لا أصدر هذا الحكم عليها بدون فذلكة ولا حيثيات، فحسبك أن تقرأ مقدمتي ديواني: «جلنار» لميشال طراد، و«من قلبي» لأسعد سابا، لتذعن لحكمي فلا تعترض ولا تستأنف ... كلتا المقدمتين للشاعر سعيد عقل، ومن شاء أن يعرف تفاهتهما فما عليه إلا أن يقرأ مقدمتي قصيدته «المجدلية»، ومسرحيته «قدموس».
إن سعيد عقل شاعر من الطراز الأول، ولكنه يريد أن يكون زجالا وشاعرا فرنسيا، وأنا خائف عليه من هاتين النكبتين.
قال سعيد في ختام مقدمته لديوان أسعد سابا: «هني - أي شعراء الزجل - اليوم شعرا الشرق»، ولعل سعيدا لا يكفيه أن يكون من هو، فحاول أن يكون من شعراء الشرق فانبرى لمجاراتهم في ميدانهم!
إني أنصحه، لوجه الله، ألا يقدم على هذا العمل، فإنه دون شك يقصر عنهم. أما بان هزاله في مقدمتيه؟ إن ميشال طراد وأسعد سابا لا تطل عليهما اللفظة الفصيحة، وسعيد عقل لا تأتيه الكلمة العامية إلا بعد اصطدامها بأختها الفصيحة، وهذا سر الزجل اللبناني الذي هو بضاعة للاستهلاك لا للتصدير.
عجيب أمرنا كيف نتحدث عن «الإشعاع» ولا نعمل له، إن الإشعاع الفكري يتطلب زيتا يصب دائما في السراج، وليس هو راديوم مدام كوري، فإذا ترك الفانوس انطفأ. كنا نمتن على غيرنا يوم كانوا يشكون خنجرا ونشك نحن دواة وقلما، كان ذلك يوم كان تيوفيل الرهاوي وغيره قابضين على ناصية العلم. وبكلمة مختصرة: إن لبنان الفينيقي والسرياني كان لبنان إشعاع، فالفينيقيون كانوا صناعا وتجارا مهاجرين، والمهاجرة مدرسة كبرى، والسريان كانوا يحذقون لغة غير لغتهم الأم فنقلوا وعربوا وألفوا، وظهرت هذه الخاصة في بقاياهم فعملوا مثلهم. أما اليوم، فضوء سراجنا ينوس، كم أتألم حين أسمع كلمة «إشعاع» وألتفت حولي فلا أرى إلا من يحاولون جرنا إلى الوراء، طالبين منا أن نتخلى عن ميراثنا وتركتنا الضخمة في لغة العرب، لتنحصر في لغة عامية لا تفهم على حقها إلا في بلد معين.
ودعاة الحرف اللاتيني ماذا نقول فيهم؟ إنهم يطلبون التسهيل ليقعوا في أشد الصعوبات، فمن منا ومنهم يحسن ضبط الكلمات حتى يكتبها بالحرف اللاتيني، ومخارج الحروف ماذا نفعل بها؟ إن للحروف الساكنة موسيقى يعتد بها، فاللغات الغربية تعتمد في موسيقاها الشعرية على الحروف الصوتية، أما نحن - لو تنبه شعراؤنا- فعندنا حروف شتى من مخرج واحد، فكأنها وضعت لينتقي منها الشاعر ما يلائم موضوعه ومقامه.
قد يقول قائل: إذا كنت تغار على الفصحى - كما تقول - فلماذا هذا الاهتمام بالشعر اللبناني العامي؟
الجواب يا سيدي أن في كل فترات تاريخ الأدب كان يظهر مثل هذا الشعر ويستحلى ويستملح، كما أن بين الشعر الأول الفصيح والزجل أقرب النسب، فلم يكن امرؤ القيس أعلم من طراد، ولا النابغة أوسع ثقافة من أسعد سابا. كان يقال ذلك الشعر قبل علم العروض، كما يقال هذا الشعر اليوم، وميزانه الأذن والذوق، كما تطور ذلك تطور هذا حتى صار إلى ما صار إليه اليوم. وإذا أعطينا الزجل حقه فلا يعني أننا نريد أن نجعل من اللهجة اللبنانية لغة قائمة برأسها، يكفينا من الزجل أن يكون لونا محليا نباهي به كما نباهي بالتفاح مثلا، فهو ثمرة فكرية لذيذة جدا. وإذا كنت أنا المتضلع من عامية لبنان تعصى علي بعض كلمات، فما عسى العراقي والحجازي والمصري وال... وال... أن يفهم منه؟
إننا نحن اللبنانيين، وخصوصا الجبليين، نتذوق هذا الشعر تذوقا كاملا، ونطرب له كما يطرب البدوي - أمس واليوم - للشعر الجاهلي؛ لأنه يحسه أكثر منا؛ ولأنه يصور له أشياء لا تزال تقع عليها عينه. وبعد، فإني أرى شعرنا العامي يمشي عند بعض شعرائنا نحو الفصحى وهذا قتل له، فخير للشاعر العامي أن يلم ألفاظه من الشارع لا من الكتب، عملا بالكلمة المأثورة: لكل مقام مقال. وأنا لم أختر هذين الشاعرين: ميشال طراد وأسعد سابا؛ إلا لأنهما غارقان إلى آذانهما في اللهجة العامية؛ ولأن شعرهما يمثلهما أصدق تمثيل؛ ولأنهما مدرسة جديدة.
من قلبي
صفحه نامشخص