هذا عالم ما كنت تحلم به لولا إسراع ما في لبنان إلى نجدتك ونقلك إلى دنيا المعاني، لا شيء صامت في الجبل، فمهما حاولت أن تظفر بدقيقة صمت، فإنك لا تجدها أبدا إن كنت من المتأملين والملاحظين، فكل ما في لبنان يوحي الشعر، بل هو كله شعر أزلي، فسبحان الشاعر الأعظم، ناظم هذه القصيدة الخالدة! يكاد أن يكون كل لبناني شاعرا، وما أشبه اللبنانيين بإخوانهم الأندلسيين الذين قالوا الشعر جميعا. إن للمحيط أكبر يد في إيقاظ الشاعرية الكامنة، وإذا كان للأندلسيين الكان ما كان والقوما، والدوبيت، فللبنانيين العتاق: الميجانا «يا ماجانا»، وهلا بالورادا، «أهلا بالواردة»، والعتابا «العتاب»، والمعنى، أي شعر الوجد والهيام، وجميع أنواع الزجل.
لقد حان لنا أن نعير هذا الشعر الطبيعي شيئا من اهتمامنا، فشعراؤه يغنون لنا أبدا، ونحن صامتون لا نقول لهم: عاشت الشباب! إننا معهم ككافور مع أبي الطيب، الشاعر يغني كل حين، وكافور يشرب ولا يدع في الكاس فضلة ...
عشتم يا إخوتي، فأنتم شعراؤنا، إن شعركم منبثق من نفوسنا، من قلوبنا، من أعماق حياتنا، من ظلمات أوديتنا، وثرثرات أنهارنا وجداولنا، من أضوائنا وظلماتنا، من عرازيلنا وخيامنا، من يقظة عجائزنا، وأحلام صبايانا. إنه منسوج من خيوط شمسنا الذهبية، لحمته من رواء البنفسج، وسداه من خيوط القلوب، وحياته الفنية من هواء هذا الجبل المتصوف ومائه. لقد زال تعجبي من تذوق الرواة للشعر الجاهلي، بعدما رأيت إعجاب الناس بهذا الشعر العامي، فإعجاب الأعراب بالشعر القديم متأت عن شعورهم التام بما سمعوا، الشعر الجاهلي منبثق من حياتهم ومن لغتهم التي تصور محيطهم أصدق تصوير، ومن لهجتهم التي ترسم لهم الصورة ناتئة بارزة، وما الألفاظ إلا ألوان وأصوات وأحياء وحركات، عند من يحسها ويدركها. إن الشعور بالحياة وإدراكها الكامل لا يكونان تامين إذا عبرت عنهما بغير اللغة الدائرة على الألسنة، وبهذا يثير شاعرنا العامي النفوس، إثارة يعجز عنها أكبر شعرائنا «الرسميين».
إذا أنشد الشاعر العامي قصيدة في حفلة تهتز المقاعد والكراسي استحسانا، وتموج الرءوس كالأغصان تحت أذيال النسيم الولهان.
إن ما يوحيه إلينا الزجال لا يأتي بشيء من مثله شاعر اليوم، الذي يستوحي الكتب، ويعبر للناس عن الحياة بألفاظ يدركونها ربع إدراك.
إني أرى صورة حية، نابضة، راقصة، ملونة في هذا الشعر، ولهذا أراني أعيره هذا الاهتمام. قد سبقت مني كلمة منذ أعوام حذرت بها الشعراء الفصحاء، وحثثتهم على الدنو من الحياة خوفا عليهم من هذا الشعر النابض. واليوم أرى أن هذا الشعر قد استقام، واستوى، فأمسى أدبا قائما برأسه، صار فنا له تعابيره، وصوره، واستعاراته، ورجاله، وخياله، وتشابيهه وكناياته، وبديعه، واسمحوا لي أن أقول أيضا: ووزنه، وعروضه، وأساليبه، فكيف نعمى عنه إذن، وكيف نتجاهله؟
ألأنه غير معرب؟ ألم يكن الشعر الجاهلي مثله في ذلك الزمان؟ يدهشني ما أراه من تطور سريع في هذا الأدب الشعبي حتى كدت ألمس مدارسه من كلاسيكية، ورومنتيكية، ورمزية، وهذا ما سنتحدث عنه في قابل. فمن يفتش عن تاريخ عروبة لبنان، فليطلبها في هذا القول، فهو ابن عم الشعر الفصيح إن لم يكن أخاه. إنه شاهد عدل على حب هذا الوطن للغة الضاد حتى تعاونت جميع طبقاته على إحيائها والإبداع فيها.
لقد ظفر هذا الشعر بجرائده الخاصة به، بأنديته وعصاباته، وله حفلاته التي تملأ النفوس طربا، وله تناطح شعرائه حول الإمارة، فهو شعر يباري شعرنا الفصيح ويبزه في الإيحاء؛ لأنه منبثق من قلب الحياة والواقع، ويستمد خياله الحلو من محيطنا الذي ألفناه، والمرء على ما يألف، فأشد البنين حبا لوالديه أكثرهم إلفة لهما ... وإلا فلا أبوة ولا أمومة!
إن لهذا الشعر عباراته التي تخرج من أفواهنا لتقع في نفوسنا، وتؤدي لنا المعنى غير منقوص. وقد رأيت آفاقه تتسع، وغايته تذهب إلى المدى الأبعد، تنظم فيه الأقاصيص، ويحاول تصوير الوقائع، حتى قطع أشواطا مديدة في زمن قصير.
قال الجاحظ: «متى سمعت، حفظك الله، بنادرة من كلام الأعراب، فإياك وأن تحكيها إلا مع إعرابها ومخارج ألفاظها، فإنك إن غيرتها بأن تلحن في إعرابها وأخرجتها مخرج كلام المولدين والبلديين، خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير. وكذلك إذا سمعت بنادرة من نوادر العوام، وملحة من ملح الحشوة والطغام، فإياك وأن تستعمل فيها الإعراب أو أن تتخير لها لفظا حسنا، أو تجعل لها من فيك مخرجا سريا؛ فإن ذلك يفسد الإمتاع بها، ويخرجها من صورتها، ومن الذي أريدت له، وتذهب استطابتهم إياها واستملاحهم لها.»
صفحه نامشخص