إن غاية ما ينشده الأديب بأدبه أن يصور نفوسا؛ نفسه أو نفوس غيره في ضوء خبرته. وكلما دنا تصويره من الحبكة التي تجعل النفس المصورة حية واضحة المعالم؛ كان أدنى إلى الكمال في فنه. ولا عبرة بعد ذلك أبدا للقيمة الخلقية لما صور، فلا تفاوت في القيمة الفنية بين تصوير الكريم وتصوير البخيل، أو بين تصوير الشيطان وتصوير القديس. المهم دائما هو صدق التصوير، وكما أنه لا وجه للاختيار على أساس خلقي بين شخص وشخص عند التصوير الفني؛ فكذلك لا وجه للاختيار بين خاطر وخاطر على هذا الأساس الخلقي.
وكذلك إن قلت لأنصار هذا المذهب: إن خواطركم المنسابة في مجرى شعوركم تهم عالم النفس أكثر مما تهم الأديب؛ كان جوابهم هنا أيضا على أطراف ألسنتهم؛ لأنهم سيقولون: إنها تهم الأديب وعالم النفس في وقت واحد، لكن من وجهين مختلفين: فهي عند الأديب صورة فذة فردة حية، وهذا كل ما يريد. وهي عند عالم النفس مثل يستطيع أن يضيف إليه أمثلة أخرى من الأدب أو من الحياة الواقعة؛ ليستخرج ما يريد استخراجه من قواعد وقوانين.
لكن أستاذنا الجليل الدكتور أحمد أمين بك يؤثر أن يكون الأديب مهتديا بعقله فيما يكتب؛ فيختار الطيب ويدع الخبيث. ويريد أنصار هذا المذهب ألا يكون الزمام هنا في يد العقل؛ لأنه ليس من اختصاصه، كما يقول أصحاب الدواوين الحكومية. فهل هم على حق في هذا التقسيم؟
الحق أني لو استطعت أن أضع حدا لاختصاص العقل في شئوني، لما عانيت في حياتي الخاصة كثيرا جدا مما أعانيه من صراع بيني وبين نفسي. وقد صدرت لك المقال بمثل يسير من هذا الصراع.
الأخلاق التي لا تزال بخير!
هذا قارئ من المنصورة، ذكي حصيف، قد كتب إلى «الثقافة» كتابا، يعلق فيه على مقالتي «عندما أطللت من النافذة»، التي عرضت فيها اتجاها جديدا في الأدب وفي الفنون عامة. فشرحت أساس المذهب شرحا موجزا، وأردت أن أزداد له فهما، وأزيد القارئ به علما؛ فأجريت له تطبيقا؛ إذ سجلت مجرى خواطري كما وقعت في تيارها الدافق؛ لأرى - وليرى معي القارئ - كيف يكون هذا المذهب في صورة عملية؛ فليس أصلح اختبارا للفكرة من تطبيقها.
وقرأ قارئ المنصورة الذكي الحصيف هذا المقال، فوقفت شعراته فوق رأسه على أطرافها جزعا وفزعا، ونهض من فوره، وحمل القلم ليرسل إلى «الثقافة» هذا «الخطاب المفتوح» يوجهه إلي، ويستهله بمدح أشكره عليه أبلغ الشكر وأوفره، ثم يعقب على هذا الثناء المشكور برأيه في مقالتي التي أسلفت ذكرها. ولو قد استطاع القلم أن يستقيم بين أصابعه ثلاثة أسطر كاملة، بحيث يجري في عربية صحيحة؛ لأفسحت الثقافة لرأيه مكانا رحبا فسيحا.
ولست أنوي بطبيعة الحال أن أناقش خطابه من حيث الرأي والفكرة؛ فكل ما في الخطاب دليل ناهض على أن أدنى ما أهبط إليه مع كاتبه هو أن أعلمه، وأرقى ما يرقى إليه معي هو أن يتعلم.
لكن الذي استوقف نظري في خطابه، بحيث حملني على الإغراق في الضحك أولا، ثم على الكتابة ثانيا، هو أن قارئ المنصورة الفاضل يرى أن مثل هذا الكلام الذي نشرته لو جاز أن «يستساغ» نشره في الصحف الغربية؛ فهو مما لا يصح نشره في صحافتنا؛ حيث لا تزال الأخلاق بخير، والفتاة بخير! بارك الله فيك يا مولانا، والله إن الدنيا كلها خير ما بقيت وما قرأت وما كتبت! •••
لست أدري إن كان قارئ المنصورة الذكي الحصيف قد سمع بكتاب كامل أخرجته منذ حين، وأسميته «جنة العبيط» ... وإذا لم يكن قد سمع به ، فإني أتقدم إليه خجلا متواضعا؛ لأنبه بأن العبيط الذي أردته بهذا العنوان، بل بهذا الكتاب كله، هو ذلك الذي يعيش ها هنا، ويتلفت حوله، حيث قد اجتمع كل ما أراد الله لعباده من نكد وبؤس في صعيد واحد، ويهتف لنفسه مع ذلك كله - ومن يدري؟ فلعله يهتف لنفسه بسبب ذلك كله! - أن الحمد لله رب العالمين؛ الذي هيأ لنا في بلادنا ما لم يهيئ لأهل الغرب المناكيد مثيلا له ولا شبيها.
صفحه نامشخص