تأليف
زكي نجيب محمود
إلى القارئ
هذه صفحات كتبتها إلا قليلا جدا منها، في الأعوام الثلاثة: 1948م، 1949م، 1950م. وهي سنوات عصفت فيها العواصف بنفسي، وتجهم الأفق أمام عيني ، ورأيت خريف عمري يتساقط أمامي على الأرض أوراقا صفراء يابسة، كنت أسمع لها خشخشة كأنها حشرجة المحتضر.
ونظرت فإذا بقيتي بعد جهاد طويل حطبة جافة من ساق وفروع، تعرت عن الورق والزهر والثمر، تعوي في ثناياها الريح عواء الأمعاء الجائعة، وليس على مرمى البصر منها إلا اليباب.
فخلخلت التراب حول الفروع والساق، وحملتها تجاه الغرب إلى طرف ناء من الصحراء، حتى إذا ما أغمضت الشمس جفنيها من غروب، أشعلت النار في بقيتي، وبقيتي حطبة يابسة، فتراءت من بعد أمام عيني العشواءين كأنما هي الشمس قد عادت إلى الشروق، لترسل من حر أنفاسها شعاعا جديدا، قبل أن تعود إلى مهدها في ظلام الغيب. •••
فمن الغرب تمنيت لو أشرق على بلادي شعاع من نور، من الغرب الذي شاءت له إرادة الله أن يكون في عصرنا مبعث المدنية ومنارها؛ فيه ينتج العلم والفلسفة والأدب والفن، وتنشأ النظم الاجتماعية والسياسية، وبين أهله تقوم الثورات التي تحطم أسوار القديم لتنبت في الأرض نباتا جديدا.
أليست المدنية الإنسانية تغمر العالم موجة في إثر موجة، والموجات تارة يكون مسراها من هنا إلى هناك وطورا من هناك إلى هنا؟ ... خرافة أن يقال في الحضارة البشرية: شرق وغرب وشمال وجنوب. والصدق أن يقال: إنسان العصر وحضارته، أينما كان الإنسان على وجه الأرض، وأيا ما كانت حضارته. «إنني في ساعات حلمي، حين أحلم لبلادي باليوم الذي أشتهيه لها، فإنما أصورها لنفسي وقد كتبنا من اليسار إلى اليمين كما يكتبون، وارتدينا من الثياب ما يرتدون، وأكلنا كما يأكلون، لنفكر كما يفكرون، وننظر إلى الدنيا بمثل ما ينظرون ...» (ص 223).
وإذن فستقرأ في هذا الكتاب صفحات تصور لك نفسا اكفهر فيها الأفق وتلبدت سماؤها بالغيوم، كما تطالع فيه كيف راحت تلك النفس - في ظلماتها - ترسل من غربها شعاعا، كأنه البصيص الخافت ينفذ خلال الرماد، راحت ترسل شعاعها ذلك الضئيل الخافت، قبل أن ينطوي ظلامها في ظلام الغيب.
أول فبراير سنة 1952م
صفحه نامشخص