ويقول طه: يا آبا ...
وقبل أن يكمل يقاطعه الشيخ إبراهيم قائلا: لا تطل وهلم بنا.
ويقصدون جميعا إلى الغيط ومعهم عبد الغني وعبد الباقي عمارة وحين يقتربون من الغيط يجدون الماء فيه فعلا، ولكنه ماء من يريد أن يروي لا من يريد أن يغرق، وما لبثوا أن تأكدوا أن الماء يجري في غيطهم تجريه يد صانع تحنو على الأرض، وتعطيها من الماء ما يكفيها دون زيادة أو نقصان، ووجدوا علي يقوم بري الغيط في هدوء وسعادة، وينظر خمستهم بعضهم إلى بعض ويبتسم الشيخ إبراهيم ولا يقول شيئا لهم وإنما ينادي من أقصى الغيط: ماذا يا علي؟
ويأتي علي مسرعا ويمسك بيد الشيخ إبراهيم: سامحني يا عم الشيخ إبراهيم. - لا عليك يا بني. - خجلت منك بعد أن انصرفت فرحت أروي الغيط وحدي لعلي أرضيك وأرضي نفسي.
ويلتفت الشيخ إبراهيم إلى ولديه: انزل يا محمود أنت وطه مع أخيكما وارويا معه أرضنا حتى إذا فرغتم فارويا معه أرضه.
ويتقدم الأخوان من علي وما يلبثان أن يعانقاه ثم يأخذ ثلاثتهم سمتهم إلى جدول الماء.
وينصرف الشيخ إبراهيم وفي رفقته عبد الغني وعبد الباقي صامتين.
الفصل الخامس
إنعام، وجه مستدير وعينان واسعتان تنظران إلى الدنيا في جرأة وبغير اهتمام، وأنف كبير بعض الشيء وشعر أسود فاحم غزير ينسكب من المنديل حتى ليغطي رقبتها الطويلة، وهي ذات قوام فارع يميل إلى النحافة، تركها أبوها عبد العليم وهي بعد طفلة، ولم تكن أمها ذات جمال، ولا هي ذات مال، فراحت تعمل في القرية طولا وعرضا تجمع ما يقيم أودها وأود ابنتها فلا تكاد، ونشأت الفتاة وحيدة، واستقبلت الحياة أول ما استقبلتها وقد أدركت أن ليس لها في هذه الحياة إلا نفسها فاعتمدت على نفسها هذه كل الاعتماد، وحين شبت عن الطوق ضربت في غمار العمل، وتعلمت، تعلمت كل شيء عن الرجال، فقد أدركت أنهم هم الذين يسيرون هذه الحياة وفق ما تشتهي آراؤهم وعقولهم فلم تجد أي فائدة أن ترضي النسوة، بل وجدت الفائدة كل الفائدة أن يرضى عنها الرجال، ووافق العلم الموهبة فإنها حين بلغت الثالثة عشرة عرفت كيف تبدو جميلة، وعرفت كيف تحسن الابتسامة، وكيف تتقن الضحكة بل كيف تجمل التجهم، إذا أرادت التجهم، على قطعة من مرآة كسورة في زاوية من زوايا بيتها، كانت إنعام تقوم بالتمرين اليومي وكانت تطبق ما تفعله في البروفة بينها وبين مرآتها على مسرح الحياة الكبير، فما إن بلغت السادسة عشرة حتى كانت حديث الشباب في القرية جميعا.
لم تكن أجمل فتيات القرية، ولكنها كانت أقدر الفتيات فيها على إرضاء رجال القرية جميعا، فللشيخ المسن عندها ابتسامة تعيد إلى نفسه ما انقضى من شبابها، وللشباب المغرور ضحكة تؤكد ثقته بنفسه وللجميع، لها مشية تلتقط الأنظار التقاطا فتجعلها تتبعها إن هي أدبرت أو تستقبلها إذا هي أقبلت.
صفحه نامشخص