القرية في أمثالها
ليالي القرية ومواسمها
اللهجة العامية اللبنانية
الشعر العامي اللبناني
أطوار الزجل اللبناني
الطور الكلاسيكي
الشعر العامي
الطور الرومانطيقي الرمزي
من قلبي
جلنار
صفحه نامشخص
ياجوج وماجوج
القرية في أمثالها
ليالي القرية ومواسمها
اللهجة العامية اللبنانية
الشعر العامي اللبناني
أطوار الزجل اللبناني
الطور الكلاسيكي
الشعر العامي
الطور الرومانطيقي الرمزي
من قلبي
صفحه نامشخص
جلنار
ياجوج وماجوج
الشعر العامي
الشعر العامي
تأليف
مارون عبود
1886-1962
القرية في أمثالها
القرى أهراء المدن، فمنها تستمد القوت، من حنطة، وخضار، وفواكه وألبان، ولحوم وخمور، فكأنها معمل، دواليبه الرجال. وكما لا تقف المعامل إلا هنيهات، كذلك يظل الفلاح في حركة دائمة، فحياته زرع وقلع، وحلب ضرع، صيفه استغلال، إن جادت عليه الطبيعة بالأمطار في أوانها. وإن جاءت قبل الوقت المناسب أو بعده قعد حسيرا كئيبا، يعلل نفسه بحكمة الأمثال التي علمته إياها التجاريب، وأملتها عليه الأيام فيردد: «إن فاتك عام استبشر بغيره»، فالقروي صبور، جلود، لا يقنط ولا ييأس، ولا يكاد يسقط حتى يقوم.
لا أدري ماذا يحل بسكان المدن من حكام وعلماء، ومن صناعيين وتجار وعمال، إذا وقف هذا البائس عن العمل، أو قنط ويئس، ولم يحرث أرضه ويرب نعاجه؟!
صفحه نامشخص
أيأكلون البضائع التي تعج بها مخازنهم وحوانيتهم؟! وهل يطعمهم الدولاب خبزا وخضارا ولحما؟ ثم من يستهلك منتوجاتهم، وينفق بضاعتهم؟! أليس القروي هو المستهلك والمنتج في وقت معا؟! لقد تخيل الشاعر الفرنسي سولي برودوم هذه الحالة، ووصفها في إحدى قصائده، فرأى الموت على مقربة منه.
فلو لم تسخر الطبيعة أبناءها كلا لعمل، وتجعل أسلوب حياته رائقا في عينيه، لما كان ابن القرية يرضى بعزلته وخشونة عيشه، فإذا دخلت القرية نهارا فقلما تجد في بيوتها غير الشيوخ العاجزين، والنساء اللواتي لا يستطعن عملا، أو اللواتي يهيئن الطعام للرجال الكادحين في الحقول، حتى إذا دنت ساعة الغداء، حملن سلال الطعام في يد، وأباريق الماء في يد، وهرولن إلى الحقول حيث تنتظر الرجال الزاد.
إن أيام القروي مملوءة عملا في جميع الفصول، وهو لا يلجأ إلى بيته نهارا إلا إذا دهمه المطر شتاء، وكواه الحر صيفا، فلكل فصل من فصول السنة عمل لا بد من أن يتمه في حينه؛ لأن المثل يقول له: «الفلاحة يد.» فإذا تقاعس أو تماهل فاته الرزق، والرزق في نظره قسمة ونصيب، ولكن العمل واجب؛ فالله قال: «قم حتى أقوم معك.» فإذا تباطأ أو قصر كان هو المقصر، وصح فيه المثل: «اللي من ايده الله يزيده.» «الحركة فيها البركة»؛ لذا تراهم لا يستقرون، فإذا تركوا الحقل للاستراحة فلا بد من عمل ما حول البيت، فالزمان يخلص، والعمل لا ينتهي، والتعب وسخ.»
ليس كل أهل القرى يحرثون وينكشون، بل هناك فئة تستأجر عمالا، فيكون عملها مراقبتهم لكي يحسنوا العمل ولا يضيعوا الوقت. وكما يتمتع العمال المدنيون بالموسيقى الاصطناعية التي ينطق بها المعدن، كذلك لهؤلاء موسيقى طبيعية ترفه عنهم، فهنا حسون يغني، وشحرور يغرد، وحجل يتكلم، وهناك راع ينفخ في شبابته فيلطف من شقاء الفلاح، ويهون عليه مصيبته، فتصير «نصف مصيبة».
النهار - كما قلنا - للعمل الدائم، وكيفما التفت العابر تقع عينه إما على حطاب يقطع الحطب، ويحمله إلى بيته ليدخره للشتاء، كما يدخر مئونته تماما؛ لأن المثل يقول له: «في كانون كن، ومن المولود للمعمود يقف الماء عامود»، وإما على آخر يلم تينه ليدخره للشتاء، فإذا كانت «المئونة في الصيف على العود، فأيلول طرفه بالماء مبلول.» فليستعد له، «فالشتاء ضيق ولو كان فرجا.»
وقد ترى مكاريا يسوق بغله وحماره، وهو يغني ليخفف من مشاق الطريق، ويبلغ المكان المقصود، فإذا «جاء الليل جاء معه الويل.»
إذا كنت رأيتني - وكما ستراني - أكثر من ذكر الأمثال، فلا تنس أن ثقافة القرية في أمثالها، فالمثل هو أدب الشعب وعنوان ثقافته، والدليل على عقلية الأمة الخام، وأخلاقها الأولية، ونتيجة اختباراتها في الحياة. إن الأمثال القروية أحكام محكمة الوضع في جمل وجيزة يعرفها القروي الأمي، كما يعرف المحامي المتضلع مواد الحقوق الأصلية، فهو يحدثك دائما بالأمثال، ولا بدع في ذلك؛ فالمثل هو الثقافة البشرية الأصيلة. وكما يوجد فلسفة عامة يعرفها المكاري والمعاز والأكار، فيشترك فيها العقل البشري على اختلاف طبقاته، كذلك يوجد ثقافة شعبية تجمعها هذه الأمثال، فهي - كما قلنا - أشبه بالمواد الكلية في الحقوق المدنية من حيث إيجازها وبلاغتها وما ينطوي تحتها من معان. فكتب حقوق القروي تحت لسانه، وهو لا يحتاج إلى مراجعة المجلات والدساتير ليصدر أحكامه؛ فهذه الأمثال أحكام تتناول جميع الشئون الحياتية، وهي تجمع المحاسن والأضداد، والكفر والإلحاد، وفي الجملة، الشيء وضده في كل باب ومطلب.
المثل - في نظري - هو رفيق الأمية عبر العصور، وستظل هذه الأمثال حية خالدة، إذا مات منها واحد قام عشرات. وهي تتغير وتتبدل بتبدل أساليب العيش، وتتطور بتطور الحياة، ولا تحرم الإنسانية عقولا ثاقبة ترسل الأمثال وتضربها في كل مناسبة.
وبهذا التبدل فهي تحافظ على بقائها؛ لأنها تنبع من جميع طبقات الشعب، ولذلك أراها ملائمة لعقلية الشعوب أكثر من الشعر، بل هي أصدق من الشعر. أما هذا التناقض الذي نراه فيها، فهو عندي طبيعي جدا؛ لأن المثل يماشي الحياة التي لا تسير على نمط واحد، وفي سياق واحد.
وقد حرص الناس على أن يقولوا في كل غرض مثلا. فللزراعة، وهي تهمهم كثيرا، أمثال لا تعد، نذكر منها قولهم: «غير بذارك ولو من عند جارك.» و«بعد أختي عني وخذ غلتها مني.» هذا ما نطق به الزارع والدارس.
صفحه نامشخص
ولهم في الطب أمثال أيضا منها قولهم: «البذرة التي لا تعرف فيها، بالنار داويها.»
وكذلك يقولون في الاقتصاد: «على قدر بساطك مد رجليك.» ولهم في السياسة مثل يوهمك أنهم يكرهون السياسة مع أنهم غارقون فيها إلى آذانهم، قالوا: «الداخل بالسياسة مثل الداخل بتنكة الكناسة.»
والأمثال منها ما هو وليد الاختبار، ومنها ما هو وليد الوجدان والعواطف، ومنها ما هو وليد التمرد والحرمان. فهذا القروي الذي وصفته لك كادا جاهدا نفسه، لا تنس أن فيه روحا عاتية، يفكر كما يفكر حكامه، وإذا أكره وأثير، استحالت فأسه ومنجله ومسحاته ورفشه ومنخس ثيرانه عتادا حربية، يضحي ببنيه وثيرانه وكل ما يملك إذا ما استفزه البغي والظلم.
والفلاح - على بساطته - هو الذي يسقط الحكام، ويقوض العروش حين تستحيل منجل حصاده سيفا، وعباءته درعا وترسا، يهاجم الموت وهو يردد المثل القائل له: «مت ابن ... ولا تعش حزينا.»
فهو يقول لك حين يكون راضيا عن حكامه، أو ساخطا ولا تواتيه فرصة الفتك: «لا سلطة إلا من الله، وحاكمك وربك.» كما يستعين بالدهاء فيقول: «اليد التي لا تقدر أن تعضها بوسها وادع عليها بالكسر.» وعندما تأتي الساعة الملائمة يندفع كالنهر الجارف وعلى لسانه: «عيشة بالذل أنا ما أريدها.» حتى إذا ما ظفر بذاك الطاغية الذي كان يقول فيه: «لا سلطة إلا من الله»، يقول له بعد أن يسقط عن كرسيه أو يقتله: «على الباغي تدور الدوائر، ولا يحصد الإنسان إلا ما زرع.»
ثم يتنفش بعد هذا الفوز على ظالمه ويقول: «قالوا لعنتر: من عنترك؟ قال: ما لقيت حدا ردني.» نحن رددناه؛ لأن «الوعاء الذي لا يمتلي يكون معيوبا.»
أعتقد أن لبنان أغنى من غيره بالأمثال؛ وذاك لتشابك المدنيات فيه، بتواليها عليه، وبقدر ما تتشابك الحياة وتتعقد شئونها، يهب المثل من مكمنه ليعبر عنها، ويبقى رمزا إليها. إن القروي سياسي مطبوع، ولذلك قلما ترى قرية ليست منقسمة حزبين أو أحزابا. ولعل القروي، إذا ترك المحراث وقعد يستريح، يتحدث مع رفيقه عن السياسة العالمية على قدر ما يدرك منها، ثم يتطرق إلى المحلية منها. وهناك يجلي في ذلك المضمار، فهو ينتصر لرجل، وربما كان لا يعرفه، ولعل تحزبه له يكون نكاية بجاره أو بابن عمه أو أخيه، وكما يقول مثله: «من أخذ أمي صار عمي»، يقول أيضا: «أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب.» ولكن لا، فكثيرا ما نرى القروي ينتصر للغريب ويعادي حتى أخاه ليحقق القول: «البغض بين القرايب، والحسد بين الجيران.»
وهذه الحزبية القروية كثيرا ما سفكت دماء وزهقت أرواح بسببها؛ فالقروي عات جبار، إذا استفز صغر الموت في عينيه وقتل خصمه كما يقتل الحية. وللثأر عندهم مكانة عليا؛ ولهذا تزول الأحقاد بينهم في تلك الساعة وينتصرون لبعضهم ويقولون: «ابن عمك حمال دمك .» حتى إذا ما مرت تلك الفترة عادوا إلى عنعناتهم وتنافرهم وتباغضهم.
وحب الزعامة والرئاسة متأصل في القرية؛ ولذلك قسم أبناؤها الجماعة درجات: فلان يأخذ القهوة قبل فلان، وزيد يجلس فوق يد خالد، وإذا أخل أحد بهذا الترتيب، كانت العاقبة غير محمودة، وقد تؤدي إلى قتل من تجاوز حده ولم يقف عنده.
أما العيشة في القرية فمشتركة، فمن عنده يهدي إلى الذي ليس عنده، وقد تكون عند فقير فاكهة ليست عند أبناء قريته، فهو لا يحجم عن أن يهديهم شيئا من ثمارها فيأكلون متمثلين: «سنة مباركة ورزق جديد.»
صفحه نامشخص
وأبغض شخصية في القرية هي شخصية البخيل الشحيح، وفيها يضربون الأمثال: «البخل كشاف العيوب وقاطع المحبة من القلوب»، و«البخيل بيموت عليل»، «البخيل بياكل من كيسه، والكريم بياكل من كيس غيره.» كما يقولون في الكريم: «الكرم مغطي كل عيب»، و«هين مالك ولا تهين حالك.»
وأحب الناس إليهم من كان جوادا، فالكريم المضياف: «كرم على درب، وبيته مفتوح»؛ وذلك لأن من عاداتهم أن المار يأكل عنبا وتينا من كل كرم يمر عليه، بشرط أن لا يأخذ معه شيئا، وإن أخذ أهين، وإن كبر رأسه ضرب.
إن الضيافة هي شعار القروي، ومن العار عليه ألا يقوم بواجب الضيف. قد تستخف بالقروي حين تراه وعليه ثوب العمل المهلهل، فيكاد يكون: «ما عليه من الخام ريحه.» ولكنه إذا لبس ثوب الاستقبال وأدخلك بيته البسيط النظيف، وقدم لك طعامه المعد أحسن إعداد ظننت أنك عند رجل لا صلة بينه وبين الحقول والمواشي. وإذا كان الضيف كبيرا ذبحوا له خروفا أو جديا، وإلا فدجاجة. وإن كان ممن لا يؤبه له قروه من حواضر البيت: الجبن واللبن والبيض، وكانت حلاوته التين. أما الذي يهرب من وجه الضيف فمثلهم يقول فيه: «الكلب لا يعرف بابه»، وإذا كان غنيا بخيلا قالوا فيه: «كلب محمل قروش.»
ومن أمثالهم: «الضيف له الكرامة»، و«ضيف المسا ما له عشا»؛ أي يقدم له من حيث كان، ويقام بواجبه على حقه في الغد؛ لأن الضيف: «أسير المحل»، فلا يبارح المضافة إلا مأذونا:
يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا
نحن الضيوف وأنت رب المنزل
كما قالوا: «الضيف المتعشي ثقلته على الأرض.» وإذا كان الضيف ثقيل الدم أو وقحا قالوا فيه: «ضيف وحامل سيف.»
أما الرجل الذي لا يرجى خيره ولا يتقى شره، فهذا عندهم لا منزلة له وفيه يقول مثلهم: «فلان لا يهش ولا ينش، وفشكة كر، لا بينفع ولا بيضر.» ولما كانوا - في ذلك الزمان - لا يعرفون صبغة اليود وغيرها من المضمدات قالوا في البخيل أيضا: «فلان لا يبول على أصبع مجروح.»
ومن قيمهم الأخلاقية المثلى عرفان الجميل؛ ولذلك قالوا في الذي يسيء إلى من أحسن إليه: «كل شيء تزرعه وتقلعه إلا ابن آدم، تزرعه فيقلعك.»
أما المحافظة على العرض فرأس مكارم الأخلاق عندهم، قد يقتل الرجل أمه أو أخته. وقد يتحمس شباب القرية فيقتلون واحدة أساءت السلوك؛ حفظا لكرامة الضيعة، لئلا يقال: في القرية الفلانية بنت أو امرأة عينها شاردة؛ ولهذا لا يسمحون للبنت بالاختلاء بمن يميل إلى تزوجها. وفي ذلك قال مثلهم: «اربط إيدك مليح تستريح.» والبنت ينصحها مثلهم بقوله: «عشيقك لا تأخذيه ومطلقك لا ترديه.» وإذا ماتت لهم بنت قالوا: «ماتت حرة ووفرت صرة.»
صفحه نامشخص
أما العلم - في القرية - فمنتشر جدا، وهم قديمو العهد به، فحد كل معبد مدرسة صغيرة تعلم القراءة والكتابة حتى يندر أن ترى أميين في القرية اللبنانية، وقد أضيف إليها حديثا مدارس حكومية، وديورة كثيرة استحالت مدارس عالية نشرت الثقافة منذ مئات السنين.
ليالي القرية ومواسمها
أشرنا إلى تعب القروي وكده في نهاره، ولا بد لنا من الإشارة إلى لياليه التي يحييها ليرفه عن نفسه. وهي تكون دائما صارخة حافلة بالأغاني؛ لأن كل ما في هذا الجبل يغني، العامل يشتغل ويغني، والحارث يغني خلف فدانه، والمكاري يغني وراء بغله وحماره، والراعي يغني ويترنم وينفخ في مزماره وشبابته، فيفرح قطيعه وسامعيه. ولا عرس ولا عيد ولا مولد بدون غناء وشعر، حتى يصح أن نسمي لبنان: جبل الزجل، فقلما عجز عن قول الشعر العامي أحد. وهذا الشعر يتناول جميع أغراض الشعر من غزل، ومدح، ورثاء، وحكمة، وحماسة، ومسرحيات، وملاحم، وفكاهة، وهجاء، ولعلهم يمتازون بالارتجال كما سيأتيك الخبر. •••
ليس للقرية مسارح ومقاه، فمسرح القرية ومقهاها بيت وجيه الضيعة، ولذلك قال مثلها: «الذي يعمل جمالا يعلي باب بيته»، ففي ليالي الشتاء السوداء، يلتفون حلقات حول نيران موقده، ويشربون القهوة ويأكلون النقل البلدي، من تين مجفف، وجوز، ولوز، وزبيب، وغير ذلك من الفواكه المحفوظة، ويغنيهم صاحب الصوت الرخيم منهم العتابا والميجانا والمواليا وغيرها، وقد تشارك المرأة في هذه الأغاني رجال الضيعة وشبابها، كما تشاركهم في تلك الأهازيج المحلية اللون.
ويطيب للقرويين أن يسمعوا أغاني الفروسية وأقاصيصها، فيصرفون قسما من السهرة في سماع إنشاد قصة «الزير أبو ليلى المهلهل»، فتعجبهم أخباره وحوادث فروسيته، ويطربون لأفعاله العجيبة، وعندما يترنم المنشد هاتفا بقوله:
وأول قولنا: نستغفر الله
إله العرش لا رب سواه
تطرب النفوس وتخشع لذكر الله حتى في مجال الهزل.
وتمشي القصة حتى تبلغ قتل الزير للسبع:
فرد السبع نحوي يا ابن خيي
صفحه نامشخص
فتح تمه ومد لي يداه
فضربته بسكيني قتلته
وقع مطروح من فوق الوطاه
فتتعالى الأصوات، وقد أعجبتها هذه البطولة الرائعة، ثم يمرون بالحكمة المنثورة في ديوان الزير، فيعجبهم قول المهلهل:
جبال الكحل تفنيها المراود
وكثر المال تفنيه العداه
وأما الكذب هو راس المعاصي
والكذاب لا تقعد حداه
وفي بيت وجيه آخر ينشد المغني شيئا من قصة عنترة، وفي ليلة أخرى يسمعون فصلا أو فصولا من تغريبة بني هلال، فيتمثلون الزناتي خليفة، ودياب ابن غانم، وأبو زيد الهلالي، وهكذا دواليك.
وتتعالى الأصوات بالهتاف حين يقول أبو سعدى:
صفحه نامشخص
يا سعدى أنا أكره دياب وذكره
كما تكره الخالة ولاد رجالها
وإذا كان هناك من تزوج أبوه غير أمه، كان الرمز والإيماء. وقد تنتهي السهرة إلى شجار، ولكن خارج بيت الوجيه أو الزعيم؛ لأن لبيته حرمة لا تنتهك.
وفي ليال أخر، قد يتسلون بحكايات أحبها إلى نفوسهم ما كانت حافلة بالغريب العجيب، كحكايات ألف ليلة وليلة. والحكواتي يمثل لهم الحكاية وحده، فهو يتقمص كل شخص ويحاكيه. وقد ينتقلون إلى الحزازير؛ وهي ألغاز وأحاج يعملون أفكارهم في حلها.
وقد يقومون بألعاب مضحكة مثل «زي عروستي»، و«اجعل مخزنك عبك»، وغيرها من المضحكات الساذجة المسلية حقا.
هذا في السهرات العادية، أما سهرات المناسبات الكبرى كالولادة والأعراس، فتعد من ليالي العمر. فإذا ولد لرجل مولود، حملوا إليه الهدايا من سكر، ورز، وبن وصابون، ودجاج. وأبو المولود يقوم بواجبهم، فيقدم لهم الخمور الجيدة، والعرق اللبناني المشهور، ثم يعد المآدب فيأكلون، ويشربون، ويسمرون، ويغنون داعين للمحروس بطول العمر.
أما في الأعراس فتظل الاجتماعات تعقد في بيت العريس أسبوعا بل أكثر، إذا كان الذي تزوج من أصحاب اليسار.
في تلك الساعة يشرب الناس ويغنون العتابا، والميجانا، والمعنى، والقرادي، والأغاني المختلفة. ويرقصون رجالا ونساء رقصة الدبكة على نقر الدفوف، وعزف المزمار، وقد ينتهي بهم السكر إلى المشاجرة، بل إلى سفك الدماء والقتل.
وللأعياد عندهم أهمية كبرى، فهي سوق مفاخر، وخصوصا عيد قديس الضيعة، حيث تستحيل القرية إلى مطعم عام، فكل واحد من القرويين يستعد لذلك اليوم، ويدخر له خير محصولاته ليقدمها إلى ضيوفه. فاللبناني القروي كريم مضياف، والقرية لا مطاعم ولا مقاهي فيها؛ ولذلك ترى القروي مستعدا دائما لاستقبال الضيف الطارق، وخصوصا يوم عيد القرية. ويرى كل واحد أنه من الغبن أن يقصر عن جاره، فتراهم يتنافسون في هذا، ثم يتفاخرون بعد ذلك بكثرة ضيوفهم، فمن كان أكثر ضيوفا يكبر في عين القرية. وعيد قديس الضيعة سوق عكاظ، بل يفوق سوق عكاظ بالشعر المرتجل الذي يتبارى فيه الشعراء المقبلون من كل ناحية لإحياء هذه الليلة، فيبنون شعرهم على وزن واحد وقافية واحدة، ويكون خطاب وجواب، يبدءون عادة بمجادلة بعضهم، وينتهون أخيرا إلى التهاجي الذي يسميه شعراء القرية قول جفا، وفي مثل هذا الموقف كثيرا ما تجري أقوالهم على أفواه الناس مجرى الأمثال، كقول أحدهم لمناظره:
لا البطيخ بيكسر سيخ
صفحه نامشخص
ولا الملفوف بيلوي سيوف
وقد تطول الجلسة ويضيق الحرف، أي القافية، فيلجئون إلى قافية جديدة.
والقرية، كما تغني وترقص في مواسم الأفراح، كذلك تفعل في المآتم والمناحات. وقد يستحيل المأتم إلى عرس صارخ حافل بالغناء المحزن إذا كان الميت شابا أو زعيما كبيرا أو أميرا، فتأتي كل قرية حاملة بيرقا ولكل قرية بيرق خاص، وتسرج الخيول، ويتبارى شعراء القرية في تعداد مآثر الميت وتمجيد أعماله، ولو كان غير مستحق، وتطلق العيارات النارية، فتخالك في فتنة صارخة أو في ساحة حرب. وكثيرا ما يثقل الدين البيت إذا ما مات منه أحد؛ لأن المبالغة في أبهة المناحة كثيرة التكاليف.
إن الغناء هو الهيكل العظمي في جسم القرية، وقلما يخلو مجتمع منه، ففي كل مناسبة يرفع القروي عقيرته مترنما. طبعا إن أغاني الفرح هي غير أغاني الترح، وكي نعرف القارئ بها سننقل نموذجا من هذا الشعر الشجي الباكي.
إن أغاني المآتم نوعان: نوع تقوم به الرجال - وهو ضرب من الحداء بلحن كئيب - ونوع تقوم به النوائح؛ أي النساء النادبات، وله إيقاع غير ندب الرجال.
فمن ندب الرجال قولهم في وجيه، عالم بالشريعة؛ أي محام:
انهزت أقطار العوالي
وانكسف قطب الشمالي •••
يا جبل عالي وراسي
يا مطفطف عالكراسي
صفحه نامشخص
كيف حالو بعد منك
رسم قانون الأساسي •••
خزقوا روب المحامي
وسكروا باب الشريعه
أما نواح النساء فمن نوع آخر ولحن آخر، وهذا نموذج منه:
بو شاهين يا بعدي
ويا بو شارب الجعدي
وعدت شاهين بالرجعه
ورحت وطابت القعدي
والقرية لا تخلو من المهازل أيضا، فهم يلجئون إليها في أيام خاصة، نذكر منها مثلا: «إثنين الراهب» وهو أول يوم من الصيام، فتخرج القرية بعد الظهر لاستقبال الراهب. كانوا فيما مضى يخرجون إكبارا له وإجلالا، وصاروا اليوم يمثلونه مهزلة، فيركبون شخصا مرتديا ثوب الرهبان، وله لحية عارمة على الدابة بالمقلوب؛ أي وجهه لجهة ذنبها، فيقودها أحدهم والجماهير تتبعه، فيطوفون به في الأزقة والدروب هازئين ساخرين.
صفحه نامشخص
وهناك أيضا يوم البربارة، فهو أشبه سخرية بيوم إثنين الراهب، ولا بد في الحفلتين، بل في كل حفلة قروية من الغناء. وهكذا يغنون في يوم البربارة طائفين على أبواب الأجاويد ، فمن أعطتهم وجادت، غنمت المدح، ومن بخلت كان حظها الشتم.
هيلجي برباره
والقمح بالكواره
هيلجي هيلجينا
أيش ما كان عندك اعطينا •••
شيحه فوق شيحه
صاحبة البيت مليحه •••
خليه فوق خليه
صاحبة البيت نوريه
وقد لا تنتهي هذه المواسم على خير.
صفحه نامشخص
أما المرفع فهو موسم سكر وأكل لحم، وزواج. يعلف القروي كبشا، أو قرقورا، أو جديا، أو تيسا، يسمونه مرفعية، ويأكلونه خلال أسبوع تنتهي مدته ببدء الصوم. وإذا فضل عنهم شيء قددوه وحفظوه ليوم عيد الفصح وما بعده. إن هذه العادة قد أذنت بالزوال، وأراحت القرية من حوادثها الدامية.
أما الأعراس فتكثر في هذه الفترة، لأن الكنائس الشرقية لا ترخص بالزواج زمن الصوم.
وأخيرا، إن عادات القرية وتقاليدها وثقافتها التي تعرب عنها أمثالها وأغانيها، تضيق عنها المجلدات، وما دامت القرية الواحدة تعرف ما لا يقل عن خمسة آلاف مثل، والألوف المؤلفة من الأغاني، فكيف يمكن أن توصف في كتاب واحد؟
فسبحان من عدد مظاهر الثقافة، وشكرا له!
اللهجة العامية اللبنانية
كنت - ولا أزال، وسأظل - عدو الاثنين: الداعي إلى إحلال اللهجة العامية محل اللغة الفصحى، والقائل بكتابة اللغة العربية بحروف لاتينية.
كلا الأخوين أضر من أخيه، أيجهل هؤلاء الدعاة أن لكل جيل من الناس لغتين؟ لغة يجري بها القلم، وهي مادة الكتاب، والكتاب سجل المدنية الخالد، ولغة تدور على الألسنة، وبها تتفاهم الأمة المختلفة الأقاليم؟ أذكر ولا أنسى أبدا أن واحدا من بني عمي تزوج أميركية وجاء بها إلينا، فحاول أحد طلاب المدارس أن يحدثها باللسان الإنكليزي، فلم يفهم عنها ولا فهمت عنه، إلا: «يس وأوريت، وغود مورني.»
وزارني، منذ أعوام، مراكشيان فما تفاهمنا إلا بالفصحى، وأذكر مرة أخرى أن أحد المهوسين باللهجة، قرأ لي محاضرة كتبها بلهجتنا العامية، متوقعا مني ثناء طويلا عريضا، فقلت له هذه الكلمة: خطابك جميل، إلا أنه يحتاج إلى ترجمة، فاحمر وجهه.
وبعد، فقد تكون لهجة لبنان العامية أنقى اللهجات، وأقربها إلى الفصحى لانكماش اللبنانيين وتقلصهم في جبالهم الوعرة، غير المرغوب باستيطانها. هذا ما كان، أما ما سيكون فمن يدري؟ إن سهولة المواصلات، ومطامع الشركات، والمهاجرة من ... وإلى، قد تؤدي إلى إفساد لهجتنا، والله أعلم.
إذا سمعت لبنانيا يقول للخادم خذمتشي، فاحكم حالا أنه غير جبلي، فعلى ألسنة اللبنانيين تدور تعابير قرشية النسب لا تحصى، وإليك بعض ما يحضرني منها: «قطعنا له ثيابا»، «من كل فج عميق»، «أساور من ذهب» ... «لولا كلمة سبقت»، «اسم الله عليه»، «لا تقع السماء على الأرض»، «ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم»، «سبق عليه القول.»
صفحه نامشخص
إن هذه التعابير من كلامه تعالى، ولساننا يجري بها حتى الساعة. فاللبناني لا يعرف مضغ الكلام، وقلما رأى في ضيعته الأعاجم، وإن مر بها واحد فكمر السحاب. اجتمعت في أخريات هذا الصيف بمحمد الأمير، أمير بني ربيعة، فقال لي: إن لهجة لبنانكم أقرب اللهجات إلى لهجتنا، وإننا نفهم عنكم أكثر مما نفهم عن سواكم.
نعم، إن ابتعاد اللبناني وانفراده، حملاه على أخذ مسمياته من أفعالها، فقال: فلاح، وفاعل، وأطلق على القد - الذي تشد به الحلقة إلى النير - اسم «الشرع»، تأمل ما أجمل وأدل هذا الاسم على ما يعدل به الفلاح بين ثوريه، فلا يحمل واحدا منهما فوق طاقته! وهو يسمي الأداة التي ينكز بها الفدان «مساس» لأنه يمس بها مسا، ففي رأس المساس نصل كنصل الرمح، والمساس رمح الفلاح، وساحة طعانه حقله. أما الآلة التي يضرب بها ضربا فيسميها «صاموطة»، وكأنه اشتقها من السمت، ومعناه الخط الذي يريد أن يرسمه.
لم يدع قدماؤنا - حتى المتأخرون منهم - هذا النهج في مسمياتهم، فقالوا: «أبو الركب» في حمى الضنك. أما اليوم، فأخذ بعضنا يقول: كورب، ومكورب، من كلمة كريب؛ أي مصاب بالرشح. كان القدماء، إذا تعذرت عليهم التسمية، لجئوا إلى المجاز، طابعين على غرار جدودهم، يسمون الشيء باسم جزء منه، فقالوا: «لستيك» لنوع من الأحذية.
ومن هذا الطراز قولهم لمن رأوه في بحران وسهو: «مسطول»، و«قاعد مثل السطل» «لا يهش ولا ينش.» ويقولون للخفيف الرأس: «مشتول»، وعلى هذا الغرار قالوا للقصبتين المضمومتين: «عنيق»؛ لأن عنقهم ينتفخ عند النفخ للغناء بهما، أو يسمونهما «قصب» باسم جنسهما، كما يقولون للمريض: «ساخن» من السخونة. ومن تسميتهم الحسنة قولهم: «كف ورق»، لخمس طلاح ويلفظونها «طراحي». ويقولون: «حص توم» وفي الحص لغويا معنى الكثرة. ويسمون أحد أجزائه «سن توم» لما بينه وبين السن من تشابه. ويعجبني منهم نهجهم في الأسماء والألقاب والكنى نهج العرب، فلقبوا واحدا «الصبح» وهو أكمه، وسموا آخر «العيوق» وهو يكاد يكون مسخا، وكنوا رجلا «أعشى» ب «أبو ضو» كما قال العرب: «أبو بصير». وأرى أيضا في تسمياتهم ذوقا مرهفا حين يسمون النونة والفحصة «غمازة»؛ وهي نقرة تبدو في الخدين عند الابتسام وكأنها تغمز. ويعجبني أكثر من ذلك هربهم من الحروف الثقيلة كالذال، مثلا، فإما أن يلفظوها دالا أو يحذفوها بالكلية، فيقولون للماهر في مهنته: «أصطا» بدلا من أستاذ، وللساذج: «سادا» رادين هذين الحرفين إلى أصلهما الفارسي.
قال أحد المتمشرقين: إن أهل لبنان يلفظون الذال دالا، فصدق، ولكنه مثل على ذلك بإذا، فضل كعادة زملائه، فليس هناك لبناني يقول: إدا.
إن العوام، وخصوصا اللبنانيين، أعداء كل حرف ثقيل، فأكثرهم يلفظ القاف همزة، كقولهم: «اسكت بأى» وهم يحذفون الهمزة حذفا كاد أن يكون إجماليا فيقولون: «جا، وجايي، وجينا»، وإذا سمعت لبنانيا يعكس همزة جاء ويقول: «إجا»، فاعلم أنه غير جبلي أصيل.
ومن خصائص اللهجة اللبنانية النحت والقلب والإبدال، ولنقل: الاختزال واللز إن صح التعبير. فيقولون: «أيوه»، في أي والله، و«إسا ولسا»، في الساعة وللساعة، و«هلق» في هذا الوقت، و«بدي»، بدلا من بودي، و«أيشو»، في أي شيء هو. وفي الشوف يقولون: «شو» بدلا من أيش. أما من يقول: «شونو» فمتحذلق. إن اللهجات في لبنان تختلف باختلاف الأقاليم اختلافا جزئيا، ومن اختلاف اللهجات نعرف الأقاليم، ومن اختزالهم قولهم: «تعاتا ناكول»؛ أي تعال حتى نأكل. و«هو» بدلا من هؤلاء، كقول الخادمة: «بدي كنس هو»؛ أي بودي أن أكنس هؤلاء. وكقولهم: «أينو»، في أين هو، و«هيك» في هكذا، و«ليك» في إليك، ويلحقون بها الهاء فيقولون: «ليكو »؛ أي إليكه، و«ليكا»؛ أي إليكها، و«ليكن»؛ أي إليكم وإليكهن، وعلى نسقها تجري «معليك»؛ أي لا عليك.
أما الضم المشبع في عين المضارع وغيرها فمرده إلى اللغة السريانية التي طلقوها منذ قرنين أو أقل، وهذا الضم أشيع ما يكون في شمالي لبنان. وها نحن نصفي حساب السريانية دفعة واحدة. يقول لك اللبناني الشمالي، وسيان في ذلك المسلم الطرابلسي، والمسيحي الأهدني: طرابلس، صابون، ويقول: نحنا. أي نحن، فكأنهم يردونها إلى أصلها السرياني إحنا، مستبدلين النون بالهمزة عدوتهم، وبعضهم يلفظها على حقها السرياني: إحنو. ويقولون: هيدي؛ أي هذي هي، فكأنها من هودي السريانية، وعندما يقولون: هيد فهي ترخيم هودي السريانية. ويقولون: هاي؛ أي تلك، فكأنها هي السريانية. ويناديك أحدهم: هو، بدلا من ها العربية، فكأنه يردها إلى هو السريانية. وتحويل الذال دالا هو من نوع رد الألفاظ إلى سريانيتها، فيقولون: حدا في حذاء، وحدوة في حذوة، ويحولون أيضا الضاد دالا فيقولون: ركد في ركض، وأحيانا يلطفون فليفظون الصنارة: سنارة. وبعكس ذلك يقولون: قصمة في قسمة. أما الابتداء بالسكون في كسروان والشمال، فأثر سرياني، يقولون: حديد، حليب، سليم. وقولهم: إيدين في يدين، وإيد في يد، سرياني أيضا. وكذلك قالوا: أبهاتنا في آبائنا، وبسببها تندروا على الكهنة فسموهم أب هات. وكذلك يلفظون الكرسي: كورسي بالضم العنيف؛ لأن سريانيها كورسيو. وكثرة النون في اللهجة اللبنانية مصدرها سرياني، فقالوا: هني بدلا من هم. ويقولون: ضربتن قتلتن، وكيفن أهل البيت، بدلا من كيف هم، فميم الجمع العربي نون في السريانية.
يقول لك الشمالي: إلو بدلا من إلا، وهي آلو السريانية، ويقول بعضهم: أيمات، وأيمتان، وأيمتى، وهي بلا شك من آمات السريانية بمعنى متى الاستفهامية. وأظن، لا بل أجزم، مخالفا الباحثين جميعا، أن لفظة «كمان» العامية بمعنى أيضا هي أكمن السريانية، حذفت منها الهمزة، وقول المكاري اللبناني لدابته: هش، هو من هوشو السريانية، وهي بمعنى الآن، وكذلك قولنا: برا وجوا فهما لفظتان سريانيتان.
ولا يزال الشمالي حتى اليوم يلفظ: لا، بالضم كما هي في السريانية. وكذلك يلفظون : يه، بمعنى إيه. ويلفظون: ما بينام بضم النون. ويقول لك: مروق أي مر، ونطمور؛ أي نطمر، وهما سريانيتان.
صفحه نامشخص
أما وقد شبعنا من هؤلاء، فلنعد إلى الهمزة؛ إن عداوتها حملت اللبناني على استعمال الصيغة السريانية فقال: بلاع وزراع في ابلع وازرع، وهما سريانيتان، وقاسوا عليهما الأفعال العربية فقالوا: دفاع وقطاع، في ادفع واقطع. ويقولون: منعطوف عليه، وهو مضارع سرياني بلفظه ومعناه. ومن نوع هذا الضم المشبع قولهم: ضروب، في اضرب، وكذلك يلفظون: ناطور بضم النون؛ لأن أصلها السرياني ناطورو. وتقابل عداوتهم للهمزة صداقتهم للنون فيقولون: مرين في مريم، وانتلا بدلا من امتلا، وعلى قاعدة العرب يلفظون النون ميما إذا تقدمت الباء الساكنة فيقولون: شو هو ذمبي؛ أي ذنبي، وإذا تحركت هذه النون لا تلفظ ميما.
إن هدف العامة هو الخفة، فألين الحروف أحبها إليهم. وقد أدرك العرب ذلك فجعلوا النون الناعمة لجمع الجنس اللطيف، أما احتجاج سيداتنا وطلبهن، أن يخاطبن بالميم، ففي غير محله، فليدعن الميم لأصحابها وحسبهن النون.
وقد أدت عداوة العوام للهمزة إلى استعمال الباء بدلا منها فقالوا: بدرس، بنام، بلعب. أما قولهم: عمبنام فهي اختزال عمال بنام. ويقولون: منضرب عند التقاء الباء والنون. وهم يستعملون الميم أحيانا بدلا من «ال» فيقولون مبارح، ومبارحا في البارح والبارحة. وبعضهم يقول: منيح في مليح. وفي بعض نواحي لبنان يفكون إدغام منا فيقولون: مننا.
وكما يختلف معنى اللفظة الواحدة عند قبيلتين عربيتين كذلك حصل عندنا، فمعنى عيط في فلسطين بكى وانتحب، أما عندنا فمعناها صاح وعربد. وكذلك بسط فإن معناها في العراق يختلف عن معناها عندنا.
والهاء عدوة العوام الثانية فيقولون: عطيتو بدلا من أعطيته. وكذلك الميم في مواضع، فيقولون: أنتو بدلا من أنتم. وقد يقلبون الهمزة ياء ليخزوا عجرفتها وتصدرها الأبجدية فيقولون نكاية لها: خد هدا يما هدا. ويقولون: لمن بتجي، حبا بنونهم الموروثة. وحبا بالضم الموروث أيضا يقولون: هون وهونيك في هنا وهناك. ويقولون: لهو فلان؛ أي لهجة فلان، وأظنهم اشتقوها من اللهاة هربا من ضخامة الجيم. ولفظ الثاء تاء كثير عند عامتنا، يقول لك المعاز: عندي تنيه، وتنيان ويوم التنين، في ثنية وثنيان والإثنين. ويلفظون الظاء ضادا، فيقولون: ضل على رأيك؛ أي ظل، ولكن هذا لا يطرد كما يطرد في الذال والثاء. ويفضلون مرق على مر فيقولون: دوبو مرق؛ أي دأبه مر. والبعض يقولون: مهنتس بدلا من مهندس. وهم يحذفون ما يستثقلون، فيقولون: زيرة بدلا من جزيرة. وللخفة، يلفظون التاء المربوطة ألفا، فيقولون: صورا، وغندورا. وأحيانا يثقلون فيقولون: ماضام ومضالية، في مدام ومدالية، ويقلبون هذه التاء ياء، فيقولون: شوكي أي شوكة، وحينا يقلبونها ألفا، فيقولون: من أيا جها جيت.
وهناك قلب آخر في مثل قولهم: «جوز، ريلا، إجر» في زوج وليره ورجل. وقد يزيدون حرفا للتكبير فيقولون: رجال، ويصغرون فيقولون: يا خيي ويا خيتي، في يا أخي ويا أخيتيي، ومن تحريفهم قولهم: ضم أو تم أو ضل عندنا؛ أي ابق. ومن اختزالهم للاستفهام عن الثمن قولهم: بقديش؟ أي بقدر أي شيء، ومثلها لاش وماش وبلاش، أي ما شيء ولا شيء وبلا شيء.
وأغرب ما سمعت هذا التحريف: سمس، ظرص زوز؛ أي شمس وجرس وزوج. كما يقولون: يا ريتو بدلا من يا ليته، ويحرفون كلمة فم فتصير تم، ويقولون: سد تمك أو بوزك، وبوز سريانية مستعربة. وكذلك يقولون: مهبول ومبهول وبهله. ومن تليينهم قولهم: بدي يحكي؛ أي بدأ يحكي. ومن إدغامهم ولزهم وصرهم ما يفعلونه باسم الموصول فيقولون: إلي ضرب، ثم تصير ال فيقولون: مين إلضرب، وهذه المين والمان سريانية. وهم يكتفون أحيانا بالهاء فقط عن هذا فيقولون: بتروح تقول لفلان يجي لعندي، ويتركون الباء فتصبح الجملة دعائية كقولنا: الله يحفظك، وتذكر الباء فتصير خبرية كقولنا: الله بيحفظك.
ويستعمل عوامنا كالعرب كلمات لا معنى لها فيقولون: كان بان، أو كان مان، وخبز مبز، كما قال العرب: حسن بسن، وحياك الله وبياك.
وهناك من ينقل حركة الحرف الموقوف عليه إلى ما قبله فيقول: كنت عند بكر، وتختلف حركات بعض الكلمات باختلاف الأقاليم والقرى، فمنهم من يفتح، ومنهم من يكسر، ومنهم من يضم، فيقول بعض البيروتيين: فهمت علاي، ويقول غيرهم: فهمت علي.
وقد دخل مؤخرا بعض ألفاظ فرنسية وإنكليزية لا داعي إلى ذكرها كما دخل قديما ألفاظ مثل كندره، وبوط، وسكربينه، أما مشايه فاشتقوها من المشي. ومن شاء أن يتعرف جيدا إلى اللهجة اللبنانية، فليقرأ جرائد الزجل التي تكتب باللهجة اللبنانية الأصيلة مثل مرقد العنزة، وليصغ كل يوم إلى ما يذاع من المحطات المختلفة.
صفحه نامشخص
الشعر العامي اللبناني
في هذا الجبل موسيقى داخلية لا تنقطع أبدا، موسيقى بعيدة القرار، عذبة الهينمة. فمن غابة توشوش وتهمهم، إلى واد يترنم، ومن نهر يثرثر، إلى كهوف ناطقة كالببغاء، أنغام أجراس كبيرة وصغيرة، منها ما يتأرجح في القباب، ومنها ما ينوس في الرقاب، رقاب الدواجن على اختلاف أنواعها، رنات تحيا وتموت رويدا رويدا، موسيقى آبدة لها طعمها ولونها، لا تطفر على الذرى حتى تهبط إلى الأودية، فتتغلغل في ثناياها قاطعة طريقها إلى اللانهاية.
اللهم رحماك! لقد استيقظ مارون عبود العتيق، ولكن ما يضر، فلنمض في أسلوب هجرناه وتنكرنا له، إن لكل شيء في لبنان موسيقاه الهائمة في منعطفاته، التائهة في التواءاته، المندسة في الآبار والهوى.
الجماد، والنبات، والحيوان، والإنسان، يتعاونون في لبنان تعاونا لا تشوبه السياسة، فيؤلفون جميعا موسيقى لاهوتية، توقظ الناسوت الكامن وراء اللاشعور.
إذا استيقظت في لجة الليل فلست تظفر بسكوت تام إن كنت ممن يسمعون، لا بد من شيء يناجيك فتشرئب حواسك الهاجعة، وتثور عاطفتك المهومة إذا كنت لشيء آخر في الليل تسهر، أشباح وهمسات تهبط مع الندى، وضبابات تسربل القمم فتعممها، فتهيم وعليها أبهة المحرم وجلاله، ثم ترتفع محتشمة، جارة أذيالها بوقار لتتحول في الأعالي صورا وتماثيل لا عيب فيها غير أنها لا تدوم.
أما الفجر الرمادي فيصب في نفسك ذوب ترانيمه وطيوبه فتسكر ولا تفيق، حتى يقبل القرص الذهبي فتخاله في متناول يدك، لو تطاولت قليلا.
إن الشمس في معظم القرى اللبنانية، وخصوصا في ضيعتنا، قريبة من الناس، فنحن وهي في مناجاة أبدية، لا تبتعد عنا إلا إذا اعتدل ميزان النهار ثم تعود إلى الدنو منا لتودعنا، ولكننا لا نلتقي، فكأننا طفلان يلعبان على رمل الأبدية ولا يدرك أحدهما الآخر.
أما أعراس لبنان فكثيرة؛ هنا راع ينفخ في شبابته أو يرقص أصابعه على حجرات قصبتيه المضمومتين. وهناك مكار يزمجر بالعتابا، ويترنح بالميجانا والمعنى والمواليا والروزانا واليادي اليادي على إيقاع أجراس بغاله وجلاجل مركوبه. وفي هذا المنحنى امرأة تنتجع لأهلها الهندباء والخبيزة والقرصعني والحماضة والكراث وهي تنوح على فقيد عزيز، وإذا قعدت في بيتها تنقي القمح والبرغل من الزوان والشيلم غنت طروبة ولسان حال سامعيها يقول: «خليها تنقي وتغني، ولا تسلق وتنوح!» حتى إذا ما بكى صغيرها هزت له السرير وغنت مموتة صوتها لينام على سرور:
نم لله يا عيني
وعينك عز من عيني
صفحه نامشخص
وعينك عز من حبقه
وحبقه جوات جنيني •••
يا لله ينام ويا لله ينام
تدبحلو طير الحمام
يا حمامات لا تصدقوا
عمبضحك عا ابني تاينام •••
الله الله يا دايم
تحفظ عبدك النايم
الله الله يا الله
ابني يحفظه الله
صفحه نامشخص
ابني يحفظه يسوع
والعضرا تحفظه يا الله
وهناك فتاة سمراء ترقص حول أهدابها مردة الأنوثة، وتسبح في بركتي عينيها جنيات الهوى، وقد هاجتها الذكرى فرفعت صوتها العذب بأناشيد جبلية، كأنها أغاني الساروفيم حول عرش الراكب على الكاروبيم، صاحب الحول والطول.
وهناك حطاب يوقع أبيات «القرادي» على ضربات فأسه، فتتعاضد الأصوات، وتتحد فتخلق موسيقى الغاب، ويهب الصدى إلى نجدة الاثنين، فيسبح السامع في عالم الأحلام والخيال، وإذا شعر أن هناك من ينصت إليه، انتخى وعرض صوته بلسان شاعر الضيعة، أميل مبارك:
بتسألني: شو في عندك
بالضيعا حتى مهتم؟
عندي أحسن ما عندك
عندي بسط وعندك هم
عندي البيت الرباني
والمعبور وكرم الدرب
صفحه نامشخص
وعندي قدحة وصواني
والضبوة وتتنات الفرم
في عندي القعدي بكير
تحت صنوبر ضيعتنا
وترويقة قرة وجرجير
بتسوى الغربي وعيشتنا
عندي خلف البيت جبال
بتفيي عا عريشتنا
ويا ما فيها اصطدنا حجال
ويا ما سرحت عنزتنا
صفحه نامشخص
ويا ما عبينا السلي
تين أسود من تينتنا
ويا ما لعبنا عا التلي
نحن وبنات جارتنا
وإذا مررت أمام هيكل سمعت ألحان الكاهن التائهة في حنايا الكنيسة وسراديبها، الشماس يوقع ضربات ناقوسه على ترتيله، والخوري يرن ويعول. وإذا كان القداس يوم أحد أو عيد كبير فهناك صنوج تزعق وتفر أصواتها حتى تملأ الآبار العتيقة فتنتعش وتحيا.
ولا ننس الأصوات الرخيمة التي تنشرها المآذن، إنها تنتقل من سطح إلى سطح، فتجتاز الأبعاد والآماد حتى تلج أعمق أعماق النفوس، فتطرب وتهدي وتحيي عظام النفوس وهي رميم، سبحانك اللهم كم جمعت في لبنان من جمال! لو كان لنفوسنا منه قسم وافر، لكنا خير بقاع الدنيا.
أما قال شوقي في لبنان:
لبنان والخلد اختراع الله لم
يوسم بأبهى منهما ملكوته
أجل إنها موسيقى تصادفها أنى مشيت، فالأوابد من طير وحيوان لا تتوانى قط عن اقتناص الطرب، وهي أيضا، كناس لبنان، فرحة، جذلة، مرحة. فبينا أنت ماش تفكر، إذا برف حجال يتكلم، أو يفر، فترتعد وتبدأ بين حنايا ضلوعك موسيقى قلبك الرعاد، ثم يناجيك حسون معتذرا عن إساءة الحجل وفظاظته.
صفحه نامشخص