وأما الذين قالوا إن النفس مركبة من المادى حتى يصح أن تعرف المبادى وغير المبادى بما فيها منها وإنها إنما تعرف كل شىء بشبهه فيها قد يلزمهم أن تكون النفس لا تعرف الأشياء التى تحدث عن المبادى مخالفة لطبيعتها، فإن الاجتماع قد يحدث هيئآت فى المبادى وصورا لا توجد فيها مثل العظمية واللحمية والانسانية والفرسية وغير ذلك، فيجب أن تكون هذه الأشياء مجهولة للنفس إذ ليس فيها هذه الأشياء بل إنما فيها أجزاء المبادى فقط، فإن جعل فى تأليف النفس إنسانا وفرسا وفيلا كما فيه نار وارض وغلبة ومحبة فقد ارتكب العظيم، ثم إن كان فى النفس إنسان ففي النفس نفس ففيها مرة أخرى إنسان وفيل، ويذهب ذلك إلى غير النهاية، وقد يشنع عليه من جهة أنه يجب على هذا الوضع أن يكون الله تعالى إما غير عالم بالأشياء وإما مركبا من الأشياء، وكلاهما كفر، ومع ذلك فيجب أن يكون غير عالم بالغلبة لأنه لا غلبة فيه، فإن الغلبة توجب التفريق والفساد فيما تكون فيه، فيكون الله تعالى غير تام العلم بالمبادى، وهذا شنيع وكفر، ثم يلزم من هذا أن تكون الأرض أيضا عالمة بالأرض والماء بالماء وأن تكون الأرض لا تعلم الماء والماء لا يعلم الأرض، ويكون الحار عالما بالحار غير عالم بالبارد، ويجب أن تكون الأعضاء التى فيها أرضية كثيرة شديدة الإحساس بالأرض، وليست كذلك، بل هى غير حساسة لا بالأرض ولا بغيرها وذلك كالظفر والعظم، ولأن ينفعل الشىء ويتأثر عن ضده أولى من أن يتأثر عن شكله، وأنت تعلم أن الإحساس تاثر ما وانفعال ما، ويجب أن لا تكون هاهنا قوة واحدة تدرك الأضداد، فيكون البياض والسواد ليس يدركان بحاسة واحدة بل يدرك البياض بجزء من البصر هو أبيض والسواد بجزء منه هو أسود، ولأن الألوان لها تركيبات بلا نهاية فيجب أن يكون قد أعد للبصر أجزاء بلا نهاية مختلفة الألوان، وإن كان لا حقيقة للوسائط وما هى إلا مزج الضدين بزيادة ونقصان من غير اختلاف آخر فيجب ان يكون مدرك البياض يدرك البياض صرفا ومدرك السواد يدرك السواد صرفا إذ لا يمكن أن يدرك غيره، فيجب أن لا يشكل علينا بسائط الممتزج ولا يتخيل إلينا الوسائط التى لا يظهر فيها بياض وسواد بالفعل ، وكذلك يجب أن ندرك المثلث بالمثلث والمدور بالمدور والأشكال الأخرى التى لا نهاية لها والأعداد أيضا بأمثالها، فتكون فى الحاسة أمثال بلا نهاية، وهذا كله محال، وأنت تعلم أن الشىء الواحد يكفى فى أن يكون عيارا للأضداد تعرف به كالمسطرة المستقيمة يعرف بها المستقيم والمنحنى جميعا، وأنه لا يجب أن يعلم كل شىء بشىء خاص،
صفحه ۲۶