بل يجب أن نبتدىء فنزيد هذا شرحا، فنقول إن النفس النباتية إما أن تعنى بها النفس النوعية التى تخص النبات دون الحيوان، أو يعنى بها المعنى العام الذى يعم النفس النباتية والحيوانية من جهة ما تغذى وتولد وتنمى، فإن هذا قد يسمى نفسا نباتية، وهذا مجاز من القول، فإن النفس النباتية لا تكون إلا فى النبات، ولكن المعنى الذى يعم نفس النبات والحيوان يكون فى الحيوانات كما يكون فى النبات، ووجوده كما يوجد المعنى العام فى الأشياء، وإما أن تعنى بها القوة من قوى النفس الحيوانية التى تصدر عنها أفعال التغذية والتربية والتوليد، فإن عنى بها النفس النباتية التى هى بالقياس إلى النفس الفاعلة للغذاء نوعية فذلك يكون فى النبات لا غير، ليس فى الحيوان، وإن عنى بها المعنى العام فيجب أن ينسب إليها معنى عام لا معنى خاص فإن الصانع العام هو الذى ينسب إليه المصنوع العام، والصانع النوعى كالنجار هو الذى ينسب إليه المصنوع النوعى، والصانع المعين هو الذى ينسب إليه المصنوع المعين، وهذا شىء قد مر لك تحقيقه، فالذى ينسب إلى النفس النباتية العامة من أمر الجسم أنه نام عام، وأما أنه نام بحيث يصلح لقبول الحس أو لا يصلح فليس ينسب ذلك إلى النفس النباتية من حيث هى عامة، ولا هذا المعنى يتبعها، وأما القسم الثالث فيستحيل أن يكون على ما يظن من أن القوة النباتية تأتى وحدها فتفعل بدنا حيوانيا، ولو كان المنفرد بالتدبير تلك القوة لكانت تتمم جسما نباتيا، وليس كذلك بل إنما تتمم جسما حيوانيا بآلات الحس والحركة، فتكون هى قوة لنفس لتلك النفس قوى أخرى، وهذه القوة من قواها تتصرف على المثال الذى يؤدى إلى استعداد الآلة للكمالات الثانية التى لتلك النفس التى هذه قوتها، وتلك النفس هى الحيوانية، ويتضح من بعد أن النفس واحدة وأن هذه قوى تنشعب عنها فى الأعضاء، ويتأخر فعل بعضها ويتقدم بحسب استعداد الآلة فالنفس التى لكل حيوان هى جامعة أسطقسات بدنه ومؤلفتها ومركبتها على نحو يصلح معه أن يكون بدنا لها، وهى حافظة لهذا البدن على النظام الذى ينبغى فلا يستولى عليه المغيرات الخارجة ما دامت النفس موجودة فيه، ولولا ذلك لما بقى على صحته، ولاستيلاء النفس عليه ما يعرض من قوة القوة النامية وضعفها عند استشعار النفس قضايا تكرهها أو تحبها كراهية ومحبة ليست ببدنية البتة، وذلك عندما يكون الوارد على النفس تصديقا ما وليس ذلك مما يؤثر فى البدن بما هو اعتقاد بل يتبع ذلك الاعتقاد انفعال من سرور أو غم، وذلك أيضا من المدركات النفسانية وليس يعرض للبدن بما هو بدن، فيوثر ذلك فى القوة النامية الغاذية حتى يحدث فيها من العارض الذى يعرض للنفس أولا وليكن الفرح النطقى شدة ونفاذ فى فعلها، ومن العارض المضاد لذلك - وليكن الغم النطقى الذى لا ألم بدنى فيه - ضعف وعجز حتى يفسد فعلها، وربما انتقض المزاج به انتقاضا، وكل هذا مما يقنعك فى أن النفس جامعة لقوتى الإدراك واستعمال الغذاء، وهى واحدة لها ليست هذه منفردة عن تلك فبين أن النفس هى مكملة البدن الذى هى فيه وحافظته على نظامه الذى الأولى به أن يتميز ويتفرق إذ كل جزء من أجزاء البدن يستحق مكانا آخر ويستوجب مفارقة لقرينه، وإنما يحفظه على ما هو عليه شىء خارج عن طبيعته، وذلك الشىء هو النفس فى الحيوان، فالنفس إذا كمال لموضوع ذلك الموضوع متقوم به ، وهو أيضا مكمل النوع وصانعه فإن الأشياء المختلفة الأنفس تصير بها مختلفة الأنواع ويكون تغايرها بالنوع لا بالشخص، فالنفس إذن ليست من الأعراض التى لا تختلف بها الأنواع ولا يكون لها مدخل فى تقويم الموضوع، فالنفس إذن كمال كالجوهر وليس يلزم هذا أن يكون مفارقا أو غير مفارق، فإنه ليس كل جوهر بمفارق، فلا الهيولى بمفارقة ولا الصورة وقد علمت أنت أن الأمر كذلك، فلندل الآن دلالة ما مختصرة على قوى النفس وأفعالها ثم نتبعها بالاستقصاء،
فصل 4 (فى تبيين أن اختلاف أفاعيل النفس لاختلاف قواها)
نقول إن للنفس أفعالا تختلف على وجوه، فيختلف بعضها بالشدة والضعف ويبعضها بالسرعة والبطوء، فإن الظن اعتقاد ما يخالف اليقين بالتأكيد والشدة والحدس يخالف التلقن بسرعة الفهم، وقد تختلف أيضا بالعدم والملكة مثل أن الشك يخالف الرأى، فإن الشك عدم اعتقاد من طرفى النقيض والرأى اعتقاد أحد طرفى النقيض، ومثل التحريك والتسكين، وقد تختلف بالنسبة إلى أمور متضادة مثل الإحساس بالأبيض والإحساس بالأسود وإدراك الحلو وإدراك المر، وقد تختلف بالجنس مثل إدراك اللون وإدراك الطعم بل مثل الإدراك والتحريك، وغرضنا الآن ان نعرف القوى التى تصدر عنها هذه الأفاعيل، وأنه هل يجب أن يكون لكل نوع من الفعل قوة تخصه أولا يجب ذلك،
صفحه ۳۳