؛ فلا بد لي منذ اليوم أن أعيش، وأن أعيش سعيدا.

راح يفكر كيف السبيل إلى ذلك العيش السعيد المأمول، واستهدى الناس إلى هدفه المرجو سواء السبيل، فقال له قائل: الأمر هين ميسور، ابحث عن أسعد الناس عيشا وأحفلهم بالحياة، حتى إذا ما جئته؛ البس قميصه ساعة أو ساعتين، تكن مثله سعيدا محتفلا بالحياة.

وانطلق صاحبنا يبحث عنه في الحضر تارة وفي البادية طورا، يبحث عنه في القصور مرة، وفي أكواخ الريف مرة، حتى جيء به يوما إلى رجل شهد لنفسه وشهد له الناس من حوله أنه سعيد هانئ، لم يعرف قط في حياته كيف تضيق النفوس وتحرج الصدور ... فإذا هو عريان الجسد لا يملك قميصا!

عاد الرجل من سفره وهو يتدبر ما وجد وما رأى ... ها هو ذا الحق قد وضح أمام عينيه أبلج ناصعا، لم تعد السعادة في رأيه مشكلا معضلا. ففيم هذا الكلام الطويل العريض الذي ما انفك يديره الناس في أفواههم عن السعادة والحياة السعيدة؟ ... إن اللغز لم يعد لغزا. إن سر السعادة قد افتضح، سر السعادة في قلة الحاجات. فقل لي كم تتطلب لحياتك من حاجات؛ أقل لك كم أنت سعيد ... هي عملية حسابية أولية بسيطة: لو بلغت حاجاتك صفرا كانت لك مائة السعادة كلها. وتزيد حاجاتك فيهبط مقدار السعادة في نسبة عكسية دقيقة ... لم يكن ديوجنيس إذن هازلا حين اكتفى من دنياه ببرميل يقيم فيه. فلما جاءه الإسكندر العظيم يسأله: ماذا تريدني أن أصنع لك من معروف؟ أجابه: لا أريد منك سوى أن تبعد عني الآن؛ حتى لا تحجب ضوء الشمس.

إذا آمنت بأن ملابس الشتاء تنفعك في الصيف كذلك؛ فأنت أقرب إلى الحياة السعيدة ممن لا يتصور الحياة بغير ملابس للصيف وأخرى للشتاء. وإذا آمنت بأن غرفة واحدة تكفيك للنوم والأكل والجلوس والقراءة؛ فأنت أقرب إلى السعادة ممن لا يتصور الحياة بغير عشر غرف أو عشرين. وإذا آمنت أنك تستطيع بيديك أن تؤدي لنفسك معظم حاجاتك؛ فأنت أدنى إلى العيش السعيد ممن يستحيل عليه العيش بغير خدم وأتباع ... وهكذا قل في شتى جوانب الحياة وأوضاعها. •••

لكن ما أيسر القول وما أشق العمل؛ فأيسر اليسر أن تقول لنفسك: البس ملابس الشتاء في الصيف، واسكن غرفة واحدة، واصنع هذا وذاك بيديك، وامش إلى هنا وهناك برجليك ... أيسر اليسر أن تقول لنفسك: إن كان عبء الحياة ثقيلا على كاهلك؛ فانفضه عن نفسك بضربة واحدة وعزمة واحدة؛ تزح عن كاهلك العبء الثقيل الذي يبهظه وينقضه. أما أن تنفذ هذا الذي تنصح نفسك بفعله؛ فأمر دونه أقوى ما عرف البشر من مضاء الإرادة وقوة التصميم. وإن شئت فاقرأ للغزالي كيف كادت نفسه تتمزق إربا من شدة ما كان يعانيه من تردد، حين أحس الرغبة في اعتزال حياته المدنية بكل ما جاءته به من مجد وجاه؛ ليلوذ بحياة بسيطة ساذجة متقشفة زاهدة.

ولا أكتم القارئ أني في موقف شبيه بهذا: أحس رغبة عارمة في الانطواء والانزواء والاختفاء وخلع الحياة المعقدة، لألوذ بما هو أبسط وأخف من ألوان الحياة. لكن ما حيلتي إن عزت علي إرادة الغزالي وأمثاله؟ إنني أتمنى الآن أن أعيش أبسط العيش وأبعده عن التركيب والتعقيد. ومع ذلك تراني لا أصنع شيئا في سبيل التنفيذ، فلا أزال أتأنق في ثيابي، وأجعل منها شيئا للصيف وشيئا للشتاء، وهذا الثوب للنهار وذلك للمساء!

حيلتي إزاء ذلك كله هي حيلة العاجز، وقد اصطنعتها، ألا وهي التنفيس عن طريق القراءة. فأقرأ لرجل عاش هذا العيش البسيط الذي أتمناه، ووصف لنا أسلوب عيشه؛ فلعلي أستمتع على صفحات كتابه بحياة أتمناها ولا أقوى على تحقيقها. ومن يدري؟ فقد يكون هذا هو أنفس ما يقصد إليه الأدب كله من غايات، فيعيش الأديب للناس، بمعنى أنه يعاني حياة معينة ليقدمها مكتوبة، فيعيشها غيره وهو مضطجع على مخدعه مسترخي البدن مستريح البال!

وكان الكتاب الذي اخترته ليحقق لي ما أبغيه هو كتاب «وولدن» الذي وصف فيه الكاتب الأمريكي «هنري ديفد ثورو» حياته في الغابة التي فر إليها من وجه المجتمع الممقوت البغيض. وقد كنت أهم بقراءة هذا الكتاب منذ سنتين، وكانت تصرفني عن ذلك شواغل الحياة، حتى سنحت هذه الفرصة البديعة لقراءته. فها أنا ذا فيما يشبه الحالة التي دفعت «هنري ديفد ثورو» إلى هجر المجتمع فرارا من تكاليفه المرذولة وتقاليده الممقوتة. لكني لا أملك الشجاعة التي كانت له، فحققت له ما أراد من هروب؛ فلا أقل من أن أصاحبه في فراره وأنا مستلق على مخدعي!

ضاق «ثورو» بهذا التنافس الحاد العنيف الذي يتدافع الناس فيه بالمناكب؛ سعيا وراء أدوات العيش التي ألهتهم عن العيش ذاته. وفكر وتدبر، فلم يجد مهربا إلا الحد من حاجاته حتى لا يضطر إلى العمل إلا بضع ساعات قليلة. وهو في ذلك يقول: إن أوضاع الأمور يجب أن تنقلب رأسا على عقب. فبدل أن نسعى ستة أيام ونستريح في السابع، ينبغي أن يكون سابع أيام الأسبوع هو فترة العمل التي نكسب فيها رزق الحياة بالكدح وعرق الجبين. أما الستة الأيام الأخرى، فكلها يكون عطلة الأسبوع ، نستمرئ فيها حياة الوجدان والروح، ونستجلي فيها روائع الطبيعة في جلالها وجمالها.

لكن المدينة بالطبع لم تسمح له بمثل هذا الذي تمناه، ففر إلى غابة عاش فيها مع الحيوان الذي أحبه؛ لأنه أحب الحياة في شتى صورها ... وهل تظنه قد استراح في عزلته تلك من أعباء المجتمع؟ لا والله، بل ذهب إليه في مكمنه جباة الضرائب يطلبون منه ضريبة للدولة، فأبى أن يجيبهم إلى ما طلبوه؛ احتجاجا على سياسة الدولة عندئذ في إرغام العبيد الفارين على العودة إلى المزارع التي كانوا يعملون فيها لسادتهم، فقبض عليه وسيق إلى السجن. وهاهنا يروي أن «إمرسن» زاره في سجنه، وسأله: «ما الذي جاء بك إلى هنا يا هنري؟!» فأجابه: «العجيب هو أنهم لم يجيئوا بك أنت أيضا إلى هنا يا إمرسن!»

قرأت كتاب «وولدن» وتعلمت منه درسا لن أنساه ما بقيت على ظهر الأرض حيا. تعلمت ذلك الدرس من سؤال ألقاه «ثورو» على نفسه وأجابه لنفسه: ما الذي يبرر للإنسان أن يعيش حياته؟ - إنه لا مبرر للإنسان أن يحيا لحظة واحدة، إن ملك الدنيا بأسرها وفقد نفسه.

حمى الحياة

يروى أن آخر عبارة نطق بها سقراط قبل أن يطبق جفنيه عن نور الحياة، هي هذه: «يا أقريطون! إني مدين بديك لأسكلبيوس، فهلا تذكرت أن ترد علي هذا الدين؟»

وذلك أن الناس كانوا إذا ما ألم بأحدهم مرض، ثم عوفي منه، قدم ديكا إلى إسكلبيوس. فكأنما رأى سقراط نفسه وهو مشرف على الموت، بمنزلة من أصابته الحمى حينا، ثم زالت، فوجب عليه إذن أن يقدم الديك التقليدي إلى من تقدم له الديكة إثر الشفاء من المرض. والحمى التي أصابته في هذه الحالة ثم زالت، هي حمى الحياة.

والشبيه يذكر بشبيهه؛ فقد أمضيت ساعات من القلق الذي لا يستقر على قرار، أجلس إلى مكتبي ساعتين ثم أنهض إلى مقعد وثير في ركن الغرفة أستوي فيه لأسترخي وأستريح، ثم أمل الراحة والاسترخاء، فأعود إلى المكتب ساعة أو بعضها، ثم يعاودني القلق وأنتفض نحو النافذة أطل منها دقائق، ثم يغريني السرير بضجعة تقصر أو تطول. فمعظم حياتي أقضيه في غرفة واحدة لا أملك أثاثها. نعم قد يغريني منظر السرير بضجعة تقصر أو تطول حسب هذه السرحات التي أسرحها، أستعيد بها الماضي بكل مرارته، وأتوجه إلى نفسي فيها بالتأنيب والتقريع، حتى لأكاد أمزقها تأنيبا وتقريعا: لماذا لم تفعل هذا؟ ولماذا لم تقل ذاك؟ ... وأنتزع نفسي من هذه السرحات انتزاعا لأعود من جديد إلى مكتبي دقائق، وتقع عيني على بدلتي معلقة مدلاة كالمشنوق انتحارا، فأرتديها وأخرج إلى مكان قريب أحسو قهوتي إن كنت من النهار في ساعة الضحى، أو الشاي إن كان الأصيل.

حياة أرقة قلقة أعيشها كالمحموم يتقلب في الفراش بين جنبيه، هي التي ذكرتني بما يشبه الفكرة التي طافت برأس سقراط وهو يحتضر، مودعا الحياة ببسمة على شفتيه؛ لأنه رآها عندئذ مرضا، ورأى نفسه قد دنا من البرء والعافية. •••

لكني في ساعة من طمأنينة النفس أكتب هذه السطور لأقول لسقراط حين سخط على الحياة، ولأقول لنفسي حين سخطت على الحياة؛ لما فيها من قلق لا يعرف الرضا: لقد أخطأتما؛ فالحياة محببة لهذا القلق نفسه الذي لا يعرف الرضا. ولو حلت محلها سكينة الهدوء والقرار؛ لما كانت جديرة بالعيش. ولم يخطئ «ستيوارت مل» حين قال: «إني لأفضل أن أكون سقراط في قلق نفسه، على أن أكون مطمئنا طمأنينة الغر الأبله.»

ولولا هذه الشرارة المقدوحة التي تؤرق جنوب الناس، وتباعد بينهم وبين السكينة والهدوء؛ لكان الإنسان قطعة من طين لم تنفخ فيها النفخة التي تنقلب معها إنسانا قلقا طامعا طامحا. ثم لولا طموح الإنسان وأطماعه، لما كان هنالك ما يبرر ارتفاع السماء عن الأرض، ولا ما يبرر أن يكون الأفق بعيد المدى. فكلما دنوت منه خطوة تقهقر إلى الوراء خطوة؛ حتى لا ينقطع لك سير، ولا يخمد لك نشاط.

إنني لا أستطيع أن أعرف الحياة المتوثبة المتوقدة بخير من قولي: إنها عصيان الطبيعة، ولا أن أعرف الموت في خموده وهموده بأحسن من القول إنه الخضوع لقوانين الطبيعة. فالكائن الحي يعصي الطبيعة، بمعنى أنه إذا فرضت الطبيعة على الحجر أن ينحدر من قمة الجبل إلى أسفله مدفوعا بقانون الجذب؛ فللإنسان أن يعصيها ويصعد من بطن الوادي إلى قمة الجبل. وإذا فرضت الطبيعة على الحجر أن يتمدد لها إذا سخنت، وأن ينكمش لها إذا بردت، وأن تتفتت أجزاؤه هباء إذا شاءت له عواملها؛ فللإنسان أن يرغمها على البرودة له إذا سخنت، وعلى الحرارة إذا بردت، وألا يصيخ إلى ما تأمر به عواملها من تفتيت أجزائه ... إلا إذا مات!

والسكينة الهادئة هي إلى الموت أقرب، فقل لي كم يبلغ بك استقرار الحياة؛ أقل لك كم فعلت بك أسباب الموت. وقل لي كم أنت قلق؛ أقل لك إلى أي حد قد بلغت من سلم الحياة؛ فالقناعة - التي هي الرضا بما أنت فيه - كنز لا يفنى عند من خمدت في صدره شعلة الحياة. أما عند اليقظان الحي فهي والهزيمة شيء واحد. ودر ببصرك حيث شئت في جنبات الأرض، وفي أرجاء التاريخ؛ لتعلم علم اليقين أنه ما ذل أبدا من طمع، ولا عز أبدا من قنع.

ولئن صدق هذا القول على الأفراد مرة؛ فهو على الأمم أصدق ألف مرة. ولو شئت فاستعرض أمم الأرض جميعا. وإن شئت فاسترجع أمم التاريخ منذ فجر التاريخ؛ لتصل إلى هذه النتيجة الواحدة. وهي: أنه حيثما دبت الحيوية في جسم الأمة لسبب من الأسباب، أخذها القلق مما هي فيه، وراحت «تطمع» في غيره وتطمح إلى سواه، والعكس صحيح أيضا؛ أي إنه إذا قلقت أمة فاعلم أنها بهذا القلق في طريقها إلى الحياة بمعناها الكريم، الذي لا يكتفي بتردد الأنفاس في الصدور.

إن المادة الموات من دأبها دائما أن تتلمس في سيرها سبيلا لا تعترضه من عوامل المقاومة إلا أقلها. فاسكب على الأرض ماء، وانظر كيف يسيل. إنه لا يصعد من أسفل إلى أعلى، ولا يقتحم صخرة أمامه إذا استطاع أن يدور حولها، لكن الحيوية السليمة تبحث عن الصعب لتذلله، ولا تنفك أمام العقبات حتى يسلس قيادها. وهؤلاء هم أبطال الإنسانية جميعا؛ أنبياؤها وعلماؤها وقوادها ورجال الفن فيها. كان بوسع كل واحد منهم أن يقنع ويرضى ويغمض العين لينام ويستريح، لكن أحدا منهم لم يجد في القناعة عزة، وراح يطرد عن نفسه وعن أمته هذا الذل القانع، طامعا له ولها فيما هو أعز وأكرم.

وإذا كان ذلك كذلك؛ فكم يغيظك أن تسمع هنا وهناك هذه المقارنة السخيفة السمجة بين ما يسمونه شرقا وما يسمونه غربا. فيقال: قد عرف الشرق كيف يخلد إلى السكينة فهو نعيم، وأما الغرب فهو الأتون الذي يغلي بالحروب، وبالمعامل التي شغلت نفسها بإنتاج القنابل الذرية وغير القنابل الذرية من أدوات الفتك والتقتيل. لكني أرى هناك قلق الحياة الطامعة، وأرى هنا سكينة الموت. وإذا أخذت تدب فينا الحياة، فبمقدار ما نحن آخذون في سبيلنا إلى مشاركة الغرب في مثل قلقه واضطرابه ... فوالله لو خيرت بين أن أكون فردا في أمة تنتج القنابل الذرية أو أكون عضوا في جماعة تلقى القنابل الذرية فوق رءوسها؛ لما ترددت في الخيار لحظة. وبالطبع أترك للقارئ كامل الحرية يختار لنفسه ما يشاء.

فلئن كان هذا القلق الذي يدوخ منه الرأس، هو حمى الحياة التي سخط عليها سقراط، وسخطت عليها أحيانا، ويسخط عليها كثيرون؛ فقد أخطأنا جميعا؛ لأن مثل هذه الحمى هي التي لا نرجو لأنفسنا منها شفاء.

الآدمية الصحيحة

أهديها تحية إلى «قارئة»؛ فلرسائلها في نفسي أجمل الأثر وأعمقه. ***

كانت ليلة من شتاء إنجليزي برده زمهرير، تغوص الأقدام غوصا في أكوام الثلج وكثبانه، حين التمست طريقي إلى حفل راقص أقامته الجامعة في لندن. التمست طريقي إلى هناك بعد تردد طويل؛ إذ كنت في غرفتي جالسا أمام النار مستدفئا، فما كان أغناني عن التعرض لذلك البرد الذي يقرض الأطراف قرضا، ويأكل الأنوف والآذان أكلا.

ترددت طويلا، شأني دائما كلما دعاني داع للمرح والفرح، فعندئذ تتألب في ضميري أسباب الموانع والتعلات، ويظل عقلي يفند لي تلك الأسباب واحدا في إثر واحد، ويدفعني دفعا للأخذ من لذائذ الحياة بنصيب ... فإن وجدت الناس تدفعهم طبائعهم إلى اجتراع اللذائذ وعبها، لا يمنعهم عن ذلك أحيانا إلا صوت العقل فيهم؛ فإني على عكس ذلك؛ أتخوف بطبعي من الإقدام على متع الحياة، وأتردد طويلا كلما سنحت لي ظروفها، ثم لا يدفعني إليها إلا صوت من العقل ومنطقه!

التمست طريقي إلى هناك، ولم أكد أخطو داخل البهو خطوة أو خطوتين حتى شمل الدفء أطرافي، وعادت إلي حرارة الأحياء، بعد أن كدت أنقلب من برد الطريق عودا جف وذوى ... فالمكان دافئ جميل، وحسبي هذا الشباب النضير من فتيان وفتيات، يشع من حوله حرارة تستنهض من به ميل إلى قعود، لكني جلست هنيهة على هامش المرقص، لا أضرب بسهم في زحمته. جلست أنظر مفتونا بهذه الموجات المتناغمة المتهادية من الراقصين والراقصات ... إن أجمل شيء في الدنيا غادة في «فستان» السهر! فماذا تقول في مجموعة كبيرة منهن دفعة واحدة تراهن راقصات مع زملائهن من الشباب الفتي الوسيم؟!

وإني لأنظر تجاه الباب، وإذا الداخلة مرغريت - فتاة عرفتها من الجامعة - كانت تطمئن إلى حديثي، وأسعد بحديثها، فيا لفرحة قلبي حينئذ! لقد كنت أتوقع كل إنسان إلا هذه الصديقة؛ لأنها كانت تسكن ضاحية بعيدة مع أبويها، ولم تكن بها عادة التخلف إلى هذه الأمسيات الراقصة التي يقيمها الطلاب آنا بعد آن ... لكنها جاءت وفرحت لمجيئها. وما هي إلا أن أخذت تنفض إلي هم يومها. - جئت إلى الرقص على غير نية سابقة، فأعتذر عن ثيابي! كان وينبغي أن أكون بثوب السهر. - لا داعي لاعتذار منك عن ثيابك؛ فكل شيء رائع وجميل ... كأني بك لم تذهبي إلى الدار! - لا، بل ظللت هاهنا في المدينة، أبحث لي عن غرفة أسكنها. - ماذا تقولين؟! - نعم، فقد بلغت روحي الحلقوم من أبي. إن مصيبتي الكبرى هي هذا الفارق البعيد بيني وبينه في العمر؛ فلست في هذا كسائر الناس مع آبائهم. إنه تزوج من أمي وهو قريب من الخمسين، وكان يكبرها بخمسة وعشرين عاما، فلا عاشا سعيدين، ولا عرف كيف يعيش سعيدا مع أبنائه وبناته. إنه الآن يدنو من السبعين، وأنا في الثانية والعشرين ؛ فالتفاهم مستحيل بين عمرين يفصلهما خمسون عاما. فلأكبر ما شاءت لي الأيام، ولأنضج ما وسعني النضج، لكني ما زلت في عينه طفلة. - هوني على نفسك الأمر يا مرغريت؛ فأحسب هذا شأن الآباء في كل زمان ومكان. إن أعجب ما في الآباء أنهم لا يقررون لأنفسهم؛ هل يريدون لأبنائهم أن يكونوا كبارا أو صغارا؟ فإن تصرف صغيرهم كما يتصرف الصغير، قالوا له: إنك لم تعد صغيرا. وإن سلك لهم مسلك الكبار، قالوا له: تذكر أنك لا تزال صغيرا! ... لم تكن مسافة العمر كبيرة بيني وبين أبي، ومع ذلك فكنت إذا تصرفت تصرف الأطفال وأنا طفل فعلا، نهرني؛ لأني في رأيه ينبغي أن أصنع صنيع الرجال. وإذا تصرفت تصرف الرجال، وأنا رجل فعلا، غضب مني قائلا: لا تنس أنك في عيني طفل وستظل طفلا. الحق أني كم تمنيت لأبي أن يستقر في ذلك إلى قرار يطمئن إليه. - ليت أبي مثل أبيك، يعترف لي ولو مرة واحدة بأني رشيدة ناضجة، وينبغي أن أسلك سلوك الراشدات الناضجات. لكني عنده طفلة دائما ... لا، إن هذه حال لن تدوم بعد اليوم. لقد كان يصبحني بنصيحة، ويمسيني بنصيحة. فلما أحسست إزاء نصحه الذي لا ينقطع أني لا أكاد أملك من أمر نفسي شيئا؛ أبلغت أمي أن تنقل إليه نذيري بأني تاركة له الدار إن عاد ... وكف يوما ثم عاد! فكان لي أن أختار لنفسي طريق حياتي. ولا طريق عندي إلا ما يصون علي شخصيتي وفرديتي، بحيث لا تنطمس معالمها في شخصية أخرى. ونتيجة اختياري هي أني سأستقل منذ غد في غرفة وجدتها اليوم.

فهتفت لنفسي، وأنا أنظر لها نظرة الإعجاب، قائلا: تلك يا بنيتي هي الآدمية الصحيحة! •••

إن ذلك منك يا فتاتي هو الآدمية الصحيحة! والآدمية الصحيحة هي أن يتصرف الآدمي كما تصرف آدم نفسه، ومن شابه أباه فما ظلم. لقد جاء خروج آدم من الجنة رمزا لما يتفرد به الإنسان دون سائر الكائنات جميعا، وهو أن تكون له إرادة حرة يختار بها لنفسه هذا الطريق أو ذاك، وكان خروجه من الجنة أول عمل إنساني حر كتب السابقة لكل من أراد أن يكون حرا من بنيه. بل كان خروجه من الجنة أول عمل فيه تفكير؛ لأن التفكير كذلك هو في اختيارك لطريق دون أخرى، وهل تفكر الآلة كيف تسير؟ هل تفكر النحلة كيف تجمع الرحيق؟ أمام الآلة وأمام النحلة طريق واحد لا اختيار فيه. وإذن فلا فكر، ولا إرادة ثم لا كرامة. الإنسان إنسان؛ لأنه يفكر كيف يعيش هذه الحياة التي لا تقع له أبد الدهر إلا مرة واحدة!

كان خروج آدم من الجنة رمزا لتقرير الذات الفردية، كان أول خروج للإنسان على الطبيعة. وبالتالي أول خروج على القانون الذي يسد المسالك أمام الإرادة سدا، كان خروجه من الجنة أول خروج للإنسان عن محيطه، وانفراده ذاتا حرة تفكر لنفسها وتعمل وفق تفكيرها.

بل إن تبرعم الأفراد أفرادا هو معنى التطور في الطبيعة نفسها؛ فقد كان العالم كله سديما واحدا، فلما انفصلت عن السديم أجزاء، وقام كل جزء مستقلا بذاته، قلنا إن العالم بهذا قد تطور ... التطور في كل شيء هو السير من الوحدة التي تنطمس فيها الأجزاء، إلى التفكك الذي يبرز تلك الأجزاء أفرادا. فكان الناس في بدائيتهم يعيشون قبائل، كل قبيلة وحدة لا تعرف لأفرادها وجودا ولا وزنا؛ فالقبيلة كلها جسم واحد، ولها شيخ رئيس يسيرها كيف شاء، حتى إن اعتدى على أحد أفراد القبيلة معتد من الخارج، عدت القبيلة كلها أن الضر قد مسها جميعا. لكن المجتمع اليوم هو أقرب إلى أفراد تعاقدوا على العيش معا، لكل فرد منهم شخصيته، ولكل منهم صوته في انتخاب الرئيس.

تقرير ذوات الأفراد هو الهدف الذي تهدف إليه الحياة في خطوات سيرها. وليس مصادفة عمياء أن تكون العبادة عند الهمج البدائيين طقوسا جماعية، يؤديها أعضاء القبيلة معا؛ لأن الفرد لم يكن له وجود مستقل عن سائر الأفراد، ثم تطور الإنسان وتقدم، ونزلت شرائع السماء تقضي بأن تكون العبادة واجبا يؤديه الفرد بغض النظر عما يفعله في ذلك سائر الأفراد ؛ لأن الفرد أصبح مسئولا عن نفسه أمام الله يوم يكون السؤال، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه.

إن ما فعلته، يا مرغريت، هو الآدمية الصحيحة، الآدمية التي تفعل ما فعل آدم، حين فصم الروابط التي كانت تربطه بمحيطه، ما دام ذلك المحيط من شأنه أن يطمس وجوده. ترى هل ذلك ما أرادته الطبيعة حين جعلت ولادة الطفل مصحوبة بقطع الحبل السري الذي يصل الجنين بأمه؛ إيذانا من الطبيعة بأن هذا الوليد لم يعد جزءا من غيره، بل أصبح فردا يعد واحدا في عداد الناس؟

إن من طمس فردا من البشر، بحيث حرمه معالمه التي تميزه من سواه؛ قتل نفسا حرم الله قتلها. وقد يكون القتل بغير دماء تسيل! وليس أشد إهدارا لآدمية الإنسان من ذوبان وجوده في أسرته أو في أمته، بحيث لا يعود له وجود شخصي بارز ظاهر. وهل العبد الرقيق إلا إنسان أهدرت آدميته؛ حين جعلوا وجوده جزءا من وجود مولاه؟!

وددت يا فتاتي أن أذكر لك - لولا وطنية مني - كيف يتبرع الناس عندنا تبرعا بمحو أنفسهم. فيقول الواحد منهم - أستغفر الله فما هو في هذه الحالة بواحد - يقول لكبيره الذي يتملقه: أنا محسوب عليك؛ يعني أنه بذاته لا شيء. ويريد أن يحسب تابعا من الأتباع، وهو بذلك مغتبط سعيد!

وددت يا فتاتي أن أذكر لك - لولا كبريائي - أننا أمة تحسب بالحزمة لا بالعود؛ فأبناء العزبة كلهم - عند الوجيه صاحب العزبة - خلية واحدة تتبعه. والأصل عندنا في الأسرة، يا مرغريت، هو إما أن يكون الزوج كل شيء والزوجة لا شيء، وأن يكون الوالد صاحب الكلمة التي لا ترد، والأبناء في عينه هباء. وإما أن يفلت الزمام، فتصبح الزوجة كل شيء والزوج لا شيء، ويصبح الأبناء الصغار مردة طغاة والوالدون أتباعا.

الأصل عندنا، يا مرغريت، ألا يعيش فرد إلا إذا أكل في جوفه أفرادا. أما أن يعيش الأفراد جميعا في توازن واتساق كما تقوم أنغام الموسيقى ممتزجة متجاورة؛ فهو عندنا ضرب من المحال.

لكنى مستبشر؛ فنحن اليوم في رجة اجتماعية عنيفة قد أيقظت بعضا، وما تزال توقظ بعضا؛ ليعلموا - كما علمت - كيف يعيش الفرد آدميا كاملا.

عندما أطللت من النافذة

هذه المقالة تجربة أدبية قمت بها، وأريد عرضها على القراء ليروا رأيهم ... فمن أهم الاتجاهات الأدبية السائدة اليوم، اتجاه نفسي يريد للأديب أن يسجل مجرى خواطره كما تقع في شعوره، لا يتخير منها شيئا ليدع شيئا آخر؛ إذ لا تفرق هذه المدرسة الأدبية بين وقائع الحياة الشعورية، بحيث تجعل منها ما هو هام فيؤخذ ويسجل، وما ليس بهام فيترك ويهمل. ولا مانع عند أنصار هذا المذهب الأدبي من أن تأتي الخواطر مفككة و«تافهة»، ما دامت قد وردت على هذا النحو في رأس الكاتب ... ولم يتخير الأديب؟ إن الإشارة العابرة والفكرة الشاردة قد يكون لها مدلول لا يقل في خطره عما اصطلح الناس على تسميته بالفكرة المجيدة الجليلة.

في ذلك تقول الكاتبة فرجينيا وولف: «علينا أن نسجل الخواطر كما تقع في الذهن، وبالترتيب الذي تقع به ... مهما تكن من التفكك في ظاهرها ... إن الحياة لا تتمثل في الذي يسمونه فكرة عظيمة، بأكثر مما تتمثل فيما يزعمونه تافها حقيرا.»

وفي مثل ذلك أيضا يقول الشاعر الإنجليزي ت. س. إليت: «لتكن (كتابة الأديب) كالسحابة تزجيها الرياح الشمالية الشرقية منسابة في غير شكل.

حياة الإنسان مجموعة من حوادث عابرة.

لقد ملئت أيامنا بالتوافه الضئيلة.

يشغلنا هذا وذلك، ثم ذاك وما يتلوه.

يشغلنا ما قاله فلان هنا، وما قاله علان هناك، وما دار في ظن العم المكتهل.

نسأل: أمطرت السماء أو لم تمطر؟ ومتي أمطرت؟ هل عجنت الفطيرة بيضتين أو ثلاث؟» ... ...

فإن كان قوام حياة الإنسان من أولها إلى آخرها، هي هذه الخواطر؛ فلماذا لا تكون كتابة الأديب تسجيلا لسلسلة قصيرة أو طويلة من مجرى خواطره؛ لكي يصور بذلك نفسه أدق تصوير وأصدقه؟

ذلك ما تقوله هذه المدرسة النفسية الحديثة في الأدب. وقد عن لي أن أنسج على هذا المنوال مرة على سبيل التجربة ، فأسجل خواطري كما انسابت في مجرى الشعور فعلا، في أثناء فترة قصيرة قضيتها في شرفة غرفتي. •••

الهوة سحيقة والأرض بعيدة، بيني وبين الأرض سبعة طوابق 1 - 2 - 3 - 000 - 6 - 7. إن هذه الشرفات المتراصة في إطلالها على فناء المدرسة والكنيسة تشبه مقصورات الأوبرا. ما كان أروع المشية التي مشيتها مع «ك» في بهو الأوبرا بباريس، وكانت الأضواء لألاءة، وزحمة الناس يفوح منها العطر! ضاعت مني الفرصة التي سنحت لي حينئذ. إنها الآن سعيدة بمن هو خير مني ألف مرة. هذا الغسيل القذر المعلق في الشرفة المجاورة أقطع دليل على أن مدام «ح» عديمة الذوق. ترى هل عاد الرجل الأحمر صاحب الصدر المفتوح من رحلته؟ إن نافذته لا تزال مغلقة. يخيل إلي أن صديقته الجميلة في لهفة ترقبه. ما أكثر ما أحسست بالغيرة الخفيفة من هذا الرجل الأحمر الذي يسكن إلى جواري؛ لأنه قوي مليء بالشباب، ومدام «ح» معجبة به أشد إعجاب. 1 - 2 - 3 - 000 - 6 - 7، سبعة طوابق بيني وبين الأرض. مسافة هي الحد الفاصل بين الحياة والموت، هي بضع ثوان. بضع ثوان قليلة كفيلة لك أن ينسدل الستار على كل شيء؛ فلا عظيم ولا حقير بعدئذ، ولا نجاح، ولا فشل. كم حز في نفسي أن يكلمني «ع» وهو يركب السيارة، كأنما هو يخاطب حفنة من هواء! ساعة الكنيسة تدق، لماذا لا يضبطون هذه الساعة؟ فهي تضلل بما تقدم أو تؤخر من دقائق. دقيقة واحدة، لا، بل بضع ثوان هي كل ما يلزمك ليسكن في أذنك كل صائت ويسود كل شيء. إن هؤلاء الأطفال الذين يلعبون ويصيحون في فناء المدرسة لا يأبهون لدقات الساعة، إنهم لا يأبهون للزمن. لا يزال في الوقت متسع للنزول وشرب القهوة في مكاني المألوف؛ فربما أرى اليوم أيضا ذلك الرجل وتلك المرأة اللذين رأيتهما هناك. إنها فاتنة، ظلت طوال الوقت شاخصة ببصرها إليه مفتونة به. ماذا كان يعجبها في ذلك الجلف البدين؟ بوت ... بوت. بوق هذه السيارة الفخمة المسرعة دليل قوي على أن راكبها شاب يلهو بشبابه. قالت لي مرة إن عيبك هو هذا الهدوء . هب! تبدل نور المرور أحمر، ووقفت السيارة المسرعة، وتأخر صاحبها الفرحان عن غايته بضع ثوان، بضع ثوان تكفيك أن تلقي بهذا الجسد الثقيل إلى الأرض البعيدة. طاخ ... انتهى كل شيء! ما أجرأ الذين يزهقون أنفسهم عن هذا الطريق! إني أفضل النيل. لن أترك جسدي في العراء يراه هؤلاء الأطفال. مؤذن يصيح! من أين جاء هذا الأذان الذي أسمعه وليس على مقربة منا مئذنة ولا مسجد؟! أنا جائع. بقي على موعد الغداء ساعة ونصف ساعة. تلك الفتاة التي تسير على الطوار هناك بصدارها الأصفر وثوبها الرمادي وحذائها الأبيض. إنها مليئة بالشباب كما يبدو من سرعة خطاها، يا لخفة الشباب ورقته! إنها ستسبق الرجل الشيخ الملفف بعباءته. تصور هذا الرجل وهذه الفتاة زوجين! لماذا لم أحسم الأمر حين ازورت بوجهها أول مرة؟ أقسمت لي إنها لا تضمر السوء وصدقتها. كنت أخشى دائما أن أسيء إليها، فكيلت لي الإساءة لطمات بعد لطمات. اشرب يا نذل! اشرب! لو كان هؤلاء الناس الذين أساكنهم يكفون عن تقديم الفاصوليا والقرع مسلوقين على النحو الذي يفعلون! لا أحب أن أراهما في طبقي. لكل شيء في هذه الدنيا ثمن، جئت إلى هنا وأردت البعد عن وجع الدماغ، فلا بد لك أن تأكل هذا الخضار المسلوق الذي لا يحسنون طهيه. مسكين هذا الشاب اللبناني الذي شكا لي اليوم حبه المرفوض. مغفل! في الدنيا كثيرات سواها، ليتني ما تدخلت في أمر «أ»! ربما كنت سببا في شقائه، نصحته بما يرضي العقل، ناسيا أن العقل في هذه الأمور لا شيء. صياح الأطفال في فناء المدرسة يملأ الفضاء؛ أين لي شيء من هذا النشاط؟ كانت غاية في الرشاقة حينما رأيتها، لماذا خفق قلبي لها وما كان ينبغي له أن يفعل؟! يا بني، لا تتحدث حديث القلب؛ فهذه لغة الشباب ولم تعد شابا. ما أشد غرور «ش»! لو كنت أجد الشجاعة فأسيء إلى من يسيئون بمثل ما أساءوا! مدام «ح» تطل من نافذتها، جميلة لكنها ثقيلة الدم . غريب زوجها هذا، إنه مفتون بها ، لكنه لا يغار أبدا من الرجل الأحمر صاحب الصدر المفتوح! ترى ماذا أنا فاعل حين تصل «ر» قادمة من بلادها؟! إني أريدها ولا أريدها. إنها معتمدة علي في قدومها هذا، لكني خائف أشد الخوف من قدومها. هل أبحث لها عن غرفة في مكان بعيد! يعجبني ذكاؤها وثقافتها وسعة أفقها، لكن لا يعجبني كثير من طباعها. ترى هل تغير من طباعها في مصر؟ ليتها تفعل! إني خائف من قدومها؛ إنها تريد شيئا لا أريده أبدا. قلت لها في صراحة إني معتمد على عقلي. فقالت في لغة أصرح: وأنا معتمدة على غريزتي 1 - 2 - 3 - 000 - 6 - 7، سبعة طوابق - 8 - 9. التليفون يا مسيو «ح». كانت نغمة كلامها في التليفون أخاذة، لكنها إبليس في صورة البشر، إنها الشر كله في صورة إنسان، إني لأعجب كيف يكون هذا الشر كله في هذه الرقة كلها! الحمد لله، آه لو رددت الإساءة بإساءة مثلها! إذن لما عانيت شيئا من لذع الضمير الذي يؤرقني ويعذبني. لن أنسى أن أقول لمتولي حين أراه ساعة الغداء ألا يضع لي في طبقي خضارا؛ سأكتفي اليوم بالبطاطس واللحم. يا ليت لي شخصية مستر «ك»! رأسه فارغ مع أنه في الستين من عمره. لم أره عابسا مرة واحدة! قال لي مرة: أنا معجب بذكائك. قلت له: بل أنا المعجب بفرحك بالحياة يا مستر «ك». كان منطق الحوادث يحتم أن يتزوج من مس «ج»، لكن يظهر أن ذلك لن يحدث. خسارة مس «ج» هذه؛ قاربت الخامسة والأربعين بغير زواج، وفيها كل الصفات التي تجعل من المرأة زوجة صالحة! 1 - 2 - 3 - 000 - 6 - 7، سبعة طوابق بينك وبين الأرض. لكن الأطفال ما زالوا في الفناء يصيحون. كان العريس شابا وكانت العروس شابة. هو أكثر من العشرين قليلا، وهي أقل من العشرين قليلا. وهكذا يكون استقبال الحياة؛ وإلا فلا. أنا من ضيع في الأوهام عمره. ما الذي أعجب تلك المرأة في رجلها الذي لبثت شاخصة إليه ببصرها طيلة اليوم بعين المفتونة المعجبة؟ أوه! من يدريك؟ لعله معها في جحيم. الظواهر تخدع، وقد انخدعت بها أنت حتى شرقت وغرقت. حسبوني أبله ساذجا! هم مخطئون، لكن أمسكت عن الردود الصحيحة في المواقف المختلفة؛ فما ذاك إلا حياء لم يكن بلاهة ولا سذاجة. إن الماضي لا يعود، وجرحك لن يندمل إلى الأبد.

وضع العقل في غير موضعه

اكتبي إلي؛ فما أنا إلا مخلوق ضعيف، يفرح بالرسائل تأتيه، فرحة الأطفال بالحلوى.

اكتبي إلي ألف مرة، وارفعي الضواغط عن سن القلم. خففي بعض الشيء من الضوابط واللجم والشكائم التي تكبحين بها القلم إذ تكتبين؛ لعله ينساب انسيابا، فيمتزج بانسيابه قلب بقلب وروح بروح.

اكتبي إلي؛ فإني أقرأ الرسالة وأطويها، ثم أقرؤها ثانية وأطويها، ثم أحفظها في مكتبي؛ لأعود إليها بعد أيام، أو بعد ساعات.

وقد عدت إلى رسالتك لأقرأها مرة أخرى وأطويها، حين أحسست في القلب خفقة غامضة تناديني. لكني لم أكد أمسها بأصابعي، حتى وسوس لي العقل بالتأنيب، الذي ما انفك يوسوس لي به كلما نزت مني نزوات قلبي: يا بني لا تتحدث حديث القلوب؛ فهذه لغة الشباب، ولم تعد شابا ... إن من سلخ من دهره ما سلخت من دهرك؛ خليق به أن ينظر إلى الأشياء نظرة العقل، لا نظرة الهوى.

وخفقان القلب - عند العقل - اضطراب في دورة الدم، وهذا الخطاب - عند العقل - ورقة عليها نثار من مداد!

هكذا همس لي العقل عندما عدت إلى رسالتك أقرؤها؛ فارتعشت أصابعي، وبردت دمائي، وتندى جبيني بقطرات باردة؛ لأني رأيتني عندئذ تافها سخيفا، قد أفلت زمام عقلي من يدي، وأسلمت نفسي لما يشبه ترهات الشباب. فأعدت الرسالة مكانها؛ ليرضى العقل عني، وعرفت بعدئذ كيف أسكت القلب وأصرفه عن سخافات الصغار.

لماذا أنصت للعقل في نزوات الفؤاد؟

لا، عودي بربك فاكتبي إلي؛ فإن كان وضع الهوى في موضع العقل عيبا، فكذاك وضع العقل في موضع الهوى. •••

لكن أين يكون موضع العقل؟ وأين يكون موضع الهوى؟ هذا هو السؤال الذي تنزاح بجوابه مشكلات لا أول لها ولا آخر. فلو تحدد لكل منهما نطاقه؛ انحسمت أسباب الغضب عند الناس حين يقوم بينهم خلاف.

فأولا: لن يكون بين الناس اختلاف في مسائل الهوى؛ لأن الأهواء شخصية ذاتية بحكم تعريفها. وما هو ذاتي بطبيعته لا يكون موضعا لجدال؛ فإذا شعرت بالبرد ولم أشعر به، وإذا أحسست ألما ولم أحسه، وإذا استحسنت طعاما ولم أستحسنه؛ لم يكن هنالك ما يبرر أن نعترك أو نصطرع، فحالك خاص بك، وحالي خاص بي.

وثانيا: قد ينشأ بين الناس اختلاف في مسائل العقل، لكنه اختلاف يستحيل أن يؤدي إلى غضب أو حقد أو قتال. فإذا رأيت مثلا أن الضوء يسير في موجات، ورأيت أنه جسيمات تنفث نفثات متتابعة بينها فواصل، وإذا رأيت أن الخطين المتوازيين لا يلتقيان مهما امتدا، ورأيت أنهما يتلاقيان في اللانهاية، وإذا رأيت أن الصحراء يمكن إخصابها ورأيت استحالة ذلك؛ لم يمكن هنالك ما يبرر أن نعترك أو نصطرع، إلا اعتراك الحجة واصطراعها. وما سمعنا قط أن عالمين من علماء الرياضة أو العلوم الطبيعية قد انتهى بهما اختلاف الرأي إلى مبارزة بالسيف؛ ليكون الحق للغالب.

إنما ينشأ الغضب بين فريقين، وينشأ الحقد، وينشأ العراك والقتال، حين يختلط نطاق العقل بنطاق الأهواء الشخصية؛ فنخضع مسائل الهوى لأحكام العقل، ونظل في جدال يستحيل - بطبيعة الحال - أن ينتهي؛ لأن الأهواء لا تنتقل من شخص إلى شخص بالحجة، إنما تنتقل بالإغراء. فإن لم يجد إغراء؛ فلا سبيل إلى نقلها بالإقناع. ثم يستحيل أن يخلو اختلاف الناس في مسائل الأهواء من الغضب وثورة النفس؛ لأن أهواءك متصلة أوثق صلة بذاتك، فمن أنكرها عليك؛ فقد أنكر عليك وجودك كله وكيانك كله.

أعود فأقول إنه لو تحدد لنا على وجه الدقة أين يكون موضع العقل، وأين يكون موضع الأهواء؛ لانحسمت كل أسباب الغضب والخلاف في مسائل العقل، ولأنه لا وجه للمناقشة حين يكون الخلاف في مسائل الأهواء الذاتية.

بل إننا إذا حددنا على وجه الدقة، أين يكون موضع العقل، وأين يكون موضع الهوى؛ لما كان سبيل الاختلاف المرء مع نفسه هذا الخلاف الذي دب بين عقلي وقلبي، حين هممت بقراءة الخطاب بدافع من القلب، وأبى علي العقل ذلك لما فيه من سخافة ظاهرة.

وإذا كنت مثلا بصدد قياس البعد بين الشمس والأرض؛ فلا يجوز لهواي الشخصي أن يتدخل في أمري، حيث يقول لي: اجعله كذا ميلا واخلص من الإشكال. وكذلك إذا خفق قلبي لهذا الخطاب وأردت تلاوته مرة بعد مرة، فلا يجوز لعقلي أن يتدخل في الأمر قائلا: إنه لا ينبغي لك أن تحس هذا الإحساس إزاء ورقة انتشرت عليها قطرات من مداد.

لكن الناس يخلطون بين نطاق العقل ونطاق الأهواء، بل إن الفرد الواحد ليخلط بينهما، فيعترك الناس فريق مع فريق، ويعترك الفرد عقله مع قلبه. •••

ولو جاز لنا أن نقول إن ميدان العقل هو ميدان العلوم على اختلاف أنواعها؛ فهلا يجوز لنا أن نقول كذلك إن ميدان الأذواق الشخصية هو الفنون على اختلاف صنوفها؟ أظن ذلك.

فموقف العالم إزاء جبال الهملايا هو أن يصف صخوره ويقيس ارتفاعه وما إلى ذلك. حقائق لو خالفته في واحدة منها؛ لم يشعر في نفسه بدافع لمبارزتك بالسيف، واكتفى بمطالبتك أن تسافر إلى الهملايا كما سافر، وتصفه أو تقيس ارتفاعه كما وصف أو قاس.

أما موقف الشاعر أو الفنان بصفة عامة إزاء الهملايا؛ فهو أن يحس إحساسا خاصا، فيرهب جبروت الطبيعة مثلا، أو يحب الإقامة في غابات السفوح هناك، وما إلى ذلك. إحساسات لو خالفته في واحد منها، لم يكن ثمة سبيل إلى اتفاق بينكما. فإذا أحس هو جبروت الطبيعة بحيث عبدها، وإذا جئت أنت فأحسست إزاء الطبيعة نفسها بالاستهزاء والاستخفاف؛ فقد يؤذى في شعوره إيذاء يدفعه إلى حمل السلاح، فإما خشعت معه لما خشع له، وإما فناؤك أو فناؤه.

وليس كل من يحس إحساسا خاصا إزاء شيء يخافه أو يحبه بقادر على إخراج هذا الإحساس في كلمات إن كان أديبا، أو في ألوان إن كان مصورا، أو في حجر أو برونز إن كان نحاتا، أو في أصوات إن كان موسيقيا ... على أنه لا يجوز لك في كلتا الحالين - في حالة قدرة صاحب الإحساس على التعبير الفني، وحالة عدم قدرته - أن تجادله فيما أحس؛ وإلا كنت بمثابة من يضع العقل في موضع الهوى. كل ما لك من حق في هذا الصدد هو أن تذوق مذاقه أولا تذوقه، وكفى الله المؤمنين شر القتال.

ومن ثم كان أكبر اختلاف بين العلم والفن؛ أي بين الحالات التي يجوز لنا أن نحتكم فيها إلى العقل، والتي لا يجوز فيها ذلك، هو أن الأولى عامة يشترك في إدراكها الناس جميعا، لو أتيحت لهم وسائل الإدراك، والثانية خاصة يدركها صاحبها وحده. ولست أريد للقارئ أن يظنني مدافعا عن الاحتكام في النقد الفني إلى الذوق دون العقل؛ لأني على نقيض هذا الرأي. فأنت تنتج الفن تبعا لذوقك وهواك، وتتمتع بفن غيرك تبعا لذوقك وهواك أيضا، لكنك إلى هنا لست بناقد. أما إذا بدأت تنقد؛ فقد بدأت تناقش صاحب الفن في فنه، أعني أنك قد أهملت الجانب الذاتي الخاص في فنه؛ لأن ذلك يستحيل بطبيعته أن يكون محلا لمناقشة بينكما، وأخذت من فنه إطاره أو بنائه أو هيكله. فهذا وحده ما يصح أن يكون عاما بينك وبينه، وبالتالي ما يصح أن يكون محلا للمناقشة والنقد. •••

إنني حين كتبت مقالي «عندما أطللت من النافذة» لأسوقه مثالا على سبيل التجربة للاتجاه الحديث في الأدب، بل في الفنون عامة، وهو أن يسجل الأديب خواطره كما تقع له في مجرى شعوره بغير تفرقة بين ما يسميه الناس فكرة جليلة تستحق التسجيل، وما يسمونه فكرة وضيعة لا تستحق الذكر؛ لم أتخذ موقف المدافع عن هذا المذهب، لكني أردت عرضه وتطبيقه على سبيل التوضيح والتمثيل.

وتفضل أستاذنا الجليل الدكتور أحمد أمين بك فنقد هذا المذهب، لكنه جعل بعض نقده قائما على أساس أن الخواطر المنسابة كما اتفق؛ لا تتفق مع العقل؛ لأنها لا تفرق بين ما هو شريف وما هو وضيع من الخواطر، وأنها تهم علم النفس؛ لأنها تصور نفسية الكاتب أكثر مما تهم الأديب.

وإني وإن كنت لا أتصدى للدفاع عن هذا المذهب الأدبي بصفة عامة؛ فإنني لا أرى أن هذا الجزء من نقد أستاذنا أحمد أمين بك يهدمه؛ لأننا إن قلنا لأنصاره: إنكم لا تفرقون بين الشريف والوضيع من الخواطر؛ كان جوابهم حاضرا على أطراف ألسنتهم. وهو أن الرفعة والضعة من القيم الذاتية، التي لا سبيل إلى المناقشة فيها كما نناقش المسائل العلمية. إننا نصور لك نفوسنا كما هي على حقيقتها، فلك أن تحب هذه النفوس من أوصافها، أو تمقتها لأنها من نوع لا يعجبك ولا تميل إليه. وهل تقول للكاتب المسرحي: لا تصور في مسرحيتك إلا الشخص العظيم؟!

إن غاية ما ينشده الأديب بأدبه أن يصور نفوسا؛ نفسه أو نفوس غيره في ضوء خبرته. وكلما دنا تصويره من الحبكة التي تجعل النفس المصورة حية واضحة المعالم؛ كان أدنى إلى الكمال في فنه. ولا عبرة بعد ذلك أبدا للقيمة الخلقية لما صور، فلا تفاوت في القيمة الفنية بين تصوير الكريم وتصوير البخيل، أو بين تصوير الشيطان وتصوير القديس. المهم دائما هو صدق التصوير، وكما أنه لا وجه للاختيار على أساس خلقي بين شخص وشخص عند التصوير الفني؛ فكذلك لا وجه للاختيار بين خاطر وخاطر على هذا الأساس الخلقي.

وكذلك إن قلت لأنصار هذا المذهب: إن خواطركم المنسابة في مجرى شعوركم تهم عالم النفس أكثر مما تهم الأديب؛ كان جوابهم هنا أيضا على أطراف ألسنتهم؛ لأنهم سيقولون: إنها تهم الأديب وعالم النفس في وقت واحد، لكن من وجهين مختلفين: فهي عند الأديب صورة فذة فردة حية، وهذا كل ما يريد. وهي عند عالم النفس مثل يستطيع أن يضيف إليه أمثلة أخرى من الأدب أو من الحياة الواقعة؛ ليستخرج ما يريد استخراجه من قواعد وقوانين.

لكن أستاذنا الجليل الدكتور أحمد أمين بك يؤثر أن يكون الأديب مهتديا بعقله فيما يكتب؛ فيختار الطيب ويدع الخبيث. ويريد أنصار هذا المذهب ألا يكون الزمام هنا في يد العقل؛ لأنه ليس من اختصاصه، كما يقول أصحاب الدواوين الحكومية. فهل هم على حق في هذا التقسيم؟

الحق أني لو استطعت أن أضع حدا لاختصاص العقل في شئوني، لما عانيت في حياتي الخاصة كثيرا جدا مما أعانيه من صراع بيني وبين نفسي. وقد صدرت لك المقال بمثل يسير من هذا الصراع.

الأخلاق التي لا تزال بخير!

هذا قارئ من المنصورة، ذكي حصيف، قد كتب إلى «الثقافة» كتابا، يعلق فيه على مقالتي «عندما أطللت من النافذة»، التي عرضت فيها اتجاها جديدا في الأدب وفي الفنون عامة. فشرحت أساس المذهب شرحا موجزا، وأردت أن أزداد له فهما، وأزيد القارئ به علما؛ فأجريت له تطبيقا؛ إذ سجلت مجرى خواطري كما وقعت في تيارها الدافق؛ لأرى - وليرى معي القارئ - كيف يكون هذا المذهب في صورة عملية؛ فليس أصلح اختبارا للفكرة من تطبيقها.

وقرأ قارئ المنصورة الذكي الحصيف هذا المقال، فوقفت شعراته فوق رأسه على أطرافها جزعا وفزعا، ونهض من فوره، وحمل القلم ليرسل إلى «الثقافة» هذا «الخطاب المفتوح» يوجهه إلي، ويستهله بمدح أشكره عليه أبلغ الشكر وأوفره، ثم يعقب على هذا الثناء المشكور برأيه في مقالتي التي أسلفت ذكرها. ولو قد استطاع القلم أن يستقيم بين أصابعه ثلاثة أسطر كاملة، بحيث يجري في عربية صحيحة؛ لأفسحت الثقافة لرأيه مكانا رحبا فسيحا.

ولست أنوي بطبيعة الحال أن أناقش خطابه من حيث الرأي والفكرة؛ فكل ما في الخطاب دليل ناهض على أن أدنى ما أهبط إليه مع كاتبه هو أن أعلمه، وأرقى ما يرقى إليه معي هو أن يتعلم.

لكن الذي استوقف نظري في خطابه، بحيث حملني على الإغراق في الضحك أولا، ثم على الكتابة ثانيا، هو أن قارئ المنصورة الفاضل يرى أن مثل هذا الكلام الذي نشرته لو جاز أن «يستساغ» نشره في الصحف الغربية؛ فهو مما لا يصح نشره في صحافتنا؛ حيث لا تزال الأخلاق بخير، والفتاة بخير! بارك الله فيك يا مولانا، والله إن الدنيا كلها خير ما بقيت وما قرأت وما كتبت! •••

لست أدري إن كان قارئ المنصورة الذكي الحصيف قد سمع بكتاب كامل أخرجته منذ حين، وأسميته «جنة العبيط» ... وإذا لم يكن قد سمع به ، فإني أتقدم إليه خجلا متواضعا؛ لأنبه بأن العبيط الذي أردته بهذا العنوان، بل بهذا الكتاب كله، هو ذلك الذي يعيش ها هنا، ويتلفت حوله، حيث قد اجتمع كل ما أراد الله لعباده من نكد وبؤس في صعيد واحد، ويهتف لنفسه مع ذلك كله - ومن يدري؟ فلعله يهتف لنفسه بسبب ذلك كله! - أن الحمد لله رب العالمين؛ الذي هيأ لنا في بلادنا ما لم يهيئ لأهل الغرب المناكيد مثيلا له ولا شبيها.

إن العبيط الذي أردته - يا سيدي - بعنوان الكتاب، بل أردته بالكتاب كله، هو الذي يتلفت حوله في هذا البلد، ثم يرسل بصره المديد الحديد إلى ما وراء هذه البلاد، فإذا هو يطمئن نفسا وينعم بالا؛ لأن الله قد أراد لنا من الخلق المتين المكين ما لم يرد مثله لأهل أوربا الذين يخبطون في أدران الضلالة وأوحال المنكر والبغي!

أيسمح لي سيدي بذكر فقرة أو فقرتين مما ورد في ذلك الكتاب على لسان العبيط؛ إذ يتحدث وهو في جنته؟ قال العبيط: «أنا في جنتي الحارس للفضيلة أرعاها من كل عدوان، لا أغض الطرف عن مجانة المجان. والعالم حول جنتي يغوص إلى أذنيه في خلاعة وإفك ورذيلة ومجون. دعهم يطيروا في الهواء، ويغوصوا تحت الماء؛ فلا غناء في علم ولا خير في حياة بغير فضيلة. دعهم يحلقوا فوق رءوسنا طيرا أبابيل، ترمينا بحجارة من سجيل؛ فليس الموت في رداء الفضيلة إلا الخلود. إني والله لأشفق على هؤلاء المساكين، جارت بهم السبيل فلا دنيا ولا دين. أتدري ما معنى الفضيلة عند هؤلاء المجانين؟ معناها كل شيء إلا الفضيلة! فالنساء عندهم يخالطن الرجال، والنساء عندهم يراقصن الرجال، ثم النساء عندهم يعملن مع الرجال، وهن يقاتلن مع الرجال! أرأيت أفحش من هذا الإفك إفكا، وأقبح من هذا المجون مجونا؟! حدثني صديق أنه رأى هناك ذات يوم بعينيه، في مكان واحد من دكان واحد، قبعة وقبعا (وأراد بالقبع قبعة الرجل تمييزا للذكر من الأنثى؛ إذ لا يجوز عند أرباب الفضيلة أن يجتمع الرجال والنساء على لفظ واحد!) رآهما معروضين، لا يسترهما عن أنظار المارة إلا لوح من الزجاج، يشف للمارة عما وراءه. وأعجب العجب أن علامة واحدة من علامات الحياء والخجل، لم تبد على رجل منهم أو امرأة ... إلخ.»

هذه، يا سيدي، فقرة مما قال العبيط لنفسه؛ إذ هو يتحدث إليها في جنته. وأستأذنك في ذكر فقرة أخرى، وأقسم لك غير حانث إنني لا أريد بذلك إعلانا عن كتابي؛ فقد أنفقت عليه ما أنفقت، وأعطيته للناشر بنصف تكاليفه؛ ليضمن لي أن يباع لعله يقرأ، فينصت الناس إلى قول العبيط ... قال: «أنا في جنتي السمح الكريم، الذي ورث الجود عن آباء وجدود. فمن سواي كان أبوه يذبح الجمل والناقة ليطعم كل ذي مسغبة وفاقة؟ من سواي إلى حاتم ينتمي وبهذا العنصر الكريم يحتمي؟ وهل كانت صفات آبائي وأجدادي تذهب مع الهواء هباء، أو هي تجري في العروق مع الدماء دماء؟ ها أنا ذا أحنو على البائس عطفا وإن كنت لا أعطيه، وأذوب على المصاب أسى، وإن كنت لا أواسيه! وتبت يدا حاسد يقول إن أصحاب الحاجة عندي يستجدون ولا عطاء، والمعوزين أكفهم تنقبض على هواء. فقلب عطوف خير للفقير من قرش إنفاقه سريع، وفؤاد ذائب أبقى له من عون لا يلبث أن يضيع. إني أعوذ بالله من إنسان يفهم الإحسان بلغة القرش والمليم؛ تلك لعمري مادية طغت موجتها على العالم كله. ولولا رحمة من ربي، ورشاد من قادتي؛ لكنت اليوم في غمرتها من المغرقين! لقد أقفر العالم حول جنتي، فلا عطف ولا عاطفة، واستحالت فيه القلوب نيكلا ونحاسا. تعرفها بالرنين؛ لأنها لم تعد من لحم ودم! أهكذا يقوم كل شيء بالمال، حتى إحسان المحسن وعطاء الكريم؟! فالقرش والمليم هو معنى الإحسان في الغرب الذميم، الذي غلظت فيه الأكباد، كأنما قدت من صخر جماد. كم جامعة عنده أنشأها ثري؟ وكم دارا أعدها للفقير غني؟ كم منهم يلبي النداء إذا ما دعا الداعي بالعطاء؟ لا، بل إن هذ الغرب المنكود، ليسير إلى هاوية ليس لها من قرار؛ إذ هو يسعى إلى محو الفقر محوا ، حتى لا يكون لفضيلة الإحسان عندهم موضع! فاللهم إني أحمدك أن رضيت لي الإسلام دينا، وجعلت لي الإحسان ديدنا.»

معذرة سيدي؛ فقد أطلت لك الاقتباس من كلام العبيط، وما كان ينبغي أن أفعل ما دام العقلاء من حولنا كثيرين. لماذا نطيل الإنصات إلى هذا الأبله المجنون، والحق أبلج واضح؟ إن قبائل الغابات كلها قد أجمعت على أن الأخلاق لا تزال بخير ما دامت الفتاة بخير!

الطاغية الصغير

كتب هيجل - الفيلسوف الألماني في النصف الأول من القرن الماضي - يقول في مجرى عبارة له عن تطور الحرية: «... إن أهل الشرق لا يعرفون حتى اليوم (1840م) أن الإنسان حر لمجرد كونه إنسانا عاقلا. إنهم لا يعرفون إلا أن تكون الحرية لرجل واحد، ثم لا تكون حرية هذا الرجل الواحد إلا اندفاعه وراء نزواته ...»

وقد مضى على هذا الذي كتبه هيجل قرن أو يزيد، وتبدلت أحوال الشعوب الشرقية في كثير جدا من الجوانب والأوضاع؛ فصدرت لها الدساتير وقامت فيها مجالس النيابة، وما إليها من مظاهر الحكم الديمقراطي الذي يعترف الإنسان العاقل بحريته. ولا يقصر الحرية على رجل واحد يندفع وراء نزواته - كما يقول هيجل - لكنني رغم ذلك كله، ما كدت أقرأ لهيجل هذه العبارة، وأدير فيها الفكر، أو أديرها في الفكر بتعبير أصح، حتى تبينت صدقها إلى اليوم (1950م).

نحن أهل الشرق لا نعترف بالحرية إلا لرجل واحد من كل هيئة أو جماعة، ثم لا تكون حرية هذا الرجل الواحد إلا أهواءه ونزواته. هذا قول صادق في الأسرة المصرية الصميمة، وفي ديوان الحكومة المصري الصميم، وفي كل علاقة تنشأ بين جماعة من الأفراد كائنا ما كان شأنها ولونها.

المثل الأعلى في الأسرة المصرية الصميمة أن يكون الزوج صاحب الكلمة النافذة على زوجته، ثم أن تكون هذه الكلمة النافذة متقلبة مع أهوائه ونزواته.

فقد عرفت زوجين، أراهما يمثلان وجهة النظر المصرية تمثيلا صادقا دقيقا؛ فالزوج مستبد طاغية، والزوجة لا يطوف برأسها، ولو على سبيل الأحلام العابرة، أن تنكر على زوجها حقه في استبداده وطغيانه. كلاهما من الريف ، لكنهما أنفقا في حياة المدن أربعين عاما، وهما من الطبقة المتوسطة التي تعتقد أنها إلى أصحاب العوز أميل منها إلى ذوي اليسار.

جاءا إلى المدينة يحملان في أصلابهما تقاليد الريف كلها، أعني التقاليد المصرية الصافية الخاصة من أخلاط الثقافة الأوربية، ولم يكن للزوجة نصيب من التعليم كائنا ما كان. أما الزوج فيكتب ويقرأ ويحسب ويناقش ويجادل ويفكر على نحو يدعوك إلى الاعتراف بحدة ذكائه أكثر مما يدعوك إلى احترام دقة تفكيره وصدق خبرته.

كان للزوج حقوق على زوجته، وكادت تكون هي صفرا من كل حق إزاءه؛ فهو يحاسبها وهي لا تحاسبه. البيت بيته هو لا بيتها والأبناء أبناؤه هو، حتى ليوشك أن يظن أنهم أبناؤها بالمصادفة. من حقه أن يدعو من شاء من الضيوف، ولا وزن إطلاقا لقبولها أو رفضها. أما هي فيستحيل عليها استحالة قاطعة أن تدعو زائرا أو زائرة إلا بعد استشارته وموافقته.

وحدث في ليلة ليلاء من ليالي الشتاء، أن تأخر الزوج عن موعده المألوف، فنامت الزوجة ونام الأبناء، وكان أكبرهم في نحو العاشرة. حتى إذا ما انتصف الليل، نهض هذا الغلام - وهو الذي قص علي قصة والديه بعد أن شب واكتمل - نهض من نومه فزعا لأنه سمع أمه تبكي. وتسلل من غرفة نومه خائفا مرتعشا، مشوقا متطلعا، كان يرتعش خائفا لأن أباه في الدار، وحسبه هذا باعثا على الرعشة والخوف، فما بالك وأبوه هذا يقرقع بصوته غاضبا ثائرا؟! ثم ما بالك والغضب والثورة قد جاءا في هذه الساعة من الليل التي يسكن فيها الإنس وينشط الجن؟! وكان مشوقا متطلعا؛ لأنه يسمع بكاء أمه نحيبا قويا حزينا، ويود لو يعلم فيم بكاؤها في مثل هذه الساعة التي يخلد فيها المحزون فينسى حزنه في غمرة من أحلام الظلام، حتى تعود الشمس فتستيقظ لتوقظ في الناس أحزانهم من جديد؟!

وقف الغلام في ردهة الدار دقيقة أو نحوها، يتسمع. ويبني مما يسمعه قصة فاته نصفها الأول، وإذا بأبيه يناديه دون أن يراه . فأسرع الغلام إلى سريره ليجيب النداء من فراشه . وأجاب الغلام من مخدعه نداء أبيه، وجاءه مسرعا إلى حيث كان، وإذا بالغلام الصغير - وهو في العاشرة من عمره! - يرى عجبا ويسمع عجبا.

فقد عاد الوالد إلى الدار ومعه سمك، وأمر الزوجة التي استيقظت كالذاهلة الحالمة في تلك الساعة من الليل، أمرها أن تعد له من هذا السمك عشاء. وهمت الزوجة أن تعترض على هذا الأمر الشاق العسير، فكان ما كان من ثورة وغضب وصياح.

ولو وقف الأمر عند هذا الحد، لما كان في الأمر ما يقتضي الحكاية والرواية؛ ففي كل دار زوج يثور ويغضب ويصيح. لكن الرجل الطاغية، أقسم بالطلاق ليقذفن بالسمك في النيل! ومن ثم كانت دعوته للغلام الصغير أن ينهض من نومه ليحمل له السمك، ويصحبه في هذه الساعة من زمهرير الليل ... إلى النيل! والشر بعضه أهون من بعض، فخروج الصبي مع أبيه على هذه الحال أهون شرا من خراب الأسرة وانفصال الوالدين.

ويمضي الصديق في حكاية ذكرياته عن هذا الحادث العجيب، فيقول دفاعا عن أبيه: إنه كان مفرط الذكاء، ولولا اندفاعه لكان خيرا من ذلك حالا. ويروي كيف أن أباه قد أحس لذعا قويا من ضميره على ما فرط منه، وراح يلتمس لنفسه الغفران عند ابنه الصغير وهو يسير إلى جانبه يحمل مقطفا صغيرا، يحمله بيمناه مرة وبيسراه مرة، حتى لم يسع الغلام عندئذ إلا أن تدمع عيناه إشفاقا على أبيه!

ووصل الوالد والولد إلى مكان من ضفة النيل، وإن الفتى ليذكر جيدا كيف اضطرب جسمه كله عندئذ حين خيل إليه أنه يسمع حفيفا في أعشاب الشاطئ. وتوهم أن عفريتا من الجن قادم إليهما من مكمنه، لكن الوالد طمأن ولده، وتناول مقطف السمك، وقبله قبلة أحس فيها الغلام كل ما ينطوي عليه الوالد الطاغية من حنان الأبوة الذي استحال على طغيان الشرق أن يمحوه من القلوب.

تناول الوالد من ولده مقطف السمك وأفرغه في النيل عند شاطئه. ووقف قليلا، وعاد مع ابنه خطوتين، ثم رجع إلى كومة السمك يعيدها إلى وعائها، قائلا لابنه الغلام الصغير، إنه لم يعد يرى مانعا من أخذ السمك إلى الدار بعد أن نفذ اليمين. والغلام لم يفهم بعد ما تلك اليمين التي تدعوهما معا أن يخوضا في هذا البرد الشديد وفي تلك الساعة التي لا يخرج فيها الناس من بيوتهم! •••

لما قرأت قول هيجل إن أهل الشرق لا يعرفون إلا أن تكون الحرية لرجل واحد، وإن حرية هذا الرجل الواحد لا تكون إلا اندفاعه وراء نزواته؛ ارتسمت في ذهني صور لرجال ثلاثة، منهم هذا الوالد الذي قص علي الفتى قصته ...

بل إني بعد قليل من تفكير وتدبر وتذكر، لم ألبث أن أتبين أننا - أهل الشرق - قد أقمنا على أنفسنا من أنفسنا، في كل منعطف من طريق حياتنا، طاغية صغيرا.

غير مطلوب

ليس أشد مرارة على نفس الإنسان من شعوره بأنه غير مطلوب لذاته ولشخصه الذي يختلف به عن سائر الذوات والأشخاص؛ فالإنسان إنسان بمقدار ما ينفرد بخصائصه ويتميز من سواه. ومن وسائل التفرد والتميز أن توكل إلى الإنسان مهمة يشعر أنه وحده دون سائر الناس جميعا هو الذي يستطيع أن يؤديها. ومن ثم كان شعور الآباء والأمهات بالزهو بما قد عهدت إليهم الطبيعة من أبناء يقومون على تربيتهم، مهما لاقوا في سبيل ذلك من عناء، ومن ثم أيضا تولد الشعور عند من لا ولد له يرعاه بأنه تافه القدر قليل الشأن إذا قيس إلى من له ولد. وعبثا يحاول الناس إقناعه بالمنطق والأرقام أنه مستريح البال موفور المال بسبب عقمه؛ فالشعور بالخلاء يملؤه ويطارده، واستخفافه بقيمة نفسه ما ينفك يتابعه ويلاحقه؛ لأنه يعلم أنه غير مطلوب لذاته. وقد يكون البنون زينة الحياة الدنيا بهذا المعنى؛ فالحياة الدنيا نسيجها من التوافه، ولا تنقلب هذه التوافه شيئا له قيمة في عينيك إلا إذا أحسست بمهمة تعتمد عليك أنت دون سواك. وإذن فلا عجب أن يقول لنا رجال الإحصاء إن حوادث الانتحار أكثر في غير الوالدين منها في الوالدين.

وأقسى ما تقسو به على إنسان هو أن تشعره بأنه غير مطلوب لشيء مما يستطيعه هو ولا يستطيعه سواه. ولعل هذا بعينه هو ما اتخذه الناس أساسا لتقسيم الأرزاق بينهم منذ أقدم العصور؛ فأجر العامل يزداد كلما ازدادت فيه العناصر التي تجعل العمل متعذرا على غيره، ويقل كلما قلت فيه هذه العناصر بحيث يستطيع كثيرون أداءه. فإذا سأل سائل: لماذا يتقاضى الكناس أجرا أقل مما يتقاضاه الطبيب؟ كان الجواب هو هذا: ليس في عمل الكناس ما يجعل صاحب العمل مطلوبا لذاته. بمعنى آخر: ليس فيه ما يجعل الكناس فردا متميزا من سائر الأفراد. أو إن شئت فقل: ليس فيه ما يجعله إنسانا بمعنى الكلمة الدقيق. إذا كان معنى الكلمة الدقيق هو التفرد والتميز بخصائص لا تتكرر في سائر الأفراد، وهكذا يظل أفراد الناس على تفاوت في أقدارهم بمقدار ما فيهم من تفرد في الخصائص، حتى تبلغ القمة في النبي الذي يبشر بدين جديد، أو العالم الذي يكشف عن قوانين الطبيعة، أو الفنان الذي ينظم أو يعزف أو يصور أو ينحت على نحو لا يشاركه فيه غيره من الناس.

إذا فقدت الجماعة رجلا مطلوبا لذاته؛ فقد فقدت شيئا لا يعوض بسواه، أما إذا فقدت رجلا يعمل ما لا يعجز عن عمله الآخرون؛ فكأنما هي لم تفقد شيئا، ولم يتغير منها إلا أرقام السكان والوفيات. ومن لطف الله بالناس أن غرز فيهم غريزة تميل بكل إنسان إلى الوهم بأنه يؤدي ما يستحيل على غيره أداؤه. فكم من رجل يصادفك ويحكي لك عن نفسه ما يوهمك بأنه لولا قيامه بعمله على النحو الفريد الذي يقوم به، لوقفت العجلات وتعطلت الآلة عن المسير! وهو مخلص كل الإخلاص مع نفسه حين يتوهم، وحين يوهم، بأن الفراغ الذي يشغله يستحيل على سواه أن يملأه، ولا يكاد يتصور كيف تكون الحال؟ بل كيف تكون الحياة كلها بغيره؟ ذلك لأنه يريد من صميم طبيعته أن يشعر بأنه مطلوب لشخصه. وهيهات أن يتنبه الواهم أن الأفراد تموت، وأن الناس يزولون عن أماكنهم أو يزالون عنها، ومع ذلك فالآلة ما زالت تدور!

ولست في الحق أدري ماذا يصنع معظم الناس بأنفسهم إذا ما زال عنهم هذا الوهم بحيث تبينوا في وضوح بأن الواحد منهم فرد يغني عنه أي فرد سواه؟ لقد سألت نفسي متعجبا: كيف يطيق الكمساري في الترام حياته، وهي عملية واحدة سخيفة آلية متكررة! فهو منذ الفجر إلى ما يقرب من منتصف الليل يأخذ من الناس الملاليم ويعطيهم التذاكر! وكيف لا يبرم السائس في حظيرة السيارات بحياته، وهو ممسك بخرقته طوال النهار والليل ينظف كل سيارة داخلة وكل سيارة خارجة. وهذا البواب الذي يجلس طوال يومه في مكان واحد لا يعمل شيئا، ماذا يجد في حياته ما يجعله يمسك بها ويتشبث؟! ... ولما أخذت أستعرض أنواع الناس في خاطري متعجبا كيف لا يحسون بتفاهة أنفسهم؛ لم ألبث أن اتجهت بفأسي نحو نفسي! لقد شاء لي الله أن أتعلم الفلسفة وأعلمها. ولست أخفي على القارئ قلقا شديدا يساورني في قيمة ما تعلمت وما أعلم. أليست قافلة الحياة بمستطيعة أن تسير بغيري؟ لم أعد أومن بقيمة هذا الذي أعرفه والذي أرتزق بتعريف الناس إياه. لو كنت نجارا أو حدادا لتصورت أن ينقص العالم عددا من النوافذ أو المفاتيح لو لم أصنعها أنا، لكن العالم لا ينقص شيئا إذا نقص رأسا فيه خليط مما قاله الفلاسفة! لن تغلق نافذة كانت مفتوحة ولن تفتح نافذة كانت مغلقة. لن ينهدم بناء كان قائما أو يقوم بناء كان منهدما ... وإني لأعجب الآن كيف شكا إلي زميل من الزملاء يوما أنه لا يكسب ما يكسبه ممثل هزلي معين، مع أنه يعرف وهذا الممثل لا يعرف! وأنا الآن أعد الضحكات التي أضحكها هذا الممثل للناس؛ فأعلم كم ينتقص من بشر الناس لو زال عنهم. لكني لا أعرف والله ماذا أعد لأعلم مقدار خسارة الناس إذا زلت عنهم، أو زال من هو مثلي في نوع ما يعلم وما يعمل!

ألا ما أشدها من مرارة على النفس أن يعلم الإنسان أنه غير مطلوب لذاته! إني لأفهم جيدا موقف الجندي الحارس الذي وقف يحرس قصر الملك، والذي يروي عنه الناس قصة ليضحكوا. فيقولون إن أم هذا الجندي الحارس قد جاءت من الريف تزور ابنها، وقد كان أوهمها أنه في المدينة ذو خطر عظيم. جاءت أمه تزوره، وحلا لها أن تفاجئه في مكان عمله، فإذا هي ترى ابنها واقفا لا قيمة له ولا شأن به. فسألته ساخرة: أهذا كل ما تؤديه في حياتك من عمل؟ فعز على الجندي أن يكون تافها في عين أمه، ونفخ في بوق الخطر، فازدحم المكان في مثل الغمض بالعين بألوف وألوف جاءوا مسرعين شاكي السلاح. وابتسم الجندي قائلا: انصرفوا، لا خطر هناك، إنما أردت أن ترى أمي من يكون ابنها!

هذا شعور صادق، يختلج مثله في نفوسنا جميعا، فليس ألصق بطبيعة الإنسان من حاجته إلى أن لم يكون مطلوبا. ولست أدري - لو تعرضت لمثل هذا التحدي الذي تعرض له الجندي الحارس - في أي بوق أنفخ لترى أمي من يكون ابنها؟! آه لو تذرع الناس بالشجاعة! إذن لبتروا بترا سريعا كل هذه الدراسات النظرية التي يحملها أصحابها عبثا في رءوسهم، ثم لا يجدون سبيلا للرزق إلا أن يحملوها لسواهم! ثم يذهب بهم الغرور بعدئذ إلى حيث يسلكون أنفسهم في زمرة من يعلمون، ويطالبون بألا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون!

ومن لطائف النفس البشرية أن الإنسان إذا ما تبين في جلاء لم يعد يحتمل عنده شك أنه غير مطلوب. اعتزل الناس إنقاذا لنفسه، لأنه سيوهم نفسه عندئذ أنه هو الذي لم يعد بحاجة إلى الناس، وأنه يستطيع الاستغناء عنهم. ومن أشق الأشياء على نفسه أن يدرك أن الناس قد أهملوه إهمالا وأسقطوه من حسابهم؛ فأقسى ما تقسو به على أحد هو أن تهمله، فلا يظفر منك بحب أو كراهية. فليست الكراهية هي آخر درجات الأذى؛ لأن كراهيتك لشخص تحمل في طيها احترامك له وتقديرك إياه. ولولا أنه ذو وزن في اعتبارك - مهما خف ذلك الوزن أو هان - لما خصصته بشيء من عواطفك، والكراهية جزء من تلك العواطف. أما أن تهمله وتسقطه من الحساب جملة واحدة؛ ففيه إلغاء لوجوده ومحو لكيانه وإهدار لآدميته كلها. وماذا عسى أن يصيب الإنسان من الإيذاء ما هو أقسى من المحو والإلغاء؟!

سيجار

صادقته أيام الدراسة وما يزال أصدق الأصدقاء. لم تغيره أحداث الزمن مدى ربع قرن كامل؛ فهو وديع متواضع، تشيع في محياه معاني السكينة والسلام والاستسلام والرضا، وتلمع عيناه دائما ببريق فيه لمعة من البشر، ولمحة من عمق النظر. فما أعرف في الدنيا أحدا يجاريه أو يدانيه في اجتماع الذكاء النادر والخلق القويم؛ فقد أجد من معارفي الذكي الملتوي، وقد أجد منهم صاحب الخلق القويم الذي حرمه الله نعمة الذكاء النافذ. أما أن يجتمع الجانبان معا في شخص واحد؛ فأندر النوادر، وصاحبي هذا من الفئة القليلة النادرة.

في شخصه سحر عجيب يجذب إليه القلوب في غير مشقة ولا عسر؛ فما إن تهيئ لك الظروف اتصالا به بضع ساعات؛ حتى تهفو نفسك للقائه دائما. وإنك لتعجب أن ترى بين أصدقائه الموظف الصغير والمهندس والضابط والطبيب والمدرس، والمصري والأجنبي، والمثقف والجاهل، والمتفرنج والبلدي، والكهل والشاب. فإذا هو مع كل هؤلاء صديق وفي حبيب، لا يتكلف أبدا في حضرة أحد من هؤلاء جميعا، كأنما ركب طبعه من طباع مختلفات، يبدي منها أيا شاء في أي وقت أراد. ولعل السر في سحره العجيب هو البساطة الجميلة التي تطبعه من الألف إلى الياء، فلا تأفف ولا تكلف، ولا تأنق ولا تصنع، ولا عجرفة ولا تكبر، ولا تصغير لكبير ولا تكبير لصغير، كأنما خلق هذا الرجل ميزانا حساسا دقيقا للمواقف والرجال، يزن كل شيء بمثقاله؛ فلا حيف هنا ولا إسراف هناك.

كل شيء يبدو طبيعيا فيه، فإذا بدا في عينيك عظيما فلأنه عظيم، وإذا بدا صغيرا فلأنه متواضع متسامح كريم، صادق القول وصادق الطبع، لا زيف ولا خداع فيما يقول أو يفعل. وقد تضطره ظروف الحياة أن يخفي عن الناس أمرا من أمره. فعندئذ تراه يؤثر الاختفاء عن الناس حينا؛ حتى لا يتورط في كذب لا يتفق وطبيعته.

هو جاد إن أردت الجد، وهو هازل إن أردت الهزل، فليس فيمن أعرف من الناس أكثر منه جدا، وليس فيهم أكثر منه هزلا ومزاحا، متفائل دائما مستبشر دائما، ينظر إلى الجانب اللامع من كل شيء. فلو نظر الناس إلى كوب مليء إلى نصفه بشراب الليمون، وقال بعضهم متشائما: إن الكوب فارغ إلى نصفه، وقال بعضهم متفائلا: إن الكوب مليء إلى نصفه، كان هو في طليعة هذا الفريق الثاني. فهو سعيد بحياته سعادة الرجل القوي السليم المعافى الذي رزقه الله جهازا عصبيا أسلاكه من الصلب الصليب، لا تهزه العواصف القواصف؛ فقد تنزل الفوادح، وإذا هي على هذا الجهاز العصبي السليم توافه لا تلبث أن تمر وتمضي.

خرج صديقي هذا على بساطة طبعه مرة، أراد منها التفكه والمزاح، وذلك حين التقت جماعة الأصدقاء منذ قريب، كما تلتقي يوما من كل أسبوع، فإذا صاحبنا يخرج «سيجارا» ضخما طويلا، أشعله وراح يدخن، فضحكنا جميعا، وضحك هو مع الضاحكين. وسأله سائل: ما هذا؟ فأجابه ساخرا من الدنيا، أو إن شئت فقل أجابه فرحا بالدنيا: أفعل ما يفعل العظماء ...

ومضت بعد ذلك أيام، وجلست مع صديقتي، وأخذنا نفرع الحديث بيننا ونشققه، ثم سادت لحظة من صمت، طافت خلالها برأسي صورة صاحبي وسيجاره؛ فضحكت.

قالت: فيم تضحك؟

قلت: فلان وسيجاره.

ثم مضيت معها في الحديث حول هذا: لماذا نضحك من رجل إذا دخن السيجار، ولا نضحك من رجل آخر إذا فعل؟ وها هنا طاب لي أن أقسم الناس طبقات، جاعلا أساس التقسيم استعدادهم أو عدم استعدادهم لتدخين «السيجار».

قسمت الناس على هذا الأساس طوائف أربعا: طائفة يستحيل عليها أن تفكر في تدخين السيجار، بغض النظر عما لها من قدرة مالية. وطائفة ثانية تدخن السيجار فتزيد هيبة السيجار من هيبة وجوههم. وطائفة ثالثة تدخن السيجار فيذهب وقار السيجار بشيء في وجوههم. وطائفة رابعة تدخن السيجار، فإذا الوجه والسيجار متلائمان. لا يزيد الواحد من قدر زميله، كأنما خلق كل منهما للآخر.

أما الطائفة الأولى؛ فهي أولئك الذين ينطوون على أنفسهم، ولا يريدون أن يكونوا بين الناس موضع نظر ولا موقع انتباه؛ فالسيجار الضخم في أفواههم لا يوافق انطواءهم؛ لأنه سيلقي ضوءا على وجودهم وهم يريدون الخفاء، وسيجعلهم محط الأنظار وهم ينشدون التستر ... والأمر بعد أمر تربية ونشأة؛ فإذا أراد لك الحظ أن يأخذ أبوك على نفسه أن يغرز فيك معنى الطفولة إزاءه والانقياد الأعمى لأمره، فستظل مدى حياتك طفلا، وإن طالت قامتك ونمت لحيتك وكبرت سنك. إن كنت واحدا من هؤلاء؛ فلن تجرؤ على تدخين «السيجار» الغليظ الضخم على ملأ من الناس، تدخينا يبدو طبيعيا فيك ملائما لشخصك؛ لأن الموقف - على تفاهته - يتطلب «رجلا» معتدا بشخصيته ورجولته. ونستطيع أن نتوسع في هذا المعنى فنقول: إن من لا يقوى على تدخين السيجار في جمع من الناس؛ بحيث لا يتعثر ولا يتلعثم ولا يتكلف؛ هو نفسه الذي لم تهيئه تربيته للشعور بعظمة نفسه. وهو نفسه الذي لا يصلح لمناصب الحكم والقيادة التي تتطلب من أصحابها أن يأمروا لا أن يطيعوا. ولعل ذلك نفسه هو ما جعل تنافرا بين المرأة والسيجار؛ فلا أظن أن امرأة واحدة في الدنيا كلها قد حدثتها نفسها حتى اليوم أن تدخن سيجارا في جمع من الناس؛ لأن السيجار كما قلت، إنما يلائم الرجولة القوية التي أعدتها عوامل نشأتها للشعور بعظمة نفسها.

وليس يشترط في الرجل من «اللاسيجاريين» الانطوائيين المنكمشين في قواقعهم، أن يكون متواضعا في آماله، بل قد يكون طامحا طامعا، يتمنى أن تدوي جنبات الأرض بذكره، على شرط ألا تقع عليه أعين الناس وهو في موضع بارز! فهذا الذي تخونه قواه إذا ما وضع في فمه سيجارا على مرأى من الناس، قد يريد لنفسه أن يقود الإنسانية كلها - لو استطاع - بآرائه وأفكاره، ما دامت هذه القيادة لا تخرجه من مخابئه ومكامنه. ولست أرى غرابة فيما يقال عن «هربرت سبنسر»، وهو من قادة الفكر في العالم كله في أواخر القرن التاسع عشر، ما يقال من رفضه أن يقابل أحدا من المعجبين الكثيرين الذين كانوا يقصدون إلى رؤيته من أرجاء العالم كله (وإن يكن قد استقبل الشيخ محمد عبده عند زيارة الشيخ لإنجلترا). فهذا الذي كان في مستطاعه أن يهز العالم بالكتاب في إثر الكتاب، لم يكن في مستطاعه أن يواجه الناس عينا لعين، فضلا عن أن يدخن أمامهم السيجار!

والطائفة الثانية من الناس، هي التي تدخن السيجار فتزيد هيبة السيجار من هيبة وجوههم، على نقيض الطائفة الثالثة التي تنزل من قدر السيجار بدل أن تستمد منه الوجاهة والعظمة. هاتان طائفتان كثيرا ما تصادفانك في شتى أوجه الحياة؛ فقد تجد المنصب الواحد يتولاه رجلان، فيزداد أحدهما قدرا بحكم منصبه، بينما ينزل الثاني من قيمة ذلك المنصب نفسه. وقد يلبس الرجلان نوعا واحدا من الثياب، فيستمد أحدهما الوجاهة من وجاهة ثيابه، بينما يخلع الثاني هزال شخصيته على ثوبه.

وكلتا الطائفتين مرذولة على كل حال، وإن تكن الأولى أفضل من الثانية. وخير منهما أن تفيض عظمة شخصك على الأشياء من حولك، فإذا هي عظيمة بعظمتك أنت.

هذا سر عجيب أودعه الله في عباده! سر الشخصية العظيمة التي تطبع الأشياء بطابعها العظيم، ولا تعظم بشيء إلا بنفسها! هذه هي الطائفة الرابعة من مدخني السيجار، الذين يلبسون العظمة فتلبسهم في غير مشقة ولا تكلف، ومن هذا القبيل مستر تشرشل الذي يوافق السيجار كما وافق شن طبقة!

لو لبس غير غاندي مثل ما لبس غاندي: ثوبا ساذجا لا بهرجة فيه، ولو عاش غير غاندي كما عاش غاندي؛ عيشة متواضعة فقيرا؛ لهوت هذه الظروف الخارجية الوضيعة بقيمة شخصه في أعين الناس، لكنه أفاض من عظمة نفسه على الوضيع فارتفع. وتلك درجة قصوى من منازل الطائفة الرابعة؛ لأنها لا تقف عند حد الملاءمة بين عظمة الداخل وعظمة الخارج، بل تجاوز ذلك إلى مرحلة أبعد، تفيض فيها من عظمة الداخل على وضاعة الخارج فيعظم ...

قالت صديقتي: هذا هو الفرق الأساسي بينك وبين زميلك هذا الذي حدثتني عنه؛ فقد طافت فكرة السيجار في رأسه، فاشتراه ودخنه، واستمتع وضحك وأضحك. أما أنت فنصيبك من الفكرة - من كل فكرة - التحليل النظري والكلام الذي لا يغير من مواضع الأشياء فتيلا.

9 شارع الكرداسي

بمناسبة انتقال لجنة التأليف والترجمة والنشر إلى دارها الجديدة، 12 شارع سعد زغلول. ***

منذ سبعة عشر عاما،

1

وفي نحو هذا الموعد من السنة، جاءني خطاب ينبئ بقبولي عضوا في لجنة التأليف والترجمة والنشر، وكان اليوم يوم أربعاء - فيما أذكر - وكنت ما أزال مترع الرأس بالأحلام، عامر القلب بالآمال الضخام في مستقبل تجيء أيامه مثقلات بالثمر!

قضيت عصر ذلك اليوم قلقا، أرقب غروب الشمس أو ما بعده بقليل؛ لأذهب إلى دار لم أكن قد رأيتها أبدا من قبل. 9 شارع الكرداسي، لجنة التأليف والترجمة والنشر التي أصبحت يومئذ واحدا من أبنائها! ترى كيف تكون هذه الدار التي تسكنها آلهة الأولمب؟ وكيف يمكن أن أكون واحدا من هؤلاء الجبابرة الذين يقبضون على ناصية الحركة الأدبية في هذا البلد؟ غدا ستذكر في المحافل كما يذكرون، وستعرف في الأوساط الأدبية كما يعرفون. أما والله إنه لحظ موات سعيد أن أجلس حيث يجلسون، وأبادلهم الحديث ويبادلون، سيعرفني أئمة الأدب وأنا بهذه المعرفة مجدود ...

قم الآن واذهب في ضوء النهار، لماذا ترقب ظلمة المساء؟ ... لا، بل اصبر هذه الساعات القلائل، لاتكن خفيفا أرعن. إنك اليوم عضو في هيئة من أعضائها فلان وفلان وفلان. وأمثال هؤلاء لا يتحركون من دورهم قبل غروب الشمس، من تظنهم يكونون؟ أتظنهم من أمثالك لا يعرفون في يومهم فرقا بين ظهر وعصر ومساء؟

وصبرت على جمرات من القلق حتى مضت ساعة بعد الغروب، وارتديت أحسن ما عندي من ثياب، وذهبت إلى 9 شارع الكرداسي ... كان الليل قد أظلم، وأنا أعلم من الوصف أن الطريق إلى دار اللجنة يبدأ قبالة قسم عابدين. فألفيتني هنالك أنحدر في طريق هابط مظلم. وبعد خطوات قليلة، رأيت بوابة ضخمة لا تبشر وراءها بعمران! فتثاقلت خطاي. أيكون هذا الفناء المظلم - يا رباه! - مهبط الوحي لأرباب الفنون؟! كلا، هذا محال، امض قليلا وسترى بناء يلمع بالضوء، ضوء المصابيح وضوء العلم على السواء، وسيكون ذلك هو 9 شارع الكرداسي، لكني ما مضيت عشرين خطوة حتى وجدتني محاطا بسيارات ضخمة قديمة بعضها كامل البناء، وبعضها منثور الأجزاء!

اللهم إني أعوذ بك من أشباح الشياطين! ماذا عسى هذا المكان أن يكون؟ ولم أكد أرى صورة رجل تنبثق من وراء كومة من العدد القديمة الملقاة حتى بلعت ريقا جافا، ونطقت بالشهادتين سرا، ثم حييت: السلام عليكم. - وعليكم السلام. - أين أجد لجنة التأليف والترجمة والنشر؟ - لجنة ماذا؟ - لجنة التأليف والترجمة والنشر، أما سمعت بها؟ - لا والله يا سيدي، لا تؤاخذني. - إنها 9 شارع الكرداسي. - آه، شارع الكرداسي! اخرج من هذه البوابة التي دخلت منها، ومل إلى يسارك.

وفعلت كما أشار. وأنظر إلى شارع الكرداسي، فإذا هو «حارة» تجمعت فيها ألوان كثيرة من الحياة البلدية، وأنقل بصري في لمحة من أول الشارع إلى آخره، فلا أجد بناء واحدا يلمع بشيء يمكن أن يكون ضوءا جديرا بأبناء الآلهة، جبابرة الأدب.

وبلغت 9 شارع الكرداسي، فإذا الواقع يصدم الخيال صدمة عنيفة قوية، أهاهنا إذن يقيمون؟ قل الحمد لله رب العالمين؛ لأن ذلك معناه تواضع فيهم. ابلع ريقك الآن رطبا طريا، واصعد الدرج، تجد من تجده منهم مستعدا للقاء العضو الجديد في ترحيب كريم، فلا يمكن لساكن هذه الدار أن يأخذه شيء من كبرياء، خصوصا إذا كان يستقبل زميلا جديدا.

وأخذت أصعد السلم، فمر بي رجل يهبطه، إنه لم يسأل من ذا أكون؛ لأنه بالطبع يعلم أنني الزميل الجديد، صعدت ودخلت مكتبا مقابلا. وحييت وجلست، ولم يكن في الغرفة إلا رجل يجلس إلى المكتب ووجهه إلى ورق أمامه، لم ينطق كلانا بكلمة مدى نصف ساعة أو نحوها، ولا دخل الغرفة في هذه الفترة إنسان. فاستجمعت قواي وسألت: أليس في اللجنة أحد من أعضائها؟ - لا، لكنهم قد يأتون غدا، الخميس، من ذا تريد؟ - لا أريد أحدا بذاته، أنا عضو في اللجنة جديد، أنا فلان. - تعال غدا، وقد تجد بعض الأعضاء. •••

ومنذ ذلك الحين، لبثت ما يقرب من سبعة عشر عاما أتردد إلى هذا البناء، 9 شارع الكرداسي ... ولست أريد أن أفيض القول هاهنا كيف وجدت الزمالة عسيرة الأسباب . إن آلهة الأولمب لا يهبطون من قمتهم الشامخة بما ظننت من يسر، إنهم أعضاء أسرة واحدة، لكنهم كجزر الأرخبيل، تقوم كل جزيرة وحدها ويحيط بها الماء من أقطارها جميعا. كلا لم أجد ما أوهمني الخيال عصر ذلك اليوم بأني واجده، لم أبادل الأرباب حديثا ولم يبادلوا، وجلست معهم لا كما يجلس الزميل مع الزميل. فكما اصطدم الخيال بالواقع صدمة عنيفة حين رأيت مهبط الوحي لأول مرة: أين هو وكيف يبدو، كذلك اصطدم الخيال بالواقع صدمة أشد عنفا لما تبينت أن الأرباب أشد من سواد الناس حرصا على أن يظل الأمر بينهم درجات، فلا يصغر الكبير من أجل الصغير، ولا يكبر الصغير ليستوي مع الكبير. وأوشك كل أن يضرب حول نفسه نطاقا من حراس وحجاب، حتى لا يظن ظان أن الملتقى سهل يسير.

لكني لبثت سبعة عشر عاما أختلف إلى 9 شارع الكرداسي، حتى بات جزءا من حياتي ... ألا ما أعجب اختلاط الناس بالبناء! من ذا يستطيع أن يقص قصة حياته دون أن يجد شطرا كبيرا منها مرتبطا بهذا البناء أو ذاك. فمنزل ولد فيه ونشأ بين جدرانه، ومدرسة تلقى فيها العلم، وهكذا ... إن هذه الجدران الحجرية جزء حي من حياتي في هذه الغرفة سلخت كذا ساعة. وفي تلك الغرفة بذرت بذور هذا المشروع أو ذاك. وفي هذه الردهة نبتت الفكرة الفلانية لأول مرة، فكان من نتائجها كذا وكيت ... إني لا أعجب لشعراء العرب أن يقفوا عند الأطلال الدوارس يستوحونها؛ لأن الأحجار تنطق كما نطق الأحياء! ورب حجر يظل أبد الدهر ناطقا يقص على الناس القصص، جيلا بعد جيل، والناس أنفسهم يمضون إلى حيث يعلم الله ولا يعلم الناس.

9 شارع الكرداسي بناء قديم كسيح تكاد تتقوس جدرانه وتهوي سقوفه، لكنه جزء لا يتجزأ من حياتي ومن حياة رجال كثيرين، بل إنه جزء لا يتجزأ من تاريخ الأدب المصري الحديث. فكما ترتبط الحركات الأدبية أحيانا بهذا الصالون، أو ذاك المنتدى، فسترتبط الحركة الأدبية المصرية من بعض وجوهها بهذا البناء المتهافت 9 شارع الكرداسي؛ ففي حجراته قامت مشروعات وصدرت مطبوعات، واجتمعت حلقات الأدباء والمتأدبين يسمرون وينقدون.

لكن دار الزمان دورته، وضاق البناء على أصحابه، أو قل ضاق أصحابه به، فهجروه من قريب إلى بناء آخر أجمل وجها، وأفسح صدرا وأرقى موقعا.

وذهبت بعدئذ إلى 9 شارع الكرداسي لأقضي بعض شأني، فأخذتني وحشة؛ لأن المكان قد خلا إلا من المطبعة ترن بأصدائها في البناء الحالي، كأنها حشرجة المحتضر، وغدا أو بعد غد تزحف المطبعة إلى مكانها الجديد، ويصبح شارع الكرداسي قطعة من التاريخ. ومن يدري ماذا سيكون من أمره بعد ذلك؟ من يدري ماذا أثبت في أم الكتاب لهذا البناء الذي دوت جنباته حينا من الدهر بجد لا هزل فيه؟ قد تزول عنه الكتب لتحل محلها أكياس الفحم أو صفائح الزيت، فرب بيت صار بيتا مرارا، ضاحك من تتابع الأضداد!

ليتني أستطيع التفاهم مع هذا البناء الذي هجرناه، إذن لأرضيته بما أرويه من حق؛ وذاك أني ذهبت إلى بديله الجديد، فأحسست ببرودة عجيبة تدب في عظامي، ولا أعني برودة الجو، وإنما أعني برودة الروح. فآثرت أن أعود إلى العمل في 9 شارع الكرداسي حتى اللحظة الأخيرة، أين أين جمال الجسم من خفة الروح؟ لقد كان سقراط دميم الخلقة ومهبط الحكمة في آن معا.

فلو جاز لصداقة أن تنشأ بين إنسان وبناء، فلا شك أن صداقة حميمة قد توثقت عراها بيني وبين هذا البناء.

خبرة السنين

سئل سوفوكليز الشاعر المسرحي اليوناني مرة، وكانت السن قد بلغت به مبلغ الشيخوخة: «ما موقفك الآن إزاء الحب يا سوفوكليز؟ ألا تزال قادرا عليه؟» فأجاب: «صه! نشدتك الله لا توقظه في قلبي من جديد، فكم يسعدني أن أراني قد فررت من حبائله، فأحس كأنما فررت من مستبد متوحش مجنون!»

فإذا جعلنا لفظة «الحب» في هذه العبارة رمزا يشير إلى العاطفة في شتى ألوانها: من غضب شديد وحزن شديد ومقت شديد وحقد شديد وطموح شديد وحماسة شديدة، إلى آخر هذه العواطف التي يحتدم أوارها عادة في صدور الشباب، وتبرد نارها في صدور الشيوخ، ثم إذا جعلنا «سوفوكليز» في هذه العبارة ينطق بلسان الرجل إذا تقدمت به السن، كان لنا أن نضع السؤال والجواب السابقين في هذه الصورة الآتية: - في أي شيء جوهري يختلف الشيوخ عن الشباب؟ - في برودة العواطف بعد اشتعالها. •••

وفي برودة العاطفة تتلخص خبرة السنين؛ فالشيخ المجرب الذي خبر الأيام وعرك الحوادث لا يقف نفس الموقف الذي يقفه الشاب إزاء مشكلة بعينها، فلا يغضب أو يحزن أو يثور حين يغضب الشاب أو يحزن أو يثور. ليس الفرق بينهما اختلافا في الذكاء؛ لأن علماء النفس يحدثونك حديث اليقين، بأن ذكاء المرء لا يزيد بعد سن السادسة عشرة أو السابعة عشرة، وإنما الذي يزيد بعد ذلك في المرء كلما تقدمت به الأعوام؛ هو الخبرة لا درجة الذكاء.

وكذلك ليس كل الفرق بينهما هو أن خبرة بعينها يصادفها الشاب لأول مرة في حياته، على حين يصادفها الشيخ للمرة العاشرة أو العشرين، فيكون الفرق بينهما اختلافا في عدد الخبرات؛ مما يمكن الشيخ أن يتصرف في كل موقف على غرار ما تصرف في الموقف الشبيه به فيما مضى. ولا يجد الشاب في خبراته السابقة ما يقيس عليه، فيتخبط في خطاه ويضل سواء السبيل.

أقول إن الفرق بين الشيخ والشاب، حين لا يغضب الأول ويغضب الثاني إزاء موقف معين، أو لا يحزن الأول ويحزن الثاني، ليس هو اختلافا في درجة الذكاء، بحيث يرى الأول ما لا يراه الثاني ولا هو اختلاف في عدد الخبرات السابقة فقط، بحيث يجد الشيخ دائما في خبرته من السوابق ما يقيس عليه الموقف الراهن، ولا يجد الشاب في خبرته شيئا يهتدى بضيائه. إنما الفرق الجوهري الهام بين الشيخ والشاب هو برودة العواطف عند الأول، واحتدامها في الثاني، وهذه البرودة هي ما نعنيه بخبرة السنين.

لقد مات لي عمان، جاء موت الثاني بعد موت الأول بما يقرب من عشرين عاما. وشهدت موقف جدتي في الحالتين، فكأنما شهدت امرأتين مختلفتين أشد ما يكون الاختلاف بين الناس! شهدت في المرة الأولى أما جزعت على موت ابنها جزعا لم أشهد له مثيلا في كل من رأيت من الأمهات اللائي ثكلن أبناءهن. شهدت عندئذ أما لا يكاد ينقطع لها بكاء، تهيم على وجهها أحيانا في شوارع القرية صارخة نادبة لادمة، وتصوم عن الطعام أياما. فإن أكلت تعمدت ألا يكون طعامها من أطيب الطعام. وكثيرا ما كانت تذهب إلى قبر ابنها حيث تقضي اليوم كله والليل كله، وتأبى أن تفترش غير الحصير الغليظ الخشن، على أن تكون السماء غطاءها. وألد أعدائها أولئك الذين يتقدمون إليها بالنصح أو بالتعزية والمواساة؛ لأنهم إن فعلوا كان معنى ذلك عندها قصورهم عن إدراك المصاب بكل هوله وفداحته.

ثم شهدت جدتي هذه لما مات ابنها الثاني، وكانت قد تقدمت بها السن عشرين عاما تقريبا. مات عمي هذا في القاهرة ونقلنا جثمانه إلى القرية حيث كانت تقيم جدتي، وحمل النعش إلى بهو الدار، حيث رأيت جدتي واقفة في سوادها، وكان الليل قد انتصف والسكون ضاربا بجرانه على أطراف القرية جميعا، والأضواء خافتة في الدار، حتى كاد الأشخاص يتحولون أشباحا ... وقفت جدتي لحظة شاخصة ببصرها إلى النعش، بعد أن وضعه حاملوه على أريكة خشبية في بهو الدار، وقفت لحظة صامتة لا تتحرك ولا تنطق، فلم يسعنا إلا الوقوف معها في صمت خاشعين، ثم صرخت صرختين، تنطق فيهما بلفظة «يا ولدي» ... وكان ذلك كل ما أبدته جدتي من علامات الجزع! جلست هادئة في المأتم، لا تصرخ ولا تبكي ولا تندب، ولا تلطم صدرا ولا تمزق ثوبا.

فكان الفرق بين موقفها في المرة الثانية وموقفها في المرة الأولى هو خبرة السنين.

ولما كان التعليم هو بمنزلة اختصار الزمن في تحصيل الخبرة التي تتطلب زمنا أطول بغير تعليم؛ رأينا هذه العواطف الحادة أقل حدوثا في المتعلم منها في الجاهل. وقل ذلك بعينه في الأمم بصفة عامة؛ فالأمة التي ارتفع فيها التعليم أقدر من غيرها على التخلص من هذه العواطف الشديدة على اختلاف أنواعها. أو بعبارة أخرى: بردت فيها العاطفة وازداد العقل رجحانا، فلا تبلغ عاطفة الأبوة أو عاطفة الأمومة هذه الدرجة من الهوس التي تلحظها في الأمة المتأخرة، ولا يبلغ حزن الوالدين على فقيدهما ما قد يبلغه في الأمة المتأخرة من درجة الجنون، ولا ترى فيها علائم الغضب الشديد والغيرة الشديدة، بل لا ترى فيها علائم الفرح الشديد.

إن العاطفة الحادة كائنة ما كانت، نوع من العربدة الخلقية، تزداد مع الرعونة وتقل مع رجاحة التفكير. ولعل أهم ما يؤخذ على اليونان في تصويرهم لآلهتهم، أنهم صوروهم كائنات تنفعل بالعواطف كما ينفعل البشر، فيضحكون ويحزنون ويحقدون ويتنافسون ويغضبون. أما الإله في الديانات الرشيدة؛ فيوشك أن يكون تفكيرا خالصا لا عاطفة فيه. وإذا أراد إنسان من البشر أن يعلو على سائر الناس في مكانه، كالملك في الاحتفال الرسمي، أو كالقاضي في ساحة العدل؛ خلع عن نفسه مظاهر الخفة والطرب والحزن والغضب وما إلى ذلك، وبدا للناس كأنما هو كائن بغير عاطفة.

ذلك أن العاطفة معناها نقص في قوة التفكير، فانظر إلى ما شئت من أوضاع الحياة أو جوانب الطبيعة نظرة عقلية علمية؛ تر العاطفة قد امحت آثارها. انظر إلى الحب - مثلا - نظرتك إلى السمك يبيض ويلقح له البيض، وانظر إلى المرأة «الفاتنة» نظرة عالم التشريح إلى الجسم الإنساني، وإلى الزهرة «الرائعة» نظرة عالم النبات، وهو يدرس أجزاءها، وإلى أي نوع من الزهر تنتمي، وحدثني بعد ذلك ماذا بقي لك من عاطفة.

إن الشيخ إذا تعلم من خبرة السنين، تعود برودة العواطف، فإن قلت لذائذه تبعا لذلك، فقد قلت كذلك آلامه. ولست أتردد لحظة - إذا كان لي اختيار - في أن أوثر القلة منهما معا على الكثرة منهما معا. نعم، إن الشيخ لم تعد له لذة الحب الجامحة كما يتمتع بها الشاب، لكنه كذلك مستريح البال من آلامه وأوجاعه. ودونك شعراء الحب فانظر كم قصيدة قيلت في نعيم الحب! وكم قصيدة قيلت في جحيمه! لئن كان الشباب يعرف ما الحب؛ فالشيخوخة تعرف كيف تكون الصداقة. وما الصداقة إلا حب هدأت فيه العاطفة وزالت عنه شرورها .

التخلص من العاطفة الحادة هو - كما قال سوفوكليز - «فرار من مستبد متوحش مجنون». فأنت مستبد برأيك إذا سيرتك العاطفة استبدادا يستحيل معه الوصول مع خصمك إلى اتفاق، وإن شئت فانظر إلى فريقين اختلفا في عاطفتهما الوطنية، وفريقين اختلفا في نظرية علمية؛ فالسبيل عند المختلفين في الحالة الأولى هو القتال؛ إذ لا سبيل إلى مقاولة أو مداولة أو نقاش، والسبيل عند المختلفين في الحالة الثانية هو الإقناع؛ إذ لا ضرورة إلى قتال.

وأنت متوحش إذا احتكمت إلى عواطفك في حكمك على الناس والأشياء؛ لأنك عندئذ ستحب هذا وستكره ذاك على غير أساس إلا ما يبني عليه الحيوان الأعجم حبه وكراهيته. إن الهمجي يريد الشيء بغرائزه وعواطفه أولا، ثم توحي له الأهواء أنه أراد الحق فيما أراد، والعكس أرقى في مراتب التطور البشري، وهو أن أرى أولا أن الشيء حق دون تدخل من العاطفة والهوى، ثم بعد ذلك أدرب نفسي على حبه.

وأنت مجنون حين تمسك العاطفة بزمامك؛ لأن الجنون هو أن تأخذ بما في رأسك من أوهام، متحديا بذلك الواقع المحسوس، فيرى «العاقل» في النهر ماء يجري في منخفض من الأرض. أما «العاطفي» فقد يراه كائنا حيا يهمس إلى الشواطئ والزوارق همسات الغرام!

التزام الواقع في هدوء بغير صخب العاطفة وهوسها - هذه خبرة السنين؛ فالرجل طفل غر مهما تقدمت به الأيام - إن ظلت تعصف به عواصف العواطف الهوج، والشاب شيخ مجرب مهما صغرت أعوامه، إن نفخ الدخان عن نيران الحوادث ليراها على حقيقتها.

لقد كنت أنظر مع صديقتي إلى ألعاب بهلوانية أجاد فيها اللاعبون، حتى إذا ما فرغوا من ألعابهم، صفق الناس تصفيقا يمزق في الأكف جلودها، وجلست ساكنا لم أصفق، فسألتني صديقتي: لماذا لا تصفق مع الناس؟ فأجبتها قائلا: إنها خبرة السنين.

أرقام

أنزل الله بهذا القلم محنة طال أمدها حتى أشرف على الخمسين يوما انقطع خلالها عن الكتابة في شتى ضروبها. وقد كان يوشك قبل ذلك ألا ينقطع عنها يوما واحدا؛ وذلك أن صاحبه قد شد إلى أعمال الامتحان شدا بغيضا، حتى تحرج صدره وضاقت نفسه، ولم يجد ما يعينه على البلاء سوى أن يرخي على عقله ونفسه ستارا من خياله، فلا يدرك ما حوله إلا إدراكا غامضا، على نحو ما يرخي الغطاء على عيني الثور المربوط إلى الساقية؛ حتى لا يتبين ما هو فيه من محنة فيثور.

كان هذا القلم أيام محنته يملأ جوفه في الصباح مدادا؛ ليفرغه طيلة الضحى أرقاما، يظل يرصها صفوفا صفوفا. وكلما فرغ من كومة منها جاءته كومة أخرى: فالمملي لا ينفك يملي عليه، والقلم لا ينفك يفرغ مداد جوفه بما يملى عليه: 7 ضعيف، 10 مقبول، 5 ضعيف جدا، 12 جيد، 6 ضعيف، 9 ضعيف، 11 مقبول، 8 ضعيف، 3 ضعيف جدا ... وهكذا راح قلمي المسكين اليائس المخيب الرجاء، يملأ جوفه في الصباح مدادا؛ ليفرغه طيلة ساعات الضحى بما يملى عليه من هذه الأرقام وما يشبه الأرقام. ولم يكن يعلم إلا الله وصاحبه كم كانت تتلوي أمعاؤه من الألم حينا بعد حين! إذ كان يتمنى لنفسه شيئا فوجد شيئا آخر. فما أبعد الفرق بين ما كان هذا القلم يرتجيه لنفسه، وبين ما سخر له تسخيرا خلال تلك الأيام الخمسين.

وجاءتني عندئذ رسالة كريمة تريدني على الكتابة، فهممت أن أجلس إلى مكتبي ساعة أتصيدها اختلاسا من شبكة الأرقام، التي ضربت حول قلمي نطاقا كأنه نسيج العنكبوت، وقد تعثرت فيه الفريسة المنكوبة. هممت أن أجلس إلى مكتبي ساعة؛ لعلى أجيب تلك الرغبة المشكورة، فأطفئ من نفسي ظمأين، وأحقق لقلمي غرضين، لكني وجدت القلم محموما مثل صاحبه، فهو - كصاحبه - في غمرة من خيبة الرجاء؛ كلاهما كان يريد لنفسه مكانا، ويأبى الناس إلا مكانا أدنى. فهذا القلم المسكين اليائس المخيب الرجاء، ينظر إلى الأقلام التي يباريها وينافسها، فيعجب لماذا يحكم عليه الناس من دون أن يفرغ مداده فيما قد كان يصلح له أتفه الأقلام، إلا أن يكون سجنا مقصودا، ونفيا منشودا وتشريدا مدبرا؟!

ولم أكد أفرغ من محنتي تلك، وأخرج من ضائقتي كما يخرج السجين من غيابة سجنه، حتى أفرغت ما في القلم من بقية مداده ؛ لعلي أطهره مما احتوت أمعاؤه من آثار الدنس ، وملأته مدادا جديدا نقيا، إن صح أن يوصف المداد بالنقاء. وقلت له: عد الآن فأكتب يا قلمي، فدمع دمعة سوداء كان منها عنوان هذا المقال: «أرقام»؛ لأن الأرقام التي ظل يكتبها خمسين يوما، كانت لا تزال عالقة بسنانه، لكنها الآن قد نفخ فيها روح، فإذا هاتيك الأرقام ناس! «7 ضعيف» ... ليست هذه العبارة رقما أصم إلا عند صاحب القلب الميت والبصر المفقود. انظر إليها متأملا، ترها شابا في الثامنة عشرة من عمره، أميل إلى السمرة، صحت له عين وعطبت عين، له شارب خفيف، وانتشرت على وجهه شعرات لحية عمرها أربعة أيام أو خمسة. وفي الشاب ذبول الزهرة التي لم تذبل ذبول الموت، ولا هي ازدهرت ازدهار الحياة. فهو وسط بين الصحة والمرض، وبين النشاط والخمول، إنه بحاجة إلى قطرتين من ماء لينتعش ويصحو، هو بحاجة إلى قطرتين اثنتين من حب ليرتوي قلبه الظمآن. لقد شبع وارتوى من حب أبويه، وأرادت له الطبيعة الآن حبا آخر. ... لكن اذبل عودا يا بني، مت قلبا وروحا وانطفئ عقلا وفؤادا، إنك تحيا في قفر يباب، هيهات أن تجد فيه هاتين القطرتين اللتين تتعطش إليهما؛ لأن الفضيلة عندنا، يا بني، حدها هاتان القطرتان من ماء. اسرق ما شئت، وانهب ما شئت، واستهن بالناس ما شئت، ودس على الواجب بقدميك ما شئت؛ فلن يخرجك ذلك كله، يا بني، ولن يخرجك أضعافه من حظيرة الفضيلة وزمرة الفضلاء. ما دمت بمنجاة من هاتين القطرتين من ماء الحب اللتين يريدهما عودك ليرتوي، وها قد أتى سجانوك آخر العام لينشروا أوراقهم بين أيديهم، فيملي المملي على الناسخين: «7 ضعيف»، ويكتب الناسخون في جهمة على جباههم ورعشة بأيديهم: «7 ضعيف» ... غيره. «7 ضعيف» ... ليست هذه العبارة رقما أصم خطه قلم، لكنها صورة ذلك الشاب الذي سنحت له في الدرس فرصة ذات يوم؛ فقام يسألني أسئلة فيها مرارة وثورة على كل صاحب سلطة، في الأرض أو في السماء. وفرغ الدرس ولم أكن قد أتممت حديثي معه فتبعني في ركن هادئ من المكتبة، وراح ينفض لي جملة حاله، فإذا هو يعيش في بيت كأنه الجحيم: أم مطلقة وزوجة والد تذيقه العلقم كلما أصبح له صباح أو أمسى مساء، ووالد لا يكاد يجد القرش لغذاء أسرته، فضلا عما يتطلبه شاب كهذا الشاب مما تقتضيه سبحات الشباب.

إذن يا بني، فالجوع الذي يعصف بقلبك الغض يمتد حتى يشمل المعدة والأمعاء ويوقر السمع ويعمي البصر! لكن امض في هذا السعير الذي تخوضه بالنهار والليل. وستنقضي أشهر قبل أن يأتي يوم الحساب، فيجلس زبانية جهنم في أجنحة الملائكة، ليملي منهم ممل، وينسخ ناسخ: «7 ضعيف». والله يعلم أن الضعف باد في عينك وفي مشيتك، وفي جناحك المهيض، ولم يكن بهم حاجة إلى هذه الأروقة ينصبونها، وإلى هؤلاء الحراس يقيمونهم، والأجراس يدقونها، كأنها جنازة وهذه شعائرها. لم يكن بهم حاجة إلى كل هذا لينشروا بعد ذلك أوراقهم بين أيديهم خمسين يوما كاملة، يصفونك فيها بأنك «7 ضعيف».

آه لو رزق الله هذا الإنسان المنكود قوة في خياله ليرى أشخاصا أحياء وراء الرسوم! ينظر القائد الحربي إلى الخريطة، ويضع إصبعه على نقطة سوداء، فيهمهم لنفسه أن تضرب «هذه النقطة» بالقنابل لينفسح الطريق أمام جيشه. والنقطة السوداء تحت مجهر الخيال الحي بيوت ملأى بالآباء والأمهات والأطفال والقطط والكلاب والدجاج. يا ليت النقطة السوداء على الخريطة تطن بكل ما يملأ منازلها وشوارعها من أصوات الأحياء؛ لعل القائد الحربي يتردد لحظة قبل أن يقرر ضربها بقنابله.

وكذلك هذه الأرقام التي نضعها على أوراقنا آخر العام، فنحنط فيها جثث الشباب! أعمروا هذه الأرقام بخيالكم لتشهدوا وراءها أبناءنا كائنات حية متنفسة نابضة القلوب، فتروا في أي قفر من الوجدان يحيون، وفي أي جو من الجوع النفسي يتنفسون، قبل أن تجلسوا إلى موائدكم آخر العام، وفي أيديكم الأقلام مشرعة كالأسنة المسمومة، فيملي المملي ويكتب الكاتبون: «7 ضعيف.»

قلوب

جاء في الأنباء العلمية أن طائفة من العلماء الروس قد لبثت تجاهد - حتى أفلحت - في نقل الأعضاء من حيوان إلى حيوان، فإذا الأعضاء المنقولة تفعل فعلها في صاحبها الجديد، على نحو ما كانت تفعله في الصاحب القديم.

فهذا هو العالم «مازيف» يحدثنا عن نقل الساق من كلب إلى كلب، فما هو إلا أن يمشي الكلب بساقه الجديدة ويجرى ويقفز، كأن الساق كانت ساقه منذ ولد. وليس ذلك شيئا مذكورا إلى جانب ما وفق إليه العالم الأستاذ «دميكيوف» في نقل الرئتين من حيوان إلى آخر، ثم ما استطاعه أخيرا الأستاذ «أوجنيف» من نقل القلوب، فيأخذ القلب من هذا ليضعه في ذاك ... وإنما جاهد هؤلاء العلماء ما جاهدوا؛ لينتفعوا بعلمهم عن الحيوان في عالم الإنسان.

وإذن فقد جاء اليوم الذي ينتقل فيه القلب من أضلع زيد لينبض في جوانح عمرو ... •••

كان «خالد» منذ أيام الشباب الأولى حاد العاطفة سريع الانفعال؛ حتى توشك ألا تراه إلا محمر العينين منتفخ العروق من غضب، وتكاد لا تسمعه إلا صائحا ملوحا بيديه وذراعيه في تحد ووعيد؛ فسماؤه عاصفة أبدا، وبحره هائج مائج أبدا.

تصادفه المشكلات فيعالجها بالغريزة لا بالعمل، وينظر إلى الحياة نظرة أقرب إلى نظرة الفنان منها إلى نظرة العالم، أعني أنه يواجه الأشياء في مجموعها ومجملها، ويكره أشد الكراهية أن تطالبه بتحليل شيء أو موقف إلى عناصره، أو تعليل نتيجة بمقدماتها. اختار زوجته لا لشيء سوى أنه قد سمعها مرة في لقاء عابر تقول كلاما لطيفا عن حوض من الزهر في حديقة. وصمم - ولو أنه لم ينفذ ما صمم عليه - أن يؤلف كتابا في موضوع معين؛ لأنه تصور العنوان فأعجبه إذا نطق به، وأعجبه رسمه إذا كتب، حتى لقد أوصى بهذا العنوان أن يكتب ويحفر، قبل أن يخط من الكتاب حرفا واحدا، ووضع «الكليشيه» في درج مكتبه؛ انتظارا لفراغه من الكتاب. فلا فرق عنده أبدا بين أن تقرأ أحرف الهجاء من الألف إلى الياء أو من الياء إلى الألف، أو أن تبدأها من الوسط ثم تسير راجعا أو متقدما، أعني أنه في ترتيبه لأموره لا يعبأ أن يجيء الأول قبل الآخر. وعنده أن الطريقة الأصح في أي أمر، هي الطريقة الأجمل، والتصرف المعقول في نظره هو التصرف الذي يرضي أهواء نفسه ونوازع قلبه.

ولما كان «خالد» مدفوعا في حياته بعواطفه، ثم لما كانت العواطف أقرب إلى التقلب منها إلى الدوام، رأيته سريع التنقل في فكره وفي فعله على السواء، فلا تكاد العاطفة تغريه بعمل ويبدأ في أدائه، حتى تعود العاطفة فتغريه بعمل آخر؛ ولذا قل أن ينجز عملا من أوله إلى آخره؛ فحياته أقرب إلى كومة من مواد البناء منها إلى البناء المشيد المرصوص، أو هي أقرب إلى قطرات المطر التي تدق النوافذ والجدران والأرض والشجر، منها إلى نهر متصل المجرى متدفق التيار، يبدأ شوطه عند منبع معروف؛ لينتهي مجراه إلى مصب معروف.

وهو قلق سريع الحركة، لا تراه مرة واحدة يستطيع الجلوس على مقعد واحد في مكان واحد ثلاث ساعات متصلة، ويقال إنه لا ينام من الليل إلا قليلا.

لا يمنع عنده مانع أن يذهب إلى مقاول يقاوله في بناء بيت مساحته كذا وشكله هكذا، دون أن يكون في كيسه من المال ما يكفي لبناء عش من أعشاش الطير أو بيت من بيوت النمل، ولكنه يفعل ذلك إن طاف برأسه مثل هذا الحلم الجميل، وليس من ضر على أحد إن لم يكن بناء.

وأنت عدو من أعدائه إذا عرفت أنه بصدد مشروع فسألته: ومن أين لك المال؟ ذلك لأنه يكره العد والحساب، وله حجة في ذلك ظريفة طريفة، وهي أنه قد عاش ما عاش من دهره لم يحسب ولم يعد، وترك أموره تجرى «بالبركة» فلم يمت من جوع أو مرض. وليست أعوامه الباقية في الحياة بأطول من أعوامه الماضية حتى يحسب لها الحساب.

وهكذا ترك «خالد» زمام أمره لعواطف قلبه.

وأصابت العلة هذا القلب الفياض بعواطفه، الجياش بدوافعه، فلم يعد يقوى على الحياة الزاخرة بالحركة السريعة والتقلب المفاجئ، حتى لكأن هذا القلب قد قطعت نياطه كما يقولون. يلهث إذا مشى الهوينا وقد كان الجري لا يكفيه. غير أن الطب قد بلغ في معالجة القلوب مبلغا بعيدا، فما أهون أن يوضع قلب سليم مكان قلب مريض، فاستبدل خالد عند الطبيب قلبا بقلب.

لكن الطبيب حين يضع قلبا مكان قلب؛ لا يعبأ بما تحتويه هذه القلوب من مشاعر وعواطف، فهو يريد أن يستبدل بعضلة ضعيفة عضلة قوية وكفى. أما هل يعمر هذا القلب الجديد ما كان يعمر القلب القديم من عواطف، فأمر لا يعنيه في قليل أو كثير.

وكان أن حمل خالد قلبا جديدا، وخرج من عند الطبيب لا يدري أنه قد أصبح في الحق إنسانا آخر؛ لأنه حمل الآن قلبا يختلف مكنونه عن مكنون قلبه القديم.

ذهب إلى داره، وجلس إلى مكتبه، وفتح درجا من أدراجه، فإذا عيناه تقعان على عنوان الكتاب الذي كان قد طلب إلى الخطاط أن يكتبه له ويحفره، وأخذ يقلبه بين أصابعه متعجبا: لماذا يكون هذا قبل أن يكون الكتاب؟ وما هو إلا أن ألقى «بالكليشيه» في سلة المهملات؛ لأنه عرف الآن أن الكتاب لن يكتب. وجاءه المقاول يقاوله في أمر البيت الذي يريد بناءه لنفسه سكنا، فلم يستمرئ أن ينطق في الموضوع بكلمة واحدة إلا إذا تهيأت له الأسباب أولا؛ فما هو اليوم بالرجل الذي كان. وبدأت تدب بينه وبين زوجته ضروب من الخلاف لم تكن تقع بينهما فيما مضى. فهو الآن يعد ويحسب قبل أن يذهب إلى المصيف، وكان فيما مضى يذهب إلى المصيف بغير عد ولا حساب. وهو الآن يفصل ميزانية داره تفصيلا، وكان فيما مضى ينفق ما في الجيب معلقا رجاءه بما قدر له في الغيب.

لم تعد حياة خالد تشيع في نفسه لذة ونشوة كما كانت تشيع فيه حياته الأولى اللذة والنشوة في عهد قلبه القديم؛ فليس في القلب الجديد من دخان العواطف ما يعميه عن الحقائق الواقعة، والنظر بالعين المجردة إلى الحقائق العارية عن تزويق الخيال فيه مرارة وألم، ولكنه آمن عاقبة وأسلم ختاما وأخصب نتاجا.

كان «خالد» في عهد قلبه القديم طفلا يلهو بأحلامه لهوا لذيذا جميلا، فأصبح تحت سيطرة القلب الجديد رجلا يواجه الواقع المرير المؤلم في شجاعة الرجال. إن أحلام القلب شهية ممتعة لذيذة؛ لأننا نطبخ لأنفسنا فيها ما نشتهي، فننقص من ملحها وفلفلها كما نشاء ونهوى، ونزيد من لحمها وأرزها كما نشاء ونهوى. وأما الواقع فعلقم مرير في أكثر الأحيان؛ لأن الطعام يقدم لنا معدا مطبوخا على مشيئة طاه سوانا، لكن الأحلام على لذتها من طبيعة الطفولة الغريرة، والواقع على مرارته من مميزات الرجولة المكتملة الناضجة.

النضج العقلي معناه إدراك الواقع والاعتراف به، والعمل بمقتضاه، فيجيء العمل منتجا بقدر ما يسع طبائع الأشياء أن تنتج. والعقل النيئ الفج هو الذي لا يطيق النظر إلى الواقع كما هو، فيغمض عينيه ويرسل للأحلام عنانها. ولا غرابة بعد ذلك أن جاء الشعر قبل النثر في تاريخ الأدب، ما دامت مرحلة الشعر الحالم أسبق من مرحلة النثر الواقعي في تاريخ الحياة، حياة الأفراد وحياة الأمم على السواء.

جرع «خالد» في عهد قلبه الجديد، الذي لم يطق معه أن يركب للواقع الثقيل أجنحة من ريش الأحلام الطيارة الدوارة؛ جرع في عهد قلبه هذا مر الواقع وعلقمه، لكنه مع ذلك تمنى لأمته كلها أن يبدلها الله قلوبا بقلوب؛ فينزع من صدورها القلوب الحالمة المساهمة النائمة، ليضع مكانها قلوبا صاحية متيقظة واعية.

أصنام تحطمت

صادفتني أيام الشباب طائفة قليلة من رجال نزلوا من نفسي عندئذ منزلة إكبار لا ينتهي وإجلال ليس بعده مزيد. ثلاثة منهم أو أربعة كانوا دوما أمام عيني مثلا أتمثل به حين أطلب لنفسي، أو حين أسوق للناس مثلا للرجل كيف يصلب عوده وتتعدد جوانبه وتتنوع نواحيه. كنت أنظر إليهم نظرة الطفل إلى أبيه، يراه عملاقا قادرا على كل شيء؛ فهو إن شاء أمسك بالقمر، وهو إن أراد أنزل المطر، وأراني بالقياس إليهم قطرة من محيط أو ذرة من جبل ... آه لو كان لي قلم فلان وشهرته ولتنزل بي نكبات الدهر بعد ذلك ألوانا فما أبالي! أو لو كانت لي هذه الحيوية الدفاقة التي لفلان وهذا الأفق الواسع والعلم الغزير! إن شخصه ليملأ الفضاء حتى ليكاد يتعثر به السمع والبصر أنى مضيت. وانظر إلى فلان كيف كسب القلوب بترفعه عن الصغائر وازدرائه لما ينغمس فيه الناس إلى أذقانهم من توافه! وأين لك مكانة فلان في هدوئه واعتداده بنفسه؛ حتى لتتوجه إليه الأنظار أينما حل. أتذكر في يوم جلس في جمع كبير من كرام الناس وأحس التعب في قدميه، فخلع الحذاء في حركة ثابتة طبيعية كأن إنسانا لم يكن معه؟ أين أنت من هذا وأنفاسك تكاد تتقطع حياء من نفسك؟! ... هكذا كان هؤلاء الرجال يملئون مني شعاب الخيال في عهد الشباب.

ومضت الأعوام وازددت خبرة بالناس وطبائعهم، وراقبت من كثب، وفي شيء من الدقة والتفصيل، بعد أن كنت أنظر من بعيد وعلى وجه التعميم والإجمال. فأخذ نفر من هؤلاء العمالقة يصغرون ويضؤلون حتى لأراهم اليوم أقرب إلى الأقزام. كنت أحسبهم أقوياء بنفوسهم، فرأيت كيف يضعفون أمام أيسر الدوافع وأصغر ضروب الغواية. إن الفرق بعيد بين صورة الهرم الأكبر حين تبدو لعينيك من بعد، وبينها وأنت إلى جواره؛ فالمسافة البعيدة تزيل الحفر والنقر والغلظة والخشونة، وتجعل الجدار أملس صقيلا. إن القمر الذي تراه من بعد لامعا ساطعا وضاء، هو على القرب حزون وجبال عتمة مظلمة سوداء. لقد كنت مع جماعة من الأصدقاء ليلة في مرقص، فأبى واحد منا عرفناه بالظرف والفكاهة إلا أن يجلس في آخر الصفوف. ولما سئل في ذلك أجاب بأنه يرى الراقصات على هذا البعد روائع فاتنات، فلماذا يقترب ويرى الغضون والعيوب فيجعل الجميل قبيحا؟

والحق أني حين ازددت خبرة بهؤلاء الناس على مر السنين، وصغر في عيني منهم من صغر، كبرت عند نفسي على حسابهم؛ فلم أعد أراني قطرة من بحر ولا ذرة من جبل كما كنت أتوهم. وإن الله لينعم عليك بالنعمة الكبرى إذا وهبك القدرة على وزن نفسك، ووزن الناس ميزان صحيح لا تحيز فيه ولا تحيف.

والفضيلة في هذا الأمر، كما هي في شتى الأمور، وسط بين طرفين كما يقول أرسطو. فرذيلة منك أن تغلو في قدرك لنفسك حتى تراها أضخم مما هي، وكذلك رذيلة منك أن تحط من قدر نفسك حتى تراها أضأل مما هي. والفضيلة ها هنا إنما تقع في الوسط الذهبي الذي يضع النفس في موضعها الصحيح، فلا زيادة من طرف، ولا نقص من طرف آخر، ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه كما يقولون.

كان الخطأ الأكبر عند عبدة الأصنام هو أنهم عبدوا شيئا كان يمكن لخيالهم أن يتصور ما هو أكبر منه، وإن كان هنالك ما هو أكبر، ففيم عبادة الأصغر؟ إن كان إلهك صنما صغيرا من حجر، فالجبل الأشم أولى منه بالعبادة، أو كان جبلا عاليا فالشمس أعلى، أو كان شمسا واحدة فالسماء أوفر شموسا. وهكذا تستطيع أن ترقى بمعبودك حتى تدرك في النهاية أن من يستحق العبادة كائن واحد - سبحانه وتعالى - كل ما عداه صغائر عابرة، تتجمع حينا كسحاب الصيف لا يلبث أن ينقشع ويزول، وكذلك قل في تقديرك للناس من حولك، فما دمت تنوي أن تعنو بوجهك لإنسان؛ فليكن عظيما حقا في البعد والقرب على السواء.

إن الشيطان الذي أبى أن يعبد الله استعلاء واستكبارا لأجدر عندي بالتقدير والتوقير من عابد الصنم الصغير ذلة وخنوعا. وليس من عجب أن يخفق «ملتن» في الفردوس المفقود، فلا يوفق إلى ما يريده بالشيطان من تحقير! أراد أن يصف تمرد الشيطان وعصيانه وصفا يحمل القارئ على مقته وازدرائه. فأفلت منه الزمام رغم أنفه. وإذا القارئ يقرأ القصيدة ليرى عراكا يوشك أن يكون بين ندين، فليس يخلو من العظمة من تحدثه النفس أن يخاصم العظيم.

عدم الخوف هو سر النجاح، فعش حياتك على فوهة بركان، كما قال نيتشه. ولا تركن إلى الأمن والدعة، فأنت حي بمقدار ما أنت مغامر جريء، لا تتمثل أمامك فكرة الموت فتصيبك بالجمود والشلل، عدم الخوف هو جوهر الحكمة كما يقول رسل. ومن الجبن أن تكبل نفسك بأغلال الخوف وأصفاده إزاء المخاطر الحقيقية، فما بالك بما هو في الواقع ظلال وأشباح؟! وأول المغامرة أن تحطم الأصنام، ففيم عبادتك أصناما من أناس عبادة الخائف يخشى منهم السطوة والبطش ويرقب منهم الصدقة والإحسان؟

انظر كم تجني على حاضرنا عبادتنا لماضينا! إن موتانا ليتحكمون في رقابنا بأبشع ما يتحكم به أغلظ الطغاة في عبيده الأذلاء، لماذا؟ لأننا نخشاهم فلا نخشى فيهم إلا وهما، كما يخاف الطفل خشخشة الورق في الظلام، نخشاهم فنعبدهم فنكيل لهم الحمد والثناء بغير حساب. وليس بعد ذلك من بأس إن صغرنا نحن بسبب إكبارهم، وذللنا بسبب إعلائهم؛ فاللغة ما نطقوا، والشعر ما نظموا، والنثر ما كتبوا، والحكومة الرشيدة على غرار ما حكموا، والعلم الصواب ما علموا، كأن الأرض تدور من المشرق إلى المغرب، أو كأن الزمان يسير القهقري، والأمر كله عبادة أصنام رسمت من ظلال. إن عبء الموتى يكاد ينقض ظهورنا؛ فهلا ألقيناه عنا لنمضي في الطريق خفافا! ... ولأمر ما ركبت الأعين في الجباه؛ لتنظر إلى أمام ولم تركب في مؤخرة الرءوس.

لقد تصور اليونان آلهتهم - أول الأمر - ذوي نزعات ومنازعات كالتي تحدث للبشر؛ فهي تلهو وتعبث وتغضب وتعبس وتعترك وتشتجر، وتحب وتكره وتنتقم. فلما نضج العقل اليوناني أبى أن يمضي في عبادة هذه الآلهة التي لا ترتفع عن مستوى البشر في دوافعها وأطماعها، واختاروا لأنفسهم بديلا لها، إلها عاقلا حكيما خيرا يدبر أمره تدبيرا محكما في إرادة صامتة؛ فلا ثرثرة ولا قهقهة ولا ولولة ولا بكاء. كذلك فعلت مع أصنامي التي عبدتها حينا، ثم حطمتها لما بدا أمام عيني صغارها.

ولم أتم بعد عملية التحطيم، لكني أخذت أتنفس الصعداء وأتنسم الهواء بقدر ما تم من تحطيم. لقد طالت عبوديتي وعبادتي حتى احلولكت نفسي بسواد سحيم، وها أنا ذا أرى شعاعا من ضياء يشرق في جنبات صدري بالقدر الذي خلصت فيه نفسي من ركام الأوهام.

حياتك - أيها القارئ - وحياتي مليئة بالأصنام نعبدها، عن وعي مرة، وغير وعي ألف مرة. إنها تحيط بك وبي، فهي عن أيماننا وشمائلنا وأمامنا ووراءنا، هي معنا في المنازل التي نسكنها، وفي المكاتب التي نعمل فيها، بل هي في رءوسنا نحملها أينما سرنا، كالذي يقال عن بعض رجال الجاهلية من أن الواحد منهم كان يحمل معه صنمه في ترحاله مصنوعا من عجوة البلح، حتى إذا ما استقر في مكان أكله. فاحمل فأسك - كما حملت فأسي - وابحث في رأسك، وانظر من حولك، وحطم الأصنام لا تخش بأسها؛ لأنها أضعف جدا مما ظننت بها؛ تذق لحرية نفسك واستقلالها طعما لذيذا.

الببغاء والقفص

أهديها إلى رجال المعارف بمناسبة موسم الامتحان. ***

قال الراوي:

وكان عارف باشا سمينا بدينا، انتفخ جفناه، وتهدل شارباه، وتورم صدغاه، انتشر أمامه بطن كبير، وامتدت وراءه أعجاز. إذا تكلم لا يبين لأنه يأكل أواخر الكلمات.

ولكن عارف باشا لم يكن كريها ولا ذميما، تنظر إليه فتبتسم ولا تدري لماذا تبتسم، ولعلها ابتسامة الحب الذي يخلو من كل تقدير وإعجاب. والحق أن عارف باشا جدير بحبك؛ لأنه طيب القلب إلى حد بعيد، تحفزه طيبة قلبه أن يعمل الخير، ثم يعينه على فعل الخير ثراؤه الضخم، وجاهه العريض، ونفوذه الشامل، لكنه ما أكثر ما يخطئ وما أقل ما يصيب.

جيء له يوما بطائر جميل الريش، رائع الألوان، سريع اللفتات، رشيق الحركات. وقيل له: هذا ببغاء يفصح البيان إذا ما تعلم نطق الكلام. فنظر عارف باشا ذات اليمين وذات اليسار وهو يفتر بثغره الواسع عن ابتسامة الدهشة والعجب، وقال: لأعلمنه نطق الكلام؛ لأرى كيف يفصح البيان! كم يكلفني هذا؟ وما سبيلي إليه؟

فأجابه من جاءه بالببغاء: أما التكاليف فلا يسأل عنها من كان في مثل ثرائك يا مولاي، وأما السبيل فلك أن تسأل عنها العلماء الراسخين، وإنهم بحمد الله لكثيرون.

وما هو إلا أن أمر عارف باشا بالطائر أن يعهد لفريق من العلماء الراسخين في العلم؛ ليرى كيف يفصح هذا الطائر الأعجم البيان إذا ما تعلم نطق الكلام.

وانقسم العلماء جماعتين، جماعة تعد القفص، وأخرى تجمع الكتب والدفاتر والأقلام والمحابر ...

ومضت سنون ...

قال الراوي: وبينما كان عارف باشا يوما يتحسى أقداح القهوة مع نفر من أصدقائه، ويقهقه لنكاتهم قهقهة عالية تهز بطنه وترج صدغيه، إذا به يذكر فجأة أنه كان منذ أعوام قد عهد بببغائه إلى جماعة من العلماء يعلمونه الكلام ليفصح البيان، فأمر من فوره بعربة تعد وخيل تشد؛ ليزور الببغاء ومعلميه.

وجلجلت العربة بعجلاتها، وصلصلت الجياد بأجراسها، ووصل عارف باشا إلى حيث يريد، واستقبله المشرفون على تعليم الببغاء بكل تجلة واحترام. - ماذا صنعتم بطائري وقد مضت سنون؟ - كل خير يا باشا. - أروني الببغاء، هل يفصح البيان؟

وهنا طفق أستاذ يشير ويشرح: هذا، يا مولاي، هو القفص الذي أعددناه، مستدير القاع، مدبب القمة، في جداره تسعة وتسعون سلكا، سلك من فضة يجاوره سلك من ذهب، وهكذا دواليك على التوالي. ولو كانت الأسلاك قد كملت مائة لاطرد معنا هذا التوالي في أسلاك الفضة والذهب، وكنا عندئذ نزل زلة فاحشة؛ لأنه يتعذر علينا في مثل هذه الحالة أن نعلم أين نجعل للقفص بابه؛ إذ تتوالى أسلاك الفضة والذهب أينما درت مع القفص، وأين وجهت البصر. لكننا يا مولاي تدبرنا أمرنا منذ البداية، ورسمنا طريقنا، فأحكمنا الرسم والتدبير؛ لذلك جعلنا أسلاك القفص تسعة وتسعين، فرمينا عصفورين بحجر واحد؛ إذ باركنا القفص بهذا العدد المبارك. وهنا تبسم عارف باشا ليعلن إعجابه ورضاه، ثم جعلنا بهذا العدد الفردي سلكين من أسلاك الذهب يتعاقبان فيشيران إلى موضع الباب.

والباب يا مولاي قطعة فنية، فهو يسمح للطائر بالدخول ولا يهيئ له سبيل الخروج؛ لأننا لوينا الأسلاك على نحو يجعلها ملساء إذا ما دخلها داخل، مسننة مدببة تسد على الخارج طريقه إلا إذا مزق جلده تمزيقا تسيل منه الدماء.

فأومأ عارف باشا برأسه إيماءة الرضا والإعجاب، وطفق الأستاذ الشارح يقول: وطول القفص وعرضه وارتفاعه كلها قيست قياسا دقيقا، بحيث تتيح للطائر حركات بعينها ولا تتيح له سواها؛ فللطائر مثلا أن يطير قليلا إلى أعلى أو قليلا إلى أسفل، لكن ليس في مقدوره أن يضرب بجناحيه ويحوم. وها نحن أولاء قد مددنا له في داخل القفص عند الوسط ثلاثة أسلاك مسنونة؛ لتطمئن قلوبنا أن طائرنا لن يدور بجسده باسطا جناحيه؛ فهذا ما لا نريده له أبدا.

ثم خدعناه؛ فعلقنا له في سقف القفص أرجوحة صغيرة ، فيظل يهتز بها طول النهار يمنة ويسرة، حاسبا أنه يشق أجواز الفضاء، وهو في حدود قفصه لم يتحول.

وأقمنا على تنظيف القفص خادمين، وأعددنا للطعام طاهيين، وخصصنا لضبط الحساب حاسبين، وأفردنا للتسجيل كاتبين، فما تفلت هنا يا مولاي صغيرة ولا كبيرة. نعرف كم أنفقنا من المال، وأين انصرف ذلك المال مليما مليما، ونسجل كم رفة للجناح الأيمن، وكم للجناح الأيسر، ومتى تحركت ساقه اليمنى، ومتى تحركت ساقه اليسرى؛ كل ذلك عندنا مقيد مسجل، نضبط حسابه بالأرقام. يقوم على ضبط الحساب حاسب، ثم يقوم على ضبطه مرة أخرى حاسب آخر، وبعدئذ يقوم على الحاسبين مراجع، وعلى المراجع مراجع.

سل يا مولاي ما شئت عن الببغاء خلال هذه السنين، نجبك الجواب اليقين، سل أين كان في اليوم الأول من يناير منذ عامين، أجبك على الفور أنه كان عندئذ من القاع على بعد قدمين، سل ماذا أكل يوم الإثنين، أجبك من الفور أن الوجبة قسمت له يومئذ وجبتين، أكل في كل وجبة منها فولتين.

ويقوم على الطائر طبيب معالج يرعاه كلما ألم به المرض، على شرط أن يكون المرض مما يعالج. أما إن تحطم له جناح أو فقئت له عين فما لنا بمثل ذلك حيلة.

وبعدئذ يا مولاي، بعد أن أعددنا القفص كل هذا الإعداد المحكم المتين، راح منا فريق يجمع للطائر ما يلزمه من الكتب والدفاتر والمحابر والمساطر. وانقسم هذا الفريق جماعات: فجماعة تأتي له بالكتب التي بها يرطن، وجماعة تأتي له بالكتب التي بها يعد ويحسب، وجماعة تستعيد له ما كتب الأقدمون، وأخرى تجمع له ما أنتج المعاصرون، حتى تجمعت لنا بذلك يا مولاي أكداس ثمينة رصصناها على الرفوف رصا أنيقا، وحفظناها في المخازن حفظا أمينا، تخرج منها الكتب بحساب، وتدخل إليها بحساب.

فهتف عارف باشا هتفة اطمئنان: «برافو! برافو! حسبي هذا. فامضوا على بركة الله، فما ضاع مالي عبثا.»

وعاد فركب العربية التي جلجلت بعجلاتها، تجرها الجياد التي صلصلت بأجراسها، حتى إذا ما اطمأن في داره إلى مجلسه، وحف به الأصدقاء، راح يروي لهم ويحكي؛ فالقفص كله ألاعيب ، والمدرسة كلها أعاجيب، والمعلمون علماء، والموظفون أكفاء.

وسأله سائل عديم الذوق لا يحسن اختيار مواضع الكلام: «وكم تعلم الببغاء يا مولاي من فصاحة البيان؟»

فصاح عارف باشا صيحة من ذكر من توه شيئا نسيه: «الببغاء! والله لقد نسيت الببغاء! ...»

درع من ذهب

هذا خطاب كتبه كاتبه، ثم ألقاه على مائدة صغيرة إلى جوار مخدعه؛ وأخذته العلة؛ فألزمته الفراش حينا. وهو أعزب اختلطت في غرفته زجاجات الدواء بالفراجين والأمشاط، وانتثرت كتبه وجواربه وأوراقه ومناديله على الأرض والمقاعد.

ولما عدته في مرضه؛ وقع بصري على الخطاب منشورا، يستوقف النظر بأسطره المائلة وخطه المنفوش، فلم أملك أن أنظر فيه إلى كلمة هنا وكلمة هناك. ولحظ ذلك صديقي؛ فقال: اقرأه، فما فيه سر مكتوم، بل هو خطاب مفتوح مكشوف، أردت به فتاة بعينها، لكني أراها تمثل طائفة من بنات جنسها. فأمسكت بالخطاب وقرأت:

عزيزتي ...

هل كتب الله على هذه الدنيا أن تكون ناقصة شائهة إلى الأبد، لا تعرف الكمال إلا أملا يتردد في بعض الرءوس؟ تالله يا عزيزتي ما رأيت شيئا إلا همست لنفسي: «آه لو كان! ...» حتى أنت! كنت قبل اليوم سيدة الدار وخادمته في آن معا، حين كنت تطهين وتغسلين وتكنسين؛ حتى إذا ما أقبل زوجك مع الظهيرة، وجد الدار نظيفة مرتبة والطعام معدا شهيا، ووجد زوجته باسمة ابتسامة من لا تعرف حقا في راحة البال وطمأنينة الضمير إلا لمن قام بواجبه كاملا؛ فقد كان هذا الضرب من الكمال في رأيك هو معنى الجمال.

لكن وسوس لك الشيطان أن النافع لا يكون جميلا، والجميل لا يكون نافعا؛ فقال لك فيما قال: أرأيت إلى هذا التمثال القائم في ركن الغرفة؟ إنه لا ينفع لكنه جميل، وهل رأيت هذا البساط وما انتشر فوقه من طنافس؟ إنه لا يستخدم في رقاد أو جلوس لكنه جميل، وثوبك هذا البديع؟ لقد تكدست على جنبيه وفوق ظهره من طيات بعضها فوق بعض، ما يكفي وحده لكساء فقيرتين من بنات جنسك . إن هذه الثنايا في ثوبك والحنايا لم تخلق لتأتي بطراوة الهواء في الصيف، أو لتدفع عنك برد الشتاء ... إنها لا تنفع ولكنها جميلة! ... وهكذا راح الشيطان يوسوس لك حتى دب وسواسه منك في مجرى الدماء، فصحت لنفسك: ويح لي! ألا تكون المرأة كذاك جميلة بمقدار ما يقل نفعها؟! والله لا طهي بعد اليوم ولا كنس ولا غسل ولا ولادة ولا رضاعة «ولا يحزنون» ... سأكون جميلة منذ اليوم!

لكنك، يا عزيزتي، كنت جميلة قبل اليوم، ولم تبقي لنفسك من الفتنة شيئا بعد هذا الذي اعتزمته من هجر ما تنفعين فيه ... أصبحت دمية لا غناء فيها ولا جمال، وأضلك الشيطان ضلالا بعيدا وأنت لا تشعرين؛ فالجميل يا سيدتي هو النافع، والنافع هو الجميل.

حتى هذا المثال القائم في ركن الغرفة، جميل لأنه نافع. وهو نافع؛ لأن إدمان النظر فيه وفي أمثاله من آيات الفنون. يهذب الحس تهذيبا حتى ليجزع إن وقع بعد ذلك على قذر أو قبيح. ولو رأيت القاهرة ملأى بما تنفر منه العيون والأسماع، ولا تجدين في الناس إزاء هذا كله إلا حسا بليدا لا يجزع ولا يثور. فما ذاك يا سيدتي إلا لأن هؤلاء الناس لا تقع أبصارهم على مثل هذا التمثال الجميل!

أتعلمين لماذا تكون الذراع التي طولها كذا أجمل الأذرعة، والخصر الذي قطره كذا أبدع الخصور؟ أتعلمين لماذا لا ينبغي للفتاة الجميلة أن تقصر أو تطول؟ كل ذلك يا سيدتي أساسه المنفعة! فالذراع التي طولها كذا أقدر على الحركة السهلة المناسبة الكاملة منها لو أصابها طول أو قصر. وكذلك الخصر، وكذلك القد، وكذلك كل شيء.

لقد قال قائل لن أذكر لك اسمه؛ لأنك - فيما أعتقد - تكرهين أسماء الفلاسفة والعلماء، قال: إن وعاء القمامة أجمل عندي من درع الذهب؛ لأن وعاء القمامة مفيد نافع يؤدي الغاية التي صنع من أجلها، ودرع الذهب تؤدي بحاملها في حومة الوغى إلى هاوية الهلاك! ماذا أنت قائلة يا سيدتي في جندي يتقي الحراب بدرع من ذهب؟! ألا تكون الدرع في عينك عندئذ قبيحا بغيضا مع أنها في أسواق السلع نفيسة ثمينة؟ ذلك لأن الجمال في النفع، فالجميل هو النافع والنافع هو الجميل.

كلا، لا تنصتي إلى الشيطان فيما يوسوس لك! وكوني في بيتك درعا من صلب أو حديد، تستعيدي جمالك المفقود.

إني ليعجبني ذلك الرجل الهمجي الذي سأله رحالة أوربي عن زوجاته أيهن أروع جمالا؟ فقال: جمال، ماذا تريد بهذه الكلمة؟ كل ما أعرفه هو أن فلانة أقدر على حمل الأثقال من فلانة. وهذه أبرع في الطهي من تلك ... أذلك ما أردت بالجمال يا سيدي؟ وضحك الأوربي الرحالة لجهل الهمجي بالجمال، وراح يكتب مذكراته لينشرها في الناس فيضحكهم من هذا الذي لم يعرف معنى الجمال وقرأت أنا هذه المذكرات، وضحكت مع الضاحكين، لكني ختمت الضحك بقولي: والله لقد أصاب.

فرغت من قراءة الخطاب ونظرت إلى صديقي المريض باسما سائلا: أفي ظنك أن النساء كلهن هذه الفتاة؟

فقال: كلا، فهن مختلفات.

وراح صديق يتمتم بقصيدة من الشعر اليوناني القديم، وعنوانها «بعض النساء»:

جعل الله عند الخلق طبائع النساء مختلفات.

فجاءت إحداهن، كأنما أخرجها الله من خنزير،

يسرح بنوها في الدار في فوضى واضطراب.

وتراهم طرحى على الأرض يتمرغون في ألوان من القذر متباينات،

بينا تراها في أقذارها وثوبها المتهدل

تمرح كالخنازير في حظائرها، وتزداد شحما على شحم.

وأخرى كأنما هي الكلبة حركة ونشاطا،

يشوقها أن تسمع كل شيء وتكشف عن كل خافية.

تجوس أرجاء المكان فاحصة متطلعة،

فإن لم تجد شيئا أطلقت بالسوء لسانها،

ولا يجدي فيها وعيد زوجها.

كلا ولا يسكتها الغضب، ولا حجر يلقى فيحطم أسنانها.

ولا تنفع معها كلمة طيبة، ولا مسح بكف عطوف.

إنها حتى وهي في ضيافة غيرها

تظل كالكلبة في صياحها ونباحها. •••

وصاغت آلهة السماء من تراب الأرض امرأة،

قدمتها - على نقصها - للرجل زوجة.

يعوزها العلم، فلا خيرا عرفت ولا شرا،

ولا تعرف من واجباتها شيئا سوى أن تملأ جوفها،

إن قرصها برد الشتاء فارتعشت،

فلا تزحزح نفسها نحو النار تصطلي. •••

وأخرى خلقت كالبحر ذات طبعين؛

فيوما تراها مشرقة ضحوكا.

إن رآها في دارها غريب لم يدخر ثناء،

قائلا: ليس على وجه الأرض مثلها ظرفا وسناء.

ويوما تعبس فلا تقوى على الدنو منها والنظر إليها،

فكأنما مسها عندئذ مس من جنون.

غضوب كما تكون الكلبة مع جرائها،

حقود تصيب نقمتها الناس جميعا على السواء،

كأنها حجر يتعثر به الأصدقاء والأعداء،

ولكنها كالبحر قد تسكن في هدوء رحيم.

كالبحر في الصيف هو للملاحين بهجة للناظرين،

ثم قد ينقلب السكون إلى جنون،

فيدوي بموجه دوي الرعود. •••

وأخرى تراها نحلة في دارها، فطوبى لزوجها!

لن تقع العين فيها على عيب يعاب،

فهي تجعل الحياة منتجة خصيبة،

وتنجب من بنيها كل مجيد نبيل؛

حتى تبلغ الشيخوخة في حب زوجها،

وتزداد على مر الأيام طيب أحدوثة بين لداتها،

ويفيض عليها الله من بركاته الطيبات.

إنها لا تجد متعة في المكث بين النساء،

حين يتحدثن في الحب ولقاء الرجال.

مثل هذه المرأة نعمة من الله لزوجها،

وهي بين الزوجات أكثرهن فضلا وحكمة.

صافحت صديقي قائلا: أأنت واضع هذه الرسالة في غلاف لأرسلها نيابة عنك بالبريد؟

فأجاب: أرسلها كيف شئت وإلى من تشاء، ولست أحب أن أقع فريسة لفتياتنا الأنيقات الرشيقات؛ فقل عن رسالتي إنها أخلاط محموم.

من طبائع الناس

من أعجب ما يستوقف النظر من طبائع الناس حبهم الشديد أن تنزل بهم المصائب الخفيفة، كأنما يريد الإنسان أن تكون بمصائبه موضع عطف الآخرين، فما أشد فرحة الإنسان حين يصيبه وجع خفيف في ضرسه! تراه عندئذ يضع إصبعه على صدغه آنا بعد آن ليستوثق أن الوجع لم يزل هناك. والكارثة الحقيقية عنده أن ينزل به الوجع، ثم يزول دون أن يراه أحد من آله أو أصدقائه. والأفضل عند المرء إذا ما سئل كيف صحته أن يقول إنها ليست على أكمل حالاتها، فهو يشكو من عسر في الهضم أو صداع في الرأس. وما أجمل عنده أن يزوره الزائر مصادفة فيلقاه في فراشه عليلا! على أن الإنسان في كل ذلك لا يريد أن يجاوز به الوجع أو المرض حدا معقولا، يعرضه على الناس، دون أن يعرضه للخطر.

إني ما زلت أذكر يوم أعلنت هذه الحرب الأخيرة، وكنت ساعتئذ أجالس بعض الأصدقاء في مقهى، فلا تسل كم اهتزت قلوب الناس من نشوة الفرح! وكم تهللت الأسارير وعلت قهقهات الضاحكين! ولم يكد يستقر من الحاضرين رجل واحد على كرسيه لحظة واحدة؛ فهو يدور ويتلفت ويرفع كفه بالتحية، ويصيح ويضج ويزأط ويحرك قدميه ويخبط المنضدة أمامه بغير موجب ... قليلون هم جدا أولئك الذين يحزنون لسوء النتائج قبل وقوعها. وقد كنت أظن ذلك الفرح بالحرب عند أول إعلانها لا يقع مثيله في الأمم المحاربة فعلا، وكم دهشت حين أخذت سيدة إنجليزية في نحو الستين من عمرها تقص علي بعض ذكرياتها عن الحرب العالمية الأولى، فراحت تلاحظ على قومها الذي رأيته نفسه في قومي؛ هزة من الفرح كادت تشمل الناس أجمعين. ثم ألم نبدأ قتالنا في فلسطين منذ قريب؟ ألم تكن رنة الفرح ذائعة شائعة على ألسنة الناس وفي قلوبهم في أولى أيام القتال؟ ... هذه طبيعة الإنسان إزاء المصائب إذا لم يتبين بعد فداحة نتائجها.

واستمع إلى الناس يتحدثون عن غلاء المعيشة وارتفاع أجور المساكن، إنهم ليفرحهم أن يتناقلوا أخبار الغلاء الفاحش. ولطالما لحظت في كثيرين رغبتهم في إخفاء ما قد سمعوه من أنباء تدل على انخفاض في السعر أو بحبوحة في العيش. تسمع الناس يتحدثون عن أجور المساكن الجديدة، فيقولون: إن الغرفة الواحدة في العمارة الفلانية بلغ أجرها عشرة جنيهات، وإذا قلت لهم مصححا: إن أجر الغرفة ستة جنيهات فقط؛ فكأنما قد أسأت إليهم؛ لأنك خيبت آمالهم وأحبطت رجاءهم. وإني لأذكر جيدا كيف كان الناس يتمنون من صميم أفئدتهم - عندما بدأت موجة الغلاء في الارتفاع سنة 1941م - يتمنون أن تزيد وتزيد. إن الناس لا يرضيهم أن يكون المصاب من التفاهة بحيث لا يذكر، كما أنه لا يرضيهم أن يكون المصاب من الفداحة بحيث لا يحتمل، لكن لا يكون ذلك إلا بعد ما يعانونه فعلا من فداحة المصاب الثقيل، أما قبل ذلك، عندما يكون الأمر في مرحلة الكلام والتوقع؛ فهم يرحبون بكل زيادة فيه.

وذلك يذكرني بحالة شبيهة، عندما كان الضباب يكتنف مدينة لندن. فإذا كان ضبابا خفيفا فهو مضايقة للنفوس بغير طائل. أما إذا اشتد - كما يحدث أحيانا - بحيث لا تستطيع رؤية قدميك، عندئذ ينقلب الضيق عند الناس فرجا، ويأخذون في التعليق على هذه الحالة الفظيعة من حالات الجو - هي فظيعة باللفظ، لكنها محببة إلى نفوسهم مقربة إلى قلوبهم - ويحلو للناس عندئذ أن يتذاكروا ما يحدث في أمثال هذا اليوم من حوادث؛ فقد حدث في عام كذا أن اصطدمت سيارات في الطريق ومات ناس. وحدث في عام كيت أن ارتطمت سفن في صخور الشاطئ وغرق ناس ...

وانظر إلى الناس في القاهرة إذا نزل المطر، انظر إلى الأطفال يزأطون وكيف يمرحون، وانفذ إلى أعماق نفوس الكبار؛ تر المطر الخفيف يضايقهم، فإذا ما أخذ المطر يشتد سقوطا؛ لمحت لديهم رغبة أكيدة في أن يظل على ازدياد شدته، ليصبح لهم حدثا يتحدثون فيه يوما أو يومين.

وأذكر أني قرأت مرة مقالا لسيدة كاتبة، تقول فيه إنها كانت تسافر في قطار عبر الولايات المتحدة - أو عبر كندا لا أذكر - وإن القطار تعطل عن المسير أياما؛ بسبب ما تراكم عليه وفي طريقه من الثلج، وتعذرت كل وسائل الاتصال بينهم وبين العمران، وأخذ الطعام يقل في أيديهم شيئا فشيئا. تقول الكاتبة إنها توقعت أن ترى على وجوه الناس علائم الحزن لهذا الخطر الداهم، فما كان أشد دهشتها حين رأت عكس ذلك! رأتهم فرحين بهذه الورطة التي هم فيها، بل رأتهم كأنما يتمنون في أعماق نفوسهم أن تزداد الورطة شدة بنفاد الطعام جملة واحدة؛ ليروا ماذا يكون بعدئذ ... هذه طبيعة الإنسان، مهما تكن بعيدة عن العقل والمنطق.

بل إن لها لعلة عند العقل والمنطق؛ فالإنسان محب للحادث الغريب يكسر به ملل الحياة و«روتينها» الرتيب. إني - في الحق - كلما فكرت كيف يتشابه يومي وأمسي؛ عجبت لنفسي كيف أطيق هذه الحياة؟! ولعلني في ذلك خير حالا من ألوف سواي، كثيرا جدا ما أنظر بعين العطف والإشفاق للكمساري في الترام. أسأل نفسي: أيظل هذا المسكين ثلاثين أو أربعين عاما على هذا النحو يأخذ من الناس ملاليمهم ويعطيهم تذكراتهم؟ ثم أقلب الطرف، فأرى الناس كلهم تقريبا على هذا المنوال المملول الرتيب، مهما تنوعت أعمالهم ... هذه الحياة المتشابهة المملة ترحب بالحادث الغريب الذي يكون حدثا يطلق الألسنة بالتعليق والكلام. وكلما كانت الحادثة أشد غرابة عن المألوف؛ كانت أحب إلى نفسك، وكثيرا ما يضيف الإنسان بخياله إلى الحادثة الواقعة أشياء تجعلها أغرب؛ ليجعلها أطرف في الحديث. فلو أصيب الإنسان بأرق - مثلا - ولم ينم من ليله إلا ثلاث ساعات؛ جعل الثلاث الساعات في حديثه ساعة واحدة. ولو سقطت قنبلة فهزت النوافذ؛ جعل الاهتزاز في حديثه للناس تحطيما وتهشيما، وهكذا ... والمحور في ذلك كله أن يجد ما يقال بحيث يحدث عنده وعند الناس شيء من تغيير صور الحياة المكرورة المعادة.

هذه الحوادث الكريهة في ذاتها محببة؛ لاستثارتها لنفوس الناس التي أخمدها ملل الحياة، كما قلت. وغني عن البيان أن الاستثارة تكون أمتع لو كانت الحادثة الغريبة التي أحدثتها لذيذة في ذاتها، كأن تكسب ورقة النصيب، أو تسبق في لعب أو سباق.

وهنالك علة أخرى تجعل المصائب محببة إلى الناس بحكم فطرتهم، وتلك أنها توحد بين الناس في شعور واحد. والناس ينشدون هذه المشاطرة والمشاركة في وجدان واحد؛ لأنها تكون لأفراد المجتمع بمنزلة الملاط الذي يمسك لبنات البناء. هذه المشاطرة الوجدانية بين الناس لذيذة الوقع في النفوس مهما يكن الباعث لها؛ فالمطر إذا اشتد حتى زاد على المألوف، والضباب إذا تكثف حتى حجب الضياء، وما إلى ذلك من أمور، يتهلل لها الناس بشرا؛ لأنها ستكون موضوعا للحديث مشتركا بينهم جميعا.

وكم في تقاليد المجتمع من حكمة تخفى على النظرة العابرة السريعة! فالأعياد والمواسم وأيام العطلة الدورية لهذا السبب أو ذاك؛ أساسها أن تهيئ للناس فرصة مشتركة تشيع في أنفسهم وجدانا واحدا، فضلا عما تهيئه لهم من تغير في مجرى الحياة الرتيب.

القصد في القول والعمل

الظاهر أن المبالغة في القول والتهويل في الوصف من أوضح ما يميز انحطاط الثقافة عند القبائل، ويبين قلة حظه من المدنية والتهذيب، وأنه كلما أمسك المتكلم بزمام القول فلا يسرف ولا يغالي، كان ذلك دليلا على وفرة نصيبه من الثقافة والمدنية. وقل مثل ذلك في الأمم المختلفة والعصور التاريخية المتابعة؛ فالأمة المتأخرة تشيع المبالغة والتهويل في أدبها وكلام أفرادها. وأما الأمة الراقية فتراعي القصد في القول وعدم المبالغة في الوصف. وكذلك ترى الظاهرة الأولى جلية في عصور الجاهلية، بينما تلحظ الثانية في عصور الحضارة واضحة بينة.

إنه لمن أعسر الأمور على الأديب الهزيل أو الفنان الضعيف أن يقنع بالأمور كما يألفها الناس في الحياة الجارية الواقعة، فالتل على يديه يصبح جبلا شامخا، والفقر عنده لا بد أن يكون «مدقعا»، ويستحيل ألا يكون حر الصيف «لافحا» وبرد الشتاء «قارسا». لو كان موضوعه معركة فهي «حامية» والجيش فيها «جرار» والدماء لا يمكن أن تتناثر قطرات، بل لا بد لها أن «تسيل أنهارا»، والظلم عنده دائما «فادح»، وجمال أي فتاة تصادفه «رائع فتان»!

والأديب القدير وحده هو الذي يلجم القلم؛ حتى لا ينقلب التل على سنانه جبلا، ولا القطرة الواحدة مدرارا. والعجيب أن التزام الواقع أو ما يقرب منه مستحيل على غير الأديب البارع، مع أن هذا الواقع ماثل أمام العاجز كما هو ماثل أمام القادر سواء بسواء، بل أعجب من هذا أن الأديب الضعيف إن أخذ نفسه بوصف الواقع لا يعدوه؛ جاء وصفه ماسخا بائخا مبتذلا ذميما؛ لأنه لا يجد في طبيعته ما يهديه إلى اختيار العناصر التي يجوز إثباتها في وصفه، وترك العناصر التي لا يحسن إثباتها؛ فنحن إذ نقول إن الأديب الفحل وحده هو الذي يلجم قلمه بحيث يقف عند المألوف المعهود، فلا يهول ولا يسرف، لا يفوتنا أنه لا يأخذ هذا الواقع جملة وتفصيلا، لكنه يختار هذا العنصر ويترك ذاك، فإذا الصورة في النهاية رائعة تستثير الإعجاب.

ومن الشواهد الجميلة التي أذكرها من الأدب الإنجليزي في هذا الصدد، ما حدث حين انتصر «مولبرا» في موقعة بلنهيم (سنة 1704م)، فأخذ الشعراء الإنجليز عندئذ ينظمون القصائد في مدحه، والإشادة بنصره، ولكن التوفيق الفني أخطأهم جميعا؛ لأنهم أخذوا يمتدحون في «مولبرا» أنه صبغ الأنهار وخضب السهول بدماء الأعداء، فلم يصادف هذا القول وأشباهه قبولا عند نقدة الشعر. وأحس الناس أن هذه الواقعة الفاصلة ينبغي أن تلتمس سبيلها إلى الخلود عن طريق الشعر الرفيع؛ لذا لجأ بعض الوزراء إلى شاعر فذ هو «أدسن»، وطلبوا إليه أن يجود بقصيدة من شعره الخالد في «مولبرا» اعترافا بفضله، ففعل. وصادف عند النقاد كل إعجاب، وأشد ما أثار إعجابهم قوله عن «مولبرا» إنه كان رزينا هادئا يدبر في روية والعاصفة من حوله قاصفة. إنه لم يقل ما قاله سواه من أنه كان يرمي الرمح فيحصد الأعناق، وإنه كان وحده يسوق أمامه ألوف الرجال ويصبغ الأرض بالدماء؛ لأن هذه صور كلها زائفة مغالية مسرفة. والتصوير الصحيح الصادق هو أنه امتاز بتدبيره الهادئ، وضبطه لأعصابه، في يوم كانت الدنيا ترتج فيه من حوله.

ولا تقتصر المبالغة والتهويل على الكلام والأدب عند من تأخرت منزلته في المدنية والثقافة والتهذيب، بل إنهما ليظهران في مظاهر شتى، ترتبط كلها بسبب من التشابه بحيث ترتد إلى أصل واحد؛ فالجاهل المتأخر يبالغ في طعامه وشرابه، والمتحضر المهذب يراعي القصد فيهما. الأكلة الطيبة عند صاحب الذوق الخشن الغليظ هي التي يتخم فيها بحيث لا يقوى على حركة أو نشاط. وإن شرب خمرا؛ فالشراب عنده لا يكون جديرا باسمه إلا إن سكر وغاب عن وعيه. وترى هذا الصنف من الناس يفاخر بعضهم بعضا بكثرة ما يشتري وما يأكل من طعام، ولكم سمعنا في الريف كيف يمدح الرجل بأنه لا يشتري البطيخ إلا حملا كاملا، ولا القصب إلا «لبشة لبشة» ... وإنه لترد على خاطري الآن ملاحظة غاية في الطرافة لست أذكر أين وقعت عليها، وهي أن اهتداء الإنسان لتقسيم طعام يومه على ثلاث وجبات لم يأت إلا بعد أن سار في المدنية شوطا بعيدا. أما الهمج البدائيون - شأنهم في ذلك شأن الحيوان - فقد كانوا يأكلون وجبة ضخمة حينا بعد حين، كلما صادفهم طعام، وكانوا لا يعرفون مبدأ الاحتفاظ بالطعام إلى مستقبل قريب أو بعيد. وعلى ذلك فإن الشعوب التي تركز طعامها في وجبة واحدة في النهار يغلب أن تكون متأخرة بالنسبة للشعوب التي تجزئ الطعام بين وجبات ثلاث. ولعل الأساس في هذا هو المبالغة عند فريق والقصد والاعتدال عند فريق آخر؛ فالذي طبع على المغالاة والإسراف لا يستطيع أن يكف عن الطعام ما دام أمامه بقية من طعام. والذي نشأ على القصد والاعتدال يسهل عليه ترك المائدة على شبع خفيف هو بين الخلاء والامتلاء.

ومن ظواهر المبالغة عند المتأخر، والقصد عند من حسن حظه من التهذيب، طريقة كل منهما في التعبير عن عواطفه على اختلافها غضبا كانت أو حزنا أو سرورا؛ فالهمجي إذا غضب يثور ويفور ويضرب ويركل وقد يقتل. أما المهذب إذا غضب فيكاد لا يبدو عليه الا القليل من تجهم؛ فهو يملك زمام نفسه حتى يتولى القضاء الأمر إذا دعت الحال إلى ذلك. والهمجي إذا حزن ولول ومزق ثيابه وتمرغ في التراب وأرسل لحيته، وأبى على نفسه النظافة إلى آخر ما نشاهده بأعيننا في بعض الطبقات عندنا، وخصوصا النساء. وأما المهذب فإذا حزن جاء تعبيره عن حزنه صامتا هادئا، والهمجي إذا فرح ضحك في قهقهة عالية ترج الهواء رجا، على حين تكفي المهذب ابتسامة أو ضحكة في حدود الاعتدال. والمآتم والأفراح ما زالت قائمة بيننا لسانا ناطقا بما يتصف به بعضنا من إسراف في الحزن والفرح على السواء.

وظواهر المبالغة والإفراط التي تنم عن حوشية الطبع وخشونة الذوق عند صاحبها لا تنتهي إذا أردت لها حصرا وعدا؛ فالهمجي يبالغ في الألوان الفاقعة الناصعة، حتى لتعرف مقدار حظ الرجل من التثقيف والتهذيب والتمدن بألوان ثيابه. فإن كانت زاعقة صارخة فالأرجح جدا أن يكون حظه من ذلك كله قليلا أو معدوما. وكذلك قل في زينة المرأة، فكل امرأة تصبغ وجهها، لكن ما كل امرأة تعرف أين تقف في صبغها لوجهها حتى لا تجاوز هدوء الألوان الذي يرتضيه ويقتضيه الذوق المهذب السليم. وإني لأذكر بهذه المناسبة أني زرت معرضا للفن مع صديق لا يكاد يظفر بشيء من الذوق المرهف، ولم يزر معرض الفن إلا لأنه كان يصحبني، وخجل أن يعتذر ووقفنا عند صورة امرأة بالغ الرسام في أحمر خديها وكحل عينيها. وبالطبع قد بالغ في ذلك عمدا ليبين كيف تقبح المرأة، على الرغم من جمال قسماتها، إن هي أفرطت في الزينة إفراطا يمجه الحس الرقيق. ونظر صاحبي إلى الصورة قائلا: ما أجملها! فقلت: بل ما أقبحها! ولتعلم أن الفنان قد ضاع جهده عبثا إذا كانت هذه الصورة لم تبعث في نفسك التقزز والنفور.

وقل ذلك أيضا في ارتفاع الصوت عند الحديث. الهمجي المتأخر يبالغ في ارتفاع صوته بغير حاجة منه إلى ذلك؛ لأن من يتحدث إليه قد يكون على بعد قدم واحدة منه. وإن شئت فادخل مكانا يجتمع فيه فريق من الطبقات الدنيا التي لم تصب من التهذيب شيئا، واسمع ما يملأ المكان من ضجيج وعجيج قد يستحيل معهما أن تسمع صوت من يحادثك.

إنه ليعجبني من «شوبنهور» قوله: إن احتمال الأصوات العالية مقياس دقيق لدرجة المدنية، بل مقياس دقيق لمدى العبقرية في الإنسان. فكلما ازددت بطبعك اضطرابا للأصوات العالية كنت أعلى منزلة في درجات النبوغ. وإني لأسأل نفسي: لو كان هذا صحيحا، فأين نضع القاهرة وأهلها في سلم الحضارة الإنسانية؛ هذه المدينة التي قيل إنها أصخب مكان على وجه الأرض بغير استثناء، ومعظم الناس لا يشعرون!

المبالغة في كل شيء علامة لا تخطئ على الضعف العقلي عند من يبالغ؛ المبالغة في قلقك على صحتك وفي جعلها محورا لحديثك مع الناس، المبالغة في مقدار ما تشتريه لنفسك من ثياب ومن أثاث، مبالغة الأمة في الألقاب، المبالغة في التزمت والتشبث بعقيدة أيا كانت، المبالغة في صقل اللفظ إن كنت كاتبا، إلى آخر هذه الأمثلة التي لا حصر لها ولا عدد.

وأنت مهذب مثقف متمدن سليم الذوق بمقدار ما تلجم هذا الجموح من نفسك.

الرأس والساعد

بين الرأس والساعد، بين الفكر والعمل، بين العقل والبدن، بين الذين يفكرون والذين يعملون؛ صراع طويل عنيف على الغلبة والسلطان: فلمن تكون الكلمة العليا؟ أنلقي بزمامنا في أيدي أصحاب الآراء النظرية والأفكار المجردة؟ أم نجعل السيادة للعاملين بالأيدي والسواعد؟

فقد التقيت منذ أيام بشاب استوقفني في الطريق مناديا باسمي، وذكرني بنفسه، فإذا هو تلميذ قديم من تلاميذي. وسألته كيف دنياه؟ فأجابني بعد أن مط شفتيه وهز كتفيه بما دل على أنه قلق في حياته: أنا أشتغل بالمحاماة، وليست الحال كما قد كنت أتمنى لنفسي؛ فلا أكسب من عملي ما يكسبه سائق السيارة ... وهكذا انقلبت الأوضاع.

فقلت: وكان ينبغي للأوضاع أن تنقلب يا صديقي، فقد مضى الزمان وانقضى، الذي كان يزهى فيه صاحب الرأس بنفسه على صاحب الساعد.

فسألني: ماذا تريد؟

وهنا اقتربنا من المكان الذي كنت أقصد إليه لأشرب الشاي، فدعوته، وجلسنا نصف ساعة، كنت فيها متكلما وكان منصتا: كان «الكلام»، يا صديقي، في القرون الماضية كلها؛ هو صاحب السلطان على «العمل»، ولا تزال هذه الحال - ولن تزال - قرينة التأخر في الأمم.

كان «الكاهن» في العصور القديمة آمرا مطاعا، بل كان سيدا مخوفا مهيبا؛ لا لأنه يزرع الأرض وينتج الغلة للناس يأكلون؛ بل لأنه يعرف كيف يتكلم، فينفث السحر بكلامه، فقد كان يظن أن الكلام وحده ينحدر من شفتي كاهن كفيل بإنزال المطر من السماء، والظفر بالنصر على الأعداء، وبكل شيء مما قد يعوز الفرد أو تحتاج إليه الدولة.

ولبثت الحال كذلك مع تغير في نوع «الكلام» الذي يكتب لصاحبه السيادة والسلطان؛ فللخطيب في الأمم المتأخرة شأن أي شأن، مع أنه لا يحمل في جعبته إلا «كلاما»! وانظر إلى التاريخ؛ تر الأمم كلها في بدايات أشواطها تفسح مجالا أسمى للخطباء المصاقع. هكذا كان العرب في جاهليتهم، وهكذا كان اليونان، حتى لقد تزاحم الشبان الأغنياء في اليونان القديمة على معلمي الخطابة يتعلمون عنهم صناعة الكلام؛ لما رأوا أن الكلام وحده ضمين لصاحبه أن يظفر بأكثر الأصوات عند سواد الشعب، وبالتالي فهو ضمين لصاحبه أن يتبوأ مكان الزعامة ومناصب الحكم، بل هكذا كانت إنجلترا منذ قرنين؛ فسرعان ما كان يبرز الخطيب بين الناس، فإذا هو النائب في البرلمان، وإذا هو الوزير الحاكم بعد حين. وهكذا كانت فرنسا كذلك أيام ثورتها الكبرى، ولست بحاجة إلى أن أضيف بلادنا مثلا آخر، فقد اقتضت طبيعة موقفها أيام ثورتها أن تجعل زعامتها، بل حكومتها، في أيدي القادرين على الكلام.

والكلام والفكر النظري قرينان؛ فلم يكن السيد الكريم المحتد من أهل يونان القديمة يرضى لنفسه قط أن يعمل بيده. وكانت علامة الشرف أن تكون من أصحاب الفكر الذي لا يقتضي حركة، بل لا يقتضي جسدا على الإطلاق. ولعل هذه التفرقة الواضحة بين الفكر والعمل فرع عن مفاضلة الناس بين الروح والبدن؛ فالروح (أو العقل) وما يتفرع عنه من فكر أو عقيدة أسمى منزلة وأطهر وأنقى من البدن وما يتعلق به. كان الفرض دائما أن الروح شريفة بالقياس إلى البدن الوضيع، وكان الفرض دائما أنه لولا هذا البدن الشهواني النجس؛ لارتفع الروح إلى معارج السماء ... فلزم من ذلك كله أن يكون المفكر بعقله أسمى مقاما وأرفع مكانا من العامل بجسده؛ فأين أين الزارع الذي يفلح الأرض ممن يبرهن بعقله أن المربع المنشأ على وتر المثلث القائم الزاوية مساو لمجموع المربعين المنشأين على الضلعين الآخرين؟!

ثم بالغ أهل اليونان القديمة في هذا الاتجاه حتى أسرفوا فيه إسرافا يستوقف النظر ويستثير العجب، فما كل علم عندهم بمنزلة سواء؛ بل تتفاوت العلوم نفسها قيمة بمقدار ما تبعد عن كل ما يتصل بحركة الجسد في أثناء بحثها. ومن هنا كانت الرياضة عندهم أفضل العلوم إطلاقا، ولذلك تقدموا في ميدانها خطوات فسيحة، بل كاد المفكر عندهم والمشتغل بالعلوم الرياضية يكونان شيئا واحدا، فلا فكر إلا الرياضة. وحتى إن فكر الرجل في غير الرياضة؛ فلا بد أن تكون الدقة الرياضية في عمله هي مقياس نجاحه في تفكيره.

وكان لليونان القدماء باع كذلك في الفلك؛ لأن ملاحظة النجوم والتفكير في مسالكها لا يستدعيان منك أن تحرك الجسد أو أن تستعين به ... أما الكيمياء - مثلا - فقد كان حظها عندهم ضئيلا هزيلا؛ لأنها تقتضي شيئا من العمل باليدين، والعمل اليدوي من شأن العبيد!

وإنه لمما يذكر في هذا الصدد أن أرشميدس الذي نعرفه اليوم بنظريته عن الأجسام الطافية في الماء، كان قد مهر في الميكانيكا، وكان ابن عمه أميرا على «سرقصة»، فلما هاجم الرومان بلاده؛ استعان بابن عمه العالم في اختراع آلات حربية تساعده على حماية ملكه من الأعداء المهاجمين. فتلاحظ أن «فلوطرخس» المؤرخ اليوناني، وهو يؤرخ لأرشميدس، يعتذر عن اشتغاله بصناعة الآلات؛ لأنه يشعر أن مثل هذه الصناعة لم تكن تليق بمثل ذلك الأمير الشريف، فتراه يلتمس له العذر في ذلك على أساس أنه اضطر لمعونة ابن عمه الملك ساعة الخطر، فليس بعجيب بعد هذا أن يتصدى فيلسوف اليونان «أفلاطون» لرسم معالم الدولة المثلى، فإذا الدولة المثلى عنده أن يكون الزراع والصناع في أسفل القاع من البناء، وأن يكون في قمة الحكم فيلسوف! لماذا؟ لأن الزراع والصناع عاملون منتجون، ولا يعمل بيده في سبيل الإنتاج إلا الرجل من طبقة العبيد، أو من يهبط في إدراكه العقلي هبوطا لا يفسح له مجالا بين أولي الأمر في الدولة، ولأن الفيلسوف من جهة أخرى هو وحده الذي يستطيع أن «يسبح» في ملكوت الله و«يشطح» في تأملاته النظرية. وهذا وذاك من شأن الروح والعقل، لا يتصلان بالجسد بأي سبب من الأسباب.

ويتقدم الزمان بالإنسانية - يا صديقي - شوطا بعد شوط، فلا تغير من قديمها إلا بمقدار ضئيل لا تكاد تدركه الأبصار، كأنما أصرت ألا تغير من نفسها شيئا إلا بثورة ترجها رجا. فها أنت ذا ترى أعقاب القديم ما زالت عالقة في أذهاننا، رغم تغير الظروف كلها. وانقلاب الأوضاع كلها - على حد تعبيرك أنت - لا نزال نؤمن في أعماق نفوسنا أن صاحب الدراسة النظرية خير مقاما ممن يعمل بساعديه؛ فالمدرسة الثانوية النظرية لا تزال أرفع منزلة من مدرسة تعلم الصناعة والزراعة بحيث لا يلجأ إلى هذه إلا من فشل في تلك، وبحيث يعدها الناشئ من الأسرة الكريمة سبة كبرى لحقت به وبأهله وذوي قرابته، أن يكون واحدا من هؤلاء، لا من أولئك.

فمن البشائر بالخير أن ترى الأوضاع في طريقها إلى الانقلاب؛ فالخطة التعليمية الجديدة في العالم المتمدن كله - والحمد لله أن نرى مصر ها هنا قد لحقت بالركب غير مبطئة - تعمل على التسوية التامة بين ضروب المهارة على اختلاف أنواعها، فما ينبغي لك يا صديقي أن تزهى بمهارتك في الكلام على سائق السيارة، وقد مهر هو الآخر، لكنه مهر في «العمل».

بل ماذا أقول؟ أأقول إن من البشائر بالخير أن ترى الأوضاع قد تم بحمد الله انقلابها، فقامت في إنجلترا حكومة «العمال» لا حكومة الفلاسفة التي تمناها فيلسوف اليونان القديم؟!

مطلوب إنسان!

من الحقائق النفسية الأولية المعروفة أن الإنسان إذا شغلت باله مشغلة، كان شديد التنبه على كل ما يتصل بها من قريب أو بعيد. فانظر إلى نفسك وأنت مقبل على شراء شيء، ولنقل مثلا إنه حذاء؛ تجد أيسر المنبهات التي تتصل بما أنت بصدد شرائه كافيا لاستثارة يقظتك. وسواء أردت أو لم ترد، شعرت أو لم تشعر؛ فإن عينيك ستتجهان إلى أحذية الناس في الطريق وإلى الأحذية معروضة في نوافذ الدكاكين، وإليها مرسومة في إعلانات الصحف.

لكن هذه الحقيقة النفسية الأولية المعروفة، وجدت تطبيقها عندي بالأمس على نحو رسم على شفتي ابتسامة؛ وذلك أني صادفت من أحداث حياتي القريبة ما دعاني إلى التفكير في أخلاق الناس، كيف تخدعك ظواهرهم مهما ظننت أنك قد بالغت من الخبرة بالحياة أمدا بعيدا. وكيف يندر أن تجد بينهم من يحترم نفسه ويحترم الآخرين بغض النظر عن ارتفاعه وانخفاضهم، فأخذت الأمر مأخذ الجد وسألت نفسي: من ذا تعده «إنسانا» بمعنى الكلمة الصحيح من بين من تعرف حتى يمكنك أن تحلل خلاله وخصاله تحليلا يكشف لك عن حقيقة «الإنسان»؟ ... وما هو إلا أن جاءني الخادم بصحيفة الصباح، فاشتغلت بقراءتها حينا، ثم شاءت المصادفة العجيبة أن تقع عيني على إعلان بها، عنوانه «مطلوب آنسات ...» فقرأته خطأ «مطلوب إنسان! ...» لسابق اشتغالي بالتفكير في صفات الإنسان الحق. وها هنا عاودت تفكيري من جديد: أحقا لا يكون بين هؤلاء الألوف من عباد الله من لا يستحق بجدارة أن يكون «إنسانا»؟!

وكان من الطبيعي عندئذ، أن ترد على خاطري قصة ديوجنيس، التي لا بد أن يكون كل قارئ قد سمع بها، ديوجنيس الذي رأوه في أثينا ممسكا بمصباح، وهو يجوب المدينة ليلا أو نهارا، حتى إذا ما سئل: عم تبحث يا ديوجنيس في ضوء مصباحك؟ أجاب: أبحث عن «الإنسان!» إذن فماذا عسى أن تكون هذه الألوف البشرية التي تملأ فجاج الأرض وشعابها إن لم تكن ناسا تتصف بصفات الإنسان الذي يبحث عنه ديوجنيس؟! ... بعبارة أقصر وأوضح: متى يكون الإنسان «إنسانا»؟

بديهي أن الطعام والشراب والنعاس واليقظة والمشي والوقوف والتنفس والتناسل وما إلى ذلك؛ يستحيل وحدها أن تجعل من الكائن الحي إنسانا؛ لأن الكلاب والخنازير لا ينقصها من ذلك شيء، بل إني لأرفض أن يكون التفكير - فاسدا كان أو سليما - هو الذي يميز الإنسان من سائر ضروب الحيوان؛ فالرجل «المفكر» قد يبهرك بتفكيره ويروعك بحدة ذكائه، لكنه لا يستميل قلبك ولا يستثير حبك ولا يحرك عطفك بتفكيره أو ذكائه. اقرأ لمؤلف في علم الرياضة أو الطبيعة أو الطب أو ما شئت من علوم، اقرأ له ألف كتاب أفعمت صفحاتها بالفكر المبتكر الجديد؛ فستعجب به، وستهولك قدرته، لكنك لن تحبه (ولن تكرهه) من أجل فكره ذاك، لكن اسمع عن ذلك المفكر المجيد خبرا واحدا ينبئك عن معاملته الناس بالحسنى؛ يقرب من قلبك الرجل، ويستثر في نفسك الحب والعطف؛ لأنه بذلك - لا بغيره - يكون إنسانا، بل ماذا أقول؟ أأقول إن الكلب الأعجم يدعوك أحيانا بفعلة خير يفعلها إلى حبه ما لا تثيره في نفسك ألف معادلة رياضية يبتكرها عالم؟

معاملة الناس بالحسنى هي أول ما تبادر إلى ذهني من صفات تجعل من الآدمي «إنسانا»، ولا فرق بعد ذلك أكان ذلك الآدمي غنيا أم فقيرا، عظيما أم حقيرا، متعلما أم جاهلا. وإن فقد الآدمي هذه الصفة اليسيرة البسيطة كان أقرب إلى الهمجية والبدائية والتوحش مهما ظن بنفسه ارتفاع الشأن وعلو المنزلة. لكن معاملة الناس بالحسنى صفة تحتاج إلى شيء من التحديد والتحليل، فما عسى أن تكون في لبها وصميمها؟

انتهيت بعد التفكير إلى جواب لا أتشبث به، بل أعرضه على القارئ اقتراحا؛ لعله يصادف عنده قبولا، أو تعديلا وتصحيحا. وله بالطبع أن يرفضه ليستبدل به ما يراه صوابا فيفيدني به، وله عند الله حسن الجزاء.

انتهيت إلى أن الإنسان يكون إنسانا بمقدار ما وهبه الله من قدرة على ألا ينظر إلى الناس نظرة التاجر إلى سلعه وزبائنه، وتسألني: كيف ذلك؟ فأجيب: إن العلاقة بين البائع وزبائنه هي بعينها العلاقة التي تربط الإنسان بالأشياء الجامدة. فأنا - مثلا - أحرص على هذا المصباح الذي أمامي بمقدار ما يهبني من ضوء أستعين به على القراءة والكتابة؛ وإلا فلن أتردد في تغييره بما هو أصلح منه. وكذلك العلاقة بيني وبين منظاري، فتراني أمسحه وأنظفه حينا بعد حين؛ لأنه يعيني على الإبصار. ولو لم يفعل؛ لكان نصيبه مني الإهمال المحقق، فلا مسح ولا تنظيف ولا عناية، وهكذا قل في كل شيء جامد مما يصادفك في مجرى حياتك: في ثيابك وأدواتك وأثاثك وما إليها، فلا يربطك بكل هذا إلا رباط المنفعة. إن نفع الشيء؛ احتفظت به وحرصت عليه، وإن لم ينفع نبذته نبذا، وهي نفسها العلاقة بين البائع وزبائنه؛ فأنت عند البائع مكرم مبجل ما دمت نافعا، حتى إذا ما انتهى عنده نفعك انفصمت كل علاقة بينك وبينه.

ولعل أبشع جوانب هذه النظرية «السوقية» (نسبة إلى السوق التي يتم فيها البيع والشراء) هو ما يبدو منها حين تنشأ هذه العلاقة نفسها بين المرء ونفسه! إي والله، إن الإنسان قد يهوي إلى هذه الهاوية السحيقة؛ فيجعل من نفسه لنفسه بائعا. وعندئذ يقيس قيمة نفسه في نظر نفسه بمقدار ما يراها سلعة صالحة للرواج في أهل عصره. ولا عبرة بعد ذلك أكانت لها قيمة حقيقية ذاتية أم لم تكن! نعم؛ فقد يشق الإنسان نفسه شطرين: بائعا وسلعة! فكما يبيع البائع سلعته لمن يدفع فيها أغلى ثمن، فكذلك هو يبيع نفسه لمن يشتريها من الرؤساء أو الحكام أو من شئت من صنوف البشر! ليس على العامل الذي يبيع صناعته وثمرة مجهوده لوم ولا تثريب، لكن ماذا أنت قائل فيمن يصنع نفسه صناعة أعني أنه يشكلها تشكيلا على النحو المطلوب ليرغب فيها الراغبون؟! فإن كان المطلوب أن يكون مضحكا أو بهلوانا؛ فما أسرع ما يجعل من نفسه مضحكا أو بهلوانا ليقبل عليه الشارون من ذوي السلطان، وإن كان المطلوب أن يكون ذا نفس خانعة خاشعة ذليلة، فما أهون أن يشيع في نفسه الخنوع والخشوع والذل؛ حتى تروج في السوق!

وأعود إلى سؤالي من جديد؛ لألخص الجواب الذي أتقدم به اقتراحا: متى يكون الإنسان «إنسانا» بالمعنى الصحيح؟

يكون كذلك بمقدار ما يبعد عن وزنه لنفسه ولسائر الناس بميزان الجزارين والبقالين، يكون الإنسان إنسانا، حين يعرف للإنسانية حقها بغض النظر عن نفعها. انظر إلى الجسد البشري - كائنا ما كان صاحبه - نظرك إلى الشيء المقدس المهيب. يكفي أن يكون الكائن الذي أمامك واحدا من البشر ليستوجب احترامك، بل إجلالك وإكبارك لهذا الذي خلقه الله، فسواه وكرمه. إننا لو قدسنا البشرية في كل فرد من أفرادها؛ وضعنا بذلك أرسخ أساس للحرية والإخاء والمساواة بين الناس. ألا من يبلغ عني كل مترفع متغطرس أننا جميعا - أعلانا وأسفلنا - على بعد واحد من الشمس! ألا من يبلغ عني كل متجبر متكبر أنه إذا ظن نفسه واقفا على قمة جبل بالنسبة إلى سائر الناس، ينظر إليهم فيراهم في عينيه صغارا ضئالا؛ فهؤلاء الناس كذلك ينظرون إليه من بطن واديهم، فإذا هو أيضا في أعينهم صغير ضئيل؛ لأن المسافة بينهم وبينه كالمسافة بينه وبينهم.

يكون الإنسان «إنسانا» بمقدار ما يرى في كل فرد من الناس غاية مقصودة لذاتها، لا وسيلة تخدم غاياته وأغراضه. أما إذا سارت العلاقات بين الناس وفق القواعد التي تتحكم في عمليات البيع والشراء ، أما إذا نظر الناس بعضهم إلى بعض نظرتهم إلى الأدوات التي تستغل ثم تنبذ وترمى بعد الفراغ من نفعها ووجه استغلالها؛ فلن يجد ديوجنيس «الإنسان» الذي ينشده، ولو بحث عنه بألف مصباح، وسيظل المتعجلون مثلي في قراءة الصحف، يخطئون فيقرءون في إعلاناتها: «مطلوب إنسان.»

التعميم في الحكم

سألني طالب فقال: أيهما في رأيك أقوى من الآخر: الفرد أم المجتمع؟

فقلت له: أي فرد وأي مجتمع؟

فقال: الفرد كائنا من كان، والمجتمع أيا ما كان.

فقلت له: السؤال على هذه الصورة ليس له عندي جواب. ولو أردت مني جوابا مفيدا تحتم عليك أن تدلني على فرد معين في مجتمع معين؛ ليتسنى لي الحكم أيهما كان أقوى من الآخر، بحيث حمله على تغيير مجراه.

وسقت له بعض الأمثلة لأوضح له ما أريد فقلت له: لو كان الفرد الذي تعني - مثلا - هو محمد عليه السلام، ولو كان المجتمع الذي تريد هو المجتمع العربي الذي ظهر فيه النبي؛ لقلت في غير تردد جوابا على سؤالك: كان الفرد في هذه الحالة أقوى من المجتمع؛ لأنه أرغم المجتمع إرغاما على تغيير أوضاعه، حتى ليقال كان العرب على الصورة الفلانية قبل محمد، وأصبحوا على صورة سواها بعد محمد.

وقل شيئا قريبا من هذا في النوابغ الذين صنعوا التاريخ بما أحدثوه في مجتمعاتهم من انقلابات اجتماعية أو سياسية أو علمية، فالعالم أو العلماء الذين كان لهم الفضل في الكشوف العلمية التي انتهت في القرن الماضي إلى الثورة الصناعية؛ كانوا بغير شك أقوى من المجتمع، بل أقوى من سائر البشر أجمعين؛ لأنهم شقوا للناس طريقا جديدة رسمت لهم أوضاعا غير التي ألفوا، وبدأت لهم بدايات فكرية جديدة لبثت تتخمر في الرءوس - وما تزال - حتى انتهت إلى القلقلة التي يجتازها العالم اليوم، والتي تهدف بالعالم إلى وضع جديد يقلب القديم رأسا على عقب.

أما إن كان الفرد رجلا من غمار الناس يصنعه المجتمع بعاداته وتقاليده صناعة لا تترك له أدنى مجال للاختيار؛ فذاك فرد المجتمع أقوى منه.

وليس يكفي أن تحدد لي الفرد لكي أحكم لك أهو أقوى أم المجتمع ، بل لا بد كذلك أن تعين لي أي مجتمع تراد الموازنة بينه وبين ذلك الفرد المعين؛ لأن الفرد قد يكون زعيما في جماعة، حتى إذا ما انتقل إلى جماعة أخرى، كان نكرة لا وزن لها ولا خطر.

واستطردت في حديثي مع الطالب السائل فقلت له: هكذا ترى سؤالك يتضح جوابه كلما جعلت تفكيرك منصبا على أفراد جزئية. وهو سؤال بغير جواب إذا أطلقته إطلاقا عاما بغير تحديد.

إنني لا أكاد أرى عاملا أقوى تضليلا في الحكم وإفسادا للرأي من التعميم الذي لا يقف عند الجزئيات والأفراد، ولست أرى طريقا في التفكير أقوم وأهدى من تصور الجزئيات عند إبداء الرأي في موضوع معين، بل إني لأوشك أن أقول إن أقوى ما يميز العقل المتنور البصير من العقل المظلم الأعشى هو القدرة على النظر في جزئيات الأمر الذي يكون الإنسان بصدد التفكير فيه.

خذ هذه المشكلة التي ملأت ألوف الألوف من صفحات الكتب والصحف: أيهما أقدر على كذا وكذا: الرجل أم المرأة؟ ... هذا سؤال كثيرا ما يسأل، وكثيرا ما يندفع المسئول في جوابه قائلا: الرجل لأنه كيت وكيت؛ أو المرأة لأنها تتصف بهذا أو بذاك. ولو سأل هذا المجيب بدوره: أي رجل تريد وأي امرأة؟ لألقى بذلك ضوءا قويا على طريق الجواب الصحيح. لو قلنا مثلا: أيهما أقدر على البحث العلمي: الرجل أم المرأة؟ ثم تنبه المسئول إلى ضرورة التفكير في أفراد بدل التعميم الذي يؤدي إلى الضلال؛ لقال في غير مشقة ولا عسر: لو كانت المرأة هي مدام كوري، ولو كان الرجل هو هذا الحوذي؛ كانت مدام كوري أقدر على البحث العلمي من هذا الحوذي. أما إن كانت المرأة هي خادمتنا في المنزل، وكان الرجل هو مسيو كوري؛ كان الرجل في هذه الحالة أقدر من المرأة ... وهكذا قل في كل سؤال تلقيه جزافا على الرجل والمرأة؛ فالأمر مرهون بأفراد جزئية في ظروف معلومة محدودة.

وخذ أيضا هذه الموازنة التي لا تكاد تذكر على مسمع مني حتى يضطرب كياني كله ولا أعود مالكا لزمام نفسي، وأعني بها الموازنة بين ما يسمونه شرقا وما يسمونه غربا؛ فقد تسمع القائل يقول في غير تحرج ولا قلق: أيهما خير من زميله الشرق أم الغرب؟! وذلك الشرق وهذا الغرب فيهما ملايين البشر! ولو جرينا في هذا السؤال كذلك على المنهج المقترح، فسألنا بدورنا: من ذا تريد من رجال الشرق ومن ذا تعني من رجال الغرب؟ لانحصر الكلام فيما يؤدي حتما إلى جواب مفيد سريع؛ لأني قد لا يصعب علي أن أوازن بين فلان الإنجليزي وفلان المصري ما دمت أعرفهما. لا، بل لا يكفي أن أحدد شخصين لتتم الموازنة على النحو النافع، بل ينبغي أن أمضي في التحديد والتجزئة فأقول: إن فلانا الإنجليزي خير من فلان المصري في كتابة القصة، لكن فلانا المصري خير من فلان الإنجليزي في ركوب الدراجة.

ولعلي بعد ذلك قريب إلى عقلك إذا ما زعمت لك أن ما يقوله القائلون عن «روحانية الشرق» و«مادية الغرب» كلام يستحيل أن يثبت لحظة واحدة أمام العقل الناقد البصير؛ لأن من أبناء الشرق من ينغمس إلى أذنيه في زراعته أو صناعته أو تجارته، وهذه مادية واضحة. بل قليلون هم جدا من أبناء الشرق «الروحاني» من لا ينغمسون إلى آذانهم في كسب عيشهم، وكسب العيش بالطبع مادي صريح في ماديته، ومن أبناء الغرب من ينفضون عن أنفسهم شواغل العيش ليفنوا من أجل فكرة أو عقيدة. ولا أحسب الذين يفنون من أجل أفكارهم وعقائدهم إلا ممعنين في «الروحانية»، بل إني لأستحلف قارئي الكريم أن يهدأ لي لحظة واحدة سريعة عابرة؛ ليفكر فيها كم من أهل «الغرب» يعيشون ويموتون في معاملهم أو في رحلاتهم الكشفية! وكم من أهل الشرق يصنعون ذلك! وإنما وضعت كلمتي «الغرب» و«الشرق» بين أقواس؛ لأنهما في الحق كلمتان لا معنى لهما إلا عند من يريد أن ينزلق في التعميم الفاسد، وإلا فحدثني: أين الخط الفاصل الذي يكون شرقه شرقا وغربه غربا؟

وإذا شئت مثلا آخر يبين لك كيف يضل الإنسان في أحكامه إذا عمم ، وكيف يهتدي سواء السبيل إذا خصص؛ فانظر فيما يسمونه متعة عقلية ومتعة جسدية. والأولى عندهم أفضل وأشرف وأسمى من الثانية، لكنك لو سألت عند الموازنة بين هذين النوعين من المتعة: أية متعة عقلية تريد وأية متعة جسدية؟ إذن لرأيت من متعات العقل ما هو دنيء مرذول، ومن متعات الجسد ما هو رفيع شريف. أوليس الحقد وحب الانتقام والتعصب وشهوة السيطرة على عباد الله من متعة العقل؟ ثم أليس الطعام المعتدل من متعة الجسد؟ فأيهما عندك أشرف: أن يأكل الرجل برتقالة أم أن يثير حربا دينية أو مذهبية تفنى فيها ألوف الناس؟!

الفرق بين المرأة العجوز المخرفة حين تصف للناس «وصفة» علاجية وبين الطبيب حين يصف لمريضه دواء؛ هو هذا: المرأة العجوز الجاهلة تعمم بغير نظر إلى جزئيات الموقف وتفصيلاته؛ فقد شهدت مرة أن «وصفة» معينة عالجت مريضا؛ فراحت تعمم تلك الوصفة في كل المواقف الشبيهة دون اعتبار منها لما قد يكون بين تلك المواقف الشبيهة في الظاهر من أوجه الخلاف. وأما الطبيب العالم؛ فهو لا يكتفي باسم المرض ليصف العلاج، بل لا بد أن يرى هذا المرض متمثلا في «المريض» الفرد المعين؛ ليبني حكمه على جزئية أمامه، منفردة في تفصيلاتها، لا على شيء عام مشترك بين الناس أجمعين.

ولا إخال القارئ إلا سائلا: ألا تريد أن تعترف بإمكان الحكم بصفة عامة، وإذن فماذا تكون القوانين العلمية كلها إن لم تكن أحكاما عامة؟ إني إذ أقول إن الماء يغلي في درجة مائة - مثلا - فقولي منصب على كل ماء. وهذا تعميم لا ضرورة فيه لسؤال يفصل جزئيات الماء المراد ... وجوابي على ذلك هو أنه حتى القوانين العلمية تكون مشروطة بشروط؛ فالماء لا يغلي على درجة مائة إلا إذا كان تحت ضغط جوي معين ... وعلى كل حال فالتعميم يهون خطره إذا استقيناه من جزئيات درسناها. أما أن نرسل القول إرسالا بغير ضابط من التفكير في الجزئيات؛ فطريق لا تؤدي بنا إلى صواب الحكم إلا مصادفة.

التفكير النظري والتطبيق

للإنجليز براعة في الفكاهة، أكاد لا أجد أمة أخرى تلحقهم في ميدانها؛ فالفكاهة في أدبهم ليس لها نظير في آداب العالم كلها. وهي فكاهة خفيفة أقرب ما تكون إلى الابتسامة اللطيفة إذا كانت الفكاهة عند غيرهم تقاس إلى القهقهة العالية. وهم يمزجون فكاهتهم هذه في جدهم؛ فكثيرا ما يعمد الخطيب السياسي إلى تخفيف جد الموضوع الذي يخطب فيه بملح ونكات ينثرها في غضون حديثه هنا وهناك. وإذا أقاموا حفلا للتكريم - مثلا - فيكاد يستحيل على المتكلم في مثل هذا الحفل ألا يجعل كلمته كلها أقرب إلى الفكاهة المستمرة، حتى إن قصد إلى الجد في الحديث.

بل إن ميلهم هذا إلى الفكاهة لا يبرحهم حتى في المحاضرات العلمية التي قد توحي بطبعها إلى عبوس المحاضر وتجهمه. وإني لأذكر بهذه المناسبة موقفا لطيفا لأستاذ في علم النفس كان يحاضرنا في جامعة لندن، وكان الموضوع الذي يحاضر فيه هو نظرية فرويد في التحليل النفسي. فبعد أن شرح الرجل بعض معالم هذه النظرية، وبين كيف يحاول أتباعها أن يصلوا بالتحليل إلى سبب نفسي لكل شيء مما يحدث في سلوك الإنسان، وإن خاله الإنسان مصادفة عارضة، قال: على أنني أحب ألا تبالغوا في تطبيق هذا الرأي. وأضاف إلى قوله هذا مثلا من حياته الخاصة، فحكى ما يأتي: لاحظت حينا من أيامي الماضية أنني أفقد أشياء كثيرة؛ فأضع المفاتيح في جيوبي، ثم لا أجدها، وأضع النقود فيها حتى إذا ما هممت بدفع أجر للسيارة أو ثمن لفنجان القهوة؛ لم أجد نقودي التي وضعتها واثقا مما فعلت. فقلت لنفسي: أنت تعلم شيئا من التحليل النفسي؛ فلماذا لا تفكر في سبب من نفسك لهذه الظاهرة الغريبة التي انتابتك هذه الأيام؟ وجلست إلى مكتبي ساعات وساعات، أسجل أحلامي وأحللها ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وأضع لنفسي الاختبارات وأنتزع النتائج ... وبينا أنا في غمرة من هذا البحث العلمي الذي أجريته على نفسي لأعلم السبب الدفين في اللاشعور، منذ الطفولة الأولى، الذي يستلزم ضياع مفاتيحي ونقودي هذه الأيام؛ إذا بي ألحظ أن جيوبي فيها خروق! فكففت عن بحثي وتحليلي وتعليلي ... لأن سبب الظاهرة الذي أبحث عنه بين أوراقي، كان أقرب إلي من حبل الوريد.

هذا مثل جيد جدا - على ما فيه من فكاهة حلوة - لما أردت أن أقوله؛ فكثيرا ما تأخذنا الحماسة لنظرية علمية فنطبقها على كل شيء كأنما هي مفتاح الغيب المجهول كله، أو كأنها لعبة جديدة صادفت أطفالا أغرارا ففرحوا بها، وجعلوها دنياهم بأسرها حينا، حتى يملوها، أو تجيئهم لعبة غيرها.

وإن شئت تسرية عن نفسك من عناء الحياة وأعبائها؛ فتعال لي أجلسك مع جماعة من أصدقائي يقرءون كتبا في التحليل النفسي هذه الأيام، فيجدون على صفحاتها ما يفرحهم من طريف الآراء ولطيف التعليلات للظواهر الإنسانية، فلا يكادون يسمعونك في أحاديثهم إلا أخبار هذا التحليل، وكيف انفتحت لهم بفضله مغاليق النفوس. وهم حريصون كل الحرص على أن ترد في أحاديثهم ألفاظ ضخمة حتى لا تظن بهم اللهو والعبث؛ لأنهم لا يقولون إلا «علما» لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فهذه - مثلا - زوجة لا تجد سعادتها مع زوجها، لماذا؟ الجواب عندهم لا بد أن تكون هذه العقدة النفسية أو تلك مما تركب منذ الطفولة الباكرة. ويستحيل - في رأيهم - أن يكون سبب شقائها الزوجي ضآلة مرتب زوجها، أو قسوة هذا الزوج في معاملتها أو ما ينحو هذا النحو من علل وأسباب.

وتعجب أن ترى هذه النزعة تجاوز أوساط الناس إلى علمائهم وصفوة مفكريهم. فهذا كتاب ظهر حديثا في إنجلترا عن الكاتب الإنجليزي المعروف «تشارلز لام» الذي عاش في النصف الأول من القرن التاسع عشر، فهذا الأديب له قصة معروفة مشهورة مع أخته «مارية»؛ إذ أحبها وأحبته حب الشقيق المخلص لشقيقته المريضة العليلة، وحب الشقيقة لشقيقها الذي لم يتنكر لآصرة القربي، ولم يتزوج «لام»؛ لأن أخته «مارية» لم تتزوج. وكانت في مرضها تحتاج إلى عطف ورعاية، والذي جعل هذا التعاطف بين الشقيق وشقيقته معروفا ومشهورا هو أنهما تعاونا معا على إخراج بعض الآثار الأدبية، ومثل هذا التعاون والتآزر جميل ونادر، حتى ليستوقف النظر ويستقر في الذاكرة ... فتأتي هذه الكاتبة الحديثة التي أخرجت هذا الكتاب الجديد عن «تشارلز لام»، وتأبى إلا أن تطالع العالم بنظرية جديدة في العلاقة بين الرجل وأخته؛ إذ تذهب إلى أنها كانت علاقة جنسية، فقد كان الأخ والأخت معا على شيء من الشذوذ العقلي - وهو شذوذ قد انتهى بهما معا إلى الجنون - فالأرجح أن ينحرف بهما هذا الشذوذ إلى شذوذ جنسي كذلك ... إلى آخر ما قالت في هذا الاتجاه، ونحن لا نقول إن ذلك مستحيل الوقوع، لكننا نعجب: لماذا لا نعلل الأشياء بأسبابها القريبة ولا نلجأ إلى هذا الإغراب في التعليل إلا إذا كانت الحجة قاطعة باترة؟! إننا إذا سمعنا بشقيق وشقيقة يتحابان ويتعاطفان، فأول ما ينبغي أن نعلل به هذا الود بينهما هو العلاقة الطبيعية التي تكون بين أخ وأخته، وقد تزيد قليلا هنا أو تقل قليلا هناك، بل هذا ما تقتضيه شروط البحث العلمي الصحيح؛ إذ يقال لنا في هذا المجال: إنه لو كان لظاهرة ما تعليلان، ورأيت التعليلين كليهما على درجة واحدة من حيث تفسير الظاهرة، إلا أن أحدهما أبسط من الآخر؛ فالتحليل الأبسط هو التحليل الأصدق، وعلى هذا الأساس نفسه نأخذ بدوران الأرض حول الشمس لا العكس في تفسير الليل والنهار، مع أن تعاقب الليل والنهار - وسائر الظواهر الفلكية - يفسره أن تكون الأرض ثابتة والشمس تدور حولها (كما ظن بطليموس)، كما يفسره أن تكون الشمس هي الثابتة، والأرض تدور حولها (وهي نظرية كوبرنيق)، وإنما أخذنا بالرأي الكوبرنيقي؛ لأنه أبسط الرأيين؛ إذ يترتب على مذهب بطليموس تعقيدات في مسارات النجوم لا مبرر لافتراضها ما دام هناك تفسير أبسط يحل لنا الإشكال.

لو كان الكلام النظري الجميل يجد السبيل هينة ميسرة إلى التطبيق الناجح؛ لما عانت الإنسانية كثيرا جدا مما تعانيه. فما أجمل أن يجلس أفلاطون في الأكاديمية ليكتب جمهورية يكون فيها الحكم لأصحاب العقول الراجحة وحدهم! وتكون بين الناس مساواة تامة في الفرص وما إلى ذلك من كلام منسق جذاب، لكن الكلام شيء والتطبيق شيء آخر. وإنما يكون الأمر كذلك؛ لأن الكلام النظري يتجاهل ألوف الألوف من التفصيلات، لكن هذه التفصيلات كائنة واقعة في الحياة الحقيقية، فإذا ما أردت التطبيق وجدت الفرق واضحا بين سهولة القول الذي يلخص الواقع تلخيصا موجزا شديد الإيجاز، وبين هذا الواقع المركب المعقد الذي لا تكاد تحصى عناصره.

لقد قرأ قارئ مرة في إحدى المجلات أن الإنسان لو نظر بحدة إلى عيني قطة، فسرعان ما تنام القطة نوما «مغناطيسيا». وأحب صاحبنا أن يجري هذه التجربة اللذيذة؛ فأتي بقطة ووضعها على منضدة أمامه، وجعل ينظر إليها نظرا مركزا حادا، لا يتحول عنها، وجعلت القطة تنظر إليه بدورها - ولعلها كانت تعجب في نفسها من هذا المجنون! - حتى ملت القطة طول النظر؛ فمدت كفها في سرعة خاطفة، وخدشت عيني الرجل خدشة خطيرة، وانصرفت لحالها ... قد يكون الذي كتب هذا الخبر عن القطة وتنويمها صادقا فيما روى، لكن القطط مختلفات والرجال مختلفون؛ فمن القطط ما هو سمين ومنها ما هو هزيل ومنها ما هو جائع ومنها ما هو ممتلئ، وهكذا! وكذلك قل في الرجال وسعة حيلتهم أو ضيقها وقوة نظراتهم أو ضعفها إلى آخر ما بين الأفراد من فروق، لكن النظرية تلخص هذه الفروق، بل تهملها إهمالا، مع أنها قوام الواقع ونسيجه، ومن هنا كان التفكير النظري شيئا وتطبيقه شيئا آخر.

ولعلي تلقيت في ذلك درسا هو بين دروس الحياة أمرها وأقساها؛ فقد كنت أرى في المرأة المصرية رأيا حدا بي إلى الكتابة مرة بعنوان «النساء قوامات»؛ لأني رأيت - نظريا - أن المرأة المصرية أصدق نظرا وأصح رأيا من الرجل المصري، ناسيا بذلك ما بين الأفراد من فروق ... حتى علمتني الحياة درسها القاسي، وهو أنها في واقعها أعقد جدا من أن تلخصها النظريات في أقوال موجزة مبسطة.

بين الأماني والواقع

«الأحلام أفضل من تحقيقها» هذه عبارة يقولها الإنجليز، مع أنهم - أو إن شئت فقل لأنهم - من أكثر شعوب الأرض تمسكا بالواقع وانحصارا في نطاقه، حتى جاءت فلسفتهم متميزة من سائر الفلسفات باتجاهها الواقعي الصريح؛ فهم إذ يقررون ويكررون أن الأحلام أفضل من تحقيقها، فهم إنما يقررون ويكررون حقيقة نفسية هي نفسها جزء من الواقع الذي لا مفر من الاعتراف به، لمن أراد ألا يشطح مع أوهامه؛ حتى لا تمس هذه الأرض الصلبة في كثير أو قليل.

فمن الحقائق النفسية الواقعة، أن الإنسان يظل يزخرف لنفسه الأشياء ما دامت بعد في حدود الأمل، حتى إذا ما أخرجها - أو أخرجت له بفعل الظروف - واقعا ملموسا؛ هانت في عينيه، وخف وزنها على كفيه! لماذا؟ لأنه في أحلامه يطبخ لنفسه الطبخة كما يشتهيها، فيحذف عنصرا ويبقي عنصرا؛ حتى لا يقدم لنفسه إلا كل طيب مستساغ. وأما الواقع حين يتبدى له، فيقدم له صحاف الطعام مزيجا مما يشتهي وما لا يشتهي، وعندئذ لا يجد صاحبنا مهربا من إبر النحل إذا أراد العسل، ولا منجاة من الشوك إذا التمس الزهور.

وأقرب ما يرد إلى الخاطر من أمثلة على ذلك، هو هذه الفتاة أو هذا الفتى، يظل يحلم بحبيبة قلبه التي ستملأ له الدنيا سعادة وبشرا، حتى إذا ما جاءت هذه الحبيبة؛ خاب الرجاء في كثير جدا من الأحيان، ووجد الجنة المرتقبة جحيما وسعيرا؛ لأنه وهو يحلم، رسم الجانب البراق ونسي الجانب المعتم. ويستحيل أن يكون واحد بغير الآخر، إنه وهو يحلم رسم الحبيبة وهي في عافيتها تثب وتطفر، ونسي صورتها وهي عليلة طريحة الفراش. رسمها وهي ضاحكة مرحة، ونسي صورتها وهي عابسة متجهمة، رسمها وهي مكتسية بالثوب الجميل، متحلية بزينتها فواحة بعطرها، ونسي صورتها وهي تلزمه شراء ذلك الثوب وهذه الزينة وهذا العطر. وقل ذلك وأكثر منه في الفتاة وهي حيرى بين فتى أحلامها والفتى الذي جاءها به الواقع. آه لو لم يكن أسمر! لولا هذه الشعرات البيض في فوديه! لو كان أغنى قليلا مما هو! ماذا لو كان بغير أم وأخوات؟ ... هكذا ظلت فتاتنا تنظر إلى الفتى الواقع في حسرة على فتى الأحلام!

على أن الإنسان مضطر بحكم ضرورة العيش إلى نسيان أحلامه ليقبل الحقائق كما جاءته، إلا إذا كانت الفجوة أعمق وأوسع من أن تلتئم وتنمحي في غير عسر ولا مشقة. وعندئذ تجذب الأحلام صاحبها إلى صومعة بعيدة يعتزل فيها لينجو بنفسه من الحقائق المرة الأليمة، فلو رأيت زاهدا قد انتبذ إلى صومعة قصية نائية؛ فلا يخدعنك الهدوء البادي على وجهه، واعلم أنه على هدوئه ذاك يخفي في صدره ثورة متأججة على الحياة الواقعة كما لمسها بين الناس ورآها. ولا عجب أن نرى بعض الحكام المستبدين في الماضي يوجسون من أمثال هؤلاء الرهبان الزاهدين خيفة، ويتعقبونهم بالأذى؛ لأن مجرد وجودهم دليل حي ناطق أمام الناس على نقص الواقع وبعده عن الكمال الذي تتعلق به أحلام الحالمين.

ولئن كان هذا الضرب من الفرار من وجه الحقائق قليلا نادرا لا يستطيعه إلا نفر معدود؛ فهناك ضروب أخرى شائعة يلجأ إليها سواد الناس كل يوم، منها قراءة القصص. فلسنا على صواب إن زعمنا أن الإنسان يحب قراءة القصة - أو الأدب بصفة عامة - إذا كان فيه تصوير نفسه، بل العكس؛ كثيرا ما يكون هو الصواب، فتعجبك القطعة الأدبية بمقدار بعدها عن تصوير نفسك؛ فلو أخذت تقص أخبار الفقراء على فقير لما أعارك أذنا ولا احتفل لحديثك؛ لأنه منقوع في الفقر، ولا يثير انتباهه شيء هو منغمس فيه إلى أذنيه، لكن قص على الفقير كيف يعيش الأغنياء في قصورهم يرهف لك الأذن؛ لأنه يحب أن يعلم كيف تدور الحياة في هذا العالم البعيد. وكذلك يحب القعدة أن يسمع قصص المغامرين، ولا يشوق المصري أن يسمعك تحدثه عن المصريين بقدر ما يشوقه أن يسمع نبأ رحلة بين أهل الصين ... وإذن، فطريق الفرار قد أصبحت واضحة أمام من خيبت حقائق الواقع أحلامه، فليقرأ قصة فيها حياة تشبه هاتيك الأحلام الرائعة، وهكذا يفعل الناس.

وليس كل الفرار من الحقائق البغيضة يتم على هذا النحو العملي الذي وصفنا، بل هناك من تخيب أحلامه فينطوي على نفسه. وحسبه بذلك فرارا، فلا هو من الهمة بحيث ينسحب إلى دير بعيد، ولا هو من هواة القصص يهرب فيها من دنياه الواقعة، فأقل ما يستطيعه هو أن يغلق أبواب نفسه على نفسه ويظل يجتر أحلامه كما يجتر الجمل طعامه المخزون إذا عز الطعام في عرض البادية. وكم رجل وامرأة ممن ترى حولك لا يعيشون مع الناس بقدر ما يعيشون في نفوسهم! أولئك لم يستطيعوا سد الثغرة التي تباين بين الحقائق والأحلام.

وإذا كان لكل فرد منا حقائقه وأحلامه جنبا إلى جنب، فمراحل العمر - بالإضافة إلى ذلك - تختلف من حيث رجحان كفة هذه أو تلك، في الشباب ترجح كفة الأحلام بصفة عامة، وفي الرجولة المكتملة والكهولة ترجح كفة الحقائق بصفة عامة كذلك؛ فقلما يستطيع الشاب الفياض بغمرة الحياة الدافعة أن ينظر إلى الواقع، ثم يقف عند هذا الحد لا يعدوه، بل تراه - بغير وعي منه - يضفي على ذلك الواقع ألوانا زاهية من عنده؛ ولذلك قل أن تجد شابا يائسا. وفيم اليأس ما دام خياله كفيلا أن يكمل النقص الذي أصاب الواقع؟!

وأما إذا نضجت الرجولة - أو الأنوثة - في إنسان؛ فهو يزداد حصرا لنظره في نطاق الحقائق، فكأنما كان وهو شاب زوبعة من دخان لا تمكن العين من رؤية الحطب المشتعل، فلما تقدمت سنه انجلى ذلك الدخان شيئا فشيئا وتبلورت النار في جمرات محددة المعالم، وهي إلى أن تحدد معالمها بالقياس إلى الحطب أول اشتعاله؛ أحمى نارا وأشد فعلا ... وأقصد بذلك أن الرجل القادر على رؤية الحقائق بعيدا عن غفوة الأحلام أخصب إنتاجا من الشاب الذي تعميه أحلامه عن رؤية الحقائق في وضوح وجلاء، ومن ثم كان أكثر زعماء العالم في شتى نواحي النشاط رجالا أو كهولا، وندر جدا في التاريخ من أنتج إنتاجا غزيرا وهو لم يزل في صدر شبابه الحالم: التجار ورجال الأعمال وأصحاب البحث العلمي وقادة الجيوش وساسة الحكم، ثم الفلاسفة والأنبياء؛ معظمهم رجال تجاوزوا سن الشباب.

على أنه لا مناص للإنسانية في سيرها من شباب يحلم وشيوخ يلجمون الأحلام بالحقائق الواقعة، أو إن شئت فقل: لا بد لها من قلب يحس وعقل يفكر.

من وحي العزلة

في هذه الغرفة التي أسكنها في الطابق السادس من البناء، معتزلا ما استطعت إلى العزلة سبيلا، جلست في مساء ما بعد أن جاوز الليل نصفه، وهدأت المدينة في نعاس حالم، فلم أكن أسمع إلا حفيف السيارات آنا بعد آن، وإلا حركة المصعد حينا بعد حين ... جلست وحدي في هذه الغرفة العالية بعد أن جاوز الليل نصفه، وكان القمر ينشر غلالة شفافة رقيقة على صف من العمائر المتلاصقة، فرأيتها أمامي مفضضة الصدور معتمة الأسافل، كأنها صف من عمالقة الجن توحي للإنسان ما توحي، فخيل إلي عندئذ أني من غرفتي تلك في برج من هاتيك الأبراج التي يقال إن أصحاب الفكر يعتصمون بها من ضجة الحياة وصخبها، لولا أني أحسست أن البرج لم يكن من عاج!

في ذلك الهدوء الساكن الحالم، ألقيت على نفسي سؤالا: هل يمكن أن تكون هذه الطبيعة الوديعة «مخضبة بالدماء نابا ومخلبا» - كما يقول تنسن، شاعر الإنجليز فيما أذكر؟ هل يمكن أن تكون هذه الطبيعة - التي تراها الآن نائمة وساهمة - مليئة بأنواع التنافس والتناحر والتقاتل والتنازع، حتى ليقال إن الحياة ليست إلا قتالا متصلا بين أفراد النوع الواحد من جهة، ثم بين الأنواع الحيوانية المختلفة من جهة أخرى؟ هل صدق «دارون» حين صور وجه الأرض معتركا لا تنفك الكائنات الحية فيه ناشبة الأنياب والأظفار بعضها في بعض، بحيث لا يكون بقاء إلا للأقوى، حتى أوحى بوصفه هذا إلى الشاعر الإنجليزي الذي عاصره أن يتغنى قائلا: إن الطبيعة «مخضبة بالدماء نابا ومخلبا»؟ أم أن الحياة قوامها التعاون والتساند والتآزر؟ ... بعبارة أخرى: هل الحياة في صميمها حب أم قتال؟

لو كنت ألقيت هذا السؤال على نفسي منذ شهرين، لوجدت من الظروف التي كانت تحيط بي عندئذ ما ينطق لساني بالجواب السريع الصريح، وهو أن الحياة لحمتها قتال، وسداها قتال، ونسيجها قتال، وأولها قتال وآخرها قتال. فقد كانت الحياة عندئذ تبدو في ضوء خبرتي «مخضبة بالدماء نابا ومخلبا»؛ لأني رأيت الناس يكاد يأكل بعضهم بعضا من تسابق وتنافس.

لكني حين ألقيت هذا السؤال الآن، في هذه العزلة الساكنة الهادئة التي تجنب الإنسان اضطراب الخواطر وثورة المشاعر، أراني في عجب كيف يخفى على عين الرائي ما في الحياة من تعاون إلى جانب ما فيها من تنازع ومن حب إلى جانب ما فيها من قتال؟!

كيف يخفى على عين الرائي اتصال الجنين بأمه وهو بعد في أحشائها قطعة منها تحييه بدمها وتغذيه بغذائها تأكل له وتتنفس له وتمرض له؟! ثم كيف يخفى على عين الرائي اتصال الوليد بأمه وقد فصل عنها وأصبح كائنا عضويا قائما بذاته، لكنه لم يزل معتمدا في بقائه عليها، ترضعه حبا، وترعاه حبا، وتفنى في سبيله حبا؟ أفي هذا كله تنازع على البقاء أم تعاون في سبيل البقاء؟

كيف يخفى على عين الرائي منظر الدجاجة تنشر جناحيها لأفراخها، فتقيها بنفسها وتحميها بجسدها، ومنظر الحمامة تضع الحب في مناقير صغارها، ومنظر الطير يسير في الفضاء أسرابا أسرابا، والغنم تلتئم قطعانا؟ أفي هذا كله تنازع على البقاء أم تعاون في سبيله؟!

دلني في هذه الدنيا العريضة على كائن واحد من أي نوع شئت عاش حياته مستقلا بذاته! إنه ليكفي الكائن الحي أن يحتاج إلى أبوين ينسلانه لنقول عنه إنه جاء نتيجة التعاون والتعاطف والحب ... والإنسان بصفة خاصة تراه إذا ما فرغ من مرحلة اعتماده على غيره من الناحية الفسيولوجية قد استبدل بذلك اعتمادا آخر في وسائل عيشه ومقومات حياته؛ فمحال أن تقوم للإنسان قائمة بغير معونة الآخرين.

إن الكاتب الإنجليزي «دي فو» حين أراد أن يعلم إلى أي حد يمكن للفرد أن يعيش بمعزل عن سائر الناس، كتب قصته الشهيرة «روبنسن كروسو» التي جعل فيها «روبنسن» هذا تنقطع به الطريق في جزيرة خالية، فراح يبني لنفسه الكوخ ويطهو لنفسه الطعام ويعد لنفسه الثياب، لكن في هذا مغالطة كبرى؛ لأنها توهم القارئ أن روبنسن، استطاع فعلا - ولو إلى حين - أن يعيش بغير معونة الآخرين، ناسيا أنه حين انقطعت به الطريق في الجزيرة كان قد امتلأ رأسه بأفكار وذكريات استمدها من المجتمع الذي كان يعيش بين ظهرانيه قبل أن يعتزل ... وعلى كل حال فقد اهتدى «دى فو» بسلامة تفكيره إلى خاتمة جميلة يختم بها قصته؛ إذ جعل «روبنسن» يسعى إلى العودة إلى بلاده، ولم يكد يرى سفينة على بعد حتى لوح لها، فعرجت عليه وأقلته؛ مما يعني أن الفرد مصيره إلى المجتمع أولا وآخرا. وإذا قلنا «المجتمع» فقد قلنا التعاون؛ لأن قوائم المجتمع بغير تعاون تندك بين عشية وضحاها.

على أننا لم نعد نحيا في عصر التخمين والضرب في مجاهل الفروض النظرية الخيالية. لم نعد نعيش اليوم في عصر تكون فيه الكلمة للأديب وخياله، إنما عصرنا عصر التجارب العلمية، والكلمة الفصل فيه أصبحت للعالم في معمله. فإذا أردنا أن نعلم هل يستطيع الكائن الفرد أن يحيا حياته سليمة قوية بغير معاونة زملائه له أو لا يستطيع؛ فلا تكون وسيلة ذلك أن يكتب كاتب مثل «دى فو» قصة «روبنسن كروسو»؛ ليرسل خياله فيما يمكن أن يقع لرجل يعيش وحده بعيدا عن الناس، بل لا تكون وسيلة ذلك أن يجلس فيلسوف جلسة أرسطو، ويضع سبابته على جبهته ليتأمل هل الإنسان حيوان اجتماعي بطبعه وفطرته أو أن اجتماعه بغيره عادة مكتسبة ونظام موضوع، كان يمكن أن يكون أو ألا يكون.

لا، لم نعد نعيش في عصر يسوده تأمل الفيلسوف ولا خيال الأديب، لكننا نعيش في عصر العلماء والمعامل، وأصبحت الكلمة للمعامل وحدها، وللأنابيب والمخابير وحدها.

وهذا هو عالم يخضع المشكلة للتجارب العلمية، فإذا التجارب ناطقة بأن عزلة الفرد عن أبناء نوعه فيها القضاء عليه، وبأن تعاون الفرد مع أبناء نوعه أمر محتوم لبقائه. وإنما أردت بذلك العالم «أولي» في كتاب له عنوانه «جماعات الحيوان»، بين فيه بمنطق العلم التجريبي، كيف تزداد قدرة الكائن الحي على البقاء كلما ازداد حوله عدد الأفراد من نوعه، وكيف تقل قدرته على البقاء من الناحية البيولوجية كلما قل عدد هؤلاء الأفراد أو اعتزل.

فالحيوان إذا عزل عن زملائه - هكذا دلت التجربة العلمية التي أجراها «أولي»- حيل بينه وبين النمو السوي السليم، أو أصاب جثمانه تلف، أو هلك. بينما الحيوان الذي يسمح له بالعيش بين أفراد نوعه يكبر حجما وتسرع استجاباته لمثيرات البيئة، وتلتئم جروحه في وقت أقصر، ويتغلب على صدمات لا يتغلب عليها الحيوان المعتزل.

مثال ذلك: جاء العالم في تجاربه بفريق من الدود، وسلط عليه أشعة فوق البنفسجية وهو مجتمع، ثم سلط نفس الأشعة على الديدان منفردة، فوجد أن الدودة أسرع إلى التحلل والفناء في انفرادها عنها في اجتماعها مع زميلاتها. وأعاد عالمنا التجربة بأشكال مختلفة، فسلط الأشعة القاتلة على مجموعة الديدان، ثم رفع عنها الأشعة وترك الديدان مجتمعة؛ ليرى بعد كم دقيقة تموت، وأعاد نفس التجربة فسلط الأشعة القاتلة عليها، ثم رفعها عنها وفرق الديدان بعضها عن بعض بحيث تحيا كل منها في عزلة عن زميلاتها، ووقف يرقب ليرى بعد كم دقيقة تموت؛ فوجد أن الديدان في هذه الحالة الثانية تموت أسرع جدا من الديدان في الحالة الأولى.

ومن تجاربه أيضا أنه وضع مجموعات من السمك الذهبي عشرات عشرات في سائل قمين أن يقضي على حياته. ووضع أفردا من السمك نفسه في السائل نفسه، فوجد أن السمك وهو مجموعة يستطيع البقاء في السائل المميت مدة أطول جدا مما تستطيع تلك السمكة، وهي بمعزل عن أخواتها. وأعاد التجربة عينها في صور مختلفة، فجعل يضبط الكمية اللازمة من هذا السائل لقتل السمكة وهي منفردة، ثم يضع كميات مساوية من السائل لأسماك مجتمعة فلا تموت، ومعنى ذلك أن ما يكفي لفناء الفرد وهو معتزل؛ لا يكفي لفنائه وهو عضو في جماعة.

وهكذا مضى «أولي» في تجاربه المتعددة المتنوعة، وكان دائما يصل إلى النتيجة عينها، وهي أن اجتماع الفرد في حياته مع زملائه (على شرط ألا يزيد عدد الأفراد المجتمعة عن حد معلوم) عامل قوي في المساعدة على البقاء من الوجهة البيولوجية.

وما تقوله عن الديدان والأسماك؛ قل أضعاف أضعافه عن الإنسان. ولسنا بذلك ننكر ما في الحياة من تنافس وصراع، لكن نكبة النكبات أن ننظر إلى الصورة من أحد وجهيها ، ثم ننكر الوجه الآخر الذي لم نوجه إليه النظر ... نعم إن بين الأفراد والأنواع تنازعا على البقاء، ولكن إلى جانب ذلك حقيقة لا سبيل إلى نكرانها، وهي أن هنالك كذلك تعاونا في سبيل البقاء.

وتعاونك مع الناس لا يكون وأنت معتزل ...

هذه خواطر أوحت إلي بها عزلتي في غرفتي حينا من زمان، وإن كان المريض أصدق الناس حديثا عن فضل العافية، وإن كان الجائع أولى الناس بالقول في نعيم الشبع؛ فقد يكون المعتزل أبصر الناس بضرورة التعاون مع سائر الناس.

الطير الذي طار وارتفع

يعجبني من الأديب أن يكذب، فإذا أكذوبته سارية في الناس جيلا بعد جيل، ترددها الألسنة فتنة بسجعها وإعجابا بوقعها في المسامع، دون أن يتمهل عندها متمهل، لينكت معناها نكتا، فيهتدي إلى مدى ما فيها من خطأ أو صواب. ولو كانت أكاذيب الأدباء التي تجري في الناس مجرى الأمثال، يقتصر شرها على دورانها في الأفواه، ورنينها في الأسماع؛ لهان خطبها، لكنها كثيرا ما تؤثر في سلوك الناس، فيضلون سواء السبيل، من حيث يريدون لأنفسهم هداية ورشدا.

فقد زعم للناس أديب - لست أدري من هو، ولا في أي زمن عاش - أنه «ما طار طير وارتفع، إلا كما طار وقع» فانساق الناس بقوله المسجوع انسياقا أعماهم عن مدى الصواب فيما زعم، فكلما هوى في المجتمع نجم بعد سطوع، وكلما ذوت أمة بعد ازدهار، هزوا رءوسهم ومصوا شفاههم، وقالوا مع الأديب: «ما طار طير وارتفع، إلا كما طار وقع.»

وكنت كذلك أهز رأسي، وأمص شفتي اعتبارا واتعاظا، وأقول حكمة الأديب مع القائلين، حتى كان أمس ... جلست وأسندت رأس على مقعدي و«سرحت»، وأخذتني نزعة من الحسد - ألا ما أضعف طبيعة الإنسان! - إذ طاف برأسي فلان، وأخذت أتعقب خطواته في الحياة وخطواتي، فرأيته يخطو خطوات الجبابرة، ورأيتني أكبو وأتعثر؛ فقد فرغنا من الدراسة معا، وسرنا فيما يشبه أن يكون طريقا واحدا، لكنه كاد يشرف على القمة، وما أزال ألهث في ربع الطريق! عندئذ جاءتني حكمة الأديب على سبيل العزاء: إنه ما طار طير وارتفع ...!

ولم ألبث أن أتبين كم أنا غر ساذج أتلهى بالأكاذيب! ... إن الطير هذه المرة في ارتفاع دائب، ولا ألمح فيه علامة تنبئ بسقوط. إنه صاعد أبدا ... إن الذروة قد باتت منه قريبة دانية ... لقد كذب الأديب صاحب الحكمة.

لكن من يدري؟ لعل الأديب الذي أذاع في الناس هذه السجعة معذور؛ لعله لم يرد بالناس كذبا ولا تضليلا، وإنما أراد أن يسجل ما ظن أنه الحق، فلم تقع عينه على طير طار إلا وعاد إلى الهبوط بعد حين قصير أو طويل؛ فمهما أوتي الطير من قوة الجناحين وصلابة الريش، فهو لا يستطيع أن يظل محوما في الفضاء إلى أبد الآبدين، فلا بد له من عودة إلى الغصون أو السقوف أو إلى هذه الأرض، يلتمس هنا أو هناك لنفسه مستقرا يلوذ به، وكنا يأوي إليه ولو إلى حين، لعل أديبنا لم يرد بالناس كذبا ولا تضليلا حين قال ما قال، وإنما أراد وصفا للواقع الذي يشهده في كل حين. والذي أخطأ هم الناس حين طبقوا قول الأديب على شتى أوضاع الحياة؛ فظنوا أن ما يصدق على الطير يصدق كذلك على الآدميين أمما وأفرادا.

فمن أبشع مصادر الخطأ الإنساني، وأفظعها خطرا، المماثلة بين شيء وشيء، بحيث نطبق على الثاني ما يصدق على الأول لشبه بين الشيئين في وهمنا وخيالنا، ثم نتصرف على هذا الأساس ... فالحكومات الاستبدادية التي أظلت أوروبا منذ عهد قريب، إن هي إلا نتيجة هذا الخطأ، ولأن الفرد من الناس كائن عضوي. والمجتمع يشبه الفرد، فلا بد أن يكون المجتمع كائنا عضويا كذلك، وما دام الكائن العضوي يتسم بوحدة تمسك الأعضاء، بحيث لا يجوز لعضو أن يتصرف بما لا يتفق مع تصرف سائر الأعضاء؛ فكذلك الأمة لا ينبغي للفرد منها أن يعارض بسلوكه أو بفكره ما تواضع عليه سائر الأفراد، ومن الحكم؟ هو العقل في الفرد، وهو الدولة في المجتمع، فما تحكم به الدولة قضاء مبرم لا راد له، وليس فيما تنطق به الدولة خطأ يصحح أو كذب يرد إلى صواب.

والخطأ كله هنا مصدره المماثلة بين المجتمع والفرد، ولا تماثل هناك إلا في وهم الإنسان، فلو قلنا لهؤلاء الذين يعتقدون الشبه بين المجتمع والفرد، ويفرحون بهذا الشبه، ويستنتجون منه النتائج الخطيرة البعيدة المدى، لو قلنا لهم: إن للفرد شعرا وأظفارا، فأين الشعر والأظفار في المجتمع؟! ضحكوا من جهلنا، وقالوا: ما هكذا تكون المشابهة بين الشيئين، وإنما يشبه الشيء بالشيء في الصفات الجوهرية التي هي كيت وكيت ... وكأنما فاتهم هم في هذا الموضوع أن الصفة تكون جوهرية لمن أرادها!

وكذلك ترى من أصحاب الفكر من يمضون في تشبيه المجتمع بالفرد إلى حد أن يقولوا: إن الفرد له طفولة وشباب وشيخوخة بعدها يموت، وكذلك حال المجتمع، فلكل مجتمع طفولته، وشبابه وشيخوخته ... وعلى ذلك المنطق لا يترددون في الحكم على الأمم، فتراهم يقولون - مثلا - إن هذه الأمة الفلانية قد طال بها العهد وهي في أوجها؛ ولذا فلا بد أن تكون قد هرمت، ولا ينتظر لها إلا الفناء القريب ... وربما رتبوا على ذاك التفكير نتائج عملية تمس سلوكهم. •••

هذا مثل واحد أسوقه لأبين به كيف يتعرض الإنسان للخطأ حين يبني نتائجه على تشبيه شيء بشيء. وإنما سقت هذا المثل استطرادا في الحديث، وما أردت في الواقع إلا أن أذكر للقارئ حالة على وجه التخصيص، وهي أن الطير إذا كان لا بد له أن يقع بعد ارتفاع، فما كذلك الإنسان؛ فصفحات التاريخ مفعمة بالشواهد على أن الرجل من الناس قد يرتفع ويرتفع في غير نقوص ولا انتكاس، بل يظل يرتفع حتى بعد موته! وإلا فحدثني متى وقع شيكسبير بعد صعوده في أجواز الفضاء؟ لقد ظل الرجل يعلو ثم يعلو، وها هو ذا لا يزال في أنظارنا يعلو! وحدثني متى وقع «فورد» بعدما أصابه من نجاح في عالم الأعمال؟ ومتى سقط نيوتن أو أينشتين؟ وقل مثل هذا في كثير جدا من نوابغ الإنسانية في كل جانب من جوانب حياتها.

إننا على وجه الإجمال أمة متشائمة، تعطف على العاجز أكثر مما تصفق للقوي الناجح . إن أسماع الناس لا تطمئن إليك إذا زعمت لهم أن الإنسان ذو قدرة وجبروت، وأنه يحاول أن يمضي قدما في غزو الطبيعة حتى يغزوها ويقهرها، لكن اضرب لهم على وتر الضعف والإخفاق. وقل لهم: من ذا يكون هذا الإنسان المسكين؟ إنه ضئيل هزيل، لن يبلغ من فهم الكون شيئا يسمن أو يغني؛ يصفقوا لك إجلالا وإكبارا.

وهذا هو - في أغلب الظن - ما يدعوهم إلى التجهم لك إذا زعمت لهم أن الطير القوي قد يظل محلقا في أعلى أجواز السماء إلى الأبد؛ لأنهم لا يريدون لرفعة إنسانية أن تتصل وتستمر. ولا يحبون شيئا بمقدار ما يحبون لهذا الطائر المحلق في حصون الجو أن يسقط مهيض الجناح محطم الريش، جزاء ما طمع وما طمح.

إننا على وجه الإجمال أمة تنطوي على كثير من الذلة والانكسار، وصدق من لاحظ أن بين نظراتنا ونظرات الغربيين فرقا في البريق واللمعان! فعين الأوروبي مفتوحة تلمع وعين الشرقي مكسورة تنم عن كثير من الشعور بالضعف ... ولعل أول شروط الحياة الناجحة أن تثق بالقدرة على تحقيقها؛ فلن تشق أجواز الفضاء بجناحيك إلا إذا وثقت منذ البداية أن ارتفاعك لا يعقبه سقوط.

المتفرج واللاعب

كثيرا ما يقال إن هذه الحياة مسرحية، وهؤلاء الناس ممثلوها، والحق أن الحياة والمسرحية شبيهتان إلى حد بعيد، فليس يقتصر الأمر فيما بينهما من أوجه الشبه على الظواهر التافهة، كأن يقال مثلا: إن الحياة لها - كما للمسرحية - ستار يرفع ساعة الميلاد بصرخة ويسدل ساعة الختام بشهقة خفيفة ينتهي بها كل شيء، أو أن يقال إن في الحياة - كما في المسرحية - فصولا ومشاهد؛ فهذه طفولة لاهية، وهذا شباب مندفع، وتلك كهولة تنضج عندها ثمرة العمر نضجا قد يشوبه شيء من العطب فتسقط، كما يسقط البطل في نهاية المأساة سقوطا ينسدل بعده الستار.

كل هذا شبه صحيح، لكن ما هو أعمق منه من أوجه التشابه بين الحياة والمسرحية؛ هو أن الإنسان في الحياة - كاللاعب في المسرحية - يحصر نفسه في «دوره» حصرا؛ فلا تتوقف إجادته له على معرفة العلاقة بين ما يقوله أو يفعله، وبين ما يقوله أو يفعله سائر اللاعبين. ولو قد ارتفع بنظره لينظر إلى الأوضاع كلها نظرة تقرن بعضها إلى بعض، كما ينظر إليها مؤلف المسرحية، أو كما ينظر إليها المتفرج؛ إذن لتغيرت قيم كثيرة للأشياء في عينه وتقديره.

إن من يلعب دور العظيم في الحياة - كالذي يلعبه في المسرحية - قد لا يكون عظيما بالقياس إلى شخص آخر من أشخاص الرواية، إذا نظر إلى الشخصين نظرة مقارنة تحلل وتوازن، وهي النظرة التي ينظر بها المؤلف أو المتفرج الناقد، لكنه عظيم في ظن نفسه، لأنه- كما قلت - يحصر نفسه في دوره حصرا، لا يتيح له أن يمد النظر إلى ما وراء ذلك من أشخاص وأحداث.

وإنه لمن أشق الأمور على الإنسان أن يجاوز حدود نفسه، بحيث يجعل من شخصه شخصين: شخصا يلعب دوره في قصة الحياة، وشخصا «يتفرج» بعين الناقد الخبير العاقل؛ ليزن مقدار نفسه بالقياس إلى مقادير الناس الآخرين، غير أن هذا الأمر العسير الشاق قد استطاعه نفر قليل من العباقرة الجبابرة الفحول، فقد يبلغ الرجل من هؤلاء قمة المجد البشري، لكن هذا المجد لا يمنعه من الخروج على نفسه لينظر إليها «من الخارج»، فيزنها بالقسطاس المستقيم وزنا لا يصدر فيه عن التعصب والهوى لنفسه. أقول إن الرجل من هؤلاء قد يبلغ قمة المجد البشري، ثم ينظر إلى نفسه من الخارج، فإذا به يؤثر عليها «دورا» آخر، لا يكون له ظاهر المجد وإن تكن له حقيقته. فهذا بوذا مثلا، كان في مسرحية الحياة الظاهرة صاحب سطوة لا تقاس إليها عند النظرة العابرة أدوار كثيرين من سائر اللاعبين، لكنه خرج من حدود نفسه، وقارن وحلل، فإذا به يؤثر على سطوة الملك - أو ما في حكمها - دورا آخر يقتضيه أن يكون جائعا عاريا، وطاؤه الأرض وغطاؤه السماء، وقد أثبت الزمان صدق ميزانه؛ لأنه لو آثر وجاهة الإمارة والملك لما أفسح له التاريخ من صفحاته أكثر من سطر أو سطرين. على حين ضمن له ذلك العري والجوع زعامة ألوف الملايين من البشر، وكتب له صفحات من نور في سجل الخلود.

وهذا الغزالي مثلا آخر، أتيح له في مسرحية الحياة أن يلعب دورا فيه كثير من الأبهة والعظمة الظاهرتين، لكنه هو الآخر استطاع أن يتجرد من نفسه لينظر إلى نفسه نظرة موضوعية تمكنه من قياسها إلى غيرها، فإذا دور آخر يستهويه، ليس فيه من جلال المنظر كثير ولا قليل.

نحن في مسرحية الحياة لاعبون، لكل دوره الذي أريد له، أو الذي اختاره لنفسه بما يتفق مع ميله وهواه. ولو قد أتيح للواحد منا أن يكون لاعبا حينا ومتفرجا حينا آخر؛ لهان كثير جدا من الكوارث والخطوب؛ لأن كثيرا جدا من هذه الخطوب وتلك الكوارث منشؤه ما يعيش الناس فيه - أفرادا وجماعات - من أوهام عن أقدار أنفسهم. وإني أعود فأقول إنه ليس من الهينات الميسورة لكل إنسان أن يقف من نفسه موقف المتفرج ليضعها موضعها الصحيح بالنسبة لما عداها، ولو كان ذلك من الهينات الميسورة لكل إنسان، لما طلبت الرحمة من الله لمن يعرف قدر نفسه بالتعيين والتخصيص؛ إذ قيل: رحم الله امرأ عرف قدر نفسه. •••

على أن الحكمة هي في الموازنة بين اللعب والتفرج؛ فالإمعان في تجرد الإنسان عن نفسه ليتفرج مضر ضرر الإمعان في اللعب بغير وقفة للتدبر والنظر. فلو كان العالم كله لاعبا بغير تدبر الناقد الفاحص المحلل؛ لما اتخذت الأمور أقدارها الصحيحة، ولو كان العالم كله متفرجا لما أنتج شيئا.

وإن سياق الحديث ليدعوني في هذا الموضع أن أستطرد، فأقول: إن اللاعبين في مسرحية الحياة من جهة، والمتفرجين من جهة أخرى؛ قد اختلفت قيمة الفريق منهم بالنسبة لقيمة الفريق الآخر في العصور المختلفة، اختلافا يبعث على التأمل والتفكير.

فقد كان الناس في الألعاب الأولمبية عند اليونان الأقدمين، ينقسمون فرقا ثلاثا: ففريق ينزل مضمار السباق، وهؤلاء هم اللاعبون وفريق آخر يجلس على هامش الحلبة، وهؤلاء هم المتفرجون، وفريق ثالث لا ناقة له في مضمار اللعب ولا جمل، وإنما ذهب هنالك لينجز ما أراد لنفسه من أعمال تتصل بالبيع والشراء في ذلك المزدحم المائج من الناس ألوانا وأشكالا ، وكانت القيمة الاجتماعية الكبرى للفريق الثاني - فريق المتفرجين - فما كان يجوز لرجل يعتز بكرامته وكرامة أسرته أن ينزل المضمار لاعبا متسابقا، ويتلو هؤلاء في المنزلة فريق اللاعبين؛ فقد كان هؤلاء يظفرون بكثير من المجد في أعين الناس، مهما يكن قدرهم بالنسبة إلى الطبقة العالية المتفرجة. وأما أرباب البيع والشراء، الذين لا هم إلى أولئك ولا إلى هؤلاء؛ فكانوا أدنى الناس قيمة وقدرا.

ويمكن التعبير عن هذا المعنى نفسه بعبارة أخرى، فنقول: إن القيمة الكبرى عندئذ كانت لمن يتدبر ولا يعمل. أو بعبارة ثالثة: كان أصحاب التفكير النظري هم السادة، والعكس صحيح؛ أي إن من علامة السيادة والرفعة أن تقف عند حد التفكير النظري دون أن تجاوزه إلى العمل والتطبيق. ولذا كان أمعن العلوم في التفكير النظري - مثل الرياضة والفلسفة - هي أجدر العلوم بالدراسة عند أبناء العلية. ولا عجب في مثل هذا الجو الفكري أن يدعو فيلسوفهم أفلاطون إلى أنه لا يجوز أن يحكم الناس إلا فيلسوف. ثم لا عجب كذلك أن يقتضي بناء المجتمع عندئذ أن يكون فيه طبقة من العبيد، يوكل إليها العمل اليدوي بأنواعه المختلفة.

وها نحن أولاء نشهد في عصرنا كيف تغيرت الأوضاع، وتبدلت القيمة النسبية للاعبين والمتفرجين، بالمعنى الحرفي والمعنى المجازي على السواء.

فاللاعبون - بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة - قد تفوقوا في قيمتهم على المتفرجين. فأين من يسبح في الماء ممن يقف على الشاطئ متفرجا؟ أين قيمة لاعب الكرة أو المتسابق في الجري والقفز ممن يقرأ أخبار ذلك في الصحف أو يستمع إليها في المذياع؟

ثم تفوق اللاعبون - بالمعنى المجازي هذه المرة - على المتفرجين، لم تعد القيمة في عصرنا للذي يجلس إلى مكتبه «يفكر»، بل آلت القيمة كلها لذلك الفريق اللاعب الذي ينزل مضمار الحياة العملية، والجانب السياسي منها بوجه خاص. الكلمة العليا في العالم الآن صائرة، أو قد صارت، لصاحب الحركة والعمل. وأما الذي يجلس اليوم على كرسيه «يفكر»؛ فما أجدره أن يفتح فمه كالأبله؛ ليملأه الزمان ترابا.

فلو سألت نفسي بعد هذا: لماذا أخفقت حين نجح سواي؟ كان الجواب: لأنك جلست تتفرج حين لعب سواك. •••

ولو عدنا إلى تشبيه الحياة بالمسرحية الذي بدأنا به الحديث؛ لقلنا إنه لا تتم حياة كاملة بغير لاعبين ومتفرجين في آن معا، بغير عمل ونقد نظري جنبا إلى جنب، والحكمة كل الحكمة أن تجتمع في الفرد الواحد صفتا اللاعب والمتفرج، ليعمل من جهة ويتدبر طريقه ومنهجه من جهة أخرى، وأن تجتمع في الأمة الواحدة فئة العاملين وفئة المفكرين؛ لتتمم كل منهما الأخرى.

الصفر النفيس

يقولون في تاريخ الرياضة إن الصفر كان آخر الأرقام العددية ظهورا، ومع ذلك فهو أهمها على الإطلاق. وإذن؛ فهو أكثرها تحضرا وأرقاها تطورا؛ لتأخر ظهوره في عصور التاريخ من جهة، ولهذه الأهمية التي يمتاز بها من دونها من جهة أخرى، كما يقال عن الإنسان - مثلا - إنه أرقى ضروب الحيوان؛ لأنه جاء في مراحل التطور بعدها، ولأنه كذلك أهمها وأخطرها في آن معا.

أما أن الصفر قد كان آخر الأرقام العددية ظهورا؛ فذلك معقول، لأن الإنسان في مراحل همجيته يبدأ بعد الأشياء الموجودة فعلا، ولا يأبه كثيرا أو قليلا بحساب ما هو معدوم ليس له وجود، وهو يريد أن يعرف كم بقرة له: واحدة هي أم اثنتان أم ثلاث؟ وكم زوجة يملك؟ يريد أن يعد الثمار المخزونة والطرائد التي صيدت، والأسرى الذين وقعوا له في القتال، وكل هذا يحتاج إلى أعداد، لا يكون الصفر بينها.

فلما تطور الإنسان على مر الزمان، استوقف نظره العدم كما استوقفه الوجود، فأراد التعبير مثلا تعبيرا حسابيا عما يكون لديه من بقر أو ثمر أو زوجات أو أسرى، حين لا يكون لديه في الواقع من هذا كله شيء، فاضطر حينئذ أن يخلق «الصفر»، أداة للتعبير عما يريد، فلو قال لزميله إنه يملك «صفرا»، من البقرات أو الزوجات؛ فهم زميله عنه ما أراد.

وأما أن الصفر قد جاء أهم الأرقام العددية جميعا؛ فذلك أيضا واضح إذا ما ذكرنا أنه لولاه لاستحال على الحساب أن يجد أرقاما مقدار ما لدينا اليوم من أعداد، ولاضطر الإنسان تبعا لذلك أن يحصر حسابه في دائرة ما عنده من أرقام. فلولا الصفر؛ لما أمكن للواحد المتواضع أن ينقلب عشرة أو عشرين أو ألفا أو عشرة آلاف أو ما شئت من هذه الأعداد، التي أعرفها أنا وأنت أرقاما على الورق، وقد يعرفها سوانا جنيهات أو ما إليها مما تطيب به الحياة. نعم، لولا هذا الصفر «المسكين» الذي لا يساوي في سوق البيع والشراء شيئا - لأنك لا تشترى بالصفر خبزا ولحما - لولاه لاستحالت عمليات الحساب، التي لها في شئون الحياة العملية والحياة الفكرية، ما لها من خطر. •••

تلك حقيقة أرويها لك باردة لا تجري في عروقها دماء، ثم أضع القلم حينا لأدير البصر في الحياة من حولي، وما تدل عليه أوضاعها من معان، فإذا هذه الحقيقة التاريخية الجامدة قد انتفضت أمامي بغتة كائنا حيا مختلجا نابضا، يمتعني ويفزعني ... وكان المفتاح الذي ضغطت عليه بإصبعي، فانفتحت لي هذه الآفاق الجديدة الممتعة المفزعة هو أني حولت الصفر من أرقام الحساب إلى دنيا البشر!

تخيلت أن هؤلاء الناس من حولي أعداد حسابية، تختلف «قيمة» باختلاف «قدرتها الشرائية»؛ فهذا الرجل واحد، وذلك اثنان، وهكذا حتى وصلت إلى الرجل الذي تكون قيمته تسعة بالقياس إلى من ذكرت. ثم أردت بعد ذلك أن أنتقل إلى من يكون عشرة بين الناس - واضعا أرقام الحساب التي أقيس عليها نصب عيني - فإذا بالأمر يقتضيني في هذا الموضع أن أبحث عن شخص آخر تكون قيمته في الحياة صفرا؛ ليقف إلى جوار سيده، حتى يجعله في الناس عشرة محترمة موقرة ...

وها هنا انفتح أمام عيني هذا الأفق المخيف الرهيب! أيكون هذا صحيحا في عالم البشر كما هو صحيح في أرقام الحساب؟! أصحيح في عالم البشر أن الإنسان يستحيل أن يعظم ويضخم - بعد حد معلوم - إلا على حساب غيره من «أصفار» الإنسانية الذين لا يساوون في دنيا العيش شيئا؟ أمن أجل هذا إذن قاربت اللغة بين لفظتي العدم والعدم؛ لتدل على أن ما كتب عليه أن يكون صفرا - أي عدما - لا بد له كذلك أن يعيش في عدم وإملاق، ولا عبرة بالحقيقة الواقعة الرهيبة المخيفة، وهي أن هذه الأصفار البشرية هي التي خلقت «عشرات» الرجال و«مئاتهم» و«آلافهم»؟

إي والله إنه الحق! فقد يستطيع الرجل مثلا أن يزرع أرضه بيديه، وعندئذ لك أن تعده واحدا أو تسعة حسب انفساح الرقعة التي يملك، لكنه إذا ما اتسعت رقعته فوق ما يستطيع زرعه بيديه، اضطر أن ينتقل خطوة في علم الحساب، فيجعل نفسه في خانة العشرات، بأن يضع «إلى يمينه» صفرا أو صفرين أو أكثر حسب ما يقتضيه اتساع ملكه. وعلى هذه الأصفار أن تظل قائمة إلى يمينه، تمده بقيمته الحقيقية، وإلا اندك بناؤه وانهار!

ثم ماذا؟

تم مضيت في التشبيه إلى آخره، فوجدت الأمر ينتهي إلى خاتمة اطمأنت لها نفسي بعد ضيق، وانبسط لها جبيني بعد عبوس؛ إذ وجدت أن إدراك قيمة الصفر - في علم الحساب - كان دليلا على الرقي في مدنية الإنسان. كان دليلا على الرقي بمعنيين: بمعنى أن هذا الإدراك قد جاء آخرا، وبمعنى أنه كان أداة وسعت الآفاق أمام علم الحساب.

أفيكون الأمر كذلك - يا رباه - في أصفار البشر؟ الجواب: كان ولم يكن، أعني أنه قد تم منه شيء وبقي شيء نرجو له التمام؛ فقد أخذ العالم منذ قريب يعرف للطبقات العاملة - وقد كانت أصفار البشر - قيمتها الحقيقية، أخذ العالم منذ قريب يدرك أنه على الرغم من أن هذه الأصفار البشرية محدودة في قوة شرائها؛ فإنها هي التي تهيئ الأسباب لأصحاب هذه القوة، وأنه إن أراد «الواحد» الذي ارتقى إلى «خانة العشرات» أن يحتفظ بمكانته العددية؛ فلا بد له من المحافظة كذلك على الصفر الذي يقف إلى جانبه مؤيدا ومعضدا، لكن ما قد تم من الأمر حتى اليوم لا يكفي؛ لأنه إن غير في إدراك القيمة العددية لهؤلاء الأصفار؛ فهو لم يغير بعد في إدراكنا لقيمتهم «النفسية» ... ولا مدنية بغير هذا.

لا مدنية بغير إدراكك أن للصفر البشري قيمة شعورية، وإن أعوزته القيمة في سوق البيع والشراء، وكيف أنسى ما رأيته أمس في غرفة الطعام من الفندق الذي أقيم فيه؟

جاء ضابط طيار، وجلس إلى مائدة قريبة مني يتناول غداءه. فلما قدم له الخادم طبق الفاكهة، ازور عنه الضابط لعطب رآه - فيما أظن - فوجه إلى الخادم لوما حادا عنيفا (وقد لا يكون في ذلك ما يعاب؛ إذ ربما جاز هذا «للواحد» على «صفره»، الذي جعله عشرة موقرة محترمة) لكن الصفر البشري المسكين هم بالجواب، فثارت ثائرة الضابط الطيار؛ لأن خادما أراد الجواب، وأمره أن ينادي «الخواجة»؛ لأنه لم يتعود أن يجادل الخدم.

وددت أن يعلم القارئ عن هذا الخادم ما أعلمه؛ فوالله ما وقعت عيني عليه مرة إلا وتذكرت قصيدة «جراي» الخالدة التي وقف فيها وسط قبور الفقراء في فناء الكنيسة يسائلهم: ترى كم منكم من كان يعدل فحول الشعراء وجبابرة القادة والعلماء لو أسعفته الظروف؟!

إن المسكين «صفر» في سوق البيع والشراء، ولسوء حظه أن الضابط الطيار لم يبلغه أن الإنسانية منذ قرون طويلة قد فرغت من الكشف عن قيمة الصفر في علم الحساب؛ فرأته أكثر الأرقام العددية حضارة، وأهمها منزلة وقيمة ... وإنه لم يبق إلا أن تعترف الإنسانية كذلك بما للأصفار البشرية من خطر وقيمة.

وفرغت من غدائي، وصعدت إلى غرفتي، فإذا بي ألمح الخادم مقرفصا في ركن معتم يجهش بالبكاء.

شمال وجنوب

كثيرا ما أقرأ الصحيفة أو الكتاب في شيء من الغفوة والذهول؛ فعيناي تطالعان شيئا، والعقل مشغول بشيء آخر، حتى إذا ما فرغت من قراءتي، وسألني سائل: ماذا قرأت في هذا الفصل أو في ذاك المقال؟ لم أجد ما أجيب به إلا على نحو مضطرب مهوش غامض.

لكني قد أصادف في غضون قراءتي الغافية الذاهلة فقرة أتنبه لها مذعورا كأنما هي تلسع؛ فأعيد قراءتها متمهلا متفهما، وأديرها في رأسي لأتخذ إزاءها موقف القابل أو الرافض أو المتشكك، ثم أمضي في القراءة ... ولعله من مثل هذه الفقرات المنبهة الموقظة تتألف ثقافة الإنسان؛ لأنها هي التي تكون له رأيا ووجهة النظر، وما أكثر ما يكون الكاتب أو الفيلسوف صنيعة وخزة من هذه الوخزات القوية، التي لولاها لظل العقل قابلا، يحصل العلم تحصيلا يجمع الحقيقة إلى جوار الحقيقة، حتى يصبح الرأس كتابا متحركا لا إنسانا مفكرا.

وهذا هو فيلسوف الألمان «كانت» يقرأ لزميله الإنجليزي «هيوم» ما ذهب إليه في إنكار العلاقة السببية بين الأشياء والحوادث، «فيستيقظ من سباته» - كما يقول - وينهض ليجيب عن قول زميله إجابة مستفيضة، فإذا هو يقيم للناس بجوابه ذاك بناء شامخا جبارا.

من هذه الفقرات التي قرأتها فتنبهت من غفوتي، ثم أعدت قراءتها متمهلا متفهما متفكرا، هذه الفقرة الآتية التي كتبها كاتبها «ديورنت»، وهو يصف كيف أطبقت القبائل الآرية الشمالية في العصور القديمة على بلاد الهند؛ فاكتسحت أهلها نحو الجنوب اكتساحا، ولم تلبث أن استذلتهم واستعبدتهم وملكت زمامهم ... «ولم تكن غزوة الآريين لهذه القبائل المزدهرة، وانتصارهم عليها إلا حلقة من سلسلة متصلة من الغزوات، كانت تقع على فترات منتظمة بين الشمال والجنوب، فينقض الشمال انقضاضا عنيفا على الجنوب المستقر الآمن. وقد كان ذلك مجرى من المجاري الرئيسية التي سارت فيها حوادث التاريخ؛ إذ أخذت المدنيات تعلو على سطحه وتهبط، كأنها أدوار الفيضان يعلو عصرا بعد عصر؛ فالآريون قد هبطوا على الدرافيديين (في الهند) والآخيون والدوريون قد هبطوا على الكريتيين والإيجيين (في اليونان)، والجرمان قد هبطوا على الرومان، واللمبارديون قد هبطوا على الإيطاليين، والإنجليز قد هبطوا على العالم بأسره، وسيظل الشمال إلى الأبد يمد العالم بالحاكمين والمقاتلين، والجنوب يمده برجال الفن والدين، فالجنة إنما يرثها الجبناء.»

إذن فهذه تفرقة جديدة تقسم عباد الله قسمين: شمالا سيظل إلى الأبد يمد العالم بالمقاتلين الذين يحكمونه، وجنوبا سيظل إلى الأبد كذلك ملقيا بزمامه في أيدي سادة يجيئون إليه من الشمال؛ لأنه في شغل بالآخرة عن الدنيا، فلئن كان أهل الشمال يقاتلون بالحديد والنار ليمدوا سلطانهم على هذه الأرض وهادها ونجادها وسهولها ووديانها؛ فأهل الجنوب ساهمون حالمون، يريدون الجنة، والجنة - في رأي الكاتب الذي نقلنا عنه الفقرة السالفة - يرثها الجبناء.

هذه تفرقة جديدة نصادفها، تقسم الناس إلى شمال وجنوب ، بعد أن تقيأنا الصديد من تفرقة قديمة مألوفة، شطرت الناس إلى غرب وشرق، والمعنى في التفرقتين واحد، والاختلاف في الأسماء وحدها؛ إذ المراد في كلتا الحالين أن يقال إن أوروبا وأمريكا صنف من البشر، وسائر العالم صنف آخر، ولك بعد ذلك أن تجعل الصنفين شمالا وجنوبا، أو غربا وشرقا، كيفما حلا وقع الألفاظ في مسمعيك.

وليس لي من العلم بالتاريخ ما أستند إليه في رد مفصل على هذا الزاعم بأن مجرى التاريخ كان دائما يتلخص في سادة ينقضون من الشمال ليحكموا في الجنوب. لكن علمي الضئيل بالتاريخ يتيح لي على ضآلته أن أعلم بأن اتجاه الغزو لم يكن دائما من الشمال إلى الجنوب؛ فالمصريون القدماء قد ساروا في فتوحهم من الجنوب إلى الشمال. وأخذت جيوش الرومان سمتها نحو الشمال حتى بلغت بريطانيا، وجاءت غزوات العرب في خط أفقي لا رأسي؛ فاتجهوا من قلب صحرائهم شرقا وغربا، والأتراك ساروا في الغزو نحو الغرب إلى جانب اتجاههم نحو الجنوب، وهكذا.

على أني أعترف أن نفوري من الفقرة السابقة لم يكن أساسه تكذيب الكاتب فيما ذهب إليه من تفصيلات التاريخ، بل كان نفورا ذاتيا شعوريا، ما فتئت أبديه كلما سمعت إنسانا يقسم عباد الله أقساما، فمرة هم شرق وغرب، ومرة أخرى هم شمال وجنوب، لأننا - في أغلب الظن - لا نظفر من هذه التقسيمات إلا بصفقة المغبون. فإن كان العالم غربا وشرقا؛ فنحن شرق، وإن كان العالم شمالا وجنوبا؛ فنحن جنوب، أعني أن العالم إذا انقسم حاكما ومحكوما فنحن الفريق المحكوم، هازما ومهزوما؛ فنحن الفريق المهزوم، سادة وعبيدا؛ فنحن العبيد، أهلا لنعيم هذه الدنيا، وأهلا للجنة؛ فنحن أصحاب الجنة ... «التي يرثها الجبناء».

نحن نرفض كل تقسيم من هذا القبيل، فلا شرق هناك ولا غرب، ولا شمال وجنوب في خصائص البشر وصفاتهم؛ فكل شعب في الدنيا ككل شعب آخر من حيث الاستعداد والفطرة، وتبقى بعد ذلك ظروف اقتصادية وسياسية، قد توجد في الشرق أو الغرب ، في الشمال أو الجنوب على السواء، فهي تظهر هنا مرة وهناك مرة.

هذا تقسيم خرافي أخذ به أصحابه؛ لأنه يشبع في أنفسهم رغبة الاستعلاء والسيادة، فحين ذهب «رديارد كبلنج» إلى الهند حيث أقام أعواما، ثم عاد إلى بلاده ليقول عبارته المشهورة: «الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا»؛ لم يكن بالطبع يقصد أن اختلاف الهند عن إنجلترا هو اختلاف النظائر الأنداد، بل أراد أن يقول إنه اختلاف الأبيض عن الأسود، والسيد عن المسود. وكذلك فيما أعتقد، يرمي «ديورنت» إلى شيء كهذا من قوله إن التاريخ لم يزل منذ بدايته يجري في مسلك يبدو فيه أهل الشمال سادة على أهل الجنوب، على الرغم من أن «ديورنت» - على نقيض كبلنج الاستعماري المتعصب الضيق الأفق - من أشد الناس في عالمنا المعاصر تسامحا وأوسعهم ثقافة، وأرحبهم صدرا لما بين شعوب الأرض من أنواع الخلاف.

هم يقولون ذلك ليشبعوا في أنفسهم رغبة الاستعلاء والسيادة، فماذا يقول أدباؤنا؟ يعترفون لهم بالتقسيم، ثم يأخذون في الدفاع عن شرقهم أو جنوبهم؛ ليظهروا ما فيه من حسنات بينات. ولست أدري لماذا نلزم أنفسنا بالدفاع عن قضية خاسرة؟! لماذا نتورط في تقسيم خرافي يزعمه سوانا لغرض في نفسه؟! لماذا نضرب على النغمة التي تؤكد في أنفسنا معنى التدهور والتأخر؟!

إن أعجب العجب في موقفنا؛ هو أنا نختار لأنفسنا أسوأ الفروض؛ إذ الفروض ها هنا ثلاثة: الأول أن يكون التقسيم باطلا من أساسه لخلوه من المعنى، ومن شاء فليدلني على الموضع من وجه الأرض، الذي يبدأ عنده التقسيم شرقا وغربا أو شمالا وجنوبا. والفرض الثاني هو أن يكون التقسيم صحيحا، لكننا نقع من الأقسام في الغرب دون الشرق، وفي الشمال دون الجنوب، وهذا هو ما اختاره الخديوي إسماعيل حين أراد أن يجعل مصر قطعة من أوربا، وما يجب أن يختاره كل عاقل مخلص إذا أخذ بمبدأ التقسيم إطلاقا. فلو كانت الدنيا أقساما؛ فلسنا أقرب إلى السنغال ويوغندة والتبت منا إلى اليونان ويوغسلافيا وإيطاليا. والفرض الثالث هو أن يكون التقسيم صحيحا أيضا، غير أننا نقع في الشرق دون الغرب، وفي الجنوب دون الشمال . وهذا ما قد جرى به العرف، وما قد استسلم له أدباؤنا وثبتوه وأكدوه، كأنما هو شرف نسعى إليه!

ليس الأمر هنا أمر ألفاظ، وإلا لهان الخطب واحتملنا البلاء. لكنه يصيب حياتنا ووجهة نظرنا وطرق إصلاحنا ونهضتنا في الصميم، إذا أردنا دستورا سياسيا، أو تعليما، أو إصلاحا للأسرة أو المجتمع بأي صورة من الصور؛ فأي طريق نختار؟ إذا أراد الشاعر أن ينظم، والفنان أن يرسم أو ينحت التماثيل، والموسيقي أن يعزف، فأي طريق يختار؟

عندي أن الجواب واحد واضح، لا تردد فيه ولا غموض لمن أراد أن ينظر إلى الأمور نظرة جادة حازمة، وهو الجواب الذي أجابت به تركيا صريحة جريئة مخلصة. الجواب الواحد الواضح هو أن نندمج في الغرب اندماجا؛ في تفكيرنا وآدابنا وفنوننا وعاداتنا ووجهة نظرنا إلى الدنيا. الجواب الواحد الواضح هو أن تكون مصر قطعة من أوروبا كما أراد لها إسماعيل، وكل من يريد لها النهوض الذي لا يكبو ولا يتعثر، ليس من العزة القومية في شيء أن نحتفظ لأنفسنا بطابع إذا كان هذا الطابع مما يصم صاحبه بالعجز والقعود والبلاهة. فإذا اختلفنا عن أمم أوروبا وأمريكا؛ فلا ينبغي أن يجاوز هذا الاختلاف مقدار ما تختلف به تلك الأمم بعضها عن بعض.

إنني في ساعات حلمي، حين أحلم لبلادي باليوم الذي أشتهيه لها، وإنني أصورها لنفسي، وقد كتبنا من اليسار إلى اليمين كما يكتبون، وارتدينا من الثياب ما يرتدون، وأكلنا كما يأكلون؛ لنفكر كما يفكرون، وننظر إلى الدنيا بمثل ما ينظرون.

لسنا شرقا إن كانت الدنيا إلى غرب وشرق، ولسنا جنوبا إن كانت الدنيا إلى شمال وجنوب ... والتقسيم كله باطل من أساسه على كل حال.

جناية الصحافة على الأدب

لا أظنني مسرفا في التقدير إذا زعمت أن تسعة أعشار الأدب المصري تكتب مقالات في الصحف والمجلات، ولو أردت أن أفرق بين الأديب المصري والأديب الأوروبي بكلمة واحدة؛ قلت إن أديبنا يكتب مقالة وأديبهم يكتب كتابا؛ فطريقة الكتابة عندنا - في أغلب الأحيان - هي أن يكتب الأديب مقالة هنا ومقالة هناك، حتى إذا ما تجمع له مما كتب مقدار يصلح أن يكون كتابا، جمعه في كتاب واختار له اسما، يوهم القارئ أنه كتاب، وهو في الحق كتاب إذا كانت الوحدة فيما كتب هي وحدة القلم والكاتب. أما إن جعلت وحدة الكتاب موضوعه؛ فليس هو بالكتاب إلا على سبيل المجاز، والمجاز هنا أساسه أن مجموعة الأوراق قد ضمها غلاف.

هذه حقيقة واقعة، وليس بالشاق العسير عليك أن تتبين صدقها باستعراض ما أنتجه الأدباء: طه حسين، أحمد أمين، العقاد، المازني، توفيق الحكيم، وغيرهم؛ لتعلم أن الكثرة الغالبة مما يخرجون للناس من كتب، هي مجموعات من مقالات أو فصول ... حتى المسرحية، هذا اللون الأدبي الذي كان يمكن أن يفلت وينجو؛ لم تلبث أن طواها الاتجاه العام، فإذا هي في الأعم الأغلب مسرحية ذات فصل واحد. وكذلك القصة عندنا في معظم الأحيان هي القصة القصيرة التي تنشر في الصحيفة على دفعة واحدة.

وقد يكون تعليل هذه الظاهرة في أدبنا، هو أن أديبنا قصير النفس، إذا قيس إلى الأديب الأوربي صاحب النفس الطويل، ثم قد يكون هذا النفس القصير فطرة فينا، ورثناها عن آبائنا مع سمرة اللون وسواد الشعر وكثافة الشفاه؛ فالأديب العربي منذ أقدم عصوره - فيما يقال - معروف بالتركيز والإيجاز؛ فتكفيه الحكمة الواحدة أو الفصل القصير، حين لا يكتفي الأديب الأوربي بأقل من قصة طويلة عريضة، قد تجاوز صفحاتها الألف؛ ليحلل فكرة واحدة، ويخلق لها الأشخاص خلقا ليلبسوها ويمثلوها في أفعال وأقوال.

أو قد يكون هذا النفس القصير عند أديبنا، نتيجة لضعف ثقافته وضيق أفقه، فليس لديه ما يقوله عن الفكرة أكثر من ثلاث صفحات أو أربع، في الوقت الذي يتمكن فيه الأديب الغربي بحكم ثقافته الواسعة العريضة أن يكتب الكتاب الضخم لتحليل الفكرة الواحدة، فيبرز ظلالها وأضواءها، ويجعلها كائنا حيا يسعى على قدميه؟!

ثم جاءت الصحافة عاملا آخر، قضى على الأدب العربي قضاءه الأخير، وبات معه حتما مقضيا على هذا الأدب أن يظل على صورته الممسوخة الشائهة البتراء، التي لا تسمح للأديب أن يستقر على أثره الأدبي حينا من الدهر يكفي لتسويته كائنا كامل الأعضاء، كما يفعل أدباء الغرب بما ينتجون من آثار.

جاء عامل الصحافة، فقضى على أديبنا أن يكون صحفيا في إنتاجه لا خالقا متأنيا مبدعا؛ ذاك أن الصحافة استعانت بالأدباء، فكان لها الفضل على الأدب مرة واحدة، لكنها كانت جناية على الأدب ألف مرة. أما فضلها فهو أنها أتاحت لكثير من الأدباء فرصة العيش المتواضع حينا، والمعتدل حينا. وأما جنايتها الكبرى فهي أنها صبت الأدباء في القالب الذي تريد، فإذا الأدباء في يدها مأجورون لا يكادون يسطرون من أجل الفن الخالص سطرا واحدا، إنما يكتب أديبنا ما يصلح للصحف وما يقبله منه رئيس تحرير الصحيفة. وللصحف ورؤساء تحريرها أساس يحكمون به أبعد ما يكون عن الأساس الذي يرضاه الفن الرفيع، وإذن فقد بات أدباؤنا في واد، ومقاييس الفن الرفيع في واد آخر.

كيف يكتب الأديب المصري اليوم؟ وماذا يكتب؟ هنالك صحف يومية أو أسبوعية أو شهرية، تركزت في أيديها قوة الشراء، بحيث أصبح محالا أو قريبا من المحال أن ينافسها منافس تواضعت موارده المالية. وهذه الصحف القوية بمالها هي أيضا واسعة الانتشار؛ لأن الأمر ها هنا كالحلقة المفرغة: قوة مالها توسع من انتشارها، وسعة انتشارها تزيد من مالها ... والأمر عند رؤساء التحرير في تلك الصحف، هو الأمر في كل بيع أو شراء؛ فهم كباعة الفاكهة والخضر يريدون أن يعرضوا على وجه الصندوق أو على سطح المقطف برتقالتين كبيرتين تخفي وراءهما البرتقال الصغير، أو «كرنبة» ضخمة تستوقف الأنظار، فيدق رئيس التحرير التليفون إلى فلان الأديب الكبير صاحب الاسم اللامع، ويطلب منه مقالا لعدد هذا الأسبوع أو هذا الشهر، والأجر الكبير المعروض كفيل خير كفيل للأديب الكبير أن يضعف فيكتب، ولا عليه حرج؛ لأنه بشر كسائر البشر يريد أن يعيش.

فماذا يكتب الأديب عندئذ؟ إنه لا يكتب ما يمليه عليه فنه، أو ما كان ينبغي أن يمليه عليه الفن الرفيع، بل يدير في رأسه نوع المجلة التي طلب إليه أن يكتب مقالة فيها، فيكتب شيئا يلائمها ويلائم قراءها، وإذا لم يفعل؛ فقد يقبل منه رئيس التحرير هذه المرة حياء، لكنه لن يعود إليه مرة أخرى.

يقول الأديب لنفسه إذا ما هم بالكتابة: إن قراء هذه الصحيفة هم أوساط المثقفين الذين لا يطلبون إنشاء رزينا رصينا، ولا يقوون على خلق أدبي رائع ممتاز. إنهم طراز من البشر يشتري المجلة لتسليته في الترام أو عند الحلاق، فلا بد من مراعاة ذلك في اختيار الموضوع ومعالجته معا، فينبغي للموضوع أن يكون خفيفا لطيفا، وأن يعالج على نحو مسل ظريف، وعلى هذا الأساس يكتب الأديب، فليس هو حرا كل الحرية في اختيار ما يكتبه، ولا في الطريقة التي يعالج بها موضوعه، بل ليس هو حرا كل الحرية في طول ما يكتبه؛ لأنه يكتب ليملأ فراغا طوله كذا سطرا وعرضه كذا نهرا. إن رئيس التحرير يأمره بما يريد، وهو يصدع بالأمر راضيا أو كارها، فإذا عرفنا أي الدوافع يحدو رئيس التحرير في نوع ما يطلبه؛ عرفنا من هو الآمر الحقيقي الآن الذي يستبد بأرباب القلم! إنهم أنصاف المثقفين وأرباعهم.

ولا تقل إنها الديمقراطية في الأدب، وإنه لا عيب في الديمقراطية بكل صورها، سياسيها وأدبيها، لا تقل: ماذا تريد؟ أتريد للأديب أن يكون مترفعا يخاطب الطبقة الأرستقراطية في مالها وثقافتها؟ لا تقل ذلك؛ لأنني ما أردت شيئا منه، لأن الديمقراطية في الأدب كما فهمت في الغرب لم تكن قط شيئا كهذه الأمساخ التي يضطر أدباؤنا إلى صناعتها والاشتغال بها دون ما قد يستطيعون من آثار خالدة باقية.

كان أهم معنى للديمقراطية في الأدب عند الغرب - فيما أعلم - هو اختيار الأديب أشخاصا من سواد الشعب يصورهم بأدبه، فلم يعد شرطا أن يجعل أشخاصه ملوكا وأمراء، بل أصبحت الخادم الساذجة تصلح أن تكون بطلة لقصة، يهتم الأديب بتحليلها وتشريحها، وبهذا جعل عنايته ملاحظة أوساط الناس كيف يعيشون وكيف يشعرون ويفكرون، لا ليكتب ذلك على النحو الذي ترتضيه الصحافة الأسبوعية أو الشهرية، بل على الصورة التي يرضاها الفن المتمهل المتأني الذي يسوي خلقه تسوية كاملة في كتاب كامل يقصر حينا ويطول حينا، حسب ما تقتضيه أوضاع الفن، لا حسب ما يأمر به رؤساء التحرير.

إنه من حسن حظنا - أبناء هذا الجيل - أن أدباءنا قد وجدوا بعض الفراغ فيما مضى، لم تشغل الصحف عندئذ كل وقتهم؛ لأنها لم تكن - فيما يظهر - قد تنبهت إلى شراء هذه السلعة الرابحة، من حسن حظنا أن أدباءنا قد وجدوا في ماضيهم فراغا أنتجوا لنا فيه قطعا أدبية نعتز بها، وإن تكن من النوع الذي لا يرتضيه رؤساء التحرير. وإني لأتساءل جادا: ماذا عسى أن يئول إليه الأمر بعد عشرة أعوام أو عشرين؟ اذكر لي أديبا واحدا اليوم لم «تستخدمه» الصحافة استخداما يعود عليها بمئات الجنيهات وألوفها، ويعود على الأدب الرفيع بالفقر، وكدت أكتب: بالخزي والعار؟! إنه بعد عشرة أعوام أو عشرين، لن تجد مقالا واحدا يكتب من أجل الفن الرفيع؛ لأن «أشلاء» المجلات الأدبية الباقية في طريقها إلى الزوال والباقيات الفاسدات، لأن العبرة في الباقيات هي سعة الانتشار وقوة المال. ولم يعد الأديب الكبير يرضى أن يضيع وقته فيما لا يعود عليه بالكسب، والكسب مرهون بطاعة رؤساء التحرير ... إن الذي يعمل الآن في تسيير الأدب المصري هو قانون تنازع البقاء وبقاء الأفسد؛ لا لأن أدباءنا غير قادرين على إنتاج الصالح؛ بل لأن الصالح ليس هو ما يأمر به رؤساء تحرير الصحف القوية الغنية، وأدباؤنا قد باتوا اليوم في حكم المحررين في تلك الصحف، وقل على جودة الإنتاج ألف عفاء.

ومن أنواع التسلية - إذا أردت تسلية - أن تتعقب الأدباء وهم يتجمعون في صحيفة بعد صحيفة، كما ينتقل مركز البيع والشراء في المدينة من شارع إلى شارع، كان شارع الموسكي هو مركز الحركة التجارية في عهد مضى، ثم انتقل مركز التجارة إلى شارع فؤاد الأول، وكأني به اليوم ينتقل إلى شارعي قصر النيل وسليمان باشا، وهكذا الصحف والأدباء ترى مجموعتهم في هذه الصحيفة مرة، ثم في هذه الصحيفة أخرى؛ لأن الصحف تتنافس كما تتنافس دكاكين البقالة، فقد يعن لصحيفة منها أن تضارب زميلاتها بالإكثار من أجور الأدباء الكبار، فيجتمع لديها هؤلاء، ثم تعود صحيفة أخرى فتمسك بالزمام، ويعود الأدباء فيرحلون رحلة جديدة، وهكذا. ولسنا نكره بالطبع أن يؤجر الأدباء أعلى الأجور، إنما الذي نكرهه ونتشاءم له أن تكون هذه الأجور ثمنا لطاعة الأدباء؛ فلرؤساء التحرير أن يأمروا وعلى الأدباء أن يطيعوا، كأن الأمر مقاولة وبناء، فأضع التصميم الذي يعجبني وأستأجر البناء لينفذ لي ما أريد دون أن يكون له حق الاعتراض! إذا حدث هذا فلا فن في بناء، وكذلك قل في فن الكتابة وفي أي فن آخر.

جناية الصحافة على الأدب جناية كبرى، لا تعوضها الجنيهات القليلة التي تدفعها لأدبائنا ثمنا بخسا رخيصا، يموتون بعده فقراء - كما مات المازني - فأولا تجنت الصحافة على الأدب فجعلته مقالات قصارا، ولم تفسح من الوقت لأديبنا أن يتفرغ للكتاب المسهب المطول. وثانيا جعلت مدار ما يكتب هو ذوق الجمهور القارئ من حيث الصنعة والأداء، ومن حيث الموضوع والمعنى. ولو سارت الحال على هذا النحو عشرين عاما؛ فلن تدور عجلات المطابع بكتاب واحد ممتاز يخرجه أديب إنتاجا خالصا لوجه الفن الرفيع.

حامد سعيد

هناك، على مبعدة نائية من المدينة وصخبها، وفي أحضان النخيل المتشابك المتعانق، أقام هذا الفنان الشرود لنفسه دارا من الطين تراها بقبابها وسط الزرع، فيخيل إليك أنك دان من مهبط ولي من أولياء الله، نفرت به قداسة روحه عن مطارح العمران. وتدخل الدار فيزداد هذا المعنى شيوعا في نفسك، منذ تنحني راكعا لتدخلها من باب وطيء، إلى أن تدور في قيعانها القليلة البسيطة المترعة بالروح في كل شبر من أرضها وجدرانها وسقوفها ... ويودعك الفنان وزوجه الفنانة، وكأنهما ملكان طاهران قد نظرا إليك نظرة الإشفاق، أن تركت لهما ركنا معمورا بالروح والمعنى؛ لتعود إلى مدينة مزدحمة الأرض والهواء بكل ما تضيق له الصدور وتكتئب النفوس.

أغفل هذا الفنان الشرود النفور مدائننا وشوارعنا وبيوتنا وأسواقنا وموائدنا ومآكلنا ومشاربنا وأطماعنا؛ ليعيش هو وزوجه في تلك العزلة النائية، فينصرف إلى الطبيعة يستمد منها الحياة غزيرة دفاقة، واسمع له يحدثك في هدوئه العجيب الأخاذ، كيف تمتلئ الطبيعة في كل ركن من أركانها بما تهتز له النفوس الحية اليقظى فتنة وإعجابا. ألا خسئت عينان تغضيان عن هذا الغصن، وهذه الصخرة، وتلك الصدفة، وهاته الحشرة. انظر إلى هذه الحشرة يوما ويوما وأياما، تطالع فيها كل يوم جديدا من ترتيب وتنسيق ونظام وجمال وجلال، سبحانك اللهم خالق الخلق!

وفي هذه اللفتات إلى ما يظنه الناس صغائر توافه، وما يرى فيه الفنان موضعا للفتنة ومصدرا للسحر، ثم فيما بين كائنات الطبيعة من وحدة وإخاء، برغم ما يبدو فيها من تباين وخلاف. يدور «حامد سعيد» بفكره وفنه، وعلى هذا الأساس يقيم مدرسته، وبهذا المبدأ يعلم حوارييه.

وأين عسى هذا الفنان المصري الصميم جسما وروحا أن يجد مصدر إلهامه؟ عند أجداده القدماء، عند المصريين الأوائل، فتراه مع تلاميذه في المتحف المصري ينظرون ويتأملون ويستوعبون، ليمتلئوا روحا، ثم يعودون إلى لوحاتهم ليصبوا أرواحهم المترعة آيات من الفن الجميل.

وشعار هذه الجماعة هو تمثال «حتحور»، انظر إليه كيف اتحد فيه الإنسان بالحيوان والطبيعة؟! هذا إنسان واقف تحت عنق البقرة وكأنه جزء منها، وهذه بقرة لها قرنا ثور ليمحى عندك كل تفريق بين ذكور الطبيعة وإناثها، ثم هذه هي الشمس قد استقرت بين القرنين في اتساق وانسجام، بهذه العين ينظر الفنان وتلاميذه إلى الأشياء، فيرون الطبيعة كلا واحدا لا تجزئة فيه. وهذا الكل ماثل في كل جزء كائنا ما كان، ففي هذا الغصن الجاف روح الطبيعة كلها.

وفي هذه الصدفة الخاوية سر الكون كله! انظر إلى هذه الصدفة الخاوية التي قد تصادفك ملقاة على رمل الشاطئ فلا تعيرها التفاتا، تأمل أي ركن شئت من أركانها؛ تر فيه الثنايا والخطوط والتعاريج على اتساق كأنه أنغام اللحن المنسجم. ثم اجمع هذه الألحان بعضها إلى بعض، تجد في الصدفة الخاوية الملقاة على رمل الشاطئ بناء موسيقيا كاملا، قد يشغلك التفكير فيه، وتتبع أجزائه وبنائها واتساقها يوما وأياما ، وتلك هي الطبيعة العامرة!

أو انظر إلى جذع هذه الشجرة ، التي قد تتفيأ بظلها وأنت لا تدري ما هي! انظر إلى هذه الأجزاء المتآخية فيه، كأنما قد تعاقد كل منها مع أخيه على أن يكون له مؤازرا وظهيرا. •••

زرت حامد سعيد في داره النائية، وزرت المعرض الذي أقامه لرسوم تلاميذه في متحف الفن الحديث، فعرفت معنى جديدا لأشياء كنت قرأتها، وكنت ظننت أني فهمت معناها! فقد كنت قرأت، فيما قرأت، هذه الفقرة الآتية في «يو بانشاد» - الكتاب الهندي المقدس - التي عبر بها الهنود عن عقيدتهم في وحدة الوجود، وفي أن الكائنات كلها تعبير عن إله واحد قهار، فأضيئت لي اليوم بضوء جديد: «لم يشعر بغبطة بادئ ذي بدء؛ لأن واحدا وحده لا يشعر بغبطة، فتطلب ثانيا، وكان في الحق ذا حجم كبير، حتى ليعدل جسمه رجلا وامرأة تعانقا، ثم شاء لهذه الذات الواحدة أن تنشق نصفين، فنشأ من ثم زوج وزوجة، وهكذا تكون النفس الواحدة كقطعة مبتورة.»

وهذا الفراغ تملؤه الزوجة، وضاجع زوجته وبهذا أنسل البشر، وسألت نفسها الزوجة قائلة: «كيف استطاع مضاجعتي بعد أن أخرجني من نفسه؟! فلأختف» واختفت في صورة البقرة، فانقلب هو ثورا، وزاوجها حقا، وكان بازدواجهما أن تولدت الماشية، فاتخذت لنفسها هيئة الفرس، واتخذ لنفسه هيئة الجواد، ثم أصبحت هي أتانا، فأصبح هو حمارا وزاوجها، وولدت لهما ذوات الحافر، وانقلبت عنزة، فانقلب لها تيسا، وانقلبت نعجة فانقلب لها كبشا وزاوجها حقا، وولدت لهما الماعز والخراف، وهكذا حقا كان خالق كل شيء، مهما تنوعت الذكور والإناث، حتى تبلغ في التدرج أسفله إلى حيث النمال. وقد أدرك هو حقيقة الأمر، قائلا: «حقا إني أنا هذا الخلق نفسه؛ لأني أخرجته من نفسي ... وهكذا نشأ الخلق.»

ولكن «حامد سعيد» لم يقف عند الحيوان وحده في تصوره لوحدة الوجود، فأضاف إليه النبات والمحار والحجر! نعم، فهمت معنى جديدا لوحدة الوجود بعد زيارتي لهذا الفنان العجيب، وآمنت بصدق ما قاله القديس برنار: «إن ما تعلمته من العلوم الدينية ومن الكتاب المقدس قد عرفته من الغابات والحقول؛ فليس لي من معلم سوى أشجار الزان والبلوط ... إن الشجر والحجر يعلمانك أكثر ما تتعلمه من شفتي الحكيم ...» •••

ليس من عجب بعد هذا كله، أن ينقل حامد سعيد رسومه ورسوم تلاميذه يعرضها في لندن، فيكتب فيها «هربرت ريد» - وهو في إنجلترا إمام في عالم الفنون - ما يلي: «لما طلب إلي منذ أسابيع أن أرى نتاج طائفة من الفنانين المصريين؛ ذهبت لا يحدوني شيء من رجاء عظيم، فما أكثر ما خاب رجائي فيما مضى، وأنا الناقد الفني في مثل هذه السن وهذه الخبرة ... فآخر ما كنت أتوقعه، أن أرى أصالة حقيقية ... لكنني ما كدت أبصر رسمين أو ثلاثة من رسوم الفنانين المتصلين بحامد سعيد، حتى أدركت أني إنما أرى فنا أقل ما يقال فيه إنه لا ينساق وراء الأساليب الجارية؛ فهو فن فيه من صدق الفنان ما يلزمك إلزاما أن تقف له معترفا به، وليست كلمة «الصدق» بالكلمة التي تجرى هذه الأيام على اللسان إذا ما أردت وصفا لشيء مما ينتجه الفن السائد، لكنها أول كلمة ترد على ذهني، وأنا ماثل أمام رسوم بلغت مدى بعيدا من الإخلاص - لا أقول إخلاص الفنان للطبيعة نفسها، بل إخلاصه في إخراج مواقع الطبيعة من نفسه.

وإنما سر الأصالة في هذه الرسوم، وما يخلع عليها هذه القوة التي تفردت بها؛ هو الفلسفة الكامنة وراءها.»

ولو قد زار الناقد العظيم «هربرت ريد» حامدا في بيته الذي نأى به عن العمران المدني ليزداد قربا من أحضان الطبيعة؛ لأضاف إلى قوله ذاك عبارة أخرى، هي: وسر الأصالة في هذا الفنان العجيب، وما أضفى عليه روحا عجيبا تفرد به، هو الفلسفة الكامنة وراء حياته التي يحياها.

طوائف تتنافس

في مصر - كما في غيرها - طوائف من الموظفين، فيها مدرسون ومهندسون، وفيها ضباط للأمن وضباط للقتال، وفيها أطباء وقضاة، وفيها غير هؤلاء وأولئك من سائر عباد الله.

لكن الذي في مصر - وليس في غيرها - هو هذا التنافس العجيب القائم بين هذه الطوائف. ولست بحمد الله من «فقراء » الهنود بحيث أصيح بالناس أن كفوا عما أنتم فيه من قتال وتنافس، وسالموا واستسلموا؛ لأني أعلم أن الحياة في صميمها ليست إلا هذا التنافس وذاك القتال، لكن الذي يستوقف نظري ويستثير عجبي هو أن هذا التنافس القائم بين طوائف الموظفين في مصر، قد أقام نفسه على أساس من علم الفلك القديم كما عرفه بطليموس، وكان حقه أن يتماشى مع العلم في تطوره، فيقيم دعائمه على أساس من علم الفلك في صورته الراهنة التي رسمها له كوبرنيق، خشية أن يظن الناس بهؤلاء الموظفين جهالة وإنهم لعالمون، ولو غيروا من وجهة نظرهم وبدلوا من أساسهم؛ لرضيت عنهم أنفسهم، ورضي العلم، ورضي الوطن جميعا.

وقد تقول: وما شأن هذه الدرجات يطلبها المهندسون، فيطلبها في أثرهم المدرسون؟ وما شأن هذه «الأقدار» المالية يظفر بها القضاة، فيلاحقهم بها المدرسون والمهندسون معا؟ وما شأن ضباط القتال يسبقون ضباط الأمن فيما تزدان به أ كتافهم من أنجم وتيجان، فيثور ضباط الأمن لما ظفر به من دونهم ضباط القتال؟ ما شأن هذا كله بعلم الفلك كما تصوره بطليموس أو كوبرنيق؟ هذه الطوائف المتنافسة جميعا تمشي ها هنا على الأرض «في غير مرح». وأما هذان العالمان فكانا يسبحان في السماء صلفا بين الكواكب والأفلاك، فأين الشبه بينهما وبين هؤلاء؟

قد تقول ذلك؛ فهاك البيان: كان ما كان في قديم العصر والأوان، عالم فلكي يدعى بطليموس، يقيم في مدينة الإسكندرية. ولست والله أدري لماذا اختار له الله مدينة مصرية؛ ليهبط فيها عليه الوحي بفكرته الفلكية؟! فكان من رأي هذا العالم أن أرضنا هذه القليلة الضئيلة النحيلة هي من دنيا الله الواسعة الفضاء بمنزلة القطب من الرحى، تدور حولها سائر الشموس والنجوم! فالشمس والقمر ومريخ وعطارد والزهرة والمشتري وما شاء الله من أجرام وأجسام تدور حولها وهي في مكانها لا تتحول؛ لأنها أعظم عند الله قدرا من أن تدور مع الدائرين. ولو قد نطقت هذه الأرض بلسان حالها كما تصورها بطليموس؛ لقالت إني رأيت ملايين الكواكب والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ... وكان لا بأس على بطليموس من هذا النظر؛ لأن الدنيا كما رأتها عيناه كانت أضيق من الدنيا كما يعرفها الواقع.

ثم اتسع في أعين الناس الأفق؛ فرأوا عالما فسيح الأرجاء واسع الجنبات، وأدركوا أن الأرض يستحيل أن تكون قطبا لهذا كله، وإلا لاقتضى الأمر لبعض الأجرام السماوية البعيدة عنا أن تقطع الفضاء بسرعة مستحيلة؛ حتى يتسنى لها أن تدور حول الأرض المكرمة في كل يوم مرة. وها هنا تدخل في الأمر فلكي آخر هو كوبرنيق، وكان في مدينة إيطالية، لم يشأ له الله أن يكون مقامه على أرض مصرية، فرأى الدنيا بمنظار آخر، جعل يدير منظاره في أرجاء السماء ليرقب النجوم في مسالكها ويساير الكواكب في مساربها، ثم قال في بساطة صاحب القلب الطيب والنية السليمة: كلا! بل إن هذه الأرض كوكب كسائر الكواكب، وهي تدور حول الشمس كما أن غيرها يدور، وبهذا القول البسيط تغير وجه العلم كله!

ولعلك تدرك الآن ما أردته حين زعمت لك أن التنافس القائم بين طوائف الموظفين في مصر قد أقام نفسه على أساس من علم الفلك كما رآه بطليموس. وكان حقه أن يتابع كوبرنيق لتستقيم الأمور؛ فالمدرسون والمهندسون وضباط الأمن وضباط القتال والأطباء والقضاة وغير هؤلاء وأولئك من سائر عباد الله؛ تريد كل طائفة منها أن تكون مركزا فيدور حوله العالم بأسره؛ لأنها لا تفكر إلا في نفسها، ولا ترى الدنيا إلا بمنظارها! هذه هي الدنيا تجري أنهارها ذهبا نضارا؛ فلماذا لا يصيبني منها إلا جنيهات قليلة؟!

ولو قد استعارت هذه الطوائف المتنافسة منظار كوبرنيق؛ إذن لرأت أن هناك شمسا كبرى - هي مصر بأسرها - ولرأت كل طائفة منها أنها كوكب واحد من كواكب، وأن مصلحتها واحدة من مصالح؛ فليست إذن هي كل شيء، ويستحيل أن تتدفق أنهار الذهب في جيوبها وحدها!

لكن لا، كل طائفة من هؤلاء تحصر نظرها في نفسها، وتأبى إلا أن تكون أسبق من سواها وأفضل، فإذا وجد السابق أن المسافة التي تفصله عن مسبوقه قد نقصت، غذ في المسير وأسرع في الخطى يستعيد مكانته، والمسبوق يغضبه أن يكون فوقه سابق على الإطلاق، ودع عنك أن يرضى بمسافة تقل أو تزيد.

وكان أولو الأمر إذا ما رأوا المسبوق غاضبا دفعوه إلى الأمام قليلا؛ لعله يدنو من سابقه، حتى إذا ما غضب السابق لهذه الإهانة التي لحقت به دفعوه إلى الأمام قليلا كذلك؛ ليسترد مكانته بالقياس إلى سواه.

وإن ذلك ليذكرني بقصة من حياتي الماضية، كنت مدرسا في بلد ريفي حيث لا فنادق ولا مطاعم، فاستخدمت طاهية من أهل البلد تطبخ لي الطعام، وكنت أجد في طهيها فكاهة أكثر مما أجد غذاء، وطلبت منها يوما أن تعد لغدائي شيئا من محشو الكرنب، فلما عدت ساعة الغداء وجدت الكرنب المحشو الذي رجوت، لكني وجدت منه «قزانا» كبيرا يكفي مدرسة بأسرها لا مدرسا واحدا. - ما هذا كله يا فاطمة؟ - كرنب محشو كما أمرت يا سيدي. - لكن لمن هذا كله؟ - وماذا أصنع يا سيدي؟ اشتريت كرنبة واحدة ورطلا واحدا من اللحم، وأعددت مادة الحشو وأخذت أحشو، فإذا بمادة الحشو تنتهي والكرنبة بعضها باق، فاشتريت رطلا آخر من اللحم وأعددت مادة جديدة للحشو وأخذت أحشو، فإذا بالكرنبة تنتهي ومادة الحشو بعضها باق، فاشتريت كرنبة ثانية وأخذت أحشو، فإذا مادة الحشو تنتهي والكرنبة بعضها باق! ... وهكذا دواليك يا سيدي، ولا تسل كم أنفقت من وقت، وكم أنفقت من جهد حتى فرغ الكرنب والحشو في آن معا! - لقد ذكرت ما أنفقته من وقت ومن جهد، ولم تذكري ما أنفقته من مال. - إي والله، يا سيدي؛ لقد كلفتك هذه الطبخة قدرا كبيرا. - لكن يا فاطمة هذا غير معقول، فلو حسبت ... - أنا، يا سيدي، كما تعلم لا أعرف ما تعرفه أنت من العد والحساب، فلم أتعلم في المدارس كما تعلمت؛ فهل لك أن تدلني على طريق صواب كنت أسلكه؟ - لا تعقيد في الأمر يا فاطمة، لما فرغت منك الدفعة الأولى من مادة الحشو؛ لماذا لم تقذفي ببقية الكرنبة في صفيحة القمامة؟ - صفيحة القيامة يا سيدي؟! أرمي الكرنب في القمامة ؟! وماذا كنت تقول إذا ما عدت ونظرت، فرأيت كرنبك الذي اشتريته بمالك ملقى في القمامة؟! كنت بالطبع تملأ لنا الدنيا صياحا، وتحتج قائلا: كيف تقذفين بالكرنب في القمامة؟! ولماذا لا تشترين له رطلا من اللحم؟!

فأدركت أن الحوار لن ينتهي بنا إلى نتيجة، وهززت رأسي متعجبا باسما، حتى لقد ظنت أنها أفحمتني بالحجة القوية وراحت تقول في زهو: ليست العبرة بالمدارس وحدها يا سيدي ... ما زلنا مثلكم ناسا نفهم، ونحسب.

ذكرت قصة فاطمة ومحشو الكرنب حين فكرت في هذه الطوائف التي يلاحق بعضها بعضا كأنها في سباق. فالحكومات المتعاقبة هي فاطمة في هذه القصة، لا تجد في نفسها شجاعة تتذرع بها فتلقي بشيء من الكرنب في القمامة لتقف من الأمر عند حد معقول، بل لبثت تعالج الأمر بمحايلة هذه الطائفة مرة وهذه الطائفة مرة، راجية أن تحل العقدة نفسها، حين تصل الطوائف في حلبة السياق حدا يرضاه الجميع، ولن يكون ذلك إلا إذا ضخمت «الطبخة» وناءت ميزانية الدولة بتكاليفها.

الأديب بين يومه وغده

سمع شاعر من شعراء الإنجليز بشاعر من شعراء الفرس، فقرأ له ثم قرأ، ودهش للذي قرأ؛ فأعاد ثم أعاد: «لله هذا الجمال النادر! أأترك هذا «الخيام» دفينا في فارسيته، فلا أبتعث «رباعياته» إلى حيث تشهد النور؛ فيستمد منها بنو وطني نورا على نور؟ ... لأترجمن هذا السحر الفاتن.»

وراح «فتزجر ولد» يترجم. فكان مما ترجم:

ها هنا في ظل هذي الغصون: رغيف الخبز في يدي،

وزق الخمر، وديوان الشعر، ثم أنت في صحبتي

إلى جانبي تنشدين الغناء في هذا القفر الأجرد.

إيتني بذا وذا؛ يكن لي من هذا القفر جنتي.

ومضى الشاعر في ترجمته للزميل الفارسي حتى فرغ، فماذا هو صانع بهذا الذي صب فيه النفس صبا؟ أيذهب به إلى الناشر؟ لكنه شاعر مغمور، والناشر لا يجازف بماله إلا لكاتب مشهور. لأذهبن إلى أستاذ اللغة الفارسية في أكسفورد؛ فلعله إن شهد بصدق الشعور في الترجمة، كانت شهادته عند الناشر شفيعا.

وجلس الأستاذ والشاعر إلى نضد يواجه أحدهما الآخر ، وأمسك الأستاذ بالأصل الفارسي في يمناه وبالترجمة الإنجليزية في يسراه ، وجعل يهمهم لنفسه: «ها هنا في ظل هذي الغصون ...»

ونقر الأستاذ بإصبعه على الأصل الفارسي، ورفع عينيه إلى الشاعر الشاب: «لم يذكر الخيام غصونا في قصيدته؟!»

فأجاب الشاعر: «وما ذاك؟ لقد أنبأتك أني امتصصت من القصيدة شعورا فصببته في لغتي شعورا مثله؛ فلم أقصد إلى ترجمة حرفية أجتاز فيها امتحانا في معاني الألفاظ.»

فهز الأستاذ رأسه وتمتم، وهو يقلب الأصل الفارسي وقال: «رغيف الخبز: موجود، وزق الخمر: مذكور، وأنت في صحبتي: صحيحة، لكنك حذفت جزءا مهما من رباعية الخيام؛ فقد ذكر عمر إلى جانب هذه الأشياء فخذا من الضأن. على كل حال، هل فرغت من ترجمة القصيدة كلها؟» - نعم، فأين أرسلها؟ - ابعث بها إلى الصحيفة الأدبية الفلانية، وسأكتب للمحرر خطابا أوصيه بك خيرا.

مضى عام كامل والصحيفة الأدبية لم تنشر للشاعر قصيدته؛ فأرسل إليها الشاعر خطابا شديد اللهجة يطلب أن ترد له قصيدته التي أسرى فيها روحا من روحه، فدار حديث بين رئيس التحرير ومساعده.

رئيس التحرير: ابحث لي عن قصيدة هذا الرجل بين أوراقك، فإن وجدتها أعدها إليه مصحوبة بخطاب اعتذار.

مساعد التحرير: ما عنوانها؟

رئيس التحرير: هي قصيدة صينية أو هندية لست أذكر، وعنوانها غريب لا أستطيع نطقه. فهاك خطاب الرجل فاقرأه، اعتذر له بخطاب؛ لأنه صديق لأستاذ الفارسية في أكسفورد.

مساعد التحرير: ها هي ذي.

رئيس التحرير: اقرأ لي منها سطرا أو سطرين من أي موضع شئت.

مساعد التحرير: ها هنا في ظل هذى الغصون، رغيف الخبز في يدي. وزق الخمر، وديوان الشعر، ثم أنت في صحبتي.

رئيس التحرير: ما رأيك في شاعر يذكر الخمر في شعره؟

مساعد التحرير: هذا فحش يا سيدي لا نرضاه لقرائنا. ثم اسمع يا سيدي لهذا الشاب المستهتر يمضي في قصيدته، فيصف لنا جماعة من مدمني الشراب قد أنفقت سواد ليلها أمام الحان، حتى إذا ما تنفس الصبح راحوا يخبطون الباب لصاحب الحان؛ كي يفتح لهم ليواصلوا شرابهم، فالحياة قصيرة، ومن يمضي عنها لا يعود. واسمعه ها هنا يجادل العلماء في الفلسفة والدين، فلا يفهم عنهم شيئا؛ لأنه مخمور، فينادي بمزيد من الخمر؛ ليغرق جهله في حبابها. لا يا سيدي، لا، كان الله في عوننا من شباب هذا الجيل!

رئيس التحرير: امض في قراءتك؛ فإنه ليخيل إلي أن شعر هذا الشاب لا يخلو من جمال.

مساعد التحرير: جمال يا سيدي! إنه يعترف بأنه لا يعبأ بالعلم ولا يهتم به، وكل ما يفكر فيه هو الخمر. واسمع ها هنا ماذا يقول! يقول لك إن الدنان الفارغة المهملة على رفوفها تحلم بأيام كانت فيها مترعة بخمرها، أسمعت هذا؟! وها هنا أيضا البلبل نادى الورد صائحا: الخمر! الخمر! الخمر! أعوذ بالله! لا يا سيدي، إن صحيفتنا معروفة لقرائها بوقارها، ولا يجوز أن نرسل أعدادها إليهم وهي تترنح، وثق بأن نشر قصيدة كهذه معناه لصحيفتنا الموت والفناء.

رئيس التحرير: لا جدال في هذا، أعدها إلى صاحبها؛ فما إلى هذا الحد البعيد يكون التسامح في ضيعة الأخلاق.

ووصلت القصيدة إلى صاحبها، فحملها إلى الطابع يريد طبعها بما عنده من مال، لكنه آثر أن يستشير وراقا صديقا، فدار بينهما هذا الحديث:

الوراق: ماذا تقول؟ تطبع شعرا وتنفق مالك في طباعته؟ أين في هذه الأيام من يقرأ الشعر؟

الشاعر: عدني بشيء واحد، ولا عليك بعد ذلك، عدني بأن تضع الديوان بعد طبعه في معرض الكتب في دكانك هذا.

الوراق: لك مني هذا، لكني أعيد تحذيري، ليس بين زبائني رجل واحد يشتري الشعر، وليته شعر وكفى، بل هو شعر فارسي! لا يا صديقي، أنا أحدثك الآن حديث الخبير ببيع الكتب وشرائها.

الشاعر: سأطبع القصيدة؛ فانصحني كم نسخة أطبع منها.

الوراق: إذن فاطبع مائتين لا تزد، واسمح لي مرة أخرى أن أحملك على العدول. إن عيالك أولى بهذا المال على قلته؛ فما اضطرارك إلى طباعة شيء لا يجد قارئا واحدا؟

الشاعر: لست أدري، لكن روح الخيام لا تمهلني لحظة واحدة، إنها تلح علي وتلحف، ما زالت كذلك حتى ترجمته، وهي ما تزال كذلك، ولن تزال حتى أطبعه.

وطبع الشاعر «رباعيات الخيام »، وأنفق على طبعها مالا كان يحتاجه لقوته وقوت أسرته، طبع منها مائتي نسخة كما أوصاه الوراق، وكان الوراق عند وعده للشاعر - وإنه لوعد سخي كريم - وهو أن يعرض له كتابه الصغير بين ما يعرض من كتب!

عرضت «الرباعيات» وكتب عليها الثمن بما يساوي خمسة وعشرين قرشا، فدخل الزبائن إلى دكان الوراق وخرجوا من دكان الوراق، ثم دخلوا وخرجوا ألف ألف مرة، والرباعيات ملقاة على النضد تضرع إلى كف كريمة تسخو لها مرة واحدة بخمسة وعشرين قرشا! وعلى هذا النحو مرت سنون!

وكان الشاعر يخجله أن يسأل صديقه الوراق: كم بعت من الكتاب لكثرة ما سأل السؤال، ولكثرة ما أجابه الوراق بالجواب: لم أبع منه نسخة واحدة يا صديقي الشاعر. فكتب الشاعر للوراق رسالة صغيرة ذات يوم يهدي إليه الرباعيات بنسخها المائتين جميعا، فما لبث التاجر اليائس من تصريف بضاعته الكاسدة أن أنزل الثمن إلى نصف ما كان، ثم إلى نصف النصف، وهكذا، ولم يجد الكتاب شاريا!

وكان في ركن من أركان الدكان صندوق كبير ألقيت فيه أكداس من كتب قديمة منوعة، وكتب على الصندوق: «الكتاب من هذا الصندوق بنصف قرش.» وفي هذه الحاوية ألقى الرجل بآية الشاعر، بل بآية الشاعرين، وتركها للتراب وعفر جبهتها بما يشاء أن يعفر.

ولكل فولة كيال - كما يقولون - جاء إلى دكان الوراق شاعر مفلس ليس في جيبه إلا بضعة قروش، كما أرادت الأيام للشعراء والأدباء أن يكونوا، لا فرق في ذلك بين كبيرهم وصغيرهم! لكن الشاعر المفلس يريد أن يقرأ كما يريد ذلك سائر عباد الله، بل هو في ذلك أكثر من سائر عباد الله، إذن فليستبضع لنفسه كتابا أو كتابين من ذوات نصف القرش الملقاة في جوف الصندوق. وشاء القدر أو قل شاءت ربات الفنون أن يدلي الشاعر بيده في الصندوق؛ ليخرج بين أناملها كتابا من «الرباعيات» وقرأ الرباعية الأولى، فقطب جبينه في اهتمام ودهشة، وجعل يقرأ، فإذا الرباعيات كلها سحر وفتنة، وعز عليه أن يشتري نسخة واحدة من هذه الآية العصماء؛ فدفع للتاجر ثمن أربع، وأخذ من الكتاب أربعا!

كان هذا الشاعر المفتون بما قرأ من رباعيات الخيام، هو «روزتي». ذهب إلى داره فلم يستقر له على كرسي قرار، فقصد إلى شاعر صديق على غير موعد. - أي صديق «سونبرن»، خذ، يا صاح، فاقرأ!

وقرأ الشاعر «سونبرن»، ولمعت عيناه من عجب وإعجاب: أنى لك هذا الكتيب يا روزتي؟ - ابتعته من مكتبة هناك في ركن الطريق، ورأيته ملقى في صندوق هناك في ركن المكان! واشتريته بنصف قرش للكتاب الواحد؛ فاشتريت أربعة.

وهم «سونبرن» بالخروج ليشتري لنفسه كتابا، وأخرج مكنون جيوبه كلها سترة وسراويل؛ فلم يجد فيها نصف قرش؛ ذلك لأنه شاعر! فنادى الخادمة واستقرضها قليلا من قروش ومضى.

وأخذ الشاعران يتحدثان في الحلقات الأدبية عن هذا الكشف الأدبي العجيب، والعلم به يزداد انتشارا ويتسع نطاقا.

ودارت دورة الأعوام، وانقضى بعدئذ نصف قرن من الزمان، ومات الشاعر المترجم «فتزجرولد» كما مات من قبله الشاعر المبدع «عمر الخيام». وعندئذ أرسل محب للرباعيات خطابا إلى دكان الوراق، وكان يقوم عليه حفيد الوراق القديم، قال فيه: «ابعث إلي بنسخة كلما طبعت من رباعيات الخيام طبعة جديدة.»

فأجابه الوراق في خطاب رقيق ينبهه على حقيقة قد يكون غافلا عنها، فقال: «إننا نطبع من الرباعيات طبعة كل أسبوع، وتتراوح أثمانها حسب جودة ورقها وغلافها من خمسة قروش إلى عشرة جنيهات للنسخة الواحدة ... وسآمر بحجز نسخة لك من كل طبعة جديدة كما أمرت يا سيدي.»

لكن «فتزجر ولد» كان عندئذ قد بات في رمسه رفاتا!

السحر والساحر

لو كان معنى السحر هو أن يلتمس الإنسان النتائج من غير أسبابها كنا بحمد الله - الذي لا يحمد على مكروه سواه - نعيش في بلد السحر والساحرين.

فإذا شهدت إنسانا «يطبل على صفيحة» لكسوف الشمس؛ لعله يزول عنها فتشرق، أو شهدت امرأة عجوزا تخز بالدبابيس تمثالا من الشمع وخز الحانقة الغاضبة، فتفقأ عينيه مرة، وتطعن جنبيه أخرى ثم تلقي به في النار؛ تفعل ذلك لعل العدو الذي يشير إليه التمثال يصيبه ما أصاب صورته على الشمع ، أو شهدت قرويا ساذجا يحمل في جيوبه الأحجية والطلاسم، لترد عنه الضر والأذى؛ لو شهدت واحدا من هؤلاء؛ فماذا أنت قائل؟ وماذا أنت صانع؟ سترتسم على شفتيك ابتسامة ساخرة حزينة؛ إشفاقا على هؤلاء السذج المساكين مما يتخبطون فيه من ظلمات الشعوذة وأضاليل السحر.

وما الشعوذة والسحر هنا إلا التماس النتائج من غير أسبابها؛ فالشمس لا يزول عنها كسوفها بالنقر على الصفائح، والعدو لا يهلك إذا هلك له تمثال من الشمع، وليس سبيل الخلاص من الضر والأذى أن تحمل الأحجبة والطلاسم في الجيوب.

لو كان الساحر ساحرا لأنه يوهم الناس أن يتوقعوا النتائج من غير أسبابها؛ كنا بحمد الله محوطين بالسحرة من كل جانب، يكاد كل منهم يلقي بعصاه، فإذا هي حية تسعى!

وإن شئت فاقصد إلى من شئت من ساستنا - أو من هم في طريقهم أن يكونوا ساسة لنا - اقصد إليهم وهم يروجون لأنفسهم بين ناخبيهم، فإذا الواحد منهم يبدي من سحره للناس ما يزري بسحر بابل كلها، ومصر القديمة والهند والسند وبلاد الأفيال جميعا. فأصغر سياسي منا قادر - ولله الحمد على آلائه ونعمائه - أن ينقر بعصاه نقرة، أو يزمر بمزماره زمرة، فإذا البلاد قد تقشع عنها كل مرذول كريه، فلا جهل بعدئذ ولا فقر ولا مرض!

فلئن كان الجهل يزول في بلاد الأرض طرا بالمدارس تقام، وبالمدرسين يدربون، وبالمناهج تعد، وبالكتب تكتب وتطبع؛ فزوال الجهل عندنا لا يريد هذا العناء كله، فقد تكفيه خطبة أو خطبتان، ومقالة أو مقالتان ... نعم، إن زوال الجهل عن بلادنا يكفيه أن نصنع له مسخا من الشمع، نعطيه لامرأة عجوز، تخزه بدبابيسها في جنبيه وفي عينيه، ثم تلقي به في النار، فإذا الأمية قد امحي عارها، وإذا الناس جميعا قد انقلبوا قراء كاتبين!

ولئن كان زوال الفقر في بلاد الأرض طرا مرهونا بزيادة وسائل الإنتاج، واصطناع الآلات، وتكوين العقول الصناعية والتجارية التي تأخذ مسائل الاقتصاد مأخذ الجد الذي لا يريد هزلا ولا مزاحا؛ فزوال الفقر عن بلادنا أمره أيسر من ذلك سبيلا وأهون طريقا ، إنه لا يكلفنا إلا قطرات من مداد ننثرها على الصحائف هنا وهناك، والله بعد ذلك قادر على أن يجعل من هذه الطلاسم قوة قاصفة عاصفة، كأنها الريح العاتية هبت من قماقم الشياطين؛ فلا ترى العين بعدها عاريا إلا اكتسى، ولا جائعا إلا شبع، ولا مشردا إلا أوى إلى بيت.

وإذا كان المرض في بلاد العالم كلها يحتاج إلى مستشفيات ومعدات وأطباء ودواء، وفحص ورقابة ورعاية وعناية تتآزر في سبيلها الحكومات والأفراد جميعا؛ فهو عندنا لا يتطلب شيئا من هذا كله، فلا أكثر من ضربة يضربها الخطيب بجمع يده على منضدة أمامه، أو سجعة يسجعها الكاتب في مقال تنشره له الصحف ... وبعد ذلك فانظر كيف يجيء البرء للمرضى بين عشية وضحاها، انظر كيف يقوى السقيم، ويعتدل الكسيح، ويبصر الأعشى!

ولو قد كانت الأمور في بلادنا مستقرة مطمئنة هادئة؛ لانحصر فعل السحرة في نطاق ضيق غير ذي خطر؛ لأن الناس لا يلتمسون أفاعيل السحر إلا حين يشتد بهم الضيق ويزداد الحرج، فما أيسر أن ينساق الناقم الساخط القلق المضطرب لسحر الساحر؛ لأنه يريد شعاعا من الأمل حتى لو كان كاذبا. فمن وعده بإزالة الجهل عنه في شهر أو شهرين، خير ممن يدقق له ويحقق ويتأنى ويتمهل، ومن وعده بعلاج الفقر والمرض جميعا في يوم أو يومين خير له آلاف المرات ممن يقف عند أرقام الإحصاءات، يستقرئها ويستوحيها؛ عسى أن يهتدي بهديها إلى صراط مستقيم، لكنه على استقامته طويل لا يعلم إلا الله متى ينتهي، وإلى أين ينتهي.

نعم، إن المصلح الجاد الذي يحترم عقول الناس لا يتوقع إلا النتائج القليلة في الزمن القليل، ثم هو لا يتوقع هذه النتائج القليلة إلا من أسبابها الصحيحة. وأما الساحر فهو الذي يستطيع - مستعينا بسحره - أن يبشر الناس بنتائج لا تعرف قيودا ولا حدودا، فأي الرجلين نختار؟

إلى الساحر وسحره يا قوم، بقضكم وقضيضكم، وحسبه فضلا أنه يزخرف لكم الآمال، في هذه السنين التي استحكم فيها اليأس، وخاب الرجاء.

عريان يحلم

لو قيل لي: ما الكتاب الواحد الذي تتمنى أن يذيع في الناس ويشيع، وأن يستوعبه الناس درسا وتمحيصا؛ لعله يصور لهم أنفسهم تصويرا يثير فيهم الضحك والسخرية، فيستقيم لهم بذلك من أنفسهم عوج، ويرتدوا إلى نهج قويم وطريق مستقيم؟ لأجبت في غير تردد: هو قصة دون كيشوت!

ولا بد أن يكون القارئ قد ألم بطرف من قصة هذا الحالم الواهم، الذي قرأ كثيرا عن الفروسية والفرسان في سالف الأزمان فأعجبه ما قرأ، فتوهم نفسه فارسا من هؤلاء، وامتطى صهوة جواد له نحيل هزيل، وأمسك بسيف صدئ متآكل مثلوم، وراح ينسج على غرار الفرسان الأقدمين ... ولكنه نسج لم يجاوز به دائرة أوهامه وأحلامه، فيطعن الهواء بسيفه، وهو يتوهم أنه يطعن السيف في أحشاء الأعداء، ثم يغمد السيف في قرابه، وهو يتوهم أنه قد انتصر!

ولا بد كذلك أن يكون القارئ قد لحظ أن كثيرا جدا من الناس يشبهون «دون كيشوت» إلى حد بعيد أو إلى حد محدود؛ فتراهم ينسجون حول أنفسهم نسيجا من أوهامهم، يعيشون فيه ثم يخيلون لأنفسهم أنهم إنما يحيون ويتحركون في عالم الواقع ... ويزداد هذا الانحراف في الإنسان كلما كان أميل إلى الطفولة في نفسه وعقله؛ إذ يتميز الطفل بشدة هذا النوع من الخيال الذي يختلط عنده بالواقع، فيركب عصاه موقنا أنه على فرس، أو يجلس على وسادة حاسبا أنه في مركب أو قطار ... فانظر - مثلا - إلى هذا الرجل الذي أوهم نفسه بأنه عين من أعيان القوم وذات من ذواتهم، ثم أبى على نفسه بعد ذلك إلا أن يكون في معاملته للناس شاذا نابيا؛ لأنه يخشى لو اعتدلت أساليبه واستقامت، ألا يعده الناس ذاتا ولا عينا، فتصطدم أحلامه بالحقائق ويهوي إلى الأرض حطاما.

لكن الحديث يطول بنا لو جعلنا نتعقب الناس مرأة مرأة ورجلا رجلا، لنحلل ما أحاطوا أنفسهم به من أوهام استراحوا إليها وعاشوا في أكنافها سعداء، فما ضرنا أن يسعد الناس بالأوهام والأحلام؟!

إنما الخطر كل الخطر، والضرر أبلغ الضرر، أن تصاب الأمة بهذه النزعة «الكيشوتية» فتعيش في أوهامها وتستغرق في أحلامها، والدنيا من حولها ساهرة واعية، لا تحرك قدما إلا بحساب ولا تفعل فعلا إلا مهتدية بالأرقام ... إن أخشى ما أخشاه أن تفكر معي، فينتهي بنا التفكير إلى أننا أمة من هذا الطراز الحالم!

نعم، إن هذه الشطحات «الكيشوتية» ملهاة مسلية حين تحكى عن الأفراد، لكنها مأساة أي مأساة حين تروى عن الأمم؛ فقد يحكى لك - فتضحك - أن رجلا فقيرا يلبس الهلاهيل، قد أراد له الله يوما أن يصنع صنيعا حسنا، فجزاه السلطان بلقب عظيم من ألقاب الإمارة، لكن الرجل ظل جائعا عريانا رغم لقبه الذي خلع عليه، غير أن صاحبنا كان موفور النصيب من أوهام «دون كيشوت»؛ فاستمد من أوهامه تلك غذاء وكساء، حتى كان شتاء قارس البرد، فشكت إليه زوجته من لذعة البرد وعضة الجوع، فانتهرها قائلا: إذا كنا ونحن الأمراء نشكو بردا وجوعا؛ فماذا يقول الفقراء؟!

قد يحكى لك ذلك عن الفرد الواحد فتضحك، أما أن يروى لك أمثال ذلك عن الدولة؛ فمأساة تشيع في النفس أسفا وحسرة ... ولأضرب لك مثلا واحدا من أمثلة كثيرة اختزنتها في رأسي:

لإنجلترا في مصر معهد أو معاهد، أنشأتها لتكون مراكز لنشر الثقافة الإنجليزية، واللغة الإنجليزية، فاهتزت نفوسنا هزة «كيشوتية» وقلنا: ولماذا لا نقف من إنجلترا في هذا موقف الند للند، لماذا لا ننشئ معهدا في لندن ينشر لنا الثقافة المصرية في بلاد الإنجليز، كهذا المعهد الذي أنشأته إنجلترا في القاهرة لينشر لها الثقافة الإنجليزية؟ ... وما هو إلا أن أرسل الموظفون كبارهم وصغارهم إلى لندن، وفرشت هناك الحجرات الفاخرة بأفخم الأثاث، وبدأ المعهد ينشر الثقافة المصرية.

وشاء لي حسن الحظ - أو سوءه - أن أدخل ذات يوم غرفة الدرس في المعهد المصري بلندن، وهي الغرفة التي أعدت لتشع منها أضواء الثقافة المصرية في بلاد الإنجليز، فرأيت هنالك صفا من مقاعد أمامه سبورة، كتب عليها بالحروف المتقطعة: ض ر ب، ق ت ل ... إلخ، واستفسرت كم يكلف الدولة نشر الثقافة المصرية على هذا النحو في بلاد الإنجليز؟ فقيل: كذا ألفا من الجنيهات لست أذكر عشرة أو عشرين.

يا سبحان الله العلى العظيم! أنا الذي أجد حولي من أبناء بلدي ملايين تبيت على الطوى، بالمعنى الحرفي لهذه الكلمات، وتلبس الهلاهيل بالمعنى الحرفي لهذه الكلمات، وتجهل القراءة والكتابة، تسول لي نفسي الواهمة الحالمة أن أبعثر مالي يمينا ويسارا؛ لأزيل الأمية في بلاد الإنجليز! ... ثم يمضي بعد ذلك عامان، فماذا تظننا قد فعلنا في ضوء خبرة العامين؟ أتظننا قد قضينا على هذا الهذر، وحولنا شآبيب المال إلى أبناء هذا البلد نكسوهم ونغذوهم ونعلمهم؟ لا والله؛ فنحن أمة تدين بمبدأ هو أن «الجرن الكبير خير من شماتة الأعداء» ماذا يقول عنا العاذلون لو أنا أقفلنا معهدا أنشأناه لنشر الثقافة المصرية؟ ألا يقولون عندئذ إننا أمة بغير ثقافة تنشرها؟ فلننشئ - إذن - معهدا مصريا آخر في واشنطن ينشر الثقافة المصرية بين الأمريكان!

ثم ماذا؟ ثم هذه الثقافة المصرية التي زخرت بها رءوسنا حتى فاضت، وامتلأت بها صدورنا حتى طفحت، لا بد من نشرها كذلك في بلاد الشرق كلها، فابعثوا بالمدرسين أفواجا أفواجا، وادفعوا لهم من أموال الدولة ما يزيد على خمسين ألفا من الجنيهات كل عام - فيما أعلم - لكي يقال إن مصر منارة ترسل الضوء هنا وهناك ... وأنت كافر بنعمة الله لو اضطربت نفسك بالقلق إزاء هذا كله؛ فقلت لأولي الأمر إن أبناءنا في مدارسنا قد يظلون في فصولهم بغير مدرس أشهرا ثلاثة أو أربعة في أول العام، فحرام أن تضيعوا أبناءنا لتنشئوا أبناء الآخرين.

لكن هل كان يمكن إنسان أن يقنع «دون كيشوت» وهو سابح في أوهامه وأحلامه، أنه لا يطعن السيف في أحشاء الأعداء، بل طعنه في الهواء؟!

اللهم زدنا وهما على وهم، لنستمد من عرينا كساء، ومن جوعنا غذاء، ومن جهلنا علما.

جمل في حركة المرور

عند ملتقى شارع شامبليون بشارع الأنتكخانة، على بعد أمتار قليلة من ميدان سليمان باشا، وقف شرطي المرور بحلته البيضاء الناصعة وكميه الأسودين، باسطا يمنى ذراعيه، ليمنع بها المرور في أحد طريقيه.

ونظرت إلى السيارات الممنوعة عن السير حينئذ - وكنت قد خرجت من توي من حيث أقيم، مكروب النفس محزون الفؤاد - فإذا ضحكة تنطلق من صدري نقية خالصة لوجه الله؛ ذلك أني رأيت جملا واقفا في حركة المرور.

وقفت السيارات متزاحمة في أحجام مختلفة وألوان متباينة، فهذه سيارة نقل كبيرة تحمل أكداسا من القش المحزوم، وهذه سيارة أنيقة مزخرفة لامعة فيها سيدتان جميلتان، كانتا تطفحان بالزينة، ثم هذه وهذه وتلك ... وقفت كل هذه السيارات متزاحمة متحفزة للجري، كأنها جماعة من كلاب الصيد، قد تأهبت على أطرافها مرهفة الأذان محدقة العيون تنتظر من سيدها إشارة خفيفة، لتنطلق مع الريح إلى حيث قناص الصيد.

وأما الجمل، فقد وقف بينها شاخصا ببصره إلى الأفق البعيد. ونظرت إلى عينيه فرأيت فيهما ازدراء وامتعاضا. وقف الجمل في حركة المرور هادئ الأعصاب، قد أرخى أعضاءه عن طمأنينة ودعة؛ فشتان ما كان بين هدوئه هذا وتحفز السيارات التي حوله تأهبا للوثوب! هو في اطمئنانه لا يكاد يفرق بين حركة ومسير. أما هي فقد وقفت تمغص بأمعائها، كأنها لا تريد للحركة الدائبة أن تقف، فلما وقفت لحظة، هاجت أحشاؤها حتى لتوشك أن تتميز من الغيظ.

الفرق بين الجمل في استرخائه ذاك، وبين جاراته اللائي وقفن مختلجات الأعصاب، مضطربات الأبدان، هو بذاته الفرق بين مدنية ومدنية! هو الفرق بين مدنية ذهب زمانها وانقضى، ومدنية لها اليوم سيادة وسلطان، هو فرق بين مدنية قديمة لم تعرف للزمن قيمة، فآثرت أن تسير الهوينا على غير عجل، ومدنية حديثة تستقطر الزمن كل لحظة فيه؛ لكي يجيء عمر الفرد مترعا مليئا، وتجيء حياة الأمة منتجة خصيبة، هو فرق بين عهد الرماية بالقوس في الحروب، فتصرع العدو رجلا رجلا، وبين عهد القنبلة الذرية فتسحق الأعداء بلدا بلدا، هو فرق بين عصر كان الإنسان يغزل فيه نسجه بيديه، وقد ينسج الثوب الواحد في عام كامل! وبين عصر تخرج فيه الآلات نسجها أثوابا كل يوم ... هذا هو الفرق بين الجمل الذي وقف هادئا في حركة المرور وبين جاراته المتوثبات المتحفزات ... والعجيب أن الجمل لم يدرك تخلفه عن زميلاته، فراح يشخص إلى الأفق بنظرات ناعسة مسترخية، فيها ازدراء وامتعاض!

وسارت حركة المرور بسياراتها وجملها، ومضيت في طريقي، فما كدت أستقر في مكان قريب حتى سألت نفسي: ما الذي أضحكك لما رأيت الجمل واقفا في حركة المرور؟

أيكون ذلك؛ لأن الجمل كائن حي والسيارات من حوله آلات جامدة، وخضوع الأحياء لما تخضع له الجوامد يثير الضحك، كما ترى رجلا انزلق على الطين فوقع على الأرض، فتضحك لأنه قد تصرف كما يتصرف الجماد الأصم؛ إذ خضع للجاذبية، وسقط كما تسقط قطعة الحجر.

لكني سرعان ما عدت إلى نفسي قائلا: فيم هذا الإغراب في التحليل والتعليل؟! إن مبعث الضحك حين رأيت الجمل بين السيارات في حركة المرور، هو رؤيتك منظرا لم تكن تتوقع أن تراه. إن سر الفكاهة كلها هو في وضع الشيء في غير موضعه المنتظر، فإذا رفع ستار المسرح - مثلا - عن قرد، وكنت تتوقع إنسانا، انطلقت منك الضحكات لا تملك حبسها، وإذا رأيت القرد يتحرك حركات آدمية، وكنت تتوقعها منه حيوانية كالتي تعهدها في سائر الحيوان، انطلقت ضاحكا، وهذا هو نفسه ما يضحك حين يتصرف الأطفال تصرف الرجال.

فالذي أضحكني في الجمل حين وقف المسكين بين بنات عصر غير عصره هو بعينه ما يضحكني لو رأيت رجلا شيخا متهدما يلعب الكرة مع فئة من الشباب القوي الفتي، الوثاب السريع! أو هو ما يضحكني لو رأيت سلحفاة ثقيلة متحجرة، وقفت إلى جانب صف من الجياد في حلبة السباق!

يا ويح نفسي لو نظرت فرأيتنا بين بلاد العالم المتحضرة بمثابة الجمل الذي وقف مع السيارات في حركة المرور!

أليس من حقي أن أضحك ملء شدقي إذا ما رأيت الشادوف في القرن العشرين لا يزال يئن تحت أصابع الفلاح، ورأيت المحراث لا يزال يشق الأرض إصبعا إصبعا، ورأيت النقل لا تزال أداته الحمار! والعجيب - بل إنه لأعجب العجب - أننا ننظر إلى الأفق كما كان ينظر الجمل، بنظرات ناعسة مسترخية، فيها امتعاض من مدنية عصرنا، وفيها ازدراء!

لكني، رغم هذا كله، أكبرت في الجمل أن يخضع لقيود الحضر، بعد أن عودته البادية طلاقة وانسيابا؛ ففي التزامك لقواعد المجتمع الذي تعيش فيه معنى جميل من معاني المدنية، بل لعله المدنية في أرقى معانيها.

وإن في مراعاة الجمل لحقوق غيره لدرسا يلقيه على كثيرين وكثيرات، لا أقول من عامة الناس وسوادهم، بل من العلية والذوات.

نملتان في الفلفل

جلس الشيخ في دكانه محزونا، اعتمد رأسه على راحتيه، وجعل يفكر: ماذا أنا صانع يا رباه في جحافل النمل التي تهجم على سكري في ظلمة الليل؟ إنها لتأكلني أكلا؛ إذ هي تأكل قوت عيالي، وإني لعائل أسرة أكاد أنوء بحملها الثقيل. لو كانت النمال مما يرعى مبادئ الأخلاق؛ لناشدتها الضمائر ألا تسطو على ملك غيرها، فحرام عليها أن تستريح بياض النهار في أعشاشها، حتى إذا ما سترها الليل بعتمته ملأت بطونها مما كد غيرها في جمعه وكدح، حتى تندى منه بالعرق الجبين، لكن - وا أسفاه! - ليس للنمل أخلاق يراعيها.

وتحير الشيخ في أمر هذا النمل؛ كيف يعرف موضع السكر، وإنه لخبيء في علبة محكمة الغطاء. وإن الشيخ ليغير مكان العلبة كل مساء فيضعها على الرف مرة، وتحت النضد مرة، ويكسوها باللفائف تارة، ويعلقها في الهواء طورا، لكن النمل يعرف!

ولمعت فكرة في رأس الشيخ كاد يثب لها في مقعده: أما والله إني لأحمق مأفون، أضع إصبعي في الفخ حتى إذا ما ضغط الفخ على إصبعي، صرخت من ألم! ألم أكتب على الصناديق بيدي هذه بطاقات، تعلن عما في بطونها فلمن كتبت - يا أحمق - هذه البطاقات، إن لم تكن للنمل يقرؤها في الليل؟ وإنه لذو بصر حديد، فيعرف موضع السكر من الدكان في حندس الليل! لأنزعن من فوري هذه البطاقات عن أماكنها، وكفاني من بلاهتي ما لقيت كفاني ... ونهض الرجل في حماسته لينزع ...

لكن لا، لقد لمعت عيناه بفكرة أخرى، فكرة افترت لها شفتاه بابتسامة عريضة، ثم انفجرت بقهقهة عالية ... أأنا الرجل الذي يغلبه النمل على أمره، وإن عد النمل بالألوف لا بآحاد وأفراد؟! أأنا الرجل الذي يغلبه النمل على أمره ثم لا ينتقم؟! فيم إذن كان مقامي في حلقات العلم أعواما إن قصرت بي عن ختام العلم فقد دنت منه! ويحك الليلة مني يا نمال!

ونزع الرجل في زهو الظافر بطاقة السكر ووضعها على علبة الفلفل، وكتب الفلفل على علبة السكر. - سيأتي النمل الليلة أسرابا كعهده، وسيقرأ العنوان فيظنه دالا على مضمون الكتاب، وسيدخل علبة الفلفل، وفي وهمه أنه سيجد حلاوة كل يوم، وما كل ما يتمنى المرء (يا نمل) يدركه، تأتي الرياح (يا نمل) بما لا تشتهي السفن.

وأوشكت الخطة أن يصيبها الفشل؛ إذ جاء النمل ولم يقرأ، بل اشتم وانصرف، إلا نملتين حفظتا القراءة في مدرسة من مدارس الإلزام، فقرأتا وضحكتا من جهل الأخوات، وتسللتا إلى السكر الموهوم، فإذا داخل العلبة ديجور لم تعهداه فيما سلف من الليالي. وبينا هما تسعيان وراء الرزق، صدمت نملة منهما نملة في بعض الطريق: ما لك الليلة؟ ماذا دهاك؟! - عتمة لم أعهدها هنا، يا أختاه. - لست أرى في الأمر اختلافا عن المألوف. - بل ألفت أن يتسرب من سماء هذا المكان شعاع ضئيل من الضوء يعكس شيئا من بياض. وإذا الأمر كله الليلة في عيني سواد في سواد، ثم ألفت أن أسير على منبسط فسيح، فإذا بي الليلة أدور مع موطئ القدم حيث يدور، ثم ... لست أدري، يا أختاه، ماذا دهاني؟ لعله مرض في جوفي تغيرت معه طبيعة دنياي، ثم ألفت على اللسان حلاوة، فإذا بالشيء يلسع الليلة لساني لسعا أليما، حتى ليكاد اللسان من حدة اللسع يحترق. - لك الله يا مسكينة، ألا إن الأرض هي الأرض والسماء هي السماء، والمأكل كعهدنا به طيب حلو المذاق، غيري من جوفك تتغير الدنيا في عينيك. - أواثقة أنت أننا في علبة السكر؟ - قرأت العنوان بعيني، وأذوق الطعم الآن بلساني، وليس إلى الشك عندي من سبيل. وفيم الريبة والسؤال؟ دونك المكتوب فاقرئيه، وليست الرحلة إليه بشاقة ولا عسيرة. - سأفعل، لا ارتيابا في صدق ما تقولين، ولكن ليطمئن قلبي.

وخرجت النملة إلى ظاهر العلبة، ثم عادت والتقت بأختها بعد تعثر في الطريق، وبحث في الثنايا هنا وهناك. - صدقت، إنه السكر لا شك فيه. - لا «يا أختاه» بل كل الشك فيه. - وي! ماذا تقولين؟ ماذا تظنين؟ - كأنه «يا أختاه» حب فلفل، إني لأحس الآن ما تحسين، فسواد شديد حالك يسد علي مسالك الطريق، وانبعاج في الأرض لا يكاد يمكنني من السير، ثم طعم لاذع يذيب اللسان ويمزق الأحشاء. - لكنه السكر، والبدال لا يخطئ الترقيم. - نعم، لا بد أن يكون سكرا؛ لأن البدال لا يخطئ الترقيم. فصبرا جميلا، حتى نملأ جوفينا مما رزقنا الله، وإنه لحلو مستساغ. وإن كره البصر واللسان والأحشاء جميعا!

وأصبح الصباح وعاد النمل إلى عشه، لا لتستريح النملتان هذه المرة من عناء الليل، بل لتتلويا من عذاب أليم كلما مغصت في جوفيهما الأمعاء، والتقت المسكينتان في منبطح من العش. - ليتنا ما أكلنا السكر! - السكر؟! - وماذا عساه في ظنك أن يكون؟ - اسمعي يا أختاه، لقد ذهبت مع ظلمة الليل غفلتي، وعادت إلي مع ضوء النهار حكمتي. إن هؤلاء الناس لأصحاب خدعة، فما فتئوا الدهر يخدعون ويخدعون، إني لأعلم من أمرهم ما لا تعلمين، بل لعلي أعلم منه ما ليس يعلمون. - ماذا تريدين؟ - سأوضح لك الليلة ما أريد.

وجاء المساء وخرجت النملتان، نملة تهدي وأخرى تهتدي. - تعالي معي فادخلي خزانة الكتب، أمسكي هذا الكتاب، ما عنوانه؟ - من الفلسفة الإسلامية. - ومن كاتبه؟ - شيخ جليل في طليعة الشيوخ. - دونك فاقرئيه، ماذا ترين فيه؟ - لست والله أطالع فيه إلا فقها، وما إلى الفقه. - نعم، وسماه فلسفة ليدخل المريدون خلال العنوان إلى فلسفة، فإذا بهم في فقه يتقلبون. كما دخلنا ليلة أمس على بطاقة من سكر، فإذا الفلفل يملأ منا الأمعاء والبطون ... وهذا الكتاب الآخر، ما عنوانه؟ - خواطر الأديب. - ومن كاتبه؟ - علم من أعلام القلم. - دونك فاقرئيه، ماذا ترين فيه؟ - لست والله أرى فيه إلا خليطا من معرفة، لا هي إلى العلم في دقته، ولا إلى الأدب في جمال صورته. - نعم، وجعله الكاتب أدبا؛ ليتسرب إليه الراغبون في أدب ، فإذا هم في مرج آخر يمرحون ... اخرجي من بطون الكتب، وهيا بنا إلى الحياة العريضة في المنازل والشوارع. انظري هناك، ماذا تبصرين؟ - كومة من قمامة ... لا بل هو آدمي يتحرك. - هذه القمامة البشرية يسمونها مدنية شرقية. - كلا، لا تمزحي، بل ... - وانظري هناك، ماذا تبصرين؟ - شرطي يضرب إنسانا في عرض الطريق. - وهذا الطغيان الساري يسمونه مدنية شرقية. - كلا لا تمزحي، بل ... - وانظري هناك، ماذا تبصرين؟ - كأني به مريض محموم أحاط به ذووه. - وهذه الجهالة يسمونها مدنية شرقية. - كلا لا تمزحي، بل ... - وادخلي هذه الدار فانظري، ثم ادخلي جماجم الرءوس وانظري، وسترين شيئا عجبا يسمونه مدنية شرقية. - كلا، لا تمزحي، بل المدنية الشرقية شيء غير هذا كله، سمعتهم هكذا يقولون. - وأنا سمعت آخرين يقولون: إن المدنية لا تكون شرقية ولا غربية، إنما هي علم يعلمه الإنسان أنى كان، وفن خلقه الإنسان أنى كان. فحيثما وجدت الجهالة والمرض، وجدت ماذا؟ - لكنهم يقولون ... - ويحك من نملة حمقاء! أفتنصتين بعد لما يقولون؟! إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، ألا يكفيك ليلة واحدة قضيناها في علبة الفلفل؟!

مراحل الطريق ...

استمع إلى صيحة الوليد! إنه ينذر العالم بقدوم عضو جديد ... إن كل ما في الدنيا يؤلمه ويؤذيه؛ فقد فاجأته الحياة بضرورة التنفس والتنفس مؤلم لرئتين لم تعهداه من قبل، وتدفقت على عينيه أشعة الضوء، والضوء شديد على عينين كانتا مغمضتين حتى الساعة. وازدحمت أخلاط الصوت في أذنيه، والصوت يؤذي أذنين لم يقرعهما طارق إلى اليوم، وبرد الهواء يلفح جسما ما عرف إلا جوفا دفيئا ... كل ما في الدنيا إذن يؤلمه ويؤذيه، ولكنه ادرع قبل قدومه بما يصونه ويحميه، ادرع بلادة الحس، فالضوء المتوهج خافت في عينيه، والصوت القوي همس ضئيل في أذنيه، ولم يكفه هذا، بل هيأت له الطبيعة أن يغط معظم يومه في نوم عميق، لا يدرك ما تموج به الدنيا من حوله ... ويكبر الوليد ويكبر، فيكشف عن دنياه شيئا فشيئا، مدفوعا في كشفه بقوة تغريه بالتطلع واكتساب العلم، حتى إنه ليمس كل شيء ويلقم كل شيء! وأداته في ذلك كله هي اللعب، فما يزال الطفل يلهو بطبيعته ليخبر الحياة عن طريق لهوه، حتى يدركه الشباب.

والشباب هو البرزخ بين لعب الطفولة وجد الرجولة، وحلقة الاتصال بين تواكل الفرد على أسرته، واعتماده على نفسه. الشباب ينزع بطبعه إلى الفوضى وحب الذات؛ لأن الدنيا لم تعلمه فيما سلخ من عمر إلا درسا واحدا: يأمر فيطيع الوالدان. والشباب مغامر مخاطر يميل إلى المبالغة والغلو؛ لأن به نشاطا فياضا يريد أن ينطلق في هذه المغامرة والمخاطرة والإسراف. ولقد قيل إن الرجل يكون شابا بمقدار ما فيه من حب لركوب الخطر، ومن سمات الشباب كذلك أن يضيق بالقانون وينفر من النظام؛ لأن القانون ضرب من القيد، والنظام نوع من الغل، فأين يصب نشاطه الحبيس؟ إن أوضاع المجتمع قد تطالبه بالسكون، مع أن طبيعته الحيوية تدعوه إلى جلبة وضوضاء. والشباب يحيا في حاضره أكثر ما يحيا، لا يأسف على أمس ولا يعبأ بالغد. فلئن كانت الطبيعة قد ثلمت إحساس الوليد ليكون بنجوة مما حوله، فقد أرهفت إحساس الشاب حتى ليكاد يلتهم ما حوله التهاما؛ لأن كل شيء حوله ما يزال جديدا، ولم يبلغ بعد من سعة التجربة أن يرى الدنيا صورة مكررة مملولة. إن الحياة في عين الشباب خلابة ساحرة جديرة أن ينغمس فيها الإنسان ليستمتع بطيباتها؛ ولهذا قيل إن الشباب هو الحياة، وأما رجال الأربعين وما بعدها فلا يعيشون إلا في ذكرى الشباب الدابر. وأفدح الكوارث أن يخلو هذا الشباب الفتي القوي من الحكمة التي تهديه، وأن يفرغ الرجل المجرب العارف من الشباب الذي يستطيع التنفيذ.

أواه لو عرف الشباب

وآه لو قدر المشيب!

فلقد يقنع الرجل بمشاهدة اللعب، وأما الشاب فلا يرضيه إلا أن يكون من اللاعبين! إنه يؤثر حلبة الرياضة على قاعة الدرس. وهل تراه أخطأ الاختيار؟ لا؛ إن أول ما نطلبه للرجل الكامل هو، كما يقول نيتشه: «أن يكون حيوانا كاملا.» فخليق بالتربية أن تستمع إلى صوت الطبيعة في ميول الشباب، وأن تعنى بتثقيف الأجساد في الملاعب كما تعنى - على الأقل - بتغذية العقول بالتفكير النظري.

ولكن الشباب لا يستنفد نشاطه كله في فاعلية الجسد، بل إن موجة المراهقة ما تكاد تغشاه حتى يأخذ في شيء من التفكير الذي لم يكن له به عهد من قبل؛ فهو كثيرا ما يتأمل نفسه ويفكر في العالم من حوله، وتعجبه النظريات؛ لأنها تفسر له معاني ما يرى من أشياء. تراه يكثر من السؤال: ما هذه الدنيا؟ ما أصلها؟ إلام تصير؟ ما الروح؟ وما الله؟ إن العقل في هذه السن جياش فوار، والحس مغمور مأخوذ بجمال كل شيء.

وما هي إلا أن يكشف الشاب عن الحياة سترها قليلا قليلا؛ فيرى السوء فيزعجه، لأنه لم يكن يتوقعه! ماذا؟ ألم أكن في أسرتي عضوا في جماعة لا تعرف سوى المحبة والعطف والتعاون، القوي يعين الضعيف، ورزق الكاسب مشاع للجميع؟! فما لي أرى المجتمع الأكبر لا يفهم إلا التنافس والقتال؟ يتنازع أفراده على البقاء كأنما البقاء ضيق محصور! ما لي أرى المجتمع الأكبر يمحو الضعيف محوا، ويسحق الفقير سحقا، ليخلو المكان للقوي الغني؟ هكذا تتردد الخواطر في نفس الشاب مبهمة غامضة، فيثور، فيصيح في وجه العالم: أن خذوا أيها الناس مبدأ الحياة من مبدأ الأسرة؛ ليعيش الأفراد في تعاون الشقيق. وهكذا تبدأ المبادئ الاشتراكية، ويعلو صوتها من صفوف الشباب! ولكن وا حسرتاها! إن هذا الشباب الطموح لا يلبث أن ينساق أمام تيار الحياة الجارف، فتأخذه الحماسة لشخصه بعد قليل، وتشتد به حتى لا يعود يرى في الدنيا إلا نفسه، وتسيطر عليه رغبة الملك، فيدلي بدلوه في دنيا التنافس ليختطف به ما وسعه أن يختطف من قوة ومال! وهكذا تخمد ثورة الشباب، وتسير قافلة الحياة ... تسير آمنة من معاول الشاب الهادمة؛ لأن الشاب قد أحب فتزوج.

وإذا تزوج الشاب فقل على شبابه العفاء! فها هنا يبدأ طور جديد، ها هنا تبدأ مرحلة الرجولة من مراحل الطريق، فيعرف ما العمل وما عبئه الثقيل، وتخضع العاطفة لقيود القانون والمجتمع ... هنا تنتهي قصيدة الحياة الشعرية ويبدأ نثرها!

ولكن للرجولة حسنة كبرى وفضلا عظيما؛ فهي الوسط الذهبي بين طرفين من الغلو، فورة الشباب من ناحية، وخمود الشيخوخة من ناحية أخرى ... الشباب يعتمد في كسب العلم الجديد على إلهام الغريزة، والشيخ يركن إلى العلم الراكد الجامد، فيستوحي منه النتيجة الجديدة عن طريق القياس. وأما الرجولة فتعمد إلى الاستقراء، استقراء الأمثلة التي تجمعها من الطبيعة لتصل إلى العلم الجديد ... الشباب لعب، والشيخوخة راحة مطلقة. وأما الرجولة فشأنها العمل المنتج ... الشباب مليء بالفن، والشيخوخة نزاعة إلى الدين. وأما الرجولة فمشغوفة بالعلم قبل كل شيء. الشباب خيال مبتكر، والشيخوخة ركون إلى ذكريات الماضي. وأما الرجولة فعقل مفكر مدبر ... في الشباب ثورة، وفي الشيخوخة جمود. وأما الرجولة فتستمتع بالحرية، والحرية بمعناها الصحيح مرحلة بين الثورة والجمود ... في الشباب جرأة إلى حد التهور، وفي الشيخوخة خوف إلى حد الجبن. وأما الرجولة ففيها الشجاعة كما تمليها الحكمة.

فأنت ترى أن عهد الرجولة عصر العمل والبناء، فلئن فقد الرجل حماسة الشاب وأمله، فقد كسب قوة الإنجاز والتنفيذ، حتى إذا ما بلغ الرجل سن الخامسة والثلاثين؛ فقد بلغ الذروة القصوى، التي تحتفظ ببقية صالحة من عاطفة الشباب وبداية طيبة من فهم الشيوخ. ولقد قام باحث إنجليزي بإحصاء عجيب، أثبت به أن الكثرة العظمى من نوابغ الإنجليز أنجبهم آباؤهم بين الثلاثين والرابعة والثلاثين.

وبعدئذ يأخذ النشاط في التدهور والفناء، وينضب معين القوة قليلا قليلا دون أن يملأ ما فرغ منه، أو كما يقول شوبنهور: يعيش الإنسان بعد ذلك على رأس ماله لا من دخله. وإن الرجل في هذه السن لتتكشف له هذه الحقيقة المروعة المخيفة، فتعلوه غاشية من الكآبة والقنوط، ساخطا على هذه الحياة القصيرة التي لن تمكنه من تحقيق أمله. إنه ليقف في ذروة الجبل وينظر، فإذا بالموت قابع عند السفح يرقب وينتظر، فماذا يفعل؟ إنه في الأغلب يشتد حماسة في العمل ليغالط الحقيقة الواقعة، كأنما يريد أن يصيح في وجه الفناء: أنا هنا حي نشيط متوثب! أنا موجود رغم أنف الزمان!

يقول نيتشه: إن الإنسان في شبابه ورجولته شأنه شأن الحطب، تشعل فيه النار؛ تعلو شعلته ويملأ الدنيا دخانا وشرورا، ولكنه لا يدفئ. فإذا ما انجابت عنه غاشية الدخان وهدأت أطراف لهيبه، بدأت جمراته الهادة تشع الدفء الجميل. وهكذا فورة الشباب ودخانه لا يفيدان شيئا إلا إن استقرا في هدوء الرجولة وسكونها ... فالرجولة إذن هي عصر الخصب والإنتاج.

ولكن دبيب الشيخوخة لا يمهل الرجل طويلا حتى يسري في العظام والمفاصل! فلا يعود الشيخ قادرا على حفظ علم جديد، كأنما العلم الجديد لا يجد في رأسه المزدحم مكانا خاليا! إن الطفل في سنيه الأولى يكبر بنسبة أسرع من النسبة التي يكبر بها بعد ذلك، وكذلك الشيخ كلما أمعن في شيخوخته ودنا من ختامه يضعف بنسبة أسرع مما كان. والطفل مزود عند مولده ببلادة الإحساس؛ لئلا تصعقه الإحساسات الجديدة المتكاثرة، وكذلك الشيخ يعود في هرمه إلى ذلك الحس البليد؛ لأن رغبة الحياة قد خمدت قواها. إن الشيخ المتهدم ليشعر بمزيج عجيب من حب البقاء وحب الراحة الأبدية؛ فهو يريد أن يمتد به البقاء، ولكنه يريد في الوقت نفسه أن يتخلص من هذا العناء المضني. إن الشيخ ما يفتأ ساخطا ناقما على مظاهر الحياة التي يشهدها صخابة حوله، ومن الشطط أن تطالب إنسانا ذهبت عنه الحياة بحب الحياة!

لقد بلغ الحي غاية الشوط، فأسلم حياته إلى كف المنون! إن الحياة آخر مراحلها الموت والفناء! ... ولكن لا! إننا نموت من أجل الحياة. إن هذه الخلايا الذابلة لتسقط من جسم الحياة ليبقى سليما معافى، فيفنى الشيوخ لتبقى الحياة في قوة الشباب.

صه! هذا وليد يصيح، إن الحياة خالدة لا تعرف الفناء.

بين الأدب ونقده

عجيبة هذه المصادفات ...

لم أكد أفرغ من كتاب «النقد المنهجي عند العرب» للدكتور محمد مندور، وأسجل رأيي في بعض ما جاء فيه - وهو رأي عارضه الدكتور مندور - أقول إني لم أكد أفرغ من ذلك الكتاب؛ حتى طالعت كتابا آخر لأديب آخر، ليس بين موضوعه وموضوع الكتاب السابق من أواصر القربى إلا ما يذهب إليه الأديبان من أن النقد الأدبي مرده إلى الذوق ... وأما هذا الكتاب الجديد الذي أعنيه؛ فهو «على هامش الأدب والنقد» للكاتب الأديب المطلع الذواقة الأستاذ علي أدهم.

وكم كنت أحب أن أستعرض هذا الكتاب للقارئ، وأن أقدم له قبسات منه تظهره على ما فيه من غزارة مادة وجمال صورة؛ ففيه خمس وعشرون مقالة أضيفت إليها مقدمة، كل مقالة منها - أستغفر الله - بل كل صفحة من صفحاتها، وأستغفر الحق، بل كل فقرة من كل صفحة؛ تضيف إلى علمك علما جديدا.

نعم، كم كنت أحب أن أستعرض هذا الكتاب للقارئ، لولا أني آثرت شيئا آخر لنفسي ولقارئي معا، وهو أن أجادل أديبنا الكاتب رأيه في اعتماد النقد الأدبي على الذوق، في كلمة أوجهها كذلك إلى الدكتور مندور، وإلى كل من يأخذ هذا الرأي في أساس النقد ... أريد أن أبسط رأيي في شيء من التفصيل؛ لأبين للقارئ ما أذهب إليه وأدين به، من وجوب اعتماد النقد الأدبي على العقل دون الذوق. •••

يا ويح نفسي من هذه الألفاظ تلوكها الأفواه، ويشتد حولها الجدال والقتال، دون أن يتمهل المجادلون المقاتلون لحظة واحدة يتبينون فيها معاني هذه الألفاظ التي شمروا عليها السواعد وأرهفوا الألسنة وشرعوا السيوف! يرحمك الله يا سقراط رحمة واسعة! إنك لم تطلب إلى الناس إلا هذا المطلب المتواضع؛ تحديد الألفاظ التي يستخدمونها في أحاديثهم ونقاشهم، ولو قد فعلوا؛ لاستراحت ضمائرهم، واطمأنت أفئدتهم في صدورهم.

إن موضوع الخلاف بيني وبين الأديبين الكبيرين هو أنهما يريدان النقد الأدبي أن يعتمد على الذوق، وأريد أن يعتمد على العقل. بعبارة أخرى، هما يريدان للنقد الأدبي أن يكون فنا، وأريد له أن يكون علما. انظر - نشدتك الله - إلى هذه الكلمات التي حشرناها حشرا في سطر واحد، ولو تناولنا واحدة منها بالتحليل والتحديد؛ لجاز أن ننفق أعمارنا دون أن نبلغ المدى: «فن»، «علم»، «ذوق»، «عقل».

ما معاني هذه الكلمات الأربع على وجه التحديد؟ ألا يجوز أن ينحسم الخلاف إذا ما اتضحت لنا تلك المعاني ؟ ذلك ما أنا فاعله الآن، غير زاعم أني أقول الكلمة الأخيرة في شيء، وكل ما أدعيه هو أني حين أقول إنني أريد للنقد الأدبي أن يعتمد على العقل دون الذوق، فإنما أقول ذلك وفي ذهني ما سأثبته الآن من معان لهذه الألفاظ.

ماذا أفهمه من كلمة «فن»؟

أنا الآن جالس إلى منضدة صغيرة أكتب هذا المقال، فحانت منى التفاتة من نافذة صغيرة إلى يساري، ورأيت غرابا يرف بجناحيه، نعق نعقتين كان في صوتهما تهدج، ثم هبط على غصن من شجرة لا أعرف نوعها. ولعله هبط على مكان من الغصن أوراقه متهافتة، فسقطت ورقة تأرجحت في الهواء، وهوت إلى الأرض هويا بطيئا.

هذه صورة مركبة من جملة عناصر، نكتفي الآن منها بثلاثة: أنا والغراب والشجرة (لأنك تستطيع أن تضيف عشرات العناصر الأخرى مما أراه وأسمعه وأحسه بخلدي، وأفكر فيه في هذه اللحظة عينها).

أما أنا فبديهي أني كنت في هذه اللحظة من لحظات حياتي في حالة معينة فذة فريدة، لم يسبقها قط منذ ولادتي، ولن تلحقها قط إلى مماتي؛ لحظة أخرى تطابقها كل التطابق من جميع الوجوه، فلا يعقل أن يتكرر موقفي إذ ذاك بما فيه ما يحيط بي من أشياء وملابس. وما أرى، وما أسمع، وما يدور في نفسي من خواطر، وأقل ما يقال في هذا الموقف الفريد الفذ، هو أني كنت قبل الآن أصغر مني الآن، وسأكون بعد الآن أكبر مني الآن.

وأما ما رأيته من الغراب فبقعة سوداء، تحركت حركة معينة، ثم سكنت في مكان معين، على هيئة معينة. بقعة سوداء! لكن السواد يا صاحبي له ظلال تعد بالألوف؛ فأي ظل من هذه الظلال رأيت؟ والبقعة السوداء تحركت! الحركة كذلك يا صاحبي لها ألوف الألوف من الصور، فبأي منها تحركت تلك البقعة السوداء؟! ثم سكنت البقعة السوداء في مكان معين! حتى السكون يا صاحبي صنوف وأشكال؛ فليس سكون النائم مثل سكون الميت، وليس سكون الصخرة ملقاة على سفح الجبل كسكون غرابك هذا على الفنن ... وقل مثل هذا فيما سمعت من الغراب، سمعته ينعق نعقتين في صوتهما تهدج، كم درجة من الصوت سمعت أذناك؟ وفي أية درجة من الدرجات أردت أن أضع نعيق الغراب؟ الحق أن ما رأيت من الغراب وما سمعت مركب فريد من عناصر اجتمعت على نحو يستحيل أن يكون له ما يماثله مماثلة تامة في كل ما رأيت وما سأرى من الغربان.

وما قلته في نفسي وفي الغراب، أستطيع أن أقوله في الشجرة والورقة التي سقطت منها وهوت إلى الأرض ... ثم يزيد الأمر كله في درجة التركيب والتعقيد، حين نضيف هذه الأشياء الثلاثة بعضها إلى بعض في صورة واحدة، هي صورة فذة فريدة - كما أسلفت - لم تعرف، ولن تعرف الحياة لها مثيلا آخر، بكل ما في التماثل من دقة وتطابق.

وكأني ألمح في قارئي علائم الدهشة من هذه المبالغة في قولي، ولكن ليس في الأمر يا صاحبي غرابة ولا عجب! هكذا الحياة في شتى صورها، الحياة لا تعرف تكرار الأفراد. كل كائن حي - والكائنات الحية ملايين الملايين - فيه ما يجعله فردا بذاته يختلف، ولو قليلا عما عداه. خذ ورقة من شجرة، ودر بها الأرض من قطبها إلى قطبها؛ فلن تجد لها مثيلا بمعنى التماثل الذي تنتفي فيه كل الفروق المميزة انتفاء تاما. وانظر إلى ألوف الناس من حولك، هل رأيت قط فردين يتشابهان إلى الحد الذي تنمحي فيه المميزات جميعا؟ لا، بل الاختلاف بين الأفراد أدق من هذا وألطف؛ فبصمات الأصابع لا تتشابه في الأفراد، ودع عنك دقائق الجسم الباطنية من حيث الشكل والحجم والتركيب.

هكذا الحياة يا صاحبي في شتى صورها، ولا موضع لغرابة منك أو عجب، الحياة لا تعرف تكرار الأفراد، بل لا تعرف تكرار اللحظات في الفرد الواحد، فيستحيل أن يكون الكائن الحي في هذه اللحظة هو بعينه ما كان في لحظة مضت، وهو بعينه ما سيكون في لحظة تالية.

والفن كما يقولون تصوير للحياة! مقياس الفن، بل معنى «الفن» هو التقاط موقف فرد مما يعج به العالم من حولنا. لو قلت كلاما يصور حقيقية عامة تنطبق على هذا وذلك؛ فقولك بعيد عن الفن الرفيع. ومن هنا كانت ثورتي النفسية، وكان غيظي الشديد؛ كلما قرأت لكاتب من كتابنا يقول عن هذا الشاعر أو ذاك من أسلافنا إنه شاعر لحكمته، أو لصدق حكمه، أو ما إلى ذلك. الحكمة يا سيدي القارئ والحكم الصادق أدخل في باب العلم؛ لأنها تعمم القول ولا تخصصه في تصوير موقف فريد؛ وإلا خبرني - أثابك الله - ما الفرق بين شاعرهم حين يقول: «والظلم من شيم النفوس»، وبين عالم الطبيعة حين يقول: «التمدد بالحرارة من شيم الحديد» و«الغليان من صفات الماء»، كلاهما يعمم الحكم، وإذن فكلاهما عالم وليس بأديب، ولا يكون ذلك الشاعر شاعرا إلا إذا صور حالة جزئية فريدة من حالات الظلم، أو صور ظالما معينا يتجسد الظلم في أعماله.

إننا نقول إن شكسبير كان شاعرا فنانا حين كتب مسرحيته عن كليوباترة، وشوقي لم يكن شيئا حين كتب؛ لأن الأول قد استطاع بقوة فنه أن يجمع عناصر جزئية بعضها إلى بعض بحيث تتكون صورة فذة فريدة لشخصية تجعلها كهذه الأشخاص الذين تراهم حولك أحياء. وأما الثاني فربما حاول ذلك ولم يوفق. ونجعل كتاب «الأيام» للدكتور طه حسين باشا خير كتبه جميعا لما فيه من تصوير لطفولة واحدة فريدة لا تجتمع عناصرها إلا مرة واحدة، ونجعل «سارة» خير ما أنتجه الأستاذ العقاد لإبرازه فيه شخصية واحدة كذلك، ونرجح للدكتور أحمد أمين بك أن يخلد في دولة الأدب بكتاب زعماء الإصلاح

1

أكثر من أي كتاب آخر؛ لأنه وفق فيه إلى هذه الفردية التي ينشدها الفن، حين رسم صورة هؤلاء الزعماء.

لو أحسنت لجعلت مقياسك في الحكم دائما على القطعة الفنية كائنة ما كانت هو هذا: إلى أي حد أخرج الأديب أو الفنان مركبا من عناصر الحياة يستحيل أن يقع إلا مرة واحدة؟ إن تغزل حبيب في حبيبته ولم تلمح في عبارته ما يفرد حبه عن حب سائر الناس، بل لم تلمح فيه ما يفرد تلك اللحظة الواحدة من حياته الغرامية عن سائر لحظات حياته الغرامية أيضا؛ فاعلم أنه شاعر زائف لا يصدر عن شعور صحيح، لأن شعوره الصادق الصحيح في تلك اللحظة إزاء حبيبته شيء فريد لم يتكرر، ولن يتكرر له مثيل إلى أبد الآبدين.

وقد قلت هذا الكلام يوما لأستاذ يحاضر في الأدب، فضحك مني ساخرا وقال: إنك تجعل الأدب أضيق من سم الخياط. وأنا الآن أرد عليه بقولي إنه فعلا كما وصف، وإلا فليحدثني لماذا يزخر كل جيل من الناس في البلد الواحد بآلاف «الأدباء» و«الشعراء» ثم لا يبقي الزمان من هؤلاء إلا أديبا واحدا أو شاعرا واحدا من كل عدة أجيال؟ ذلك لو نظرنا إلى العالم كله جملة، ولم نقصر نظرنا على قطر بعينه؛ لأننا قد نحصر النظر - يا سيدي الأستاذ - في قطر واحد، ولا أقول ما هو. قد نحصر النظر الصارم الصادق في هذا القطر الواحد، فلا نراه قد أنجب أديبا واحدا ولا شاعرا واحدا في طول الزمان من مولده، ولا أقول إلى منتهاه. •••

حسبي هذا في تحديد الفن - ومنه الأدب بالطبع - لأسائل نفسي: وماذا تريد بكلمة «العلم»؟

العلم - كما قلت في كلمتي للدكتور مندور عند التعليق على كتابه - هو منهج لا موضوع؛ فقد يختلف الموضوع عند مختلف العلماء فيكون النبات عند هذا، وطبقات الأرض عند ذاك، قد يكون الموضوع هو أجرام السماء عند عالم وماء البحر عند آخر، قد ينفق أحد العلماء عمره في حشرة يدرسها، وقد ينصرف عالم آخر بجهده كله إلى إشعاع الراديوم، وكل هؤلاء علماء! لماذا؟ لأنهم جميعا يصطنعون منهجا معينا في فرض الفروض وتحقيقها. وليس هنا مجال التفصيل في ذلك.

لكن الدكتور مندور لم يعجبه منا هذا القول، فأنكره، قائلا: «إن الذي يعرفه الجميع تعريفا للعلم هو أنه «مجموعة من القوانين التي تفسر الظواهر الطبيعية» ...» وقد كنت أحب أن يستثنيني على الأقل من هؤلاء الجميع؛ لأن «القوانين التي تفسر الظواهر الطبيعية» تتغير وتتبدل في مختلف العصور. قد يقول هذا بقانون ما، يفسر به ظاهرة طبيعية، وقد يقول غير ذلك من زملائه المعاصرين - ودع عنك من سبقوه ومن سيلحقون به - قد يأخذ زميل له بقانون آخر يفسر به الظاهرة عينها، ومع ذلك فكلاهما عندنا عالم إذا اتبع منهاج العلم الصحيح، بغض النظر عن القوانين التي وصل إليها هذا أو ذاك. ولو كانت العبرة في تعريف العلم بالقوانين التي تفسر الظواهر الطبيعية؛ للزم أن نخرج من قائمة العلماء كل من لم تثبت قوانينه التي وصل إليها ثبوتا يدوم على مر الزمن. وبعبارة أخرى، لزم أن نمحو كل العلماء من قائمة العلماء!

ولو كان العلم منهاجا - لا موضوعا معينا - كما نعتقد، لما كان مستحيلا أن ينصب هذا المنهاج على الآثار الأدبية فيصبح النقد علما. وسنعود إلى تفصيل ذلك.

أقول إن المجال لا يسمح بذكر تفصيلات المنهج الذي يجعل العلم علما، لكني أذكر من خصائص هذا المنهج خصيصة لا بد من ذكرها في سياق هذا الحديث؛ ليتكامل الرأي الذي ندافع عنه.

من أخص خصائص المنهج العلمي أن يسقط ما هو خاص من جوانب الموضوع الذي يبحثه؛ فلا يستبقي إلا ما هو عام بين الناس، ومن هنا يتضح الفرق بين الفن والعلم، فبينما الفن كما قلنا يلتقط من الموضوع تلك العناصر التي تجعله فردا فريدا لا يتكرر في أشباه؛ ترى العلم يستبعد هذه الجوانب الخاصة من موضوعه ليحصر نظره في العام المشترك. فمثلا، إن طالعتنا بأوصاف تتجمع في أذهاننا فتتكون منها صورة فريدة لشخص معين كما فعل شكسبير مثلا في تصوير هاملت أو الملك لير أو غيرهما من عشرات الأشخاص الذين رسمهم بقلمه، أقول إن طالعتنا بمثل هذه الصورة الفذة الفريدة التي تجد ما يطابقها تمام التطابق في سائر أفراد الناس؛ كنت أديبا فنانا. أما إن أتيتنا بقواعد عامة لسلوك الناس على اختلافهم؛ فأنت عالم يشاهد الجوانب المشتركة بين الأفراد، فيجردها ويسجلها، ولا يغير من الموقف أن تضع علمك هذا في قصيد منظوم.

وهاهنا نضع إصبعنا على مميز واضح للعلوم في شتى صورها، يميزها من الفنون في مختلف ألوانها، وهو «التجريد». العلوم موضوعاتها جوانب مجردة انتزعناها من المفردات التي نشاهدها، والفنون موضوعاتها هي هذه المفردات في تفردها؛ فلو لحظت صفة تميز البقر - مثلا - فعزلتها بذهنك جانبا، فقلت إن البقر يجتر، كنت بمنزلة العالم؛ لأنك جردت صفة واحدة من مجموعة صفات لا توجد في العالم الواقع إلا مركبة مشتبكة؛ أي انتزعتها وحدها، مع أنها لا توجد في الدنيا الحقيقية وحدها، ثم لأنك عممت هذه الصفة بين البقر جميعا. أما إذا استوقفت نظرك بقرة واحدة بشيء، فصورتها رسما أو كلاما أو نحتا، بحيث تثبت لها فرديتها التي لا تشترك فيها مع سائر البقر؛ فأنت ها هنا بمنزلة الفنان. •••

وننتقل في هذا الموضع إلى صميم ما أردنا أن نعرضه على القارئ، وهو الذوق والعقل، ما معناهما؛ لنرى أيهما يصلح معيارا للنقد الأدبي، وبالتالي لنرى هل يكون النقد الأدبي فنا أو علما.

سأعرف الذوق بأنه تأثر أي حاسة جسدية بأي أثر من الآثار. إن الذوق في أصله تأثر حاسة معينة عضوها اللسان، لكنا في هذا السياق سنعمم استعمال الكلمة على سائر الحواس، فلو نظرت إلى شجرة أمامك، فلنسم انطباع صورة الشجرة على شبكية عينك وتأثرك بها ذوقا، على غرار ما يتأثر اللسان بذوق الطعام الذي يمسه، وكذلك قل في سمعك لصوت، أو لمسك لشيء، أو شمك لرائحة.

وبديهي أن الحاسة لا تتأثر إلا بما هو فرد فريد؛ فليست «الحرارة» بصفة عامة هي التي تلسع أصابعك، لكنها «هذه القطعة المعينة من الحديد» هي التي تلسعك، وأنت لا ترى «الشجر» بصفة عامة، بل ترى هذه الشجرة الواحدة المعينة في هذه اللحظة الزمنية المعينة، وهكذا قل في سائر المدركات الحسية.

وسنسمح لأنفسنا أن نستعمل كلمة «الذوق» في تأثر الإنسان بما هو فريد من المشاعر، على نحو ما أطلقناها على تأثره بما هو فريد من الإحساسات. فمثلا إذا أصيب إنسان بموت ولده، فسيحزن، لكنه لن يحزن «حزنا عاما» بل حزنا خاصا فريدا في ظروفه وفي الشعور به، وإذا رأيت منظرا جميلا، شروق الشمس أو غروبها مثلا؛ فستشعر بفرحة قوية حسب استعدادك، لكنك لن تفرح «فرحا عاما»، بل فرحك فريد فذ يتعلق بمنظر فريد فذ كذلك. وحتى لو فرحت بشروق الشمس أو غروبها كل يوم، فالمنظر في كل مرة من هذه المرات واحد متميز، لا ينطمس مع أقرانه في سائر الأيام.

هذا التأثر الفريد المتميز، الذي تنطبع به نفسك استجابة لموقف فريد متميز كذلك؛ هو الذوق، وهو كما ترى شيء خاص بك، يستحيل أن تنقله إلى سواك، يستحيل أن تنقل إلي ما تشعر به أنت من ألم في ضرسك أو حزن على فقيدك الذي تحبه وتعزه، كما أنه يستحيل أن تنقل إلي تذوقك للطعام، وكل ما في مستطاعك أن تقول لي كلمات؛ لتثير في نفسي إحساسات ومشاعر أستمدها من تجاربي الخاصة أيضا. فإن قلت لي مثلا: إني حزين على ولدي الذي مات، فربما حزنت لحزنك، لكني سأحزن حزنا ثانيا خاصا بي، سأستثير من ذكرياتي شعور الحزن، إنك لم تنقل إلي حزنك، وإنما أثرت في نفسي جانبا من سابق خبرتي.

هذا هو الذوق، وأما العقل يا سيدي القارئ؛ فلسنا نريد أن نصوره سحرا غامضا، ليرتع كل متكلم وكل كاتب في معانيه كيف شاء. العقل هو ألا يكون في قولك تناقض، هو ألا تقول قولا ينقض بعضه بعضا.

وبديهي أن التناقض لا يعني شيئا إذا طبقناه على الأفراد؛ إذ لا معنى لقولك إن هذا الكتاب الذي أمامي يناقض هذا القلم، أو إن شعوري بالحزن في هذه اللحظة يناقض شعوري بالفرح عصر الأمس. أقول إن التناقض لا يكون بين المفردات الواقعة، وإذن فهو لا يكون أبدا فيما أتلقاه عن العالم بالذوق؛ لأن الذوق - كما أسلفنا - هو وسيلة تأثرنا (بالحس أو بالشعور) بتلك المفردات الواقعة. من هنا استحال علينا أن نقول لشاعر صدقت أو كذبت. هذا إن كان الشاعر شاعرا حقيقيا يعبر عن أثر شعوري فريد.

وإنما يكون للتناقض معنى في التعميمات المشتركة؛ فإذا قلت عن شيء إنه فوق المنضدة، فمن التناقض أن تعود فتقول إنه تحتها. و«فوق» و«تحت» وأشباههما من المعاني مشتركة عامة، وليست هي بالإحساسات الفذة الفريدة. •••

وبعد، فهل يكون النقد الأدبي للذوق أو للعقل ؟ هل يكون فنا أو علما؟ هذه هي المشكلة، كما يقول هاملت.

وأعتقد أن الأمر لم يعد عسيرا بعد تحديد الألفاظ الذي أسلفناه. فهبك قرأت قصيدة فأشاعت في نفسك لذة، إلى هنا أنت بمثابة المتذوق الذي يتأثر بشعور فريد خاص به، ولسنا نحرمك ولا نحرم أحدا من هذه اللذة الذوقية بأي معنى من معاني الحرمان، لكن اذكر - أستحلفك الله - أن ذلك التذوق يستطيعه الأبكم؛ فلا تقل: إنني ما دمت قد قرأت القصيدة، وذقت فيها حلاوة فأنا ناقد! لا تقل ذلك بربك العظيم؛ لأن الأبكم يستطعم القصيدة كما استطعمتها أنت، ثم لا ينطق، والناقد بالطبع لا بد فيه من كلام يقوله لنسمع.

لكنك لست مصابا بالبكم، وتريد أن تتكلم بعد استمتاعك بما قرأت. عندئذ أنت بين أمرين؛ فإما أن تقول ما شئت من كلام تقصد به أن تثير في نفس سامعك مثل الأثر الذي وجدته أنت، وقد تفلح وقد لا تفلح في تحقيق بغيتك، لكنك - على فرض توفيقك بمثابة الأديب المبدع، لا الناقد؛ لأنك تؤدي ما يؤديه الأديب. وهو أن يقول كلاما يرصه على الصورة التي يهوى؛ ليؤثر في السامع وقد نجحت، وسم هذا الضرب إن شئت نقدا تأثريا، إذا ضمنت لنفسك حرصا لا ينسيك أنه لا يصف حقيقة القطعة الأدبية، بل يصف وقعها في نفسك.

وأعجب العجب في هذا الصدد أن نفتح «منهج البحث في الأدب واللغة» للانسون، وهو الذي يوصينا به الدكتور مندور لنهتدي سواء السبيل، فترى الرجل يفتتح بحثه قائلا: «فالنقد التأثري نقد مشروع لا غبار عليه، ما ظل في حدود مدلوله، ولكن موضع الخطر هو أنه لا يقف قط عند تلك الحدود؛ فالرجل الذي يصف ما يشعر به عندما يقرأ كتابا مكتفيا بتقرير الأثر الذي تخلفه تلك القراءة في نفسه، يقدم بلا ريب للتاريخ الأدبي وثيقة قيمة ... ولكن مثل هذا الناقد قلما يمسك عن أن يزج بأحكام تاريخية خلال وصفه لأثر الكتاب في نفسه، أو أن يتخذ من ذلك الأثر وصفا لحقيقة الكتاب الذي يقرؤه ... ولذا كان من أهم وظائف المنهج أن يطارد هذا النقد التأثري.»

كلا، أيها القارئ الكريم، لسنا نحرمك بأي معنى من معاني الحرمان، أن تقرأ وتتذوق ثم تسكت، فلا تكون شيئا بالنسبة إلينا، ولسنا نحرمك بأي معنى من معاني الحرمان أن تقرأ وتتذوق، ثم تكلمنا لتثير فينا أثرا مثل الذي تأثرت به، وعندئذ تكون أديبا من المرتبة الثانية؛ فليس هنالك فرق جوهري في طبيعة الموقف بين تأثر الأديب الأصلي بالطبيعة مباشرة فيكتب، وبين أن تتأثر أنت بالأثر الأدبي فتكتب. وفضله عليك هو أنه أسبق منك إلى إدراك الجمال في الطبيعة، لكن كليكما مع ذلك أديب يتأثر، فينشئ ليحدث في القارئ أثرا شبيها بأثره.

أما إذا أصررت على أن تكون ناقدا، فلا مندوحة لك عن خطوة بعد قراءة التذوق، خطوة هي وحدها التي تجعلك ناقدا، وهي أن تسأل نفسك: ماذا في هذه القصيدة من العوامل الموضوعية التي أثارت في نفسي هذا الشعور أو ذاك؟ وقد ينتهي بك البحث - مثلا - إلى أن اختيار الشاعر للبحر الطويل جاء موفقا؛ لأنه يناسب موضوعه، فأحدث ما أراد أن يحدثه من أثر في نفس القارئ أو السامع، أو إلى أن كثرة الراءات في هذا البيت جعلته جميلا، أو كثرة السينات والصادات في ذاك ... لكن هذه وأشباهها قواعد عامة، فكأنك تقول: كل بيت يصف خرير الماء وتكثر فيه الراءات فهو جميل في هذا الجانب منه، وكل بيت يصف الحرب بالسيوف وتكثر فيه السينات والصادات؛ فهو جميل كذلك في هذا الجانب منه، وهكذا. أنت هنا لا تنقل إلينا عناصر تجتمع فتكون موقفا فريدا لا يتكرر، بل تحدثنا عن قواعد عامة تتكرر في كل حالة شبيهة بالحالة التي أنت بصدد تحليلها. وما دمت في مجال التعميم فأنت عالم، وإذن فالنقد علم. ثم يقتضيك المنطق - أي العقل - ألا تناقض ما تقوله في موضع، بما تقوله في موضع آخر؛ فلا تقل مثلا في موضع ما: إن البحر الطويل يناسب التعبير عن الحزن؛ لأنه بطيء، والحزين بطيء الحركات والكلمات، ثم تناقض ذلك في موضع آخر، وتزعم لنا أن البحر الطويل لا يناسب الحزن ... وإن كان هذا هكذا؛ فأنت تصدر فيما تقول عن عقل. إنك، حين تنقد، عالم لا فنان، يبني كلامه على عقل؛ أي يخلصه من تناقض أجزائه، لا على الذوق الذي يتأثر بهذا الفرد الجزئي أو ذاك وكفى.

ولأنك في نقدك عالم يبني قوله على العقل؛ أمكن أن نناقشك الحساب فيما تقول، فنعترف لك بصدق قولك أو ندعي عليك الكذب، ولا يكون كذب أو صدق إلا فيما يصور شيئا موضوعيا بعيدا عن ذوقك الخاص وشعورك الخاص، بل يستحيل استحالة قاطعة أن تفيدني شيئا على الإطلاق بكلامك، إذا أردت أن تنقل إلي هذا الذوق الخاص وهذا الشعور الخاص؛ لأنه خاص بك مصبوب في أعصابك.

لست إذن أوافق أديبينا الكريمين: الدكتور مندور في كتابه «النقد المنهجي عند العرب»، والأستاذ علي أدهم في كتابه «على هامش الأدب والنقد»؛ فيما ذهبا إليه من أن النقد فن، ومرده للذوق. وأصر - كما قلت - على أن يكون علما، مرجعه إلى العقل، على شرط أن تفهم هذه الألفاظ بما حددت لها من معان.

دفاع عن الأدب1

تطغى على العالم موجة مادية تجتاحه أصولا وفروعا، وتريده على أن يحمل تراث الإنسانية الأدبي، منذ فجرها حتى اليوم الراهن، فيأخذ سمته نحو اليم؛ فيلقي بذلك التراث في لجة ما لها من قرار، ثم يعود وقد أزاح عن كاهله ذلك العبء المضني من دموع الشعراء وأنينهم وهزات نشوتهم وسرورهم، وغير ذلك من نزوات الطفولة التي لا تدعو إليها ضرورة ولا شبه ضرورة في هذا العصر الحديث، وأن يتوفر على أزيز المعامل ومقارع الآلات، التي لا ينبغي أن يطرب لسواها، أو ينصت لصوت غير صوتها! وماذا يغني دانتي وشكسبير بجانب علوم الطبيعة والكيمياء، التي على أساسها تعمل المطارق وتدور الأرحاء؟! وفي ذلك يقول الكاتب الإنجليزي توماس بيكوك: «الشاعر في عصرنا هذا نصف همجي يعيش في عصر المدنية؛ لأنه يقيم في الزمن الخالي، ويرجع بخواطره وأفكاره وخوالجه وسوانحه إلى الأطوار الهمجية، والعادات المهجورة، والأساطير الأولى، ويسير بذهنه كالسرطان زحفا إلى الوراء ... لقد كان الشعر نقرة تنبه الذهن في طفولة الهيئة الاجتماعية، ولكن من المضحك في عصر النضج العقلي أن نعنى بألاعيب طفولتنا، ونفسح لها موضعا من شواغلنا، فإن هذا سخف يشبه سخف الرجل الذي يشتغل بألاعيب الصبيان، ويبكي لينام على رنة الأجراس الفضية.»

هكذا يقال عن الأدب الآن، كأنه عرض من أعراض الحياة، لا يمسها في الجوهر والصميم! والواقع أننا حين ننزل عن الأدب وسائر الفنون؛ فإننا إنما ننزل عن نفوسنا، لأن هذه وتلك شيء واحد اختلفت أوضاعه.

وللشاعر الفيلسوف طاغور تحليل يبين به موضع الفن من أساس الحياة، وأنه ضرورة لازمة لا مناص منها، ونحن نورد للقارئ خلاصة موجزة لذلك البحث الجليل:

من الحقائق البديهية، أن الإنسان مرتبط بهذا العالم بصلات شتى؛ فهو يعيش في مضطرب الحياة مدفوعا بطائفة من الحاجات التي يتحتم عليه قضاؤها، وهو في تلك المحاولة مضطر إلى أن يتصل بالعالم اتصالا ليس له عنه منصرف ولا محيد.

فالحاجة الجسمية تملي عليه أن يفلح الأرض ويتعهد الزرع؛ حتى يثمر له القوت، وأن يلتمس من الطبيعة مسكنا وملبسا يدفعان عنه القر والهجير.

والحاجة العقلية تريده على أن يمعن النظر، ويستقصي البحث في مظاهر الكون؛ لأن العقل لا يقنع بالنظر إلى الأشياء الخارجية دون أن يتتبع العلل ويكتشف القوانين العامة التي تنتظم جميع الجزئيات، فهو مطبوع على هذا البحث؛ ليخفف عن نفسه أعباء الحقائق الكثيرة التي تصادفه في حياته، باختزالها في عدد قليل من القوانين، أو في قانون واحد شامل إن استطاع إلى ذلك سبيلا.

وليست حاجة الإنسان تقتصر على العقل والجسد، بل هو يحمل بين جنبيه نفسا لها مطمح تنشده وتسعى إليه؛ فهي بدورها مضطرة إلى أن تتصل بالكون كي تلتمس عند مظاهره ما تصبو إليه، وهي بحكم وجودها تعالج ضروبا من المشاعر؛ فهي تموج بالأمل والسرور والغضب وغير ذلك من ألوان الشعور.

ولكن هذه الروابط التي تصل الإنسان بالعالم لا تقتصر عليه دون سائر الحيوان ؛ فهو يشاركه في الحاجة الجسمية ويشاركه في الحاجة العقلية، إن صح إطلاق هذه الكلمة على الحيوان الأعجم، كما يشاركه في مشاعره النفسية كذلك، إلا أن أهم ما يرتفع بالإنسان عن مرتبة الحيوان؛ أن هذا محدود في دائرة ضيقة جدا، لا تتسع لأكثر من الضرورات التي يقتضيها استمرار الحياة، فهو يبذل ما يبذله من مجهود لحفظ كيانه، والاحتفاظ بجنسه، ثم لا يزيد على ذلك إلا بمقدار ضئيل. أما الإنسان فلا تكلفه الضرورة إلا بقدر محدود، ثم يبقى لديه من القوة ما يجول به حرا من الأصفاد والقيود. مثل الحيوان في ذلك، مثل الزارع الذي ينوء بأعباء الدين الفادحة فهو يكد ويكدح ويعمل ويشقى طوال العام، فإذا ما حان الحصاد تسرب الثمر إلى الدائن، ويخرج صاحبنا من المعركة صفر اليدين. أما الإنسان فهو في هذا التشبيه صاحب ضيعة واسعة النطاق، لا يفقد من دخله إلا جزءا يسيرا، ثم ينعم بعد ذلك حرا لا يقف دونه سلطان ولا رقيب؛ أي إن لديه من ثروة الحياة ما يزيد على الحاجة الضرورية بقدر عظيم. وبذلك يتاح له من القوة والفراغ ما يستطيع معهما أن يعالج مختلف الشئون، لا باعتبارها واجبا حتما تمليه ضرورة الوجود، ولكن على أنها أغراض في نفسها تقصد لذاتها.

فللحيوان مقدار من المعرفة ولا ريب، إلا أنها معرفة ضئيلة محدودة، يستخدمها في حفظ الحياة وكفى؛ فهو ملزم أن يدرس بيئته في شيء كثير من الدقة، ليستطيع أن يتخذ لنفسه من أركانها مستقرا يؤويه، وليتمكن من الحصول على طعامه وشرابه في سهولة ويسر. وهو ملزم كذلك أن يعلم بعض خواص الأشياء من حيث اللدونة والصلابة مثلا؛ ليبني ما يشاء من أوكار، ويعالج شئون الحياة الأخرى، وهو لا بد أن يعرف للفصول المختلفة علامات تدل على قدومها، حتى يتهيأ لأجوائها المتباينة بالريش أو الفراء. هذه وأشباهها معرفة لا ندحة عنها لكل أنواع الحيوان للذود عن كيانها والاحتفاظ بوجودها، ولكنها لا تزيد على ذلك إلا قليلا. والإنسان أيضا، لديه تلك المعرفة اللازمة لاستمرار الحياة - حياة الفرد والجنس - ولكن معرفته لا تقف عند هذا القدر القليل، بل تفيض معرفته فيضا غزيرا يطغى على تلك الحدود الضرورية؛ فهو يحصل جانبا عظيما من المعرفة لذاتها، وينشد العلم لأجل العلم، لا يبغي وراء ذلك قصدا ولا غاية. ومن هذا الفيض العلمي تنشأ الفلسفة والعلوم.

وللحيوان جانب خلقي غير منكور؛ فلديه كثير من الإيثار تراه واضحا في حنان الأم على صغارها أيا كان نوعها. ويبدو ذلك الإيثار بارزا في هذه النحلة العاملة، وتلك النملة المثابرة، فيما تسعيان وتطوفان هنا وهناك، تجمعان القوت، ولكن لماذا؟ لخلية النحل كلها أو لجماعة النمال بأسرها. وهذا المقدار الضئيل من الأخلاق، إنما أوجدته ضرورة الحياة عند الحيوان. أما الإنسان فقد رسم لنفسه من التشريع الخلقي ما يربي على حاجته الضرورية أضعافا مضاعفة، فهو يفرض على نفسه الخير؛ لأنه صالح للجماعة أولا، ولكنه لا يكتفي بهذا الغرض المتواضع، بل يمعن في ذلك إمعانا بعيدا، فينشد الخير محضا ويطلبه لذاته فقط، ومن هذا الفيض الخلقي نشأ علم الأخلاق.

وللحيوان شعور يحسه ويعبر عنه، فهو يبغض ويحب، وهو يسر ويحزن، وهو يأمن ويخاف. ولكنه كذلك لا يعدو في التعبير عن مشاعره ذلك الحد الذي تقتضيه ضرورة الحياة. أما الإنسان، فعواطفه، وإن تكن قد نشأت في الأصل لتلك الأغراض التي نشأت من أجلها عواطف الحيوان؛ فإنها قد جاوزت ذلك الحد تجاوزا فسيحا. وتركت في الأرض جذورها الأولى التي أخرجتها إلى الوجود، وانبسقت عالية منتشرة بغصونها في سماء اللانهاية. نعم، لدى الإنسان من العواطف أضعاف أضعاف ما تتطلبه طبيعة وجوده، وهذا الفيض الغزير العميق من المشاعر التي تضطرم وتحتدم في الصدور، لا بد أن يجد متنفسا يتسلل منه؛ ليعلن عن نفسه في أنحاء الوجود. وقد كانت الثغرة التي تدفق منها ذلك الفيض الشعوري هو الفن الجميل في ضروبه المختلفة من أدب وتصوير ونحت وموسيقى وغيرها؛ إذ اتخذها الإنسان أداة للتعبير عما يحسه من شعور. وهذا الشعور الذي يلتمس طريقه إلى عالم التعبير في صورة فنية؛ إنما يكشف عن نفوسنا وما يدور فيها من إحساس. وبعبارة أخرى إن الفنون وسيلة لإبراز مشاعر النفس الإنسانية، دون الأشياء المحسة التي تتعلق بها تلك المشاعر. وبذلك أتاحت للإنسان أن يسكب نفسه أمامه؛ فيراها ويلمسها، وليس له عن ذلك بد بحكم تكوينه، فهو حين ينظم القصيدة من الشعر، أو يضرب على أوتار الموسيقى. فإن ذلك يوازي في قائمة الضرورات الإنسانية الملبس والطعام، ومن هنا كان الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يعرف نفسه ويشعر بوجوده.

ولما كانت الآداب والفنون هي شخصيتنا تدفقت إلى العالم الخارجي في مختلف الأثواب، كان لا يصلح موضوعا للفن إلا ما يتصل بنفوسنا، وينتظم في سلك مشاعرنا، أو تغذوه عواطفنا، فيكتسي الرضا أو السخط أو السرور أو الألم أو غيرها. وعندئذ يصبح جزءا منا، يصح له أن يبرز في صورة فنية. فعلمنا أن الأرض تبعد عن الشمس كذا ميلا لا يصلح موضوعا للفن؛ لأنه لا يمس نفوسنا. أما منظر غروب الشمس؛ فهو يثير فينا عاطفة ما - الإعجاب مثلا - فيمتزج المنظر بنا، ويختلج في نفوسنا، ثم لا يلبث أن يسلك سبيله إلى التعبير. وهكذا كلما اجتمعت مشاعرنا حول شيء معين؛ فإنها تجاهد في الإفصاح عن نفسها مستعينة في ذلك بالفنون. ولما كانت معظم الأشياء التي تصادفنا في الحياة تثير فينا لونا خاصا من العواطف، فالإنسان فنان في الكثير الغالب من نواحي الحياة. فهو يشيد دورا فخمة لمسكنه، وكان يكفيه كوخ خشن ضئيل، وهو يبتني المعابد والمساجد الشامخة، التي ترسل قبابها ومآذنها في الفضاء؛ لينفس عن عاطفته الدينية. وكان يكفيه حيز محدود في العراء لأداء فريضته، وهو يخطط المدن وينسق الحدائق؛ ليرضي عاطفته الوطنية، وهو يعنى بأثاث منزله وجمال ملبسه إلى آخر دقائق الحياة، لماذا؟ لأنها تمس مشاعره، فتصبح قطعة من شخصيته لا يسعه إلا إبرازها والإعلان عنها.

من ذلك نرى أن الفنون جميعا هي الأداة التي يستخدمها الإنسان ليتمكن من صب الوجود في نفسه، ثم يعود فيسكبها شخصية تنبض فيها الحياة. وقد اتخذت الفنون قوالب الجمال وسيلة إلى ذلك التعبير، كالتصوير والموسيقى والعبارة الجميلة، فأدى ذلك إلى اقتران الآيات الفنية بمعاني الجمال؛ فالتبس الأمر على بعض المفكرين، وذهب بهم الظن إلى أن الجمال هو الغرض المقصود من الفنون، والحقيقة أنه أداة فقط، استعملت للوصول إلى الغاية الحقيقية، وهي إبراز الشخصية الإنسانية. وقد تبع ذلك جدل ونقاش حول موضوع لم يكن ليحتمل النقاش والجدل، وهو أيهما أفضل في الأدب: المعنى أم المبنى؟ فذهب فريق كبير إلى تفضيل العبارة الجميلة، وحجتهم في ذلك أن المعنى أدخل في باب العلوم منه في باب الأدب. أما اللفظ الجميل، فهو فن خالص؛ لأنه قطعة من الجمال، والجمال أساس الفنون! وفات هؤلاء أن جمال الأدب لا يتحقق إلا بمزج هذين العنصرين مزجا (كيميائيا) لا يقبل التجزئة والتحليل، فأنت إذا أردت أن تتذوق لونا من ألوان الطعام، فلا تعمد إلى تحليله إلى عناصره الأولى لتختبر كل واحد على حدة، بل لا بد لك أن تتناوله وحدة متماسكة. كذلك الحال في الأدب: الكل شيء آخر غير أجزائه؛ فالمعنى وحده قطعة من العلم، واللفظ وحده كذلك جزء من علم البلاغة والنحو والصرف، فإذا مزجت بينهما؛ كانت لديك بذلك آية أدبية خالدة.

فالفنون ومنها الأدب، هي أشخاصنا وأرواحنا، في حين أن العلوم - كالأشياء نفسها - جامدة ميتة، لا تتصل بنفوسنا ولا تظهر فيها الشخصية الإنسانية. وقد أحسن فيكتور هوجو حين قال في كتابه «وليم شكسبير»: «ينادي كثير من الناس في أيامنا هذه - ولا سيما الفلاسفة وفقهاء القانون - أن الشعر قد أدبر زمانه! فما أغرب هذا القول! الشعر أدبر زمانه؟! لكأن هؤلاء القوم يقولون: إن الورد لن ينبت بعد، وأن الربيع قد أصعد آخر أنفاسه، وأن الشمس كفت عن الشروق، وأنك تجول في مروج الأرض، فلا تصادف عندها فراشة طائرة، وأن القمر لا يظهر له ضياء بعد اليوم، والبلبل لا يغرد، والأسد لا يزأر، والنسر لا يحوم في الفضاء، وأن قلل الألب والبرانيس قد اندكت، وخلا وجه الأرض من الكواعب الفواتن والأيفاع الحسان ... لكأنهم يقولون إنه لا أحد اليوم يبكي على قبر، ولا أم تحب وليدها، وأن أنوار السماء قد خمدت، وقلب الإنسان قد مات.»

والخلاصة أن الأدب، والفن بوجه عام، ضرورة تحتمها المشاعر الزائدة على حاجة البقاء، وأنها صورة دقيقة لنفوسنا، تربطها بالعالم برباط الصداقة والرحم، بخلاف العلوم؛ فإنها صورة العالم الخارجي ولا دخل للإنسان فيها؛ فهي من الإنسان بمنزلة الزائر الأجنبي الذي لا تصله بنا وشائج القربى. وأحسب أنا لو خيرنا بين العلم والأدب؛ لما ترددنا لحظة في أن ننبذ العلم نبذا، ونتمسك بالأدب ونعتز به اعتزازنا بالنفوس.

القطة السوداء

يانصيب!

في هذه الكلمة القصيرة تلخيص موجز - لكنه تلخيص مليء بالقوة والحياة - لقصة كثير جدا من الأحياء والأشياء في هذه الدنيا؛ فعدد كبير من الناس جاءت له الحياة على نحو تلخصه كلمة يانصيب، هذا إنسان سحبت ورقة نصيبه، فإذا هو مولود لرجل غني يرث ماله العريض، وذلك آخر، يولد لمعدم فقير لا يرث عنه إلا الهم والمرض.

وعدد كبير من الحيوان جاءت له الحياة كذلك على نحو تلخصه كلمة «يانصيب»! فكلب ينعم بما تشتهيه الأعين والأنفس من لذائذ العيش، وكلب يتمرغ في الطين ويأكل العظام، ويضرب على ظهره بالهراوة والعصي.

وعدد كبير من الأشياء جاءت ظروفه على نحو تلخصه كلمة يانصيب! فنسخة من كتاب قد تباع بالقروش والملاليم، وهي لا تزال زاهية بحلتها الجديدة، وتباع زميلتها بعد أن يتغضن عليها الجلد ويصفر لون البشرة - أعني إذا ما تقدمت بها السنون - تباع هذه الزميلة العتيقة بمئات الجنيهات وألوفها، وربما كان صاحب الكتاب في حياته أشد ما يكون الإنسان حاجة إلى مال.

بل إن عددا كبيرا من الألفاظ أراد له الله هذه القصة نفسها في تقدير الحظوظ، ومن هذه الألفاظ كلمة منحوسة مسعودة في آن معا، منكودة مجدودة في وقت واحد، هي كلمة «فلسفة»؛ فقد تسحب ورقة نصيبها حينا؛ فإذا هي دليل على اضطراب الفكر والتواء النظر، وقد تسحب ورقة نصيبها حينا آخر، فإذا هي وصف للعبقرية والذهن الجبار، فلماذا؟

لأن الناس مذ جعلوا ينعتون بالفلسفة بعض ضروب التفكير اختلفوا، وهم لا يزالون يختلفون في مدلولها؛ ففيم يبحث هذا الذي اعتزل في برجه العاجي وغلق دونه الأبواب، زاعما لنا أنه فيلسوف! إن الناس ليعرفون على وجه الدقة واليقين متى يكون الرجل رياضيا أو طبيبا أو عالما من علماء الطبيعة أو الكيمياء، وقل مثل ذلك في شتى ضروب المعرفة ... إلا الفلسفة!

سل أصحابها: فيم تبحثون؟ يتعثروا في الجواب وتحمر وجوههم بالخجل، فإن كانوا ممن لا يخجلون ولا يتعثرون في الكلام، أجابوك بكلام أقل ما يقال فيه إنه كلام غير مفهوم. والحق أني لا أعجب لرجل يصادفني في بعض الطريق، فيعلم عني أني درست الفلسفة وتخصصت فيها حتى ظفرت بدرجاتها العلمية أدناها وأعلاها. لا أعجب له إذا ابتسم مشفقا ساخرا كأنما يريد أن يقول: وفيم هذا العناء كله؟! لست أعرف عن الفلسفة إلا أنها الكلام إذا لم يكن له معنى مفهوم! لست أعجب لمثل هذا الرجل؛ لأني أتهم كثيرين ممن يشتغلون بالفلسفة بأنهم يقولون ما لا يفهمون، إذا كانوا لأنفسهم يخلصون.

هم يقولون ما لا يفهمون؛ لأنهم يحاولون عبثا وباطلا أن يجدوا لدراستهم موضوعا؛ ليكون شأنهم في ذلك شأن سائر عباد الله. وفاتهم أن الحقيقة الحلوة - والحقيقة ليست مرة دائما - هي أن الفلسفة دراسة بغير موضوع، ومن شاء أن يتصيد لها موضوعا تخبط في ديجور بعد ديجور.

الفلسفة طريقة في البحث بغير موضوع؛ فليست غايتها أن تبحث «مسائل» لتصل فيها إلى «نتائج»؛ لأنه ليست هناك «مسائل فلسفية» ولا ينبغي أن يطلب من الفلسفة أن تصل إلى «نتائج» عن حقائق الكون. كل مسألة في الدنيا يراد فيها الوصول إلى نتائج يجب أن تترك للعلم والعلماء؛ إذ هي والله أضحوكة الأضاحيك أن يجلس المتفلسف على كرسيه في برجه معزولا عن العالم، حتى إذا ما سئل: ماذا تصنع ها هنا في عزلتك هذه؟ أجاب: أريد الوصول إلى حقيقة العالم! وسأسوق لك مثلا كلام فيلسوف مسلم - هو الكندي - في موضوع الفلسفة؛ لأوضح لك به ما أريد، قال: «علوم الفلسفة ثلاثة: فأولها العلم الرياضي في التعليم وهو أوسطها في الطبع، والثاني علم الطبيعيات وهو أسفلها في الطبع، والثالث علم الربوبية وهو أعلاها في الطبع. وإنما كانت العلوم ثلاثة؛ لأن المعلومات ثلاثة: إما علم ما يقع عليه الحس، وهو ذوات الهيولى، وإما علم ما ليس بذي هيولى إما أن يكون لا يتصل بالهيولى ألبتة، وإما أن يكون قد يتصل بها. وأما ذات الهيولى فهي المحسوسات، وعلمها هو العلم الطبيعي، وإما أن يتصل بالهيولى وإن له انفرادا بذاته، كعلم الرياضيات التي هي العدد والهندسة والتنجيم والتأليف (أي الموسيقى)، وإما لا يتصل بالهيولى البتة، وهو علم الربوبية.»

وقد يكون كلام الكندي مما لا تألفه أذنك من الكلام، فخلاصة رأيه هذا هي أن الفلسفة تبحث إما في شيء لا يمكن أن يتصل بمادة وهو الله، أو في شيء قد يتصل بالمادة وقد ينفصل ويكون وجوده ذهنيا فقط مثل العدد، وعلمه الرياضة، أو في شيء يتصل دائما بالمادة ولا ينفصل عنها كالأشجار والنجوم والهواء، وعلمه الطبيعة، وبعبارة أقصر، يقول لنا الكندي إن موضوع الفلسفة ثلاثة: الإلهيات، والرياضة، والطبيعة.

والذي أريد أن أعترض به على الكندي وأمثاله هو أنك حين تبحث في الإلهيات فأنت من رجال الدين ولست بالفيلسوف، وحين تبحث في الرياضة؛ فأنت رياضي لا فيلسوف، وحين تبحث في الطبيعة فأنت من علماء الطبيعة، لا فيلسوف.

كلا، ليس للفلسفة موضوع، ولا ينبغي أن يطلب إليها أن تصل إلى نتائج هي من شأن رجال الرياضة والعلوم، ولو طلبنا إليها ذلك كنا عابثين. ولو أخذ الفيلسوف على نفسه أن يصنع ذلك؛ كان عابثا واستحق سخرية الساخرين. إنما واجب الفلسفة الصحيح هو نقد وتحليل، نقد وسائل التعبير وتحليل معاني الألفاظ التي يستخدمها الرياضيون والعلماء؛ ليزداد الإنسان فهما لما يقوله الرياضيون والعلماء، بل ليزداد الرياضيون والعلماء أنفسهم فهما لما يقولون.

وسيقول لنا المستنكر: ولماذا توضح للعلماء والرياضيين ألفاظهم؟ أليس العلماء والرياضيون أقدر منك على تحديد معنى اللفظ الذي يستخدمون؟ وأجيبه أن نعم، هم أقدر في بعض الأحوال، بل هم يصنعون ذلك لأنفسهم في معظم الأحيان، لكن العالم أو الرياضي إذا ما تناول اللفظ الذي يستخدمه بالتعريف والتحديد والنقد والتحليل كان بذلك فيلسوفا إلى جانب كونه عالما أو رياضيا، وليس ما يمنع أن يكون الرجل الواحد عالما وفيلسوفا في آن معا. إن «أينشتين» حين حدد معنى كلمة «آنية» - أي وقوع حادثين في لحظة واحدة - كان في ذلك فيلسوفا إلى جانب كونه من أعلام الرياضة البارزين.

وسيقول المستهين بثقال الأحمال: أهذا كل ما تريده من الفيلسوف الذي تقوس ظهره وطالت لحيته؟! وجوابي على مثل هذا المستهين هو أن كلمة واحدة قد تتطلب لتحديد معناها فحول العقول في كل العصور، ثم هي لا تصل إلى معناها! هل تدري فيم كتب أفلاطون جمهوريته؟ كتبها ليحلل لفظة واحدة هي «العدالة»! وإذا لم يعجبك مثل هذا القول فنبئني بربك - ولك عند الله الثواب - ما معنى هذه الألفاظ الآتية: مادة، عقل، إحساس، شعور، زمان، مكان؟ ومن هذه مئات وألوف يستخدمها الرياضي أو العالم، فيأتي الفيلسوف أو الرياضي نفسه، والعالم نفسه إن أراد الواحد منهما أن يكون فيلسوفا كذلك؛ ليحلل ما وراء هذه الألفاظ، كي يسير البحث العلمي على هدى وصراط مستقيم.

ليس للفلسفة موضوع معين، وليس لها أن تنبئنا عن حقائق الكون، إنما هي طريقة بغير موضوع، كقولك عن الرجل إنه وزير بلا وزارة، فيعمل في العدل مرة وفي الدفاع مرة! هي البحث عن معاني الألفاظ، لا كما تشرحها القواميس، بل هو بحث تحليلي له أوضاع وشروط ... ماذا أريد أن أقول للقارئ في مقال؟ إن موعدي معه في ذلك كتاب.

أكاد أوقن أن كثيرين - وكثيرين ممن يشتغلون بالفلسفة دراسة وتدريسا بنوع خاص - سينكرون علي ما ذهبت إليه، وسيقولون: وماذا أنت صانع بهذه «المشكلات» التي أخذ الفلاسفة في حلها منذ نشأت على وجه الأرض فلسفة؟ وأعود فأؤكد لهؤلاء أن الأمر لا يعدو أحد اثنين؛ فإما أن تكون تلك «المشكلات» مسائل حقيقية عما في الكون من أشياء، وعندئذ فهي من شأن العلم وحده يقول فيها قوله ويبحث فيها بطريقته، وإما أن تكون «مشكلات» زائفة بمعنى أنها أسئلة لا تحتمل الجواب ؛ لأنها كلام فارغ من المعني، وإنما خدع به الناس حين رأوه يتخذ هيئة السؤال كما يقررها علم النحو، لا كما يقررها منطق العقل. إذا سألتك مثلا: ما لون الفضيلة أهو أحمر أم أصفر؟ كم تساوى زوايا الإنسان؛ هل تساوى قائمتين أو أكثر؟ فبماذا تجيب؟ إنك لن تجيب، وستعلم أني لست جادا في السؤال؛ لأن سؤالي لا يحمل معنى يتفق مع طبيعة المنطق، على الرغم من أنه يتخذ صيغة يرضاها علم النحو، لكن النكبة الكبرى هي أن بعض الأسئلة يخدع الناس، فيكون فارغا من المعنى كهذه الأسئلة التي سقتها إليك، غير أن فراغها من المعنى لا يكون بهذا الوضوح، فترى الناس ينفقون أعمارا وأعمارا في محاولة الجواب ولا جواب! خذ هذا السؤال مثلا: ماذا وراء الطبيعة؟ ... لن أحدثك عن ضخامة الجهد الذي بذله «الفلاسفة» في سبيل الجواب. والأمر في حقيقته هو ألا سؤال، وإذن فلا ينبغي أن يكون جواب. شرط السؤال أن يكون جوابه مما يمكن عليه التحقيق، وشرط التحقيق أن تكون مادة الجواب مما يمكن أن يقع في حدود التجربة الإنسانية، وما عدا ذلك هراء في هراء.

وسيقول المستنكر مرة أخرى: ليست الميتافيزيقا إلا هذه المسألة وأضرابها، فماذا أنت قائل؟ قولي هو أن الميتافيزيقا أسطورة من أساطير الأولين - وكثير من الآخرين - وها هنا تأتي قصة القطة السوداء؛ فقد قيل عن الفيلسوف الذي يجعل همه مثل هذا البحث العقيم، إنه رجل أعمى يبحث في غرفة مظلمة عن قطة سوداء ليس لها وجود.

التصوف والمعرفة

نشر الأستاذ الفاضل الدكتور أبو العلا عفيفي مقالين في عددين متتاليين من مجلة الثقافة، ذهب فيهما إلى أن الصوفية من بين رواد الحقيقة، بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فزعم «أنهم وفقوا حيث أخفق غيرهم إلى معرفة الحقيقة». ومعنى ذلك أنهم وحدهم دون سائر عباد الله قد عرفوا هذا الذي يتحرق الإنسان شوقا إلى عرفانه، مذ خلقه الله إنسانا، ورزقه فكرا ووجدانا.

قرأت المقالتين قراءة المتمهل المتأني؛ لأنه لو كان الأستاذ الفاضل يبسط فيهما رأيه ، إذن فشقة الخلاف بيني وبينه بعيدة بعد ما بين الأرض والسماء ؛ فبينا هو يرى الصوفي قادرا بصوفيته على إدراك الحقيقة كاملة شاملة، أراه أنا - بما هو صوفي - لا يعرف من تلك الحقيقة كثيرا ولا قليلا، أراه لا يعرف شيئا على الإطلاق. أقول إني قرأت المقالتين قراءة المتمهل المتأني؛ لأنني إن لم أجد فيما يكتبه الدكتور أبو العلا عن التصوف ما يردني عن وجهتي، فما أحسبني واجدا ذلك عند أي كاتب عربي آخر، لكني فرغت من قراءتي دون أن أجد ما يضطرني إلى التحول من رأي إلى رأي، والانتقال من مذهب إلى مذهب.

ترى أيكون هذا الاختلاف البعيد بيننا أساسه خلاف في المعاني التي ننسبها إلى ما نستخدمه من الألفاظ؟ فإني ألاحظ في حديثنا ثلاث كلمات ضخمة شغلت جبابرة العقول في تحديد معانيها، وهي «تصوف» «معرفة» «حقيقة»؟ لا بد إذن من تحديد المراد بهذه الكلمات على وجه الدقة، قبل القول إن كان المتصوف يعرف أو لا يعرف الحقيقة. والمثل الأعلى أن يتفق المتناقشان على تحديد دقيق لمعاني الألفاظ قبل المضي في البحث. فإن تعذر ذلك؛ بين كل منهما ما يقصد إليه حين يستخدم هذه اللفظة أو تلك، وفي كلتا الحالتين لن يطول بينهما خلاف فيما أعتقد؛ لأنهما إن كانا يدوران في دائرة واحدة من المعاني، فاتفاقهما هين ميسور. وأما إن وجد أنهما يتكلمان بلسانين مختلفين؛ فلا سبيل بينهما إلى نقاش. •••

وقبل أن أوضح وجهة نظري، أحب أن أعترف لأستاذنا الفاضل بأنني أعاني ما أعانيه من شقاء العيش ومرارته، مذ أخذت نفسي أخذا صارما جازما بأن أفهم عن المتكلمين أو الكاتبين بمدلولات ألفاظهم. فقل ما شئت يا سيدي في مقدار ما أفسد ذلك علي من متعة القراءة أو الحوار؛ لأني أحاول عند كل عبارة أن أفهم - ذلك بالطبع إن كنت أعلم عن المتكلم أو الكاتب نية الجد فيما يقول - والفهم عندي معناه أن أتخذ من هذه الألفاظ التي أمامي أصابع تشير إلى أشياء، فما أكثر يا سيدي ما ألوي العنق؛ لأرى هذا الذي يشير إليه المتكلم أو الكاتب بألفاظه، فلا أرى شيئا، وأبوء من قراءتي بما هو شر من الفشل الذريع؛ إذ إني كثيرا ما أنحو باللائمة إلى نفسي، وأنزل عليها سخطا وغضبا أن ركبت على هذا النحو الذي يحول بينها وبين رؤية ما يراه كثيرون من أفضل المفكرين.

لكن الحب الفطري الذي يكنه الإنسان لنفسه، سرعان ما يثور في نفسي ليدفع عنها هذا الاتهام؛ فلست أطلب بدعا حين أبحث عن مدلولات الألفاظ؛ ليتسنى لي فهم ما يقال، فها أنت ذا ترى الناس في حياتهم اليومية العملية لا يفهم بعضهم عن بعض إلا على هذا الأساس. وكيف كان صاحبي ليفهمني حين قلت له منذ حين إن «المعطف ثمنه عشرون جنيها» إلا إذا استطاع أن يجد لكل لفظة من هذه الألفاظ مدلولها بين ما يرى من الأشياء وما بينها من علاقات؟ ولو قلت له إن «المرطف ثمنه عشرون جنيها» كان من حقه أن يسألني: «ما هذا المرطف الذي تتحدث عنه؟» ثم كان من واجبه نحو نفسه ألا يطمئن إلى ما أقوله له إلا إذا أظهرته خبرته على شيء يسميه الناس مرطفا مما يمكن أن تدفع في شرائه الجنيهات.

بل ها أنت ذا ترى العلماء في شتى ضروب العلم لا يتفاهمون إلا على هذا الأساس بعينه. فلو قال قائل منهم: إن أجرام المجموعة الشمسية بينها علاقة الجاذبية، كان حتما عليه أن يوضح المراد بلفظ الجاذبية، ولمن يستمع له أن ينظر إلى أجرام المجموعة الشمسية؛ ليرى هل يقوم بينها هذا الذي يسميه القائل جاذبية أو لا يقوم. وسواء وجده مخطئا أو مصيبا، فكلامه مفهوم ما دام يحدد له معاني ألفاظه على نحو يتيح له أن يري أأخطأ في قوله أم أصاب. أما إن قال إن أجرام المجموعة الشمسية بينها علاقة «اللاذبية»، وسألته ماذا تكون هذه اللاذبية، فأجاب إنها ليست مما يقع في حدود الخبرة الحسية، كان من حقي، بل كان من واجبي، أن أصم عنه أذني ولا أعبأ بما يقول؛ لأن قوله عندئذ لا يزيد على خليط من موجات صوتية، لا يحمل إلى السامع معنى على الإطلاق. •••

وأستاذنا الدكتور أبو العلا عفيفي يقظ متنبه فيما يجري به قلمه، فتراه يحدد لك ألفاظه ما وسعه التحديد؛ فهو في مقالتيه هاتين عن الصوفية ومعرفتهم للحقيقة، يبين في مواضع شتى ما يريده بالصوفية، وما يريده بالمعرفة، وما يريده بالحقيقة.

وللقارئ ها هنا أن يسألني: وماذا تريد منه بعد هذا التحديد لما يريد؟ وجوابي هو: أني لم أفهم اللغة التي استخدمها في تحديداته تلك، وكانت عندي بمنزلة «المرطف» و«اللاذبية»، ومن حقي إذن أن أستفسر ماذا يراد على وجه الدقة بهذه الألفاظ؛ ليتسنى لي الحكم على ما يقال بالخطأ أو بالصواب.

فالصوفية عند أستاذنا الدكتور صنف من الناس «ملهم متصل بالعالم الروحي». هذا زعم يزعمه لك زاعم. أليس من حقك، بل من واجبك أن تعلم إن كان في زعمه هذا مصيبا أو مخطئا؟ لكنك لكي تعلم ذلك؛ فلا سبيل إلا أن تكون هذه الألفاظ دالة على أشياء مما عسى أن يقع في خبرتك، وإذن فمن حقك - بل من واجبك - أن تسأل: أين أرى هذا العالم الروحي لأستيقن من صدق القول بأن الصوفي قد اتصل به، كما تسأل الذي يزعم لك أن «إفرست» وصل إلى قمة الهملايا، أو أن «أمندسن» كشف عن القطب الجنوبي. أين هذه الهملايا؟ وأين ذلك القطب الجنوبي؟ لكنك إذا سألت: أين هذا العالم الروحي؟ وما صفاته؟ ليتاح لي أن أفهم معنى قولك إن الصوفي «متصل بالعالم الروحي» أجابك الدكتور أبو العلا في أولى مقالتيه بأن «الحقيقة» ليست هي هذا الواقع المحسوس، أو العالم الخارجي الظاهر، وأنك إذا تشبثت بهذا الواقع المحسوس كنت «أقل نضجا في العقل والروح» (وهي دعوى لا أعرف كيف يستطيع الدكتور أبو العلا إثباتها؟)

الفرض في الكلام أن ينقل المتكلم خبرا إلى سامعه، ولو لم يكن في الكلام خبر ينبأ به؛ لوجب على المتكلم - منطقيا - أن يزم شفتيه صامتا. والشرط الأساسي في الخبر أن يكون مما يمكن وصفه بصدق أو كذب. فإن نطقت لي بكلمات زعمت أنها خبر، ثم استحال علي أن أصف كلامك هذا بصدق أو كذب، لا عجزا مني، بل نتيجة لازمة عن طبيعة كلامك نفسه، فليس كلامك - إذن - مما يصح أن يقال عنه إنه خبر، وليس لك الحق من الوجهة المنطقية أن تحرك لسانك قط بهذا الكلام.

والصوفي يزعم لنا هذه الدعوى: «أنا على اتصال بالعالم الروحي» وسأسأله: أين هذا العالم وما أوصافه؟ فيجيب: يستحيل عليك أن تعرف؛ لأنك لست مركبا على نحو ما ركبت أنا ... إذن فكلامه هذا ليس بالخبر، بل ليس بالكلام إطلاقا؛ لأنه شبيه بقول القائل إن بين أجرام المجموعة الشمسية «لاذبية»، فإن سألته: وما «اللاذبية»؟ أجابك بأنها يستحيل أن تقع في خبرتك.

بل كلامه هذا شبيه بالمحموم أو المخمور الذي يزعم لك أنه يرى أرانب خضراء تجري أمامه، فان أنكرتها عليه كان جوابه - بحق - إنه يستحيل عليك إدراكها إلا إذا كنت في مثل ما هو فيه من حمى أو من سكر بالخمر. ولست أنكر أبدا على المحموم أو المخمور رؤيته للأرانب الخضر، لكني أخضع زعمه هذا للتحقيق، فإن كان ما يستحيل تحقيقه، كان «حالة خاصة» لا يجوز أن تأخذ بيننا موضع الأقوال العلمية، بل لا يجوز فيها الكلام إطلاقا إلا على سبيل الترنم بأنغام الكلام، وهكذا قل في «الحالة الخاصة» التي يحسها الصوفي.

ولم يسع الدكتور أبو العلا - بالطبع - إلا أن يعترف في صراحة بأن حالة الصوفي عند «اتصاله بالعالم الروحي» حالة خاصة به؛ إذ يقول: «إن الغاية التي يتجهون إليها ويكرسون حياتهم لها هي البحث عن حالة روحية خاصة ...»

وهنا ينشأ السؤال الآتي، وهو المراد بهذا المقال: هل تصلح الحالات الخاصة أن تكون معرفة؟ •••

أعود فأسأل: «هل تصلح الحالة الخاصة أن تكون معرفة؟» إنني إذا ألقيت بنفسي من نافذة غرفتي، فسأحس عند الهبوط بحالة معينة نشأت عن سقوط الجسم إلى الأرض بفعل الجاذبية، فهل يجوز لي عند أن أقول إني عرفت الجاذبية؟ وإذا لمست سلكا مكهربا أحسست بهزة خاصة، فهل يجوز لي أن أقول إني بهذه الهزة بجسمي قد عرفت الكهرباء؟ وهكذا تستطيع أن تمضي في ضرب الأمثلة لحالات خاصة يحسها فرد معين في ظروف معينة. وتستطيع أن تسأل هل هذه الحالات الخاصة معرفة؟ إنه في الجواب عن هذا السؤال القول الفصل في: هل يعرف الصوفي شيئا أو لا يعرف؛ لأن الصوفي - بحكم تعريفه - يحس حالة خاصة هي التي تجعل منه صوفيا، وبغيرها لا يكون.

ونحب في محاولة الجواب عن هذا السؤال أن نفرق في إدراكاتنا بين جانبين، هما «مضمون» الإدراك من جهة «وهيكله» من جهة أخرى. ولو استمسكنا بهذه التفرقة استمساكا جادا صارما لتبين لنا الجواب عن سؤالنا واضحا؛ لأننا سنجد أن المعرفة لا تكون إلا في هيكل الإدراك. وأما مضمونه فليس من المعرفة في شيء ... لكن هذا الكلام بحاجة إلى شرح وتوضيح.

أنا الآن أنظر إلى بقعة خضراء أمامي، فلو أردت أن أنقل إدراكي هذا إلى سواي، الذي لم ير هذه البقعة الخضراء، قلت له: رأيت بقعة خضراء. فماذا تظنني قد نقلته إليه حين قلت: خضراء؟ بديهي أني لم أنقل إليه «مضمون» الاخضرار الذي اهتزت بتأثيره أعصابي؛ لأن هذا «المضمون» خاص ونقله إلى سواي مستحيل، ولكنني أقدم له بكلمة «أخضر» هيكلا فارغا ليكسوه من ماضي خبرته، أو إن شئت فقل إني أقدم له بهذه اللفظة وعاء فارغا ليملأه بالأخضر الذي عرفه من حياته الخاصة. ولم يكن نقل «مضمون الإدراك» مستحيلا علي؛ لأنني حاولت ذلك وفشلت محاولتي، بل لأن مجرد المحاولة في ذلك ضرب من المحال، كما تطلب إلى شخص أن يترجم عبارة إلى لغة لا يعرفها!

ونحن نعلم أن بيننا نفرا كثيرا يمتعه أن نتغنى بعجز الإنسان وضعفه. ولن أعدم من هذا النفر قارئا يسأل: ألا يمكن أن يجيئنا المستقبل بفيلسوف يدلنا على طريقة نعبر بها عن «المضمون» في إدراكاتنا؟ أين برهانك على أن ذلك مستحيل على كل إنسان وفي كل زمان؟ وجوابي هو ألا برهان؛ لأن البرهان إنما يكون على قضية تحتمل الصواب والخطأ.

وقولي «مضمون الإدراك يستحيل على التعبير» ليس مما يحتمل خطأ أو صوابا؛ لأنه قضية نحصل فيها حاصلا ولا نزعم جديدا. فمضمون الإدراك من معانيه أنه يستحيل على التعبير، فكأننا في قولنا هذا نعرف لفظا بلفظ، كما نقول: إن المثلث سطح مستو محوط بثلاثة خطوط مستقيمة.

فإن كان مضمون إدراكي مستحيلا على التعبير؛ فهو إذن ليس معرفة، لأن شرط المعرفة أن تكون عامة يمكن نقلها من شخص إلى شخص، إني حين أنطبع في أعصابي باللون الأخضر، فهذا الانطباع جزء لا يتجزأ من كياني العضوي، أو قل هذا الانطباع هو «أنا» في هذه اللحظة التي أدرك فيها اللون الأخضر. وليست المعرفة بالجزء الذي لا يتجزأ من كياني، إنما هي على خلاف ذلك يمكن نقلها. وأصدق ما تظهر فيه المعرفة الموضوعية التي يجوز نقلها من شخص إلى آخر، هو العلاقات المكانية والزمانية بين الأشياء، فلو قلت مثلا: إني رأيت طائرا على الشجرة؛ فقد يترجم السامع لنفسه معنى الطائر ومعنى الشجرة بما مر عليه في خبرته من طيور وأشجار، بحيث يختلف تصوره لها عن تصوري. أما العلاقة المكانية «على» فنشترك فيها، وكذلك لو قلت له إن الموسيقى عزفت بعد رفع الستار، فقد يختلف تصوره عن تصوري لصوت الموسيقى ولصورة الستار، أما العلاقة الزمنية «بعد» فنشترك فيها، وهكذا.

المعرفة - إذن - شرطها أن تكون مشتركة بيني وبين سائر الناس، فمعرفة الجاذبية - مثلا - هي علمنا بالمعادلات الرياضية التي تصف ظاهرتها، وليست هي إحساسي الخاص الذي أحسه عند سقوطي. ومعرفة الكهرباء هي كذلك العلم بمعادلاتها الرياضية (والمعادلات تحديد للعلاقات) وليست هي الهزة التي أحسها حين ألمس سلكا فيه كهرباء.

والصوفي ينظر إلى الوجود، أو على الأصح إلى جزء منه، فيبهره على نحو ما يبهرنا - مثلا - النظر إلى جبل شامخ أو شلال دافق، لكن هذا الانبهار وجدان خاص لا يمكن نقله، وبالتالي لا يجوز اعتباره ضربا من المعرفة. فإن تكلم الصوفي عما يحس؛ فهو فنان لا يقصد بقوله شيئا مما يصح أن يقال له فيه صدقت أو كذبت. وهذا هو ما يؤكده أيضا الدكتور أبو العلا في مقالتيه، ولكنه رغم تأكيده لنا بأن التصوف «تجربة شخصية أو حال معينة يعانيها فرد بعينه ... ومثل هذه الحال لا يقال فيها إنها صادقة أو كاذبة، ولا يطالب صاحبها بإقامة الدليل على صحتها.» أقول إنه رغم تأكيده هذا، يعود فيقول إن الصوفي بتجربته الشخصية هذه يعرف الحقيقة! إن الصوفية كما يقول الغزالي «أرباب أحوال لا أصحاب أقوال» أي إنهم يحسون وجدانات خاصة، لكن ليس في وسعهم أن يقولوا شيئا. وما دام الأمر كذلك وجب عليهم الصمت، وإذا كان صمت فلا معرفة، أو كما يقول وتجنشتين «ما لا نستطيع الكلام فيه يجب الصمت عنه.» •••

ومما يزيد في عجبي أن يقال عن المتصوف: إنه يعرف «الحقيقة»، وما عسى هذه الحقيقة، أن تكون؟ هي - بتعريف الدكتور أبو العلا - «ذلك الغيب المجهول أو ذلك الوجود المحجوب»، وإن كان الشيء بحكم تعريفه غيبا ومجهولا ومحجوبا؛ فلست أدري ما حيلة الإنسان فيه صوفيا أو غير صوفي؟!

إن من أكبر أخطاء الفلسفة التأملية أن تأخذ المعاني الكلية على أنها حقائق قائمة بذاتها، فهذا منها بمثابة التجسيد للظل والتشخيص لما ليس مشخصا، فليست هناك حقيقة واحدة حتى يجوز للصوفي أو لغيره أن يبحث عنها، إنما هناك حقائق. فارتفاع فيضان النيل في الصيف حقيقة، وتمدد الحديد بالحرارة حقيقة، ونمو النبات بالغذاء حقيقة. وهكذا قل في ملايين الحقائق التي هي من شأن العلوم المختلفة، وقد تكون بين تلك الحقائق علاقات وقد لا تكون، على ألا ننسى أن العلاقات لا تضيف إلى العناصر الموجودة عنصرا جديدا.

وبالطبع لم تغب هذه النظرة الساذجة عن الدكتور أبو العلا، فهو يعلم وجود هذه الأشياء، لكنه يعلم فوق ذلك أن الحقيقة شيء سواها! يقول: «إن العالم المحسوس عالم حافل بالظواهر المتكثرة المتغيرة، وطالب الحقيقة المطلقة يطلبها واحدة لا كثرة فيها ولا تغير» ... إلخ. ونحن لا نريد أن ننغص على طالب الحقيقة المطلقة عيشه، ولا أن نقض له مضجعه؛ فليس ذلك من حقنا، ولكن الذي هو من حقنا بغير نزاع أن يختار هذا الطالب للحقيقة المجردة أحد أمرين: فإما أن يتمتع بوجدانه ذاك الخاص به، وألا يكون له شأن بنا؛ فلا يتحدث إلينا ولا يكتب لنا الكتب، وإما أن يتحمل تبعة من يريد أن يصف للناس شيئا، وأعني بهذه التبعة إمكان أن يكون صادقا فيما يقول. ولا يمكن وصف الكلام بالصدق إلا إذا كان يصف شيئا عاما مشتركا بيننا جميعا، لكنه لا يريد لنفسه الحالة الثانية، فلا مندوحة له عن الأولى.

ويمكن تلخيص ما قلناه في هذه الخطوات. (1)

الصوفي يعاني تجربة شخصية، أو حالة خاصة. (2)

الحالة الخاصة هي بمثابة «مضمون الإدراك»، وهو ما يستحيل نقله من شخص إلى شخص. (3)

والمعرفة شرطها أن تكون عامة، وأن يكون نقلها ممكنا؛ ولذلك كانت المعرفة بأدق معناها منحصرة في «هيكل الإدراك»؛ أي في العلاقات القائمة بين الأشياء. (4)

وإذن فليس التصوف معرفة.

ولا بد أن نذكر أن الدكتور أبو العلا قد فرق بين «الاتصال» و«المعرفة»، ونحن نوافقه كل الموافقة على أن الحالات الذوقية الخاصة اتصال مباشر بالتجربة المعينة، وهو ما سماه رسل

acquaintance

تمييزا له من المعرفة التي سماها «وصفا»

description ، لكن ما فائدة هذه التفرقة إذا لم نكن ننوي التزامها؟

إن قلنا إن التصوف «اتصال»؛ فيستحيل أن يكون «معرفة»، وإن قلنا إنه «معرفة» فليس هو بالاتصال.

لكن المتصوف يعاني تجربة شخصية؛ فهو إذن - كما قلنا في فاتحة المقال - لا يعرف شيئا على الإطلاق.

التاريخ لا يعيد نفسه

أما أن يعيد التاريخ نفسه بمعنى «أن الحوادث نفسها بأشخاصها وزمانها ومكانها تعود مرة ثانية وثالثة؛ فهذا ظاهر البطلان. فمحال أن يعود الإسكندر أو نابليون أو تيمورلنك فيفتح فتوحه، ومحال أن يعود سقراط في أثينا ويعيد دروسه، ومحال أن يعود المتنبي إلى مصر، فيلقى كافورها، أو إلى حلب فيلقى سيف دولتها، أو نحو ذلك».

هكذا بدأ أستاذنا الجليل الدكتور أحمد أمين بك تحليله للجملة الشهيرة «التاريخ يعيد نفسه» في مقالة نشرت له بهذا العنوان في مجلة الثقافة. وقد انتهى من هذه الفاتحة التحليلية إلى نتيجة، وهي أن «الجملة على هذا المعنى سخافة ظاهرة».

لكن التاريخ - في رأي أستاذنا الجليل - يعيد نفسه بمعنى آخر يقبله ويعده صوابا ، وهو «أن كل حدث من أحداث الزمان نتيجة لمقدمات، فإذا تمت المقدمات ظهرت النتيجة لا محالة، وإذا تشابهت المقدمات تشابهت النتائج. وهذا الأمر يتكرر دائما على نمط مطرد؛ فكلما حدثت مقدمات من نوع خاص حدثت النتيجة بعينها».

ويستطرد الدكتور أحمد أمين بك في شرح هذا المعنى فيقول: «إن أحداث التاريخ - على هذا النظر - مثلها مثل كل القوانين الطبيعية، إذا حصلت أسبابها حصلت مسبباتها، فإذا وجد الحديد ووجدت الحرارة تمدد الحديد لا محالة، وأمكننا أن نقول إن تمدد الحديد يعيد نفسه، كما نقول التاريخ يعيد نفسه».

وخشي أستاذنا الفاضل أن يطوف برأس القارئ في هذا الموضع اعتراض على تشبيهه حوادث التاريخ بحوادث الحديد في تمدده المحتوم إذا سلطت عليه الحرارة، وأن يقيم القارئ اعتراضه على أساس أن حوادث التاريخ متصلة بالنفس التي تختلف عن قطعة الحديد في أنها حرة قد تعمل العمل في ظرف ولا تعمله في الظرف نفسه، وأنه إذا صحت هذه التفرقة بين النفس الإنسانية الحرة وبين قطعة الحديد المجبرة؛ فالتاريخ لا يعيد نفسه كما يفعل تمدد الحديد ... خشي أستاذنا الفاضل أن يطوف برأس القارئ في هذا الموضع اعتراض كهذا على موازنة التاريخ بالحديد المتمدد بالحرارة؛ فأسرع ها هنا إلى إثبات رأيه جليا واضحا، وهو أن النفس الإنسانية مجبرة في شكل مخيرة؛ فهي بحكم قوانين الوراثة والبيئة وما إليهما لا يمكنها أن تفعل غير ما فعلت. ولو جاز لنا أن نضع رأيه في عبارة أخرى؛ قلنا إنه لا يرى فرقا بين النفس الإنسانية وقطعة الحديد.

فإن كان هذا رأى أستاذنا الجليل؛ فلماذا إذن يقطع قطعا لا تردد فيه باستحالة «أن يعود الإسكندر أو نابليون أو تيمورلنك فيفتح فتوحه ...إلخ»؟!

إن استحالة أن تعود هذه الكائنات الحية إلى ما كانت عليه مرة ثانية وثالثة، أساسها أنها كانت حية تختلف من قطع الحديد وسائر أجزاء الجماد. ولو جعلنا الكائن الحي وقطعة الحديد سواء؛ لارتفعت هذه الاستحالة التي نحكم بها على عودة هؤلاء الأحياء سيرتهم من جديد؛ ذلك لأنه إذا كان الكائن الحي - وأنا لا أفرق هنا بين الشجرة والإنسان - حاصل جمع العناصر الموجودة تجتمع اجتماعا لا مهرب منه ولا محيص عنه، إذن فليس هناك ما يمنع - في حكم العقل - أن تجتمع العناصر نفسها في الظروف نفسها مرة ثانية وثالثة، بحيث يكون لنا من اجتماعها «الإسكندر أو نابليون أو تيمورلنك». ولعل هذا الرأي بعينه هو ما حدا بأحد الفلاسفة اليونان الأقدمين أن يزعم بأن العالم بما وقع فيه من أحياء وأشياء وحوادث سيعود إلى الوقوع بكل تفصيلاته مرة بعد مرة إلى ما لا نهاية له من المرات كأنه شريط السينما، تديره آلاف المرات، فتظهر لك على الشاشة نفس القصة التي تظهر في كل مرة، ولم يكن فيلسوفنا هذا قد أخطأ في زعمه، إذا سلمنا له بالمقدمة التي يسلم بصحتها أستاذنا الجليل أحمد أمين بك، وهي أن كل كائن - حيا كان أو جامدا - هو حاصل جمع الظروف والعوامل المحيطة، فإن كان ذلك كذلك؛ فليس بعيدا على العقل أن يتصور «عجيبة» الوجود قد طمست من جديد في شكلها السديمي الأول، وما دامت الظروف بعينها ستتكرر، والعوامل بذاتها ستفعل فعلها، فليس من شك «أن يعود الإسكندر أو نابليون أو تيمور لنك فيفتح فتوحه ...»

إنه من الممكن لأجرام المجموعة الشمسية - مثلا - أن تتخذ وضعا معينا بحيث يصيب الشمس كسوف، أو يصيب القمر خسوف، ولا استحالة قطعا في أن يعود الكسوف أو الخسوف مرة ثانية وثالثة ورابعة، وما لا نهاية له من المرات، حيث يستحيل أن تفرق بين حالتين من هذه الحالات. ولا فرق - حينئذ - بين أن تكون إزاء حالتين متعاقبتين من حالات الكسوف أو الخسوف بينهما فترة انفصال، وبين أن تكون إزاء حالة واحدة مستمرة ذات لحظات متتابعة، فنستطيع بغير خطأ أن تقول عندئذ: إن كسوف الشمس أو خسوف القمر يعيد نفسه ... وهذا بعينه ما كان يحدث لو نظرنا إلى «الإسكندر أو نابليون أو تيمور لنك» نظرنا إلى أحجار الأرض وأجرام السماء، أعني أنه لا استحالة أن تعود الظروف مرة أخرى فيعودوا، لولا شيء واحد فيهم هو الذي جعل هذه العودة مستحيلة، وهو أنهم كانوا أحياء.

الفرق بين الحي والجامد هو هنا كل شيء، لو أغفلته كان التاريخ يعيد نفسه على الحي كما يعيدها على الجامد سواء بسواء. أستغفر الله، بل لو أغفلت هذا الفرق بين الحي والجامد لما كان هناك تاريخ على الإطلاق يعيد نفسه أو لا يعيدها؛ فالمجموعة الشمسية - مثلا - ليس لها تاريخ، وإنما التاريخ يكون للكائن الحي وحده. وأعود فأقول إني لا أفرق هنا بين الشجرة والإنسان ... ليس للجماد تاريخ؛ لأنك تستطيع أن تتصور أحداثه سائرة من هذا الطرف إلى ذلك، أو من ذلك إلى هذا. تستطيع أن تتصور أحداث الكائن الجامد سائرة من «أ» إلى «ب» أو من «ب» إلى «أ» دون أن يتعارض ذلك مع أحكام العقل في شيء. أعني أنه لا فرق - عند العقل - بين أن تسير الشمس من الشرق إلى الغرب أو من الغرب إلى الشرق؛ فقد كان من الممكن لأية ظاهرة طبيعية أن يجيء سير حوادثها على غير ما هو عليه؛ بحيث يكون ذلك السير الجديد هو قانون الطبيعة، فلم يكن مستحيلا - عند العقل - أن تتقلص قطعة الحديد بالحرارة وأن تتمدد بالبرودة، وإنما كان العكس هو الصحيح بحكم التجربة وحدها، لا بحكم المنطق العقلي الذي لا محالة من وقوعه. دلتنا التجربة على أن الحديد يتمدد بالحرارة، فقلنا إنه يتمدد بالحرارة، ولو دلتنا على غير ذلك لقلنا غير ذلك.

لكن هذا السير العكسي الذي يجوز على الجماد لا يجوز على الكائن الحي بحال من الأحوال؛ فها هنا خط السير واحد لا رجعة فيه، إذ يستحيل - في حكم العقل والتجربة معا - أن يكون سير الحياة في الشجرة أوله الإثمار وآخره بذر البذور في الأرض، ويستحيل أن يكون سير الحوادث في تاريخ الفرد من الإنسان بادئا من جثمانه وهو ميت ومنتهيا إليه وهو جنين.

ما شأن هذا كله بما نحن الآن بصدد بحثه، وهو: هل يعيد التاريخ نفسه أو لا يعيدها؟

شأنه هو هذا: الكائن الحي وحده هو الذي يكون له تاريخ، وأما الجامد فلا تاريخ له؛ لأن الزمن لا يدخل عنصرا من عناصر تكوين الشيء الجامد؛ إذ لا فرق بين حاضره وماضيه ومستقبله إلا في طريقة توزيع أجزائه المادية، ولا يتحتم أن يكون توزيع معين في زمن معين. أما الكائن الحي فالزمن جزء أساسي من طريقة تكوينه؛ لأنه يكبر وينمو مع مر الزمن؛ فليس الفرق بين الإنسان وهو طفل وبينه وهو رجل هو مجرد إعادة توزيع مادة جسمه، بل هناك فرق في النمو يستحيل أن يفهم بغير فعل الزمن ... وإذا كان هذا هكذا، إذا كان التاريخ بمعناه الدقيق لا يتناول إلا الأحياء، ثم إذا كان سير مراحل التغير في الكائن الحي يستحيل أن يكون في اتجاه عكسي، بمعنى أن الرجل يستحيل أن يكون راجعا ليعود طفلا من جديد، كانت عودة التاريخ مستحيلة بالنسبة لأي كائن حي نباتا كان أو حيوانا أو إنسانا.

وما أفعال الجماعات التي يسجلها التاريخ كالثورات مثلا، إلا مجموعة أفعال أفراد، فالثورة الفرنسية هي مجموعة ما فعله هذا وهذا وذاك من أفراد الأمة الفرنسية إبان حدوثها. فتاريخ الجماعة - إذن - هو حصيلة تواريخ أفرادها، والجماعة بهذا المعنى وحده كائن حي؛ لأنها حزمة من أحياء. فإذا كان لا رجعة للفرد الواحد فلا رجعة لمجموعة الأفراد التي تتألف منها الجماعة، ثم لا رجعة لأفعالهم. وبعبارة أخرى: لا رجعة لحوادث التاريخ، على النحو الذي يرجع إليه تمدد الحديد.

ومن هنا كان يقين التنبؤ بحوادث المستقبل؛ اهتداء بحوادث التاريخ الذي مضى ضربا من المحال ... محال لأنه كلام يناقض بعضه بعضا؛ فالمستقبل إذا لم يكن فيه جديد يختلف به عن الحاضر والماضي لم يكن مستقبلا بالمعنى الصحيح. إذا أنت نظرت إلى أجرام السماء، وتنبأت بكسوف للشمس بعد مائة عام، فأنت في هذه الحالة لا تتنبأ بمستقبل بمعنى الكلمة الحي الصحيح، إنما تقرأ الحاضر، ولا فرق في هذه الحالة بين أن يكون الكسوف أمامك تراه الآن بعينيك، أو أن يكون آتيا بعد مائة عام، لكنك ترى علاماته قائمة في السماء الآن ... وهذا بعينه هو ما حدا بنا إلى القول بأن الكون الجامد لا تاريخ له؛ لأن ماضيه وحاضره ومستقبله كلها موجودة في لحظته الحاضرة، ويمكنك أن تجرى عملية حسابية راجعا بها إلى الوراء؛ فتعلم كيف كان الكون في الماضي، أو متقدما بها إلى الأمام؛ فتعلم كيف يكون الكون في لحظة آتية. أما مستقبل الكائن الحي فغير ذلك، مستقبله فيه جديد دائما، فيستحيل استحالة قاطعة أن تحلل بذرة القمح - مثلا - ثم تهتدي بهذا التحليل إلى مستقبل شجرة القمح التي ستتولد منها تحليلا دقيقا يدلك على عدد أوراقها بالضبط وحجمها بالضبط، وعدد زهراتها بالضبط. وهكذا كما يستحيل أن تحلل جرثومة منوية، فتهتدي بالتحليل إلى شيء دقيق عن مستقبل الإنسان الذي سيتولد عنها ...

محال أن تتنبأ بحوادث المستقبل مهتديا بحوادث الماضي، وإلا فها هو ذا العالم أمامنا، ولك أن تختار أي أمر من أموره القائمة. ولتكن العلاقة بين إنجلترا وأمريكا مثلا، فهل تستطيع أو يستطيع إنسان كائنا من كان أن يتنبأ بما ستكون عليه تلك العلاقة بعد عشر سنين على وجه الدقة واليقين؟! دع عنك ما هو أدق من ذلك من المسائل التي تتصل بإرادة الإنسان.

يقول أستاذنا الجليل أحمد أمين بك توضيحا لرأيه: «فالثورة إنما هي نتيجة لمقدمات كثيرة، مثل حالة سيئة اجتماعية تسود الشعب ودرجة عالية من غليان الشعب، وزعماء يوقدون النار تحتها، ونحو ذلك من مئات العوامل. وهذه هي المقدمات، فإن حدثت كلها ولم يتخلف شيء منها؛ حدثت الثورة لا محالة، وقلنا حينئذ إن التاريخ يعيد نفسه.»

لكننا نطلب من أستاذنا أن يذكر لنا مثلا واحدا من تاريخ الإنسانية كلها تشابهت فيه ثورتان تشابها تاما لتشابه مقدماتهما كما تتشابه قطعتا الحديد إذا تمددتا بفعل الحرارة. الثورة الفرنسية، والثورة المصرية، وثورة الإسلام على الجاهلية، وثورة الاشتراكية على الرأسمالية في إنجلترا اليوم ... إلخ، إلخ، كل هذه «ثورات» حدثت، فأين منها ما تشابه لتشابه مقدماته؟ كلا، بل إني أرى في كل هذه الأمور التي تتصل بالأحياء عامة وبالإنسان خاصة تفردا يستحيل عليه التكرار. وهذا التفرد الذي لا يقبل التكرار هو صميم الحياة والأحياء، وإن كان كل فعل إنساني فريدا بذاته، فمحال أن يتكرر.

ولعل معترضا يقول: ماذا يصنع علم النفس إذن، إذا لم يكن يستخرج لنا من أفعال الناس قوانين عامة تنطبق على جميع الحالات، كما يستخرج العالم الطبيعي قوانين عامة تنطبق على قطع الحديد كلها؟

والجواب هو أنه يستحيل أن تستغرق القوانين العامة كل أفعال الإنسان، بل لا بد أن يتبقى لكل فرد حي بقية تميزه من سائر الأفراد، وهذه البقية الفردية هي وحدها التي تجعله إنسانا بالمعنى الصحيح، وهي التي تجعل من الممكن أن يتصرف الإنسان تصرفا معينا ألف مرة، ثم يغير هذا التصرف في المرة الحادية بعد الألف.

فقد تتكرر الظروف بعينها ولا تتكرر الأفعال الإنسانية، ومعنى ذلك أن التاريخ لا يتحتم أن يعيد نفسه.

بداية قصة

عبء ثقيل

هو عبء الحياة ...

هكذا قال لي ذلك الرجل العجيب، الذي رأيته في زحمة الطريق عابسا، يلتمس لنفسه مسلكا بين مئات الناس الذين خرجوا من توهم أفواجا من دار السينما، دون أن يمس أحدا منهم بمنكب أو قدم، يتأرجح في مشيته بعض الشيء ولا يدق الأرض بعقبيه. نظراته تنحدر نحو الأرض أكثر مما تلتفت إلى أعلى أو أمام، كأنما أراد أن يتثبت قبل الخطو من موضع القدم، تبدو على خطواته السرعة وما هي بسريعة، وتشع من جبهته وفمه جهامة تصرف الناظر إلى وجهه عن رؤية ملامحه عند النظرة الأولى، حتى إذا ما ثبت الناظر فيه عينيه، وأزال غلالة الجهامة عن صورته؛ رأى ملامح ثابتة غليظة: حاجبان قويان عريضان أسودان، وأنف طويل مليء، وشفتان قويتان ظاهرتان، ولحية وشارب كثيفتان، شعرهما سميك غليظ اختلط أسوده بأبيضه، كلها ملامح تدل على المضاء والحدة والبأس الشديد، لولا أن عينيه تفضحانه فضيحة كبرى؛ إذ تنطقان بأجلى بيان، أن الرجل هادئ وادع مستسلم مستكين.

رأيته يمضي في مزدحم الطريق، وقد حمل على ظهره ربطة كبيرة بيضاء، شبكها برباط تحت إبطيه؛ لتظل حركة الذراعين حرة، فيطوحهما حينا، ويضع إحداهما في جيب سرواله حينا ، إنه رجل عجيب يستوقف النظر بين جمع الناس الذي ملأ الطريق، يبدو من دونهم جادا مهموما صامتا، كأنه ينطوي على شيء ... ثم ما هذا الحمل الذي حمله فوق كتفيه؟

وتعقبته مستطلعا، فرأيته يخلص من قلب المدينة إلى طرف من أطرافها بعيد، وهنالك في مكان تغلب عليه الظلمة إلا من شعاع خافت جاءه من مصباح الطريق في خلال أوراق الشجر، جلس على جدار لم يتم بناؤه، جلس والحمل على كتفيه، يتململ ويتأرق، ويرتكز على ذراعه اليمنى مرة وعلى ذراعه اليسرى مرة، والحمل ما زال قائما على كتفيه، فسعلت سعلة خفيفة؛ لأشعره بوجودي على مقربة منه حتى لا يفزع إذا ما دنوت منه. ذلك أني خطوت إليه وحييته.

قلت: هذا مكان هادئ يوحي بالتأمل.

قال: نعم، تشعر بهدوئه إذا أويت إليه من قلب المدينة الصاخب.

قلت: إني لأدهش أن أراك ها هنا؛ فما كنت أحسب أحدا سواي يفكر في هذا الركن الهادئ البعيد!

قال: بل العجب عجبي أن أراك! فأنا أقضي في هذا الركن المعزول أكثر ساعات المساء، فما رأيتك قبل، وما رأيت أحدا سواي، آوى إلى هذا المكان لأستريح.

قلت: لكنك فيما أرى لا تريد لنفسك الراحة؛ فحملك ما يزال فوق كتفيك!

قال: ما يزال؟! وهل عرفت أنه من الأحمال التي لا تلقى عن الكتفين إلا إذا فاضت الروح؟ أنا قائم به وقاعد به ونائم به ومستيقظ به.

قلت: وماذا عسى هذا العبء الثقيل أن يكون؟

قال: إنه عبء الحياة، أما ترى؟ هو عبء الحياة وقد أنقض والله كتفي.

قلت: آه، إذن فهو حمل نفيس.

قال: ليست نفاسة الحمل مانعة من أن يكون ثقيلا؛ فالحمار الذي ينوء تحت أثقاله لا يعبأ أن تكون أثقاله من ذهب أو من حطب.

قلت: ولكنك تستطيع أن تلقيه عن كاهلك إذا أردت.

قال: كيف أستطيع؟ إن رئتي لتعلوان وتهبطان في صدري كأنهما منفاخ الحداد لا يفتر عن النفخ؛ ليظل للنار وهجها واشتعالها، فلا مناص من أن تظل جذوة الحياة مشتعلة بين جنبي - رضيت أو كرهت - وقد أتمنى لهذه الجذوة المتأججة اللاذعة المحرقة أن تنطفئ، فتصبح رمادا تذروه الأعاصير كيف شاءت على يابس أو ماء.

قلت: وما لرئتيك وهذا الحمل الذي على كتفيك؟!

قال: العلاقة بينهما وطيدة وثيقة؛ فهذا الحمل أطرافه في جوفي، وهو مشدود هناك إلى أوتاده بما هو أوهى من نسيج العنكبوت. مشدود إليها بأنفاسي التي أرددها شهيقا وزفيرا، مشدود إليها بموجات خفية من هواء؛ فالويل لي من هذه الأنفاس الواهية التي تنسجها رئتاي خيوطا، فتشد بها هذا الحمل على كتفي لأنوء به، فأين أطراف هذا المنفاخ الذي ما ينفك يعلو في صدري، ويهبط كي أمسكه عن النفخ لحظة لتخمد الأنفاس، وتنحل الروابط وينفك الوثاق؟! فينزاح عن كاهلي هذا العبء الثقيل. إن أطرافه خفية، أمد البصر في جميع أقطاري فلا أراها، وأرهف السمع فلا أقع لها على حفيف أو رفيف. وكل ما أسمعه هو هذه النفخات تتوالى شهيقا وزفيرا ما ابيض لي نهار أو احلولك ليل ... إني لا أذكر الآن من ذلك الفيلسوف اليوناني الذي قيل عنه إنه ضاق صدرا بأنفاسه التي تتردد رغم أنفه، وكره أن تشعل له جذوة الحياة بهذا المنفاخ اللعين وهو راغم؛ فكتم أنفاسه حتى مات، لا أذكر اسمه الآن، لكني أكبره وأمجده، وأشعر إزاءه بالضآلة والصغار؛ لأنه رأى ففعل، وأنا أرى ثم لا أفعل شيئا.

قلت: ما هذا الذي تراه ولا تفعله؟

قال: أرى الحكمة في التخفف من هذا العبء الثقيل، ثم لا أفعل شيئا في سبيل هذا الخلاص. الحق أني لست أدري كيف يظل الإنسان مشدودا إلى ما ليس يرضى، ثم يظل مشدودا إليه رغم أنفه، وهو عالم كل العلم أن الروابط نفخات من هواء، يسد عليها الطريق فينتهي كل شيء؟!

قلت: كلا يا صاحبي، الروابط التي تشدك إلى حملك هذا أقوى جدا من هذه الأنفاس؛ فليست هي بنفخات من هواء كما ظننت، إنما هو الشعور بالواجب. نعم إنك تستطيع في أي لحظة شئت أن تتنكر لواجب الحياة؛ لتظفر براحة الجسد راحة أبدية، لكنه الجحيم بعينه أن تبث في نفسك القلق إذا ما تخليت عن واجب وجب عليك أداؤه بحكم وجودك.

قال: لقد حكمت الآلهة على «أطلس» - في الأسطورة اليونانية - أن يحمل السماء على كتفيه؛ حتى لا ينقض بناؤها، والسماء هي السماء بأنجمها الزواهر اللوامع. فهل رأيت واجبا أسمى وأمجد من أن تكلف حمل السماء على كتفيك؟ وحملها «أطلس» ثم ناء بحملها، حتى إذا ما جاءه «هرقل» يسأله عن مخبأ التفاحات الذهبية التي كلف بالبحث عنها في أركان الكون وبين جنباته، والتي قيل له عنها إن مخبأها ذاك لا يعرفه إلا «أطلس» حامل السماء، ما جاء «هرقل» إلى «أطلس» يسأله أين عساه أن يجد بغيته؟ حتى وثب «أطلس» إلى هذه الفرصة النادرة؛ للتخلص من عبئه الذي أنقض ظهره، وقال لهرقل: لست بمستطيع أن تجدها؛ لأن منالها عسير، فاحمل عني هذه السماء لحظة حتى أعود إليك بها. ورضي «هرقل» مسرورا بحمل السماء حتى يحقق له «أطلس» ضالته التي لقي العناء في سبيلها. وانطلق «أطلس» إلى حيث التفاحات الذهبية، ورآها هناك تلمع في بريق الشمس يحرسها أفعوان جبار عظيم، فتسلل وغافل الأفعوان وهو في غفوة، وخطف التفاحات وعاد مسرعا إلى حيث ترك «هرقل» في انتظاره يحمل السماء بدلا منه.

لكن «أطلس» حين اقترب من موضع هرقل، تذكر بشاعة الحمل الذي حمله على كتفيه هذه القرون الطوال، ترى هل يفي بوعده ويعطي هرقل تفاحاته الذهبية، ويسترد عبأه الباهظ؟ أم هل ينعم بهذه الحرية التي أتاحتها له الظروف فيخلص من عبئه ذاك إلى الأبد؟

لا، إنه لن يعود إلى حمله ذاك، وسيحتفظ بحريته التي ظفر بها بمصادفة قد لا تعود، هكذا اعتزم أطلس، ودنا من «هرقل»، وقال له: ابق حيث أنت حاملا السماء على كتفيك، وسآخذ أنا هذه التفاحات الذهبية إلى حيث أردت أنت أخذها. فتظاهر «هرقل» بالرضى والقبول! أليست هي السماء بأنجمها اللوامع الزواهر فليحملها راضيا على كتفيه، لكنه طلب من «أطلس» أن يتفضل عليه بصنيع واحد صغير، وهو أن يحمل الحمل لحظة واحدة حتى يضع الوسائد على كتفيه؛ لأن ضغط الحمل شديد على كاهله، فأخذت الشهامة من «أطلس» مأخذها، وفعل ما طلب إليه هرقل أن يفعل وكيف يتردد في قبول العناء لحظة أخرى قصيرة، لقاء حرية يظفر بها من هذا العبء الثقيل إلى الأبد؟!

ألقى «أطلس» التفاحات على الأرض، وحمل السماء عن هرقل حتى يضع هرقل على كتفيه الوسائد والحشايا التي تهون عليه أداء هذا الواجب الجديد الذي ألقي عليه، لكن «هرقل» لم يكد يزيح عن كاهله حمل السماء، حتى أخذ التفاحات ومضى ... تاركا أطلس في مكانه القديم، ينعم بأداء واجبه، واجب الوجود.

قلت: ماذا تعني؟

قال: أعني ما قلته، أعني أن عبء الحياة ثقيل، حتى إن بلغت من المجد عنان السماء، وأن الروابط التي تشدنا إلى عبئها إن هي إلا أنفاس من هواء، لكن كتم الأنفاس يتطلب الفيلسوف.

قلت: يا صاحبي إن الحياة التي تؤرق صاحبها هي الحياة المريضة، فأنت لا تشعر بوجود أي جزء من أجزائك إلا إذا اعتل، إنك لا تشعر بوجود عينك أو أذنك أو معدتك أو قلبك؛ إلا إذا أصابتها العلة. أما إذا كانت هذه الأجزاء سليمة فيستحيل أن تشعر بوجودها فضلا عن أن تحس الألم من حملها ... إن حياتك - فيما أرى - قد أصابتها العلة، فأحسست بوجودها وحملها ... ولا عجب أن تبرز حياتك في صورة قتب كبير فوق ظهرك؛ لأنها حياة عليلة.

قال: قل ما شئت فيها؛ فهي حياتي التي لا أملك سواها، وقد ضقت ذرعا بثقلها.

صومعة خاوية

شغلني «أحدب الحياة» طوال الليل - ذلك الرجل العجيب المكتئب العابس الذي يحمل عبء حياته قتبا بارزا على ظهره - شغلني طوال الليل، يملأ أحلامي إذا ما غفوت، وتمثل صورته أمام عيني إذا ما صحوت، وما زلت طوال ليلي بين غفوة وصحو حتى كان الصباح.

ترى، لماذا يحمل هذا المسكين حياته كالدمل الكبير فوق ظهره؟ أيكون ذلك لأنه ركز انتباهه فيها، فوضحت له علتها وبرز سخفها. ولو قد تغافل عنها كما يفعل سائر الناس لسرت في دمه ، وخفيت عن بصره؟ يجوز، كما تكرر لفظة وتركز سمعك في جرسها ، فسرعان ما تعجب لصوتها السخيف يكون بين الناس ذا دلالة ومعنى، كرر - مثلا - كلمة إمبراطور عدة مرات: إمبراطور، إمبراطور، إمبراطورمبرا، طورمبرا، طورمبرا، طورمبراطور ... صوت عجيب منكر، ظهر نكره وشذوذه بتركيز السمع فيه، وكان يمكن ألا نقف عنده هذه الوقفة الفاحصة، فيظل له في النفس جلال وهيبة.

كذلك صاحبنا «أحدب الحياة» ربما كان الفرق بينه وبين سائر الناس أنه قد أنعم النظر في معنى الحياة، فانتهى به النظر إلى أنها أنفاس فاترة واهية من هواء، تتردد في صدره شهيقا وزفيرا. لا شيء أ كثر من ذلك، وهو لذلك في عجب كيف يمكن أن يشد وثاقه إلى الأرض بخيوط هي أوهى من خيوط العنكبوت؟!

وأحسست برغبة قوية في نفسي أن ألقى هذا الرجل لقاء آخر، فقصدت إلى المكان المهجور الهادئ الذي لقيته فيه أول مرة، ووقفت أرقب من بعيد، حتى رأيته يسري في غير صوت بين الظلال كأنه الشبح. إنك لا تخطئه من بعيد؛ فالحمل الذي على كتفيه يميزه، وله مشية خاصة يتأرجح فيها الجذع وتلتف الساقان.

وقفت في مكاني حتى رأيته يستقر في موضعه من الجدار الذي لم يتم بناؤه، صعد إليه على كومة وطيئة من هشيم الصخر، ومسح جبهته بمنديل، ومال مرتكزا على ذراعه اليسرى فدنوت منه.

قلت: السماء الليلة أكثر غماما، والدنيا أشد ظلاما من ليلة الأمس، برغم القمر.

قال ولم يرتع لرؤيتي: وماذا يصنع القمر في الدنيا إذا اسودت بظلامها وغمامها؟ إن من أراد الضوء فضيا رائقا خالصا من شوائب الظلمة؛ فليرتفع عن الأرض وغلافها حتى يجعل الغمام من دونه، وعندئذ لا يكون ظلام ... لكن الإنسان مشدود إلى الأرض بأحمال وأثقال. أستغفر الحق، بل مشدود إليها بهذه الخيوط الواهية، بنفخات من هواء، وإذن فلا رجاء له في ضوء أكثر مما قد يتسرب له خلال فتحات السحاب ... العجيب في هذه الدنيا أنها بيع وشراء، لا بد أن تدفع لكل شيء ثمنه! أتريد أن تمتد بك الحياة؟ إذن فخذ هبة من الهواء على شرط أن ترد مكانها هبة مثلها. أتريد أن تخلص من ظلام الأرض ليصفو لك الضوء؟ إذن فاصعد إلى قمة هذا الجبل العالي حتى تجاوز السحاب، عندئذ تجد الضوء الساطع، لكنك ستجد كذلك برودة الثلج.

قلت: وماذا يشقيك من غمام السماء وظلمة الليل؟! انظر إلى الدنيا بعين الفنان؛ تر السماء الغائمة في مثل جمال السماء المقمرة. ألا يكون ظلام الليل أحيانا أشد فتنة من ضوء النهار؟ سل العاشقين يجيبوك؛ أيهما أفعل في النفس سحرا: الليل الوسنان في ستره أم النهار اليقظان في نشاطه وصحوه؟ سل العابدين متى تصفو لهم قلوبهم للعبادة؟ سل المفكرين متى تهدأ لهم عقولهم للفكر؟ سل المجان متى طيب المجون؟ سل المتآمرين لماذا يدبرون الأمر بينهم بليل؟ ... لماذا لا تلتمس يا أخي في كل شيء وجهه الجميل؟ إن الذي ينقصك هو الخيال.

قال: الخيال الذي أهرب به من الواقع؟!

قلت: ليكن ذلك، ولماذا تستعبد نفسك للواقع إذا أمكن العيش الهانئ في جو من الخيال؟ أتدري ماذا تكون المرأة الجميلة في «الواقع»؟ إنها كيس من الجلد محشو بالقذر والبلغم ومختلف السوائل والغضاريف! أتدري ماذا تكون الصورة الجميلة في «الواقع»؟ إنها خرقة من قماش، صب عليها خليط من الأحمر والأصفر والأخضر وما شاء الله من ألوان، واهصر الوردة الجميلة؛ لترى ماذا عساها في الواقع أن تكون بين إصبعيك؟ ... إن الذي ينقصك - كما قلت - هو الخيال الذي يجعل لك من المرأة شيئا جميلا، ومن الصورة شيئا جميلا، ومن الوردة شيئا جميلا، ومن غمام السماء شيئا جميلا، ومن ظلمة الليل شيئا جميلا! لماذا تنظر إلى الأرض كما تفعل الديدان، ولا تشخص إلى السماء كما تصنع الآلهة؟!

لست أدري لماذا أخذني الاهتمام بهذا «الأحدب»، فامتلأت حرارة وأنا أبادله الحديث؟ لقد أوحي إلي عندئذ أن هذا «الأحدب» عليل النفس، مريض القلب، كليل الحياة، وأن الواجب الخلقي يقتضي أن أقوم فيه ما اعوج إذا استطعت إلى تقويمه من سبيل. إنه عابس ولا بد أن يبتسم، يائس ولا بد أن ينبسط أمامه الأمل، كافر ولا بد أن يؤمن، أعماه «الواقع» ولا بد له أن يبصر بعين الخيال.

وضاق «الأحدب» صدرا بحديثي فيما يظهر، وأخذ يعتدل في جلسته مرة ويميل على هذه الذراع أو تلك مرة، ويشيح بوجهه عني، كأنه يريد أن يصم الأذن عما أقول، لكني لم أعد أنظر إلى موقفي منه نظرة التسلية والعبث، فلا أقل من أن أستطلع بعض سره وأستخرج شيئا من مكنون نفسه. وسادت فترة قصيرة من سكون، فنزل عن مكانه من الجدار، وقال في صوت فيه افتعال وتصنع: أنا مضطر أن أعود، وسينقطع بعودتي هذا الحديث الجميل.

قلت: الأرجح أن طريقنا واحد، ولو إلى حين.

ولعله لم يطب نفسا لهذه الصحبة الثقيلة في طريق عودته، لكني تجاهلت ما يريده لنفسه من عزلة الطريق، وسرت إلى جانبه. سرنا بخطوات بطيئة خفيفة، لكن وقع أقدامنا على حصباء الرمل ومنثور الحجر، كان له رنين في ذلك الركن الهادئ البعيد.

قلت: نعم إن الذي ينقصك هو الخيال، ينقصك مثل أعلى تعمل من أجله، فينسيك الهدف مشاهد الطريق.

قال وقد ازداد تثاقلا في خطاه: أصابني مرض الخيال، وعلة المثل الأعلى منذ خمسة وعشرين عاما، ولبثت آثار المرض تتراكم حتى كان هذا البروز الذي تراه شائها فوق كاهلي.

قلت لنفسي عندئذ، دع عنك الواقع، والتمس لنفسك سلما في دنيا الخيال تصعد على درجاته إلى أجواز الفضاء؛ فصحبة الأصدقاء واقع فلا تأبه لها، والمرأة واقع فلا تلق بالك إليها. والطعام والشراب واقع فلا تحتفل بطعام أو شراب. هذا الذي حولك كله واقع فاخرج من نطاقه. وهناك في صومعة وقعت عليها في جوف الجبل، آثرت الكفاح في سبيل الخيال.

ولبثت الصومعة يعمرها خيالي عاما في إثر عام، وعقدا من السنين بعد عقد من السنين. لم تكن الصومعة خالية في بصري وسمعي، كنت أرى فيها الخيال مجسما حتى لأنسى أنه من خلق أوهامي، وأحدثه وأسمع لحديثه، وأتملقه ويبتسم في وجهي، وظللت في صومعتي أعبد آلهة خيالي، لا أشهد نور الشمس ولا أريد أن أشهده، ولا أرتد إلى دنيا الناس والعمران، ولا أريد أن أرتد إليها، ولا أستنشق الهواء الطلق النقي ولا أريد أن أستنشقه ... كنت على نقيض فاوست:

فقد اتفق الشيطان مع فاوست أن يمهله ردحا من الزمن، يعمل فيه فاوست ما يشاء، على شرط أن يأتيه الشيطان بعد ذلك فيتقاضى أجر إمهاله، وليس أجره بأقل من روح فاوست. وكان فاوست عند أول اتفاقه مع الشيطان يظن أنه الكاسب في هذه الصفقة، فماذا يهمه من نفسه إذا ما ترك له الحبل على الغارب عشرين سنة أو ثلاثين؟ لكن السنين انقضت، وصبر الشيطان جميل طويل لا ينفد، وجاء الشيطان ليستل من فاوست حياته. وعندئذ فقط أدرك فاوست أنه خسر في اتفاقه مع الشيطان خسرانا مبينا؛ كيف يبيع نفسه وحياته بعشرين عاما أو ثلاثين مهما يكن ما يملأ هذه الأعوام؟

وأما موقفي من شيطاني فعلى نقيض ذلك؛ عقدت معه اتفاقا أن أبيعه حياتي ردحا من الزمن، على أن يردها لي بعد ذلك خصبة مليئة قوية، وذهبت إلى صومعتي تلك لا أعرف فيها الحياة ولا أخالط الأحياء، أعلل النفس طوال السنين بأن حياتي السليبة مردودة إلي بعد حين، بعد أن تكون كل حبة فيها قد أنبتت مائة سنبلة وفي كل سنبلة مائة حبة.

فلما انقضى على غربتي عهد طويل؛ طلبت من الشيطان أن يفي بوعده كما وفيت له بعهدي، وفعل فإذا ما يعطينيه نفخات من هواء، هي هذه الأنفاس أرددها في صدري شهيقا وزفيرا، ثم لا شيء غير ذاك. وضحك مني الشيطان ضحكة قوية حسبت الأرض ترتج لها تحت قدمي، فابتسمت ابتسامة من زالت عنه غشاوة الخيال لأول مرة، وأبصر بحقيقة الواقع لأول مرة، وقلت: أستريح إذن بعد هذا العناء الطويل. إن الصومعة التي عمرها لي الخيال قد باتت خالية خاوية إلا من أصداء أنفاسي.

لكن مضجعي لم يستقم تحت ظهري حين أردت الراحة؛ لأن عهد الصومعة قد خلف لي هذا الورم الأليم، الذي تراه بارزا عند كتفي، نسجته لي الأعوام طبقة فوق طبقة، كما يفعل مر الأعوام في جذوع الشجر.

وكنا قد بلغنا العمران، وأراد الأحدب، أن ينصرف إلى سبيله، فقلت له: إن لي معك حديثا آخر.

لعبة الحصان

حسب صاحي «الأحدب» حين افترقنا أني أدبرت عنه كما أدبر عني، لكني تعقبته لأرقبه وهو يلتمس لنفسه الطريق في زحمة الناس التماس الحيي الذي يخشى أن تلتقي بعينيه عينان، إنه على وعي شديد من نفسه، إن ذراعيه تحيرانه وتربكانه، أين يضعهما؟ وذلك دليل على حيرة نفسه وارتباكها، ألا إن الذراعين لتخبرانك بمكنون النفس كما تحدثك العيون والشفاه ... إنه لا يمشي في ضوء المصباح إذا وجد الظلام، ولا يقصد إلى مزدحم الطريق إذا رأى الفضاء المهجور. عيناه مصوبتان نحو الأرض دائما، وقدماه تحفان الأرض حفا خفيفا.

عبر الطريق في موضع كثر فيه العابرون، إنه في العابرين بارز واضح، إنه لا يفنى في الزحام، ولا يذوب في الناس. إنه فيهم كملعقة من الزيت صبت في قدح من الماء، تحركها إلى أعلى وأسفل، وإلى يمين ويسار، فما تزال شيئا متميزا عن الماء الذي حولها، إنه في أمواج الناس على طول الشارع لم يفقد معالمه، أخذ يعلو على تلك الأمواج البشرية حينا ويهبط حينا، أعني أنه كان يظهر لي حينا ويختفي حينا آخر، حتى انتهى إلى شارع هادئ متباعد المصابيح.

كان ظله مروعا مخيفا، يقصر ويطول، ثم يطول ويقصر، هو الآن مطروح أمامه، وهو الآن إلى جانب، وهو الآن ممدد وراءه يتابعه ويلاحقه، وهو في كل أوضاعه أبعد ما يكون الظل عن صورة البشر ... وما هو إلا أن دخل «الأحدب» دارا، خطوات سريعة، كأنه الأرنب الفازع يأوي إلى جحره ليستكن فيه آمنا من طراد الصائدين.

فوقفت بغتة، ثم سرت مسرعا نحو الباب الذي قذف «الأحدب» بنفسه فيه، لم أر شيئا هناك إلا مصباحا كهربائيا خافت الضوء جدا في الركن الأعلى من بهو السلم. إنه بناء عال من ستة طوابق أو سبعة، وحين صعدت بصري في لمحة سريعة إلى أعلاه، لم أر إلا نوافذ وشرفات، أكثرها معتم وأقلها مضيء.

من عسى هذا «الأحدب» أن يكون؟ ترى هل ينطوي جنباه على سر دفين أو أنه لا سر في الأمر، وكل ما في جوفه قد برز ورما على ظهره؟ لكنه شاذ غريب بغير شك. إنه يستوقف النظر، بل يستوقف الفكر، إنه لا يندمج مع الناس في عجينة واحدة، ولا ينطمس مع من حوله في سديم، إنه قطعة منثورة وحدها، والويل كل الويل، ثم الخير كل الخير، من هذه القطع التي تنثرها عجلة الحياة بعيدا عن إطارها، فتظل دائرة في ذلك وحدها. من هؤلاء يكون الثائرون الساخطون الهادمون، ومن هؤلاء يكون العظماء المصلحون، ومن هؤلاء يكون الأنبياء والأولياء، ومن هؤلاء يكون المجرمون النوابغ في إجرامهم، ومنهم يكون الفنانون النوابغ في فنهم، الشبه قريب جدا بين هؤلاء جميعا، على بعد ما بينهم من تفاوت واختلاف، كسيل الماء العرم، هو الذي يصلح الزرع، وهو الذي يفسده، حسب ما يحيط به من ظروف.

و«الأحدب» فيما يظهر لي، قطعة بشرية منثورة وحدها، تدور في فلك وحدها، ترى من ذا يكون؟ وماذا يكون؟

وبت ليلتي أفكر فيه وأفرض في أمره الفروض، وعاودني الشعور بالواجب أن أصلح ما فسد، فأقيم في هذا المسكين ما التوى، وأقوم ما مال واعوج، أو قل إن حبي لاستطلاع أمره قد غلبني، فسترت نفسي وراء الشعور بالواجب. وتذرعت بهذا السلاح، ومضيت عصر اليوم التالي إلى الدار التي دخلها الأحدب ليلة الأمس، مضيت لا ألوي على شيء، وأخذت أسرع الخطو حتى لا يصرفني التردد عن غايتي.

لم أجد عند الباب أحدا، وتلفت ها هنا وها هنا، وتحركت خطوتين هنا وخطوتين هناك، ثم دخلت وصعدت الدرج مبطئا غاية الإبطاء شاخصا ببصري إلى أعلى. الأبواب كلها مغلقة. صعدت الدرج حتى نهايته، ونهايته سطح نظيف. وقفت قليلا وقلبي ينبض نبضا شديدا، من الصعود ومن الخوف معا، الخوف من هذا البناء المهجور الذي لا يعمره إنس ولا جن. لكني رأيت الضوء منبعثا من نوافذه ليلة الأمس ... وهممت بالنزول، لولا أني بلفتة غريزية، لويت عنقي، ونظرت إلى نافذة مغلقة الزجاج في ركن السطح ، إن وجها يطل من خلف الزجاج، إنه هو، إنه «الأحدب».

لم يعد بيني وبين كشف الغطاء إلا خطوات خطوتها نحو غرفة «الأحدب»، وفتح لي الباب قبل أن أقرعه ... إن روعي ليهدأ قليلا قليلا، إن الخوف لينزاح عني إزاء هذا الوجه الباسم الذي فتح لي الباب ليتقبلني مسرورا مرحبا. ليس الوجه العابس في الطريق عابسا هنا، والصدر الضيق على الجدار الذي لم يتم بناؤه رحيب واسع هنا، ولولا بروز الورم فوق ظهره لقلت إنه إنسان آخر، إنه استدر في الطريق إشفاقي، لكنه في داره استثار حبي وإعجابي، إنه ها هنا يمزج في حديثه الجد بالفكاهة، ويقول النكتة في إثر النكتة ويضحك من كل قلبه. ألا سبحانك اللهم، تضع الرجلين، بل جمهورا من الرجال في إهاب واحد!

إن مشكلة «الذاتية» التي تحير الفلاسفة لم تعد تحيرني. إن الفلاسفة يصدعون رءوسهم تصديعا في محاولة الجواب عن هذا السؤال: كيف يحتفظ الشخص الواحد بذاتية واحدة مع اختلاف ظروفه؟ إنه يكون صحيحا ويكون مريضا، ويكون طفلا ويكون رجلا، ويكون شبعان ويكون جائعا، ويكون غضبان ويكون راضيا، ويكون يقظان ويكون نائما. ومع هذا الاختلاف الشديد الذي يطرأ على حالاته يظل إنسانا واحدا، فما الذي فيه يخلع عليه تلك الوحدانية مع تعدد حالاته وأوضاعه؟ ... لم تعد تحيرني المشكلة التي تحير الفلاسفة، بعد أن رأيت «الأحدب» في الطريق وفي داره، فلا وحدانية هناك، ليس الرجل رجلا واحدا، ولكنه عدة رجال، هو في كل حالة رجل غير الرجل الذي يكونه في الحالة الأخرى؛ فيستحيل أن يكون «الأحدب» العابس الجاد المهموم الحزين الذي رأيته، وتحدثت إليه وهو جالس على الجدار الذي لم يتم بناؤه، هو نفسه «الأحدب» الضاحك الفكه المرحب بي وهو في داره.

أدخلني «الأحدب» فعبر بي ردهة لاحظت خلاءها من الأثاث تقريبا، وانتهينا إلى غرفة هي مأواه، فيها كل شيء: فيها السرير وصوان الملابس ومكتب ومكتبة ومنضدة ومقاعد، ومرآة، أثاثها هزيل لكنه نظيف، وتنسدل على النافذة ستارة رقيقة فيها خروق ممزقة، لكنك تشعر في غرفته بالطمأنينة وراحة النفس . وليست ديار الناس في ذلك سواء، فقد أزور الدار وأحس أثناء زيارتي أني أتقلب على الشوك دون أن يكون بيني وبين صاحب الدار ما يدعو إلى النفور، ثم قد أزور الدار فينبسط صدري وتطيب نفسي، وأتمنى لو بقيت فيه اليوم كله. وقد قلت ذلك لصاحبي «الأحدب» فور جلوسي على مقعده المريح، الذي كان - فيما يظهر - جالسا عليه لتوه؛ لأن الحشية كانت ما تزال دافئة بحرارته.

قلت: إن النفس لتحس الطمأنينة في غرفتك هذه، والمنظر الذي يطالعك من نافذتك رائع جذاب.

قال: إذن لا أحسب الفجوة بين نفسينا عميقة كما يبدو للوهلة الأولى؛ فقد أعجبك مأواي ها هنا، كما أعجبك ملاذي الهادئ، الذي ألوذ به من صخب الحياة. إن النفوس الإنسانية لتشعر بالتقارب والتداني في حالات هدوئها، حتى إذا ما عج بها عجيج الحياة ألفيتها متنافرة متعاركة لا عجب أن يكون الناس جميعا سواء وهم نيام، ثم يأتي الموت فيسوى بينهم إلى الأبد.

وخشيت أن ينتقل صاحي بذكر الموت إلى حالة من حالاته الكئيبة السوداء، فغيرت موضوع الحديث، وجعلت موضوعه أقرب ما وقعت عليه يدي على المنضدة الصغيرة الوطيئة التي كانت أمام مقعدي.

فقلت: ما هذه المكعبات الخشبية الملونة المصورة؟

قال، وكان ورائي مشتغلا بقلب الفناجين والأكواب: تلك لعبة من لعب الأطفال اشتريتها ألهو بها، إنها مكعبات ترص؛ فتكون هذه الصورة أو تلك.

ودنا مني «الأحدب» وأشار بإصبعه إلى اللعبة، وقد رص ما يقرب من نصفها، فإذا هي صورة جواد عليه راكبه، ولم تبق من الصورة إلا أرجل الجواد.

قلت. وأحسبك كنت في سبيل إتمام الحصان بأرجله؟

قال: هذا ما حرت فيه، حاولت عبثا منذ ساعة الغداء، فلم تستقم للحصان أرجل؛ حتى لقد مللت فوقفت أنظر من نافذتي حين رأيتك قادما.

قلت: وما فائدة الحصان بغير أرجله؟ إن راكبه المسكين سيظل مشلول الحركة حتى تتم لحصانه الأرجل فيسير.

هنا وضع «الأحدب» قدحين كانا في يده، وضعهما على ظهر مكتبه، وجلس. إنه «الأحدب» الذي رأيته هناك على الجدار، وهو «الأحدب» الذي رأيته في الطريق. عبس وجهه وتجهم، ثم ساده استرخاء الذي فقد القدرة على الوقوف والحركة، وابتسم لكنها ابتسامة غير التي لقيني بها، هي ابتسامة صاحب النفس المريضة المعبأة بالهموم. ما أسرع التغير في سماء هذا الرجل: صفو في لحظة، وغمام كثيف في اللحظة التي تليها!

قال: لعل ذلك بعينه ما أعجزني عن إقامة الحصان على قوائمه، وإذن فما أشبه الجد باللعب ... كأني بك يا صديقي قد أتيتني لتستطلع شيئا من أمري. هذا هو أمري قد كشفت عنه في لحظة واحدة، في هذا الحصان المقعد تتلخص قصة حياتي، لكل امرئ جواده، وكل جواد يسير إذا استقام على أرجله، وجوادي كاب، والأرجل هناك، لكنها كانت تنتظر العين البصيرة لتضعها مكانها من جسم الجواد فيسير. إن الذي يرى أحرف الهجاء أمامه، ولا يستطيع أن ينشئ منها قصة مطردة أو قصيدة من الشعر يكون العجز فيه، ولا يكون العيب في أحرف الهجاء.

قلت: دع عنك الآن هذا الحصان ولعبته، وانظر ماذا أردت أن تضع في هذين القدحين من شراب.

لكني صممت أن أستطلع قصة الأحدب، أو قصة هذا «الجواد الكابي».

صفحه نامشخص