فبين أن ذات النفس ليست بجسم بل هي جزء للحيوان والنبات، هى صورة أو كالصورة أو كالكمال، فقول الآن إن النفس يصح أن يقال لها بالقياس إلى ما يصدر عنها من الأفعال قوة وكذلك يجوز أن يقال لها بالقياس إلى ما تقبله من الصور المحسوسة والمعقولة على معنى آخر قوة، ويصح أن يقال لها أيضا بالقياس إلى المادة التى تحلها فيجتع منهما جوهر مادى نباتى أو حيوانى صورة، ويصح أن يقال لها أيضا بالقياس إلى استكمال الجنس بها نوعا محصلا فى الأنواع العالية أو السافلة كمال، لأن طبيعة الجنس تكون ناقصة غير محدودة ما لم تحصلها طبيعة الفصل البسيط أو الغير البسيط منضافا إليها، فإذا انضاف إليها كمل النوع، فالفصل كمال النوع بما هو نوع، وليس لكل نوع فصل بسيط، قد علمت هذا، بل إنما هو للأنواع المركبة الذوات من مادة وصورة، والصورة منها هو الفصل البسيط لما هو كماله ثم كل صورة كمال وليس كل كمال صورة، فإن الملك كمال المدينة والربان كمال السفينة وليسا بصورتين لمدينة والسفينة، فما كان من الكمال مفارق الذات لم يكن بالحقيقة صورة للمادة وفى المادة، فإن الصورة التى هى فى المادة هى الصورة المنطبعة فيها القائمة بها، أللهم إلا أن يصطلح فيقال لكمال النوع صوة النوع، وبالحقيقة فإنه قد استقر الاصطلاح على أن يكون الشىء بالقياس إلى المادة صورة وبالقياس إلى الجملة غاية وكمالا وبالقياس إلى التحريك مبدأ فاعليا وقوة محركة، وإذا كان الأمر كذلك فالصورة تقتضى نسبة إلى شىء بعيد من ذات الجوهر الحاصل منها وإلى شىء يكون به الجوهر الحاصل هو ما هو بالقوة وإلى شىء لا تنسب الأفاعيل إليه، وذلك الشىء هو المادة، لأنها صورة باعتبار وجودها للمادة، والكمال يقتضى نسبة إلى الشىء التام الذى عنه تصدر الأفاعيل لأنه كمال بحسب اعتباره للنوع، فبين من هذا أنا إذا قلنا فى تعريف النفس إنها كمال كان أدل على معناها، وكان أيضا يتضمن جميع أنواع النفس من جميع وجوهها ولا تشذ النفس المفارقة للمادة عنه، وأيضا إذا قلنا إن النفس كمال فهو أولى من أن نقول قوة وذلك لأن الأمور الصادرة عن النفس منها ما هو من باب الحركة ومنها ما هو من باب الإحساس والإدراك، والإدرك بالحرى أن يكون لها لا بما لها قوة هى مبدأ فعل بل مبدا قبول، والتحريك بالحرى أن يكون لها لا بما لها قوة هى مبدأ قبول بل مبدأ فعل، وليس أن ينسب إليها أحد الأمرين بأنها قوة عليه أولى من الآخر، فإن قيل لها قوة وعنى به الأمران جميعا كان ذلك باشتراك الاسم، وإن قيل قوة واقتصر على أحد الوجهين عرض من ذلك ما قلنا، وشىء آخر وهو أنه لا يتضمن الدلالة على ذات النفس من حيث هى نفس مطقا بل من جهة دون جهة، وقد بينا فى الكتب المنطقية أن ذلك غير جيد ولا صواب ثم إذا قلنا كمال اشتمل على المعنيين، فإن النفس من جهة القوة التى يستكمل بها إدراك الحيوان كمال، ومن جهة القوة التى تصدر عنها أفاعيل الحيوان أيضا كمال، والنفس المفارقة كمال والنفس التى لا تفارق كمال، لكنا إذا قلنا كمال لم يعلم من ذلك بعد أنها جوهر أو ليست بجوهر، فإن معنى الكمال هو الشىء الذى بوجوده يصير الحيوان بالفعل حيوانا والنبات بالفعل نباتا وهذا لا يفهم عنه بعد أنه جوهر أو ليس بجوهر، لكنا نقول لا شك لنا فى أن هذا الشىء ليس جوهرا بالمعنى الذى يكون به الموضوع جوهرا ولا أيضا بالمعنى الذى يكون به المركب جوهرا، فأما جوهر بمعنى الصورة فلننظر فيه، فإن قال قائل إنى أقول للنفس جوهرا وأعنى به الصورة ولست أعنى به معنى أعم من الصورة، بل معنى أنه جوهر معنى أنه صورة، وهذا مما قاله خلق منهم، فلا يكون معه موضع بحث واختلاف البتة، فيكون معنى قوله إن النفس جوهر أنها صورة، بل يكون قوله الصورة جوهر كقوله الصورة صورة أو هيئة أو الإنسان إنسان أو بشر، ويكون هذيانا من الكلام، فإن عنى بالصورة ما ليس فى موضوع البتة أى لا يوجد بوجه من الوجوه قائما فى الشىء الذى سميناه لك موضوعا البتة فلا يكون كل كمال جوهرا، فإن كثيرا من الكمالات هى فى موضوع لا محالة، وإن كان ذلك الكثير بالقياس إلى المركب ومن حيث كونه فيه ليس فى موضوع، فإن كونه جزءا منه لا يمنعه أن يكون فى موضوع، وكونه فيه لا كالشىء فى الموضوع لا يجعله جوهرا كما ظن بعضهم لأنه لم يكن الجوهر ما لا يكون بالقياس إلى شىء على أنه فى موضوع حتى يكون الشىء من جهة ما ليس فى هذا الشىء على أنه فى موضوع جوهرا بل إنما يكون جوهرا إذا لم يكن ولا فى شىء من الأشياء على أنه فى موضوع، وهذا المعنى لا يدفع كونه فى شىء ما موجودا لا فى موضوع فإن ذلك ليس له بالقياس إلى كل شىء حتى إذا قيس إلى شىء يكون فيه لا كما يوجد الشىء فى موضوع صار جوهرا وإن كان بالقياس إلى شىء آخر بحيث يكون عرضا بل هو اعتبار له فى ذاته، فإن الشىء إذا تأملت ذاته ونظرت إليها فلم يوجد لها موضوع البتة كانت فى نفسها جوهرا، وإن وجدت فى ألف شىء لا فى موضوع بعد أن توجد فى شىء واحد على نحو وجود الشىء فى الموضوع فهى فى نفسها عرض، وليس إذا لم يكن عرضا فى شىء فهو جوهر فيه، فيجوز أن يكون الشىء لا عرضا فى الشىء ولا جوهرا فى الشىء كما أن الشىء يجوز أن لا يكون واحدا فى الشىء ولا كثيرا لكنه فى نفسه واحد أو كثير، وليس الجوهرى والجوهر واحدا، ولا العرض بمعنى العرضى الذى فى إيساغوجى هو العرض الذى فى قاطيغورياس، وقد بينا لك هذه الأشياء فى صناعة المنطق، فبين أن النفس لا يزيل عرضيتها كونها فى المركب كجزء بل يجب أن تكون فى نفسها لا فى موضوع البتة وقد علمت ما الموضوع، فإن كان كل نفس موجودة لا فى موضوع فكل نفس جوهر، وإن كانت نفس ما قائمة بذاتها والبواقى كل واحدة منها فى هيولى وليست فى موضوع فكل نفس جوهر، وإن كانت نفس ما قائمة فى موضوع وهى مع ذلك جزء من المركب فهى عرض، وجميع هذا كمال، فلم يتبين لنا بعد أن النفس جوهر أو ليست بجوهر من وضعنا أنها كمال، وغلط من ظن أن هذا يكفيه فى أن يجعلها جوهرا كالصورة،
صفحه ۱۰