الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
صفحه نامشخص
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
صفحه نامشخص
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
صفحه نامشخص
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
شيء من الخوف
شيء من الخوف
تأليف
ثروت أباظة
صفحه نامشخص
الفصل الأول
خالجه نفس الشعور الذي يخالجه كلما ركب القطار في طريقه إلى القاهرة. كان يتحرى دائما أن يتخذ مكانه بجوار النافذة، لا يرفع نظره عن الحقول المنبسطة المترامية الأطراف لا يحد الحقل إلا حقل مثله، وإن تباينت أنواع المزروعات واختلفت.
وكان يشعر دائما أن هذه الأرض جميعها ملكه وأنه نبتة منها، ولكن نبتة خالدة باقية لا تحصد ولا يعاد زرعها، وإنما هي نبتت منذ ملايين السنين ثم بقيت. كان يخيل إليه أنه يعرف أغوار هذه الأرض، وأنه كان في يوم ما في داخلها تحنو عليه أعماقها وتدفئه حناياها ويمده بالسقيا ماؤها حتى إذا انفجر إلى السطح كان هواء هذه التربة هو الذي يمده بالحياة، لم يكن هذا الشعور يخالجه وهو في قريته؛ فهي أضيق من أن تتسع لهذه الفكرة، وإنما كان يحس بها دائما إذا ما انفسح أمامه الوادي وانطلقت عينه إلى ما لا نهاية من الأرض حينئذ كانت هذه المشاعر تثب إلى نفسه خفيفة في أنحاء شتى من كيانه فلا يدري مأتاها.
وكان يخيل إليه أنه فلاح من هؤلاء الفلاحين الذين يعملون في الأرض ثم ما تلبث هذه الفكرة أن تنداح في وعيه، فإذا هو يحس أنه هو جميع هؤلاء الفلاحين؛ فهو الذي يدرس القمح وهو الذي يحصده، وهو هو نفسه الذي يذروه، أو هو الذي يجمع القطن وهو الذي يسير خلف الأنفار، وهم يجمعونه، وهو هو نفسه الذي يفرز القطن وينقيه من شوائبه. وما تلبث أفكاره ومشاعره أن تضرب به في أغوار الزمن فيحس أنه هو نفسه الذي زرع هذه الأرض منذ بدأت هذه الأرض تعرف نفسها كمنتجة للزرع، وحين لم تكن هذه الأرض شيئا إلا أن تحمل الإنسان كان يخيل إليه أنه هو أول إنسان حملته لم تحمل قبله أحدا، كان يخيل إليه أنه هو أول من قدم إلى هذه الأرض من البشر فهي لم تعرف قبله أحدا، ولا عرف هو قبلها أرضا.
فهو يرى نفسه حينا واقفا في أرضه هذه، أرضه جميعا لا يقصد قطعة معينة منها، ويرى رمسيس يشيد أمجاده هنا على هذه الأرض، ويخيل إليه أنه كان فيما مضى من أزمان جنديا من جنود رمسيس، أو هو جندي من جنود سيزستريس، أو هو ملقى في الحديد والقيود حول يديه وقدميه في أزمان قمبيز، ثم هو يحس الحديد يحطم واسم الإسكندر يذيبه عن أقدامه وسواعده. ثم يمضي مع نفسه هذه الهائمة في ملكوت التاريخ، فيرى كليوباترا وقيصر ثم يرى أنطونيو. وحين يفرغ التاريخ من القوى الباطشة تتهدى إليه الرسالات من السماء فيرى نفسه ساعيا وراء موسى على هذه الأرض نفسها، ثم يرى نفسه معذبا بالمسيحية سعيدا بها في وقت معا. ثم ينتهي به الأمر مع عمرو بن العاص مسلما مؤمنا سعيدا بروحه وعقله وجسمه جميعا، ثم يطوح به التاريخ في جذبة قوية رائعة إلى هذا المستقبل القريب القريب حين هو تلميذ في كتاب القرية يجري بين دهاليز الكتاب الضيقة الصغيرة حافيا ينتعل التراب في الفناء الضيق مع زملاء وزميلات، أما الزملاء فهم أصدقاء اليوم، وأما الزميلات فإنهن زوجته وزوجات أصدقائه.
عجيبة هي الأيام في تنقلها وئيدة الخطو سريعة العدو، تمشي كما تدور الأرض فلا يحس بها، ولكنها تقلب الحياة تقليبا فتومض الشيب في الرءوس، وتذرو الغضون على الجباه وتنفث التجارب في العقول فتحيل السذاجة الناعمة الشفافة حرصا معتما كئيبا، فإذا النفس التي كانت مشرقة واضحة المعالم تغدو ملتوية المسالك خبيثة، ولا جناح عليها ولا تثريب فإنها تواجه زمانا كثير المسالك الملتوية خبيثا يصيب من حيث يأمن صاحبه، أين الأيام الخوالي؟ أين أيام كنت فيها طفلا لاهيا؟ ما الذي جعلني أذهب إلى الكتاب؟ لا ليس أبي، إنه أنا، لماذا؟ لست أدري، كنت ألعب في الساحة التي تنفسح أمام الجامع، تلك التي ما زالت على حالها في الدهاشنة لم يغيرها الزمن، لماذا لا يغير الزمان الأرض؟ كنت ألعب هناك بالكرة، أي أنا كنت إذ ذاك؟ أتراني كنت ذلك الأنا الذي صاحب رمسيس أم كليوباترا أم قمبيز أم موسى أم عيسى أم محمدا؟ أي أنا في هؤلاء كنت؟ كنت ذلك الأخير، كنت بجسمي هذا الباقي الذي لم يتغير، وهل تغيرت الأجسام بين كل هذه الأزمان؟ لا أدري، كل الذي أدريه أنني كنت أنا بذراعي هذه ورجلي هذه وكانت صغيرة إذ ذاك وكنت ألعب مع فايز بك، نعم كان بك منذ ذلك الحين البعيد، أنا لم أعرفه طوال حياتي إلا فايز بك يبدو أن البكوية ولدت معه يوم مولده بل لحظة مولده، ولعل القابلة أخرجتها من بطن أمه قبل أن تخرجه هو، إنه بك منذ ذلك الحين، منذ نحن أطفال نلهو لم نمثل للتعليم بعد، كنت أنا وهو فقط وكنا في انتظار أن يأتي عبد الصادق ولكنه تأخر عنا ولم نكن نعلم فيم تأخره، وكنا نريد أن نلعب الكرة وما كان لنا أن نلعبها دونه، ورأينا الناس يقبلون على الجامع فرادى وجماعات وكنا نعرف أنهم يدخلون إلى الجامع ليصلوا، ولكن كيف كانوا يصلون؟ لم نكن ندري لا أنا ولا فايز بك ونظرنا إلى الناس وهم يتقاطرون على الجامع ويخلعون نعالهم، وقليل هم الذين كانوا يخلعون أحذيتهم، ونظرت إلى فايز بك ونظر إلي ولم نتكلم وإنما قصدنا إلى باب الجامع فخلع هو حذاءه ولم أخلع أنا شيئا وخطونا العتبة، فإذا نحن في الجامع، ووجدنا قوما يميلون إلى اليمين ليدلفوا من باب فملنا معهم ورأيناهم يغسلون وجوههم وأيديهم وأرجلهم ورءوسهم من بئر هناك فرحنا نفعل مثلما يفعلون، ثم غادروا إلى حرم الجامع مرة أخرى فتبعناهم، وما هي إلا دقائق حتى تقدم الشيخ جابر عبد التواب - رحمه الله - لقد خلفه اليوم ابنه الشيخ عبد التواب جابر أصبح اليوم مأذون القرية وخطيب المسجد في آن واحد، لا أستطيع أن أنسى النكتة التي أطلقها عليه الولد عتريس بن عبد الصادق، خيبة الله عليه أصبح شريرا، ويلي أخاف أن يسمعني، يا لي من أحمق! إنني لا أتكلم، إني أفكر، أأخاف منه حتى وأنا أفكر؟ لم أثار الرعب في القرية عتريس عبد الصادق؟ ولكنه كان مع ذلك طفلا وكان يقول النكت في بعض الأحيان وكان يضحك، أتراه يضحك الآن؟ أتراه حين يقتل يضحك؟ كان وهو طفل كثير الضحك، كان يشاهد الشيخ عبد التواب جالسا دائما في دكان عبد الملاك البقال، يا له من خبيث ذهب إلى عبد الملاك وقال: أعطني بقرش زيتونا، وبقرش جبنة بيضاء، وبقرش حلاوة، وقام الشيخ عبد التواب وراءه: امش يا قبيح، والله لسوف أقول لأبيك وأجعله يضربك بالمركوب، وجرى عتريس يضحك هالعا، واليوم أرى الشيخ عبد التواب يصيبه الهلع كلما ذكر أمامه عتريس، أيام تتقلب، لم يكن الشيخ عبد التواب هو الإمام يوم دخلنا أنا وفايز بك، وإنما كان أبوه الشيخ جابر، وأم الصلاة ورتل القرآن في صوت جميل آخاذ:
والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى * وللآخرة خير لك من الأولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى * ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضالا فهدى * ووجدك عائلا فأغنى * فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السائل فلا تنهر * وأما بنعمة ربك فحدث
الله أكبر.
وفي الصباح التالي كنت أنا لم أنم بل ظللت أترقب الفجر حتى بزغ، وإذا أنا أجد نفسي في كتاب الشيخ عبد الكريم التهامي، وإذا فايز بك يرسل إلى الشيخ عبد الكريم في اليوم نفسه أن يذهب إليه في السراي ليحفظ القرآن على يديه.
مرت بي في الكتاب أعوام قلائل، فإذا أنا العريف ويوم توليت منصبي هذا قدمت فاطمة إلى الكتاب، ما كان أجملها يوم ذاك! طفلة وضيئة الطلعة مشرقة العينين بهيجة النفس، أنا لا أراها حتى اليوم إلا كما كانت حينذاك، جلباب أخضر زاه ووجه أبيض ناصع فيه ضياء ينبعث منه عينان فيهما صفاء كصفاء العسل الأبيض وفي لونه أيضا، وضفيرتان من الشعر الأسود اللامع من غير زيت.
صفحه نامشخص
وكنت العريف، فكانت تقرأ علي، وكنت أصحبها بعد أن ينتهي الكتاب، وكانت تقرأ وكنت أمسك أنا لها اللوح، لا أنسى يوم غرقت حين كنا نمشي بجانب النهر، كانت هي بجانب النهر وكنت أنا بجانبها وزلقت قدمها فإذا هي جميعا في النهر، ولم أكن أعرف العوم، لماذا لم أكن أعرف العوم؟ لا أدري وإنما لم أتردد، ألم أكن أخاف يومذاك؟ فما لي اليوم أخاف من عتريس؟ كانت نفسي على سجيتها ولم أكن أقدر حياتي قدرها، ولم تكن لي فؤادة أخاف عليها أن أموت فلا تجد لها أبا، أتراني كنت شجاعا ثم صرت جبانا؟ أم تراني كنت جبانا ولكني لم أفكر؟ وكيف أكون جبانا ولا أفكر وهل الجبن إلا تفكير؟ رميت بنفسي في النهر وأنا لا أعوم، وفي لحظة خاطفة امتدت يدي إلى الصفصافة التي تحنو على النهر، لكم أحب هذه الصفصافة، تشبثت بشعور الصفصافة المتهدلة إلى مياه النهر ومددت رجلي بأقصى ما تستطيعان أن تمتدا وتشبثت فاطمة بقدمي ورحت أشد جسمي إلى الأرض شيئا فشيئا وفي بطء شديد وفي حرص أشد أن تفلت يدي شعور الصفصافة أو تفلت فاطمة قدمي حتى بلغت الأرض ومددت يدي إلى فاطمة وخرجت إلى الأرض استلقت عليها، كم هي حبيبة هذه الأرض! ومرت أعوام الكتاب، وختمت حفظي للقرآن وخرجت إلى الحياة.
ظل فارغا فترة طويلة بعد أن ترك الكتاب، كان يحن إلى فاطمة، ولكن كيف له أن يذهب إليها؟ ولم يكن الحنين وحده كافيا أن يشغل وقته، وفي يوم عزم على أمر، فما لاح الفجر من اليوم التالي حتى خرج إلى غيط أبيه وبدلا من أن يشرف على الرجال وهم يفلحون الأرض ربت كتف عبد الجليل أبو سعفان. - عبد الجليل . - أفندم يا سي حافظ. - هل عندك فأس أخرى؟ - لماذا؟ - هل عندك فأس أخرى؟ - نعم. - اذهب فهاتها. - وهذه ما لها؟ - سأستأجرها منك. - أنت؟ - نعم. - تفلح الأرض معنا، أنت يا سي حافظ يا ابن الحاج خالد أنت؟! - أعطني فأسك ولا تطل.
وقالوا: مجنون، ولكن ما شأنه هو أن يقولوا، واستمر عاما وبعض عام حتى جاء فايز إلى القرية، فذهب إليه وتحادثا، رأى في حديثه نورا جديدا يريد أن يروده، كان لا بد أن يعلم علم فايز، لقد ذهب فايز إلى المدرسة في المدينة فما له هو لا يذهب؟ - آبا، أريد أن أذهب إلى المدرسة. - قل ماذا تريد من مال ومع السلامة. - غدا أذهب. - غدا تذهب.
وكان هذا هو فراقه عن الفأس، ولكنه إن فارق القرية فسيفارق فاطمة أيضا، كيف يستطيع أن يفارقها؟! لم يكن يراها إلا قليلا، ولكن أنفاسها في القرية، فهو يعيش في أجوائها، فكيف يفارق القرية؟ ولكن لا بد له أن يعلم علم فايز، فكيف على الأقل يبلغ فاطمة أنه مسافر في غده آخذا طريقه إلى المدينة وإلى العلم؟
ذهب إلى عبد الصادق في بيته. - عبد الصادق. - ماذا؟ - أريد أن تأتي معي لنتمشى. - عند الصفصافة طبعا. - هل عندك مانع؟ - مللت الصفصافة، تعال نذهب إلى الناحية الأخرى من القرية هناك عند النخيل. - إلا اليوم. - ولماذا اليوم؟
وتردد قليلا ثم قال: لا أدري إلا أنني أريد أن أذهب إلى الصفصافة، لا أدري، ألا تحس أحيانا معينة أنك مشتاق إلى مكان معين؟! أنا الآن مشتاق إلى الصفصافة. - أمرك، نذهب إلى الصفصافة، نذهب إلى الصفصافة. - يقطع ال...
وقبل أن يكمل الكلمة كان حافظ قد وضع يده على فمه في خوف. - اسكت، وهيا ولا تطل الكلام.
وجلسا عند الصفصافة، وظل حافظ صامتا، ولكن عبد الصادق لم يسكت. - لقد أردت أن أجيء معك لأخبرك خبرا يفرحك.
وقال حافظ وعينه إلى طريق القرية وذهنه إلى بيت في القرية لا يريم عنه. - هه. - لا، اصح واسمع كلامي وأحسن سمعه، وإلا قمت والله وتركتك وحدك أنت والصفصافة.
وانتفض حافظ في ذعر؛ فإنه يحتمل كل شيء إلا أن يقوم عنه عبد الصادق الآن؛ فقد كان يريده بكل خلجة من مشاعره، وبكل دقة من قلبه. - لا، تقوم؟ وهل هذا يصح؟ أنا أسمعك، أسمعك تماما. - ألا تعرف أني فكرت في الزواج؟
صفحه نامشخص
وانتبه حافظ إلى صديقه تماما. - ماذا؟ - نويت أن أتزوج نبوية. - نبوية بنت حسنين العكر؟ - هي نعم بنت حسنين العكر. - وأبوها؟ - ماله أبوها؟ - مجرم! - تخافه الجهة كلها. - ولكنه مجرم! - إنه رجل، ليس مثله بين الرجال. - إنه مجرم. - اذكر لي اسما واحدا لا يخاف حسنين العكر، حتى فريد باشا يخافه. - الإجرام ليس رجولة. - فما الرجولة؟ - ألا تخاف أن يصبح أولادك مجرمين؟ - يا ليت. - ستندم. - لا تخف، فليكونوا هم كجدهم، ولا شأن لك، إنني حينئذ سأكون أسعد أب في الدنيا. - وإذا أغضبت نبوية، ألا تخاف أباها؟ - ولماذا أغضبها؟ - بين الزوج والزوجة لا يخلو الأمر من الغضب. - لن أغضبها. - أخاف عليك من هذا الزواج! - يا أخي لا تخف، قل لي مبروك.
وقبل أن يقول حافظ شيئا رأى في أفق الطريق القريب جمعا من الفتيات يقترب إليه هو وصديقه فظل نظره متعلقا بالطريق، في حين راح عبد الصادق يهزه. - مالك، مالك ساكتا، ألا تقول لي مبروك؟ - هه، آه، نعم صحيح، مبروك.
وران الصمت بين الصاحبين، حتى اقترب سرب الفتيات وكانت فاطمة بينهن، أقبلن إلى الترعة يملأن منها الجرار، وكانت الجماعة قريبة من حيث جلس الصديقان وصاح حافظ: ألم تعرف يا عبد الصادق؟ - مالك تصيح هكذا؟ أرأيتني قد فقدت السمع؟ - أنا مسافر غدا إلى المدينة وسأبقى هناك. - عجيبة! - سأذهب لأتعلم في المدرسة. - ولماذا لم تقل لي هذا الخبر المهم من ساعة أن رأيتك؟ وعلى كل حال لماذا تصيح؟ - لن أنساك أبدا يا عبد الصادق. - لن تنساني؟ - لا بد أن تأتي إلى هذه الصفصافة دائما يا عبد الصادق. - أنا؟! حد الله بيني وبين الصفصافة. - إياك أن تترك يوما دون أن تأتي إلى الصفصافة، أنت تعرف كم هي غالية عندي يا عبد الصادق. - وأنا ما لي؟!
ورأى حافظ إجابة كلامه في عيني فاطمة وفي ابتسامتها، فراح يصيح: أحبك.
صرخ عبد الصادق: ماذا؟ - أحبك يا عبد الصادق. - أحبتك العافية. - أنت حبيب العمر يا ... عبد الصادق. - حفظت، والله أخ، أخ والله يا سي حافظ. - أريد أن أقبلك يا عبد الصادق.
واحمر وجه فاطمة وقال عبد الصادق: الله يبقيك، ولكن يعني، لماذا؟ - لأنك ستتزوج، ادع لي أنا أيضا أن أتزوج يا عبد الصادق، تعال أقبلك. - إنك منذ لحظة لم تكن تريد أن تقول لي مبروك، مبروك لم أنلها منك إلا بطلوع الروح، والآن تريد أن تقبلني، ربنا يجعل العواقب سليمة.
وكانت فاطمة قد ملأت الجرة بعد أن نظفتها مرات كثيرة حتى ضاقت بها زميلاتها، وأرادت فاطمة أن تنصرف، فألقت إليه نظرة فيها فهم وفيها ضحكة عميقة فرحانة متألقة، وقال حافظ صائحا ما يزال: مع السلامة يا عبد الصادق. - ماذا؟ وهل أنا المسافر أو أنت؟ - أقصد أفوتك بالعافية، ولا تنس أن تزور الصفصافة. - والله لن أزورها أبدا. - كل يوم يا عبد الصادق، كل يوم، إياك أن تنسى. - ولا يوم وحياتك، إني أجيء معك لأجل خاطرك فقط، أما أن أجيء وحدي فهذا هو المستحيل، وعلى كل أنا سأكون مشغولا بالزواج في الأيام الآتية، الله، معنى هذا أنك لن تحضر فرحي، هه ألن تحضر فرحي؟
وكانت فاطمة قد انصرفت وكانت عينا حافظ متعلقتين بالبقية الباقية البادية من خيالها، وكانت روحه جميعها ترافقها، وكانت أذناه منصرفتين عن عبد الصادق كل الانصراف، لم يعد يسمع شيئا، لا شيء، لا شيء أبدا.
وسافر في غده شابا أسمر اللون، قوي الملامح، بارز الجبهة عميق النظر، أسود الشعر فاحمه غزير الحاجبين، رقيق الشفتين، مفتول الذراعين، ذا مشية ثابتة متطلعة إلى المستقبل في تفاؤل وإصرار، لا هو بالطويل البالغ الطول ولا هو بالقصير الذي تأخذه العين، شابا في مطالع الشباب يبدأ تعليمه في المدارس، فهو متفتح الذهن بما تعلمه من قرآن، متفتح القلب بحبه هذا الذي ينتظره في القرية، قصد إلى المدرسة في هدوء مطمئن ووجد رفاقه أو الغالبية العظمى من رفاقه في مثل سنه إن لم يزيدوا في أعمارهم عليه، وواصل تعليمه حتى نال شهادة الكفاءة وعاد إلى القرية، وجد فايز بك رفيق ملعبه قد تزوج من قريبة له وأنجبا ابنهما طلعت ووجد صديقه عبد الصادق قد تزوج من نبوية فولدت له عتريس، فلم يجد بأسا أن يقصد إلى أبيه: آبا أريد أن أتزوج. - اخترت أم أختار لك؟ - فاطمة بنت الحاج قاسم الطيب. - ونعم ما اخترت يا بني.
وتزوجا، ولم يمكث بالقرية، وإنما اختار أن يعمل موظفا بالقاهرة، لكم نعما بهذه الأيام التي قضياها بالقاهرة، وفيها أنعم الله عليهما بابنتهما الوحيدة فؤادة، فتمثلت الحياة جميعها لهما في هذه الطفلة الصغيرة يهبان لها كل ما يستطيع الأب والأم أن يهبا، واطمأنت بهما الحياة سنوات، سنوات قليلة ثم فجعه الدهر بموت أبيه، نظر إلى الحياة يومذاك فوجد نفسه يقف وحيدا في لقاء الدهر، ترك وظيفته وعاد إلى القرية.
صفحه نامشخص
كان فريد باشا قد مات هو أيضا، وتولى فايز إدارة أعمال أبيه، ووجد الفلاحين يشكون من فايز ومن سوء معاملته لهم، ولكنه لم يسطع أن يقول قولهم، بل كان يسمع من كثير آخرين مديحا لفايز لا يشوبه نقد ولا تقف به كراهية، وقد ظل حتى يومه هذا لا يدري إن كان فايز يستحق المديح أم هو يستحق الكراهية.
وعاش حافظ في القرية سنوات طويلة، وكبر عتريس، فإذا هو يرث الإجرام عن جده، ويبدأ صيته في هذا الميدان يعلو ويرتفع وحينئذ قطع حافظ ما بينه وبين عبد الصادق، ولكن عبد الصادق لم يقبل هذه القطيعة، فهو يزور حافظ بين الحين والآخر، وحافظ يستقبله مبالغا في الحفاوة والإكرام، ولكنه مع ذلك لا يرد زيارته، وتكبر فؤادة، فهي شابة في ريق العمر، أخذت عن أمها إشراقة نفسها وإيمانها المطلق بالله، وأخذت عن أبيها طيبة نفسه وسماحة مشاعره، ولكن شيئا غريبا آخر تسرب في هوادة وإصرار إلى أخلاقها، لم يكن حافظ يستطيع تعليله؛ أتراها الكتب التي تصر على قراءتها ما أمكنتها الفرصة؟ أم تراه ذهابها في كثير من الأحيان للست تفيدة زوجة فايز بك التي كانت تجد فيها عقلية مثقفة وحديثا عذبا لا يشابه حديث الأخريات من بنات القرية؟ لقد أحبتها تفيدة منذ كانت فؤادة طفلة تلهو مع ابنها طلعت، وحين منعت السن فؤادة أن تلعب مع طلعت أصبحت تزور تفيدة وتجالسها إن لم يكن في كل يوم من أيام الأسبوع ففي أغلب أيامه.
كانت فؤادة سمراء سمرة ما تكاد تلحظ، سوداء الشعر غزيرته ذات عينين واسعتين نفاذتين تخترقان الحياة في فهم وذكاء، وكانت قوية الأسر لا يستطيع من يراها مرة إلا أن يذكرها دائما، وكانت أقرب إلى الطول منها إلى القصر أقرب إلى النحافة منها إلى السمن، تحب أن تضحك، ولكن قليلا ما كانت تجد شيئا يضحكها.
فهي تبقي على ابتسامة حلوة تعلقها بشفتيها الرقيقتين وكأنما هي تتهيأ للضحك عند أول بارقة تلوح بما يستحق الضحك. تسربت إلى أخلاقها من حيث لا يدري أبوها ولا يدري أحد، عناصر من العناد والإصرار، فهي إن أرادت شيئا حشدت كل قواها لتناله، لم يكن أبوها كذلك، هو تعود ألا يريد شيئا، فإن أراد شيئا، ونادرا ما يريد، فهمسة خجلة مترددة إن أفادت فبها ونعمت، وإلا عادت الهمسة تدوي في داخله، وينتهي بها الأمر أن تذوب مع الأمنيات المستحيلة التي قد تدور في النفس ولا تصل إلى اللسان، وأما أمها فملقية أمرها كله على الله، فما يأتي به الله خير، وما يمنعه عنها الله فهو شر، والحياة كما تحيا جميلة لا تريد منها أكثر مما تعطي، والحمد لله الواحد الخلاق فيما أعطى وفيما يمنع، «من أين» تسرب هذا العناد إلى نفس فؤادة، من أين؟
ومع صوت القطار ظلت كلمة من أين تدوي في مشاعر حافظ فتهز كيانه جميعا، وكان القطار يوشك أن يصل إلى القاهرة فهو يوهن من سيره الحثيث ويهن معه دوي «من أين» في نفس حافظ حتى يصمت القطار، ويفرغ حافظ إلى القاهرة وينزل من القطار أهم ما يفكر فيه أن يشتري بعض الكتب لفؤادة وخمارا للصلاة طلبته منه فاطمة.
الفصل الثاني
كانت فاطمة قد تعودت منذ تزوجت حافظ أن تصلي ركعتين لله دائما مع كل صلاة فجر أن يفتح الله الأبواب أمام زوجها، وأن يمنع عنه كل مكروه، فإذا سافر حافظ فالركعتان أربع ركعات أن يعود زوجها إليها بالسلامة، فزوجها عندها هو الحياة كل الحياة.
فمنذ ذلك الحين البعيد الذي لقيته فيه بكتاب القرية وهي تحبه، وما زالت تذكر ذلك اليوم حين أصر أبوها أن تتعلم ابنته القرآن وأرادت أمها يومذاك أن تعارضه، فإذا هو يقول في هدوء: ستتعلم القرآن إن شاء الله.
وكانت هذه الكلمة وحدها كافية لأن تأخذ طريقها في صبيحة اليوم التالي إلى كتاب القرية، كادت تبكي أول الأمر، ولكن ذلك الشاب الأسمر ذا الابتسامة الحنون الطيبة استقبلها في تشجيع وأخذ منها اللوح وخط لها الدرس الأول في غير زهو بعمله ولا استكبار. أقبلت وجلة في صدر النهار ثم متحمسة في آخره، وأصبح الكتاب وذلك الفتى الأسمر هو كل شيء في حياتها منذ ذلك الحين إلى سنوات طويلة، ثم انفرد الفتى الأسمر بحياتها، ولكم تستغفر الله أنها كانت تفكر فيه دون أن يربطها به رباط شرعي فهي تصلي أن يمحو الله عنها هذه الخطيئة، وهي تبالغ في الصلاة والاستغفار حين تذكر يوم انزلقت قدمها فوقعت في النهر، أنها يومذاك لم تكن تفكر في كلام الله الذي تتلوه، وإنما كانت تفكر في هذا الفتى الأسمر الذي كان يمسك لها اللوح.
وكانت تدمع عيناها في صلاتها وهي تطلب المغفرة، وكانت واثقة كل الثقة أن قدميها لم تنزلقا، وإنما الملائكة هم الذين شدوا قدمها إلى النهر جزاء وفاقا لها عن نسيانها جلال كلمات الله، وتفكيرها في ذلك الفتى الذي يمسك اللوح، كم هم رحماء هؤلاء الملائكة لم يغرقوها في ذلك اليوم، وقد كان من حقهم أن يغرقوها، وإنما هيئوا لها هذا الفتى الأسمر لينقذها ويعيدها إلى الحياة، ومنذ ذلك الحين تعودت فاطمة إذا قرأت القرآن أن تنسى كل شيء إلا القرآن الذي تقرؤه، كما تعودت أن تستغفر الله كلما ذكرت حافظا، وهكذا كان أبوها كثيرا ما يسمعها تطلق هذه التنهيدة العميقة وتعود بعدها في صوت خاشع متخاضع فيه كثير من الرجاء، وكثير من الروحانية: أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم، وكثيرا ما كان أبوها يقول ياه يا بنتي! وأي ذنب اقترفته حتى تطلبي الغفران بكل هذا الخشوع؟! ويبتسم، كان طيبا أبوها، يعرف أن ابنته نقية كماء السماء عفيفة كالملائكة فما كان يزيد على ابتسامة يطلقها في حنان ويعود إلى تسبيحه مرة أخرى خاشعا هو الآخر مؤمنا أعمق الإيمان.
صفحه نامشخص
ولكنها مع هذا لا تستطيع أن تنسى ذلك اليوم الذي أشرفت فيه على الغرق: حين غمرها الماء ثم صعدت إلى الهواء فلقفت أنفاسا وراحت تمد يديها دون أن تدري إلى أي شيء تمد هاتين اليدين ثم غمرها الماء، فهي في هلع وصعدت لتختطف من الهواء بضعة أنفاس أخرى ثم يغمرها الماء، لم تكن تفكر في هذه اللحظات في شيء، إلا أنها كانت كلما صعدت إلى سطح الماء تذكرت أن تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولكن جهلها بالعوم لا يمهلها أن تقول شيئا، فهي ما تلبث أن تعود إلى الغمرة مرة أخرى ولا يعني ذهنها شيئا، وتشبثت بهما وصعد فمها إلى الهواء وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، ولكنها في هذه المرة كانت تحمل معنى العودة إلى الحياة بعد أن كانت تريد أن تقولها في وداع الحياة.
وحين استقر جسمها على الأرض أحست أنها تكره ذلك الفتى الذي أنقذها؛ فقد كانت واثقة في لحظتها تلك أنه هو وحده السبب في غرقها، وأنه لولاه ما ألقى بها الملائكة إلى براثن التهلكة، قليلا ما أحست بكره فتاها، وما أضأل الكراهية التي أحست بها نحوه، كغلالة من دخان لا تحجب ولا تعتم ولا تكاد ترى، قليلا ما أحست بهذا الكره، ثم أنا المخطئة، إنه أنا التي كنت أفكر فيه وليس هو، أحببته كما كنت أحبه ولم أزد؛ فما كان ثمة في قلبي مكان لزيادة كنت أحبه بعد الله وبعد النبي وقبل، ولماذا المقارنة؟! كنت أحبه بكل ما أعرفه من معنى الحب، لكم فرحت وهو يلقي إلي خبر سفره جاعلا عبد الصادق طريقه إلي، ما الذي جعل اسمه عبد الصادق؟! أنا لا أحبه، فإن الذي يلد «عتريس» ليس خليقا أن يحب أبدا، كيف استطاع هذا الإنسان أن يأتي إلى بيتنا والذي يحاول أن يضحك دائما ويمزح ويقهقه، كيف استطاع هذا الإنسان أن يحاول أن يلد كل هذا الهول الذي يملأ القرية والقرى المحيطة بها؟ بل البعيدة عنها أيضا، أنا لا أخافه فأنا واثقة أن الله أكبر منه وأقدر عليه من العبد ولكني أكره هذا الخوف الذي يلقيه في قلوب الناس، أكره الرعب من غير النار وأكره الخشوع لغير الله، وأكره السلاح الذي يسلطه على حياة الناس؛ فحياتهم قلق ومشقة وخوف، ولكن «عتريس» يسلط عليهم الخوف كل الخوف؛ فهم في رعب لا يتركهم، رعب دائم لا يتخلى عنهم حياتهم جميعا، كم كان حافظ ذكيا وهو يلقي إلي الحديث عن طريق عبد الصادق، لقد فهمت زكية أم عليوة ما كان يريده حافظ من حديثه، ما الذي جعل أباها يسمى عليوة وماذا أعجبها في الاسم حتى تسمي به ابنها أيضا، أصبح عليوة محاميا، ولكنه لا يريد أن يترك الدهاشنة بل هو باق بها ويذهب إلى البندر في كل يوم، لكم يكره الشيخ عبد التواب عليوة ابن زكية أم عليوة، كان الشيخ عبد التواب قبل أن يصبح عليوة محاميا هو مفتي القرية لا ينازعه في فتواها أحد، واليوم هبط هذا المحامي لا يكتفي بالقضايا والإجرام بل يفتي في الدين أيضا، ألهذا السبب يكرهه؟ هل الكراهية شيء بسيط إلى هذا الحد؟ كيف يسمح الشيخ عبد التواب لنفسه وهو يحمل كلام الله، الله الرحيم الغفور، كيف يسمح لنفسه أن يسب عليوة للناس ويرميه لهم بالجهل والكفر والزندقة؟ هل الكفر والزندقة شيء بسيط يرمي به الناس هكذا دون تفكير؟ فهمت زكية ما كان حافظ يريد أن يقول، خبيثة زكية ، وكانت تبتسم دائما كلما ذهبت إلى الصفصافة في موعدي اليومي، وكثيرا ما كانت تقول وصية حبيب القلب، أنا شاهدة على الوصية، وإذا قلت في جد إنما أملأ الجرة ضحكت فلا يفلح جدي ولا تقطيبي أن يخفي شيئا مما أضمر، لماذا نحاول أن نخفي الحب، في حين أن الشيخ عبد التواب لا يحاول أن يخفي الكراهية؟ جميل هو الحب، حب الله وحب النبي وحب الزوج ولكنه لم يكن زوجي حينذاك.
وحين طلب حافظ يدها من أبيها كان أبوها حريصا أن يسألها رأيها، وسأل وسكتت ثم ابتسمت ثم أومأت أن نعم، وحين تزوجا وخلت بهما الحجرة وقبلها، حافظ أومض في ذهنها أن هذا حرام ثم ما لبثت أن تذكرت أنه زوجها وأن الحرام كل الحرام ألا تطيعه إذا قبلها فأطاعت، وحين انتقلا إلى القاهرة امتلأ قلبها خوفا، كيف تترك مهد حياتها جميعا منذ الطفولة التي لا تعيها إلى البواكير الأولى من الصبا والكتاب وحافظ وذكريات هواها، وأباها وأمها وصديقاتها وجميع هذه القرية بمن فيها من ناس؟ ناس تعرفهم جميعا وكلمتهم جميعا، تحية عابرة أو حديثا طيبا سمحا، وأولئك الصديقات اللواتي طالما طلبن منها أن تؤدي لهن خدمات، تلك الخدمات الصغيرة الحبيبة إلى النفس، تلك الأشياء الدقيقة الرقيقة في حياة الناس التي تزيد الصلات قربا وتجعلها قوية متينة، تحب أولئك الصديقات اللواتي تركن لها أطفالهن ريثما يقمن بشأن من شئون حياتهن المليئة بالعمل أو أولئك اللواتي طلبن إليها أن تملأ لهن الجرار لأنهن مريضات أو أولئك اللواتي سألنها أن تشاركهن في خبز العيش، تحبهن أكثر من أولئك اللواتي أدين لها هي الخدمات الصغيرة، كيف تترك هذا جميعه إلى القاهرة؟ ويلي من القاهرة واسعة سعة الدهر، ولكنها لي، لي أنا كانت ضيقة ضيق اليأس، وحيدة أحس الوحدة لأول مرة في حياتي، هناك في القرية، في الدهاشنة كنت أجد الأنس مهما تكن الوحدة محيطة بي، أما هنا في القاهرة فأنا في وحدة مهما تكن الجارات حوالي، أنا هنا في جزء من بيت إن رفعت صوتي عن الخفوت قليلا أصاب كثيرا من الآذان، ولكنه لا يصل إلى قلب أحد، أما هناك فقد كانت نجواي تبلغ إلى القلوب وإن لم يصل منها إلى الآذان شيء، وحيدة كنت في القاهرة، فما كنت أستشعر الأنس ولا الألفة ولا الاطمئنان إلا حين نلم بالقرية في زيارة عابرة أو زيارة فيها شيء من المكث والقرار ثم جاءت فؤادة، ما أحلى فؤادة! ماذا أفعل وهي كل يوم ذاهبة إلى الست تفيدة؟ وتفهم أباها وتريد أن تفهمني أن الزيارة موجهة إلى تفيدة كأني لا أذكر أيام كان طلعت طفلا، فكان لا يترك منزلنا منذ مشرق الشمس حتى يضمه بيته عند المساء كأني لا أذكر هذه النظرات التي كانا يتبادلانها وهما يتلمسان طريقهما إلى الباب كل منهما يتعرف على شبابه في عين الآخر، كنت أرى، وحين عرف كل منهما شبابه وكادت المعرفة تتوطد انقطعا كلاهما عن رؤية أحدهما الآخر أمام الناس، ولكنها تذهب إلى الست تفيدة، كم هي جميلة فؤادة! وكم أخشى عليها! وماذا أقول لأبيها؟ لا أنسى يوم مولدها، أول مرة رأيتها، رأيت حبي لحافظ يتجسم أمامي فإذا هو حبي للحياة، هذه النظرات الذاهلة التي ملأت ما حولي أنسا وهداية، رأيت في وجهها الله، ولم لا؟! أليست الإنسانية كلها ناشئة عن فؤادة؟ وهل هناك آية أعظم من الإنسان؟ لقد خلق الله الكثير وأنزل الأديان ولكن آيته العظمى ما زالت هي الإنسان، سره الغامض وصرحه الضخم وبنيانه الذي لا يبلى فهو باق في الدنيا وفي الآخرة لا ينتهي، كانت فؤادة حلوة كالأمل تحقق، كابتسامة خالدة على وجه الزمن، وحين جئنا إلى القرية لم أشأ أن يقتصر تعليمها على الدين كما كان الشأن معي، فرحت ألح على كل ذي علم في القرية أن يعلمها من علمه شيئا، وأحبت القراءة، وأحبت المدرسة وأصرت على الذهاب إليها، أتراها تكلم طلعت فيما تقرأ، ماذا أقول لأبيها عن طلعت؟ لا بأس أن يتزوجها، أتراني لهذا أغمض عينا كان من واجبها أن تتنبه؟ إني واثقة من ابنتي، بل واثقة من طلعت، ولا بأس به أن يتزوجها؛ فحافظ - وإن جهل مكان نفسه - من أعيان الدهاشنة، وإني أرى فايز بك لا يستكبر مثلما كان أبوه يستكبر وأرى طلعت أكثر تواضعا، وهل يعرف القلب كبرا؟ لعله الشرف كل الشرف أن تحبه فؤادة وأن تتزوج منه، وهل هناك شرف أبعد أو أعظم من أن يلتقي حبان ويتناجى قلبان ويكتمل الهوى بينهما بزواج؟ الزواج الشرعي الذي أراده الله يوم شرع الزواج هو الحب، الحب وحده الشريعة ومراسم الزواج إعلان لهذه الشريعة أن تذيع بين الناس فلا يكون الزواج بغير حب، ألم يحتم الشرع رضاء الزوجة وطلب الزوج؟ فهو الحب إذن مهما تكن منابعه، قد ينبع عن العقل أو قد ينبع عن القلب وعن أي المصدرين يصدر يصبح زواجا شرعيا. هي تحبه، لم تقل، ولكن ما ذهابها إلى الست تفيدة كلما استطاعت إلى ذلك سبيلا؟! أو كلما اختلقت إلى ذلك سبيلا وهو يحبها، وإلا فما بقاؤه في البيت كلما ذهبت؟! نعم إني أسألها هل كان طلعت موجودا وتجيب بنعم سريعة، وكأنها لا تفهم ما أقصد إليه وتبحث في سرعة وفي ذكاء عن موضوع آخر، والعجيب أنها دائما تجد الموضوع الآخر، لن أقول لحافظ شيئا، أأقول ظنونا قد تصدق أو لا تصدق؟ أأثير مخاوفه ومكامن القلق في نفسه من أجل أفكار؟ ... إنما هي أفكار، وهل تأكدت من شيء؟ وهل ثمة شيء أتأكد منه؟ مجرد نظرات لعلي رأيتها بآمال وبما أهفو إليه من مستقبل ابنتي، أصلي أربع ركعات لله أن يعود زوجي آمنا سالما، الله أكبر. ولم تفكر في شيء وهي تصلي إلا أن تتلو الآيات في خشوع وإيمان وتؤدي الصلاة على أكمل وجه حتى إذا أتمتها وسلمت عن يمين وشمال راحت ترنو إلى الأريكة التي تواجهها بحسبها أن يعود زوجها سالما فيلبس جلبابه وطاقيته ويربع رجليه على هذه الأريكة ويروي لها عن القاهرة وما رآه، إنها لا يهمها من أمر القاهرة شيء، ولكن يهمها كل الأهمية أن يجلس زوجها على الأريكة ويروي.
الفصل الثالث
كل ما يحيط بها آمن، هي واثقة من الزمن، واثقة من نفسها، لا تعبأ بشيء، تفعل ما تراه خليقا أن يفعل، لا يهمها رأي أحد ما دامت هي مطمئنة إلى رأيها، أحبت فلم تخف من الحب، وقد مشى الحب إلى قلبها منذ عرفت قلبها، فقد تعرفت على قلبها أول ما تعرفت وفيه هواه، منذ هي طفلة وقلبها طفل وشبا وشب الحب معهما، لم يعنها أن تحب البك ابن البك ابن الباشا، وإنما أحبت في صراحة مع نفسها، وفي اطمئنان ودون خوف.
فالحب عندها نبضات قلب، وما كانت تتصور أن قلبا يعيش دون نبضات، لم تعلن حبها إلى أحد؛ لأنها لم تر داعيا إلى إعلانه، ولم تهمس إلى طلعت وإنما كانت تعرف أنه يحبها، وأنه يعرف حبها له، فقد همس لها يوما: أتحبينني قدر ما أحبك؟
وابتسمت له ابتسامة تعرف هي ما حملته من معان ثم لم تزد شيئا.
واستمر حبها بعد ذلك على أساس من هذا السؤال الطيب وهذه الابتسامة المحملة بالمعاني، وقد كانت واثقة من نتائج حبها ثقتها أن اسمها فؤادة، وأن اسم حبيبها طلعت، وثقة أخرى كانت مستقرة في قلبها، كانت تعتبر الحب هو الزواج الحقيقي وأن ورقة المأذون إنما جعلت لإعلان هذا الحب.
كانت كلما سمعت عن زواج في القرية سألت العروس: أتحبينه؟
فإن إجابتها: نعم.
صفحه نامشخص
قالت: إذن فهو زواج.
وإن قالت لها: أمر أبي.
أو: أمر أمي.
سكتت فؤادة بلسانها، وقال قلبها لم يتم زواج، إنها وجدت معنى الحب هذا العميق ضاربا في الأعماق البعيدة في نفسها، فكأنما ولدت ومعها هذا المعنى، ويا طالما سمعت أمها تعيد هذا الكلام، فما كانت تحب من أمها حديثا مثل هذا الحديث، بل كانت تدهش إن وجدت رأيا لا يتفق ورأيها هذا، كان الحب عندها هو أنغام الحياة جميعا فإن سمعت موسيقى فهي رسول من وادي الحب الظليل، وإن قرأت شعرا فمنبته في رأيها أفناء الحب الوارفة، وإن رأت يدا كريمة تمتد لفقير بائس أو محتاج في ضنك، فاليد ممتدة أولا وقبل كل شيء من منابع الحب الصافية الخالدة في أعماق الإنسانية، الحب هو الجمال في الحياة، هو كل معنى كريم في صلات الناس، وحين يتلاشى الحب أو يهن بين القلوب فالحياة إلى شر وعذاب وألم، فالجريمة لم تصبح جريمة إلا لأن صاحبها لم يدر ما الحب، فلو درى الحب ما أجرم، والشرور كلها تنضح عن آنية البغضاء أو الحقد أو الطمع خلت من الحب، والحب هو كل حياة جميلة في الحياة.
هائمة فؤادة في معاني الحب وفي ألوانه، تحب الحب بكل نأمة من كيانها، وكل نبضة من قلبها وكل مسرى في دمائها وكل عرق من أعراقها، تمثل لها الحب جميعا في كل صلة من صلاتها، فهي تحب أمها وتعجب بها أحيانا ولا تعجب بها أحيانا أخرى، ولكنها تحبها، وهي تحب أباها وتعجب به أحيانا حين يحنو عليها ويعطف على أمها، ولكنها لا تعجب به حين يخاف من عتريس ومن عبد الصادق، ثم تظل مع ذلك تحب أباها، وهي تحب الله ولا تناقش من شئونه شيئا وإنما هي تحبه ولا تحاول أن تعلل هذا الحب أو تتعمق أسبابه أو منابعه، هي تحبه وكفى وتخشى أن توجد لحبها أسبابا حتى لا يهن هذا الحب ولا يضعف، ثم هي تحب الناس أجمعين، لها في لقائهم ابتسامة لا يشعر بها الناس ولكنهم يجدون أنفسهم تميل إليها دون أن يحللوا أسباب هذا الميل، كانت فؤادة قديرة على أن ترسل إلى نفوسهم إشعاعات خفيفة من الحب الذي يحمله لهم فيجدون أنفسهم يميلون إلى فؤادة، لا يدرون إن كانت هذه الإشعاعات مرسلة إليهم عن طريق هذه الابتسامة التي تنبعث على شفتي فؤادة ويبين فيها أنها متصلة الجذور بالأعماق البعيدة من نفسها وليست ابتسامة على السطح مبتوتة الأصول لا تعبر عن أعماق القلب، لا يدرون، أكانوا يميلون إلى فؤادة لأنها كانت تستمع إلى شكواهم بكل نفسها؟ وتندمج في مشاكلهم، فكأنها مشكلتها، يكادون يرون نبضات قلبها تنبض بمخاوفهم وآلامهم وآمالهم، لا يدرون أكانوا يميلون إلى فؤادة لهذا أم لأنهم لا يجدون داعيا ألا يميلوا إليها، كان كل فرد فيهم يعلم أنها تحمل مشكلته ومشاكل الآخرين في أعماق قلبها، فلم تذع يوما سرا لأحد منهم، وكانوا يحسون أن مجرد رواية ما يعرض لهم من هموم على فؤادة هو في ذاته بداية التخفيف من هذه العموم، أولئك الذين كان يؤذيهم عتريس كانوا يشكون لها وكانوا يرون وجهها يفيض بالحزن والألم والأسى، وكان يكفيهم أن يروا هذا في وجهها حتى يحسوا أنهم ليسوا وحدهم في الحياة، وكانت فؤادة تزداد في كل يوم بغضا لعتريس؛ فهي كما تعرف الحب الشديد الصافي للحياة وأبناء الحياة تعرف البغض الشديد لأعداء الحياة وأبناء الحياة.
كان الرجال أكثر الشاكين إلى فؤادة من إجرام عتريس وكان قلب فؤادة ينصدع لشكوى الرجال وكانوا يحسون بمشاعرها، كانت خلجات فؤادة جميعها تظهر على وجهها، فكان من يكلمها يحس أنه يخاطب قلبها مباشرة لا أذنيها ولا وجهها، وكان يحس أنه يتلقى حديثها من قلبها لا من لسانها، فكان صدى حديثها فريدا في نفوسهم لا يشبهه حديث أحد من الناس الذين يعرفون.
ولكن هناك واحدا في القرية لا يترك فرصة يراها فيها إلا حادثها حديثا ليس فيه شكوى، وإنما هو حديث من نوع غريب فيه إخلاص وفيه تقدير، كان ذلك هو الشيخ إبراهيم علام، وهو رجل يملك في القرية فدانين يزرعهما هو وولداه محمود وطه يعيشون من محصولهما، وكان كلما التقى بفؤادة أحب أن يحادثها وكانت هي أيضا تحب أن تحادثه حديثا عابرا ولكنه كان حبيبا إلى كل منهما.
كانت فؤادة في ذلك اليوم في طريقها إلى الست تفيدة، وكان الطريق خاليا بها حين نبت الشيخ إبراهيم من ثنية في الطريق فوقفت فؤادة وقال الشيخ إبراهيم: صباح الخير يا ست فؤادة. - صباح الخير يا عم الشيخ إبراهيم. - الله معك. - إنه معي. - لأنك معه، أنت تحبين الله يا فؤادة وهو يحبك. - ويحبك أنت أيضا يا شيخ إبراهيم. - موفقة دائما إن شاء الله. - شكرا يا عم الشيخ إبراهيم، ادع لي. - أدعو لك دائما. - أفوتك بعافية. - مع السلامة .
وانصرفت فؤادة إلى بيت الست تفيدة واتخذ الشيخ إبراهيم طريقه إلى غيطه.
الفصل الرابع
صفحه نامشخص
حين ترك الشيخ إبراهيم فؤادة لم يمش كثيرا وحده، فما أسرع ما رافق طريقه عبد الغنى حسون لسان القرية المنتشر ينقل أخبارها ويكسب عيشه من نقل هذه الأخبار، فهي وسيلته أن يحادث الناس، ولن يعدم الناس لقمة يقدمونها له أو نصف قرش يبرونه به وهو بهذا قانع، وهو يحب عمله ويخلص له كل الإخلاص، ويتتبع الأنباء من مصادرها وينقلها إلى كل من يلقاه، فما هي إلا دورة منه أو دورتان حتى يصبح الخبر ملء القرية جميعها.
وقد كان عبد الغني حين التقى بالشيخ إبراهيم محملا بالأخبار ولم يكن قد التقى بأحد بعد، فراح يلقي أخباره في دقة، وقد كان قادرا وهو يلقي أخباره أن يسوقها فيما يشبه الحديث العادي بين الأصدقاء، وكان الشيخ إبراهيم لا يعلق على أخباره بغير جملتين يختار الواحدة منهما حسب ما يقتضيه الخبر فهو إما أن يقول: «الحمد لله» أو يقول: «أعوذ بالله» ولا يزيد.
وقد كانت الأخبار في ذلك اليوم مليئة باسم عتريس، فهو قد سرق بهائم عبد العال التش ويطلب لها حلوانا مائة جنيه، وهو أيضا أغرق أرض حسنين أبو شوشة؛ لأنه كان قد ذكره بسوء في فرح أبو ديب، وهكذا لم يستعمل الشيخ إبراهيم عبارة الحمد لله إلا مرة واحدة في هذا الحديث الطويل حين أخبره عبد الغني أن عبد الباقي عمارة قد أنجب ولدا بعد أن انتظر هذا الإنجاب مدة ثلاث سنوات.
اقترب الشيخ إبراهيم من غيطه ومعه عبد الغني حسون وبلغت آذانهما أصوات ضجيج وتصايح، فحثا الخطا، وعند الغيط رأى الشيخ إبراهيم ولديه محمودا وطه ومعهما جاره علي يهدد، وقد راح ثلاثتهم يتبادلون الوعيد؛ فعلي يهدر بقول: والله أكسر رجل من يقترب من الماء.
ويصيح محمود: أنت تكسر رجل من يقترب، والله مصائب، يا أخي عيب، والله إنك لا تتحمل مني خبطة.
ويصيح علي: خبطة في رأسك ورأس من خلفوك.
ويقول الشيخ إبراهيم ولم يكن الجمع الثائر قد رآه بعد: وما ذنب من خلفوه يا عم علي؟!
ويصيح علي في ثورة: نعم أنت الآخر، ماذا تريد؟ - خيرا يا بني خيرا إن شاء الله. - شغل الطيبة هذا لا ينطلي علي.
وصاح طه: يا ولد اصح شف من تكلم.
ويقول علي: يا سيدي طظ فيك وفيمن أكلم.
صفحه نامشخص
ويقول الشيخ إبراهيم: كتر خيرك يا ابني.
ويهاجم طه عليا يريد أن يضربه ويلحق به محمود، ويقول الشيخ إبراهيم في حزم وهدوء: ارجع يا طه، ارجع يا محمود.
ويقف الشابان ويقول طه في ضيق: آبا ...
ويقاطع أبوه: ولا كلمة، ماذا حصل يا سي علي؟
ويقول علي: آه، آه يا حبيبي، كل عقلي أنت، يا سي علي قال، قال يا سي علي! - يا بني ماذا حصل؟ - لا أدري.
ويقول محمود: يريد أن يروي غيطه قبل أن نروي نحن.
ويقول الشيخ إبراهيم: ولكن الماء يمر بنا أولا، وقد ظللنا العمر كله نروي قبلكم حتى أيام المرحوم أبيك كنا ...
ويقاطعه علي: لا شأن لي بأبي.
ويحاول عبد الغني أن يقول: لا حق لك يا علي.
ويزجره علي في عنف: اسكت أنت يا ضائع، ما شأنك أنت؟
صفحه نامشخص
ويقول الشيخ إبراهيم: أنت ترى أنك على حق يا علي؟ - نعم، على حق وعلى حق، ومن لا يعجبه يشرب من البحر. - لا يا بني لا بحر ولا ترعة، ارو أرضك، هيا يا محمود هيا يا طه.
ويقف الشابان ويقول محمود: يا آبا أقسم بالله إنه لا يتحمل خبطة، ألا ترى يا أبي هزاله؟ لماذا نخاف منه يا أبي؟
ويقول الشيخ إبراهيم: أنا لا أخاف المخلوق أبدا. - وهل يرضى الله بهذا؟ - لا تطل الجدال، الجار أغلى من الأرض، هيا.
ويقول طه: يا آبا هذا ...
ويقول الشيخ إبراهيم في حزم: ولا كلمة، هيا معي إلى البيت.
ويمشي ثلاثتهم ومعهم عبد الغني الذي ما يلبث أن يقول في صوت خافت: لماذا لم تتركهما يؤدبانه يا عم الشيخ إبراهيم؟ - المؤدب ربنا يا عبد الغني، المؤدب ربنا.
ويذهب الجميع إلى بيت الشيخ إبراهيم ويقول عبد الغني في نغمة متخاذلة: أستأذن أنا يا عم الشيخ إبراهيم.
ويقول الشيخ إبراهيم: بل نفطر معا. هات لنا لقمة يا طه.
ويدخل طه إلى البيت، ويقول عبد الغني: ألم يبق إلا علي بهدر حتى يتطاول عليك؟!
ويقول الشيخ إبراهيم: دع علي بهدر في حاله، قل أنت بماذا سمى عبد الباقي ابنه؟ ويفهم عبد الغني أن الشيخ لا يريد أن يسمع ذما في علي بهدر فيدير الحديث إلى حيث يريد الشيخ ويقول: سماه عمارة على اسم أبيه. - ونعم ما فعل.
صفحه نامشخص
ويروح عبد الغني يلقي أخبارا أخرى عن القرية والشيخ يسمع، ويأتي الطعام فيفر له عبد الغني بجميعه وما يلبث أن يأتي إليهم في مجلسهم عبد الباقي عمارة ويستقبله الشيخ مرحبا: أهلا عبد الباقي، كنت قادما إليك لأهنئك. - أطال الله عمرك يا عم الشيخ إبراهيم، قل لي: أين محمود وطه؟ - هنا، أتريدهما في شيء؟ - لا، لا شيء، ولكن رأيت المياه في الغيط ولما أرهما فحسبت أن شيئا عاقهما عن ري الأرض. - المياه في غيطي أنا؟ - نعم. - هل رأيتها بعينيك؟ - نعم الآن، كنت عند الغيط الآن وجئت إلى هنا مباشرة لأطمئن عليهما.
ويخرج طه ومحمود مسرعين، ويقول محمود: هل أنت متأكد يا عبد الباقي؟ - أقول لك كنت في الغيط الآن.
ويقول طه: هل رأيتها بعينك؟ - وهل كنت سأراها بأذني؟ طبعا بعيني!
ويلفت طه إلى أبيه: أريت يا أبي؟
ويقول الشيخ إبراهيم: انتظر حتى نرى.
ويقول طه: وهل بقى فيها انتظار؟ علي أغرق الأرض. - قلت لك انتظر حتى نرى.
ويلتفت طه إلى محمود: احضر فأسك وفأسي من الدار يا محمود، هلم بنا.
ويقول الشيخ إبراهيم: قلت لك انتظر حتى نرى.
ويقول طه: نأخذ الفئوس معنا.
ويقول الشيخ إبراهيم: بل نذهب بغير فئوس.
صفحه نامشخص
ويقول طه: يا آبا ...
وقبل أن يكمل يقاطعه الشيخ إبراهيم قائلا: لا تطل وهلم بنا.
ويقصدون جميعا إلى الغيط ومعهم عبد الغني وعبد الباقي عمارة وحين يقتربون من الغيط يجدون الماء فيه فعلا، ولكنه ماء من يريد أن يروي لا من يريد أن يغرق، وما لبثوا أن تأكدوا أن الماء يجري في غيطهم تجريه يد صانع تحنو على الأرض، وتعطيها من الماء ما يكفيها دون زيادة أو نقصان، ووجدوا علي يقوم بري الغيط في هدوء وسعادة، وينظر خمستهم بعضهم إلى بعض ويبتسم الشيخ إبراهيم ولا يقول شيئا لهم وإنما ينادي من أقصى الغيط: ماذا يا علي؟
ويأتي علي مسرعا ويمسك بيد الشيخ إبراهيم: سامحني يا عم الشيخ إبراهيم. - لا عليك يا بني. - خجلت منك بعد أن انصرفت فرحت أروي الغيط وحدي لعلي أرضيك وأرضي نفسي.
ويلتفت الشيخ إبراهيم إلى ولديه: انزل يا محمود أنت وطه مع أخيكما وارويا معه أرضنا حتى إذا فرغتم فارويا معه أرضه.
ويتقدم الأخوان من علي وما يلبثان أن يعانقاه ثم يأخذ ثلاثتهم سمتهم إلى جدول الماء.
وينصرف الشيخ إبراهيم وفي رفقته عبد الغني وعبد الباقي صامتين.
الفصل الخامس
إنعام، وجه مستدير وعينان واسعتان تنظران إلى الدنيا في جرأة وبغير اهتمام، وأنف كبير بعض الشيء وشعر أسود فاحم غزير ينسكب من المنديل حتى ليغطي رقبتها الطويلة، وهي ذات قوام فارع يميل إلى النحافة، تركها أبوها عبد العليم وهي بعد طفلة، ولم تكن أمها ذات جمال، ولا هي ذات مال، فراحت تعمل في القرية طولا وعرضا تجمع ما يقيم أودها وأود ابنتها فلا تكاد، ونشأت الفتاة وحيدة، واستقبلت الحياة أول ما استقبلتها وقد أدركت أن ليس لها في هذه الحياة إلا نفسها فاعتمدت على نفسها هذه كل الاعتماد، وحين شبت عن الطوق ضربت في غمار العمل، وتعلمت، تعلمت كل شيء عن الرجال، فقد أدركت أنهم هم الذين يسيرون هذه الحياة وفق ما تشتهي آراؤهم وعقولهم فلم تجد أي فائدة أن ترضي النسوة، بل وجدت الفائدة كل الفائدة أن يرضى عنها الرجال، ووافق العلم الموهبة فإنها حين بلغت الثالثة عشرة عرفت كيف تبدو جميلة، وعرفت كيف تحسن الابتسامة، وكيف تتقن الضحكة بل كيف تجمل التجهم، إذا أرادت التجهم، على قطعة من مرآة كسورة في زاوية من زوايا بيتها، كانت إنعام تقوم بالتمرين اليومي وكانت تطبق ما تفعله في البروفة بينها وبين مرآتها على مسرح الحياة الكبير، فما إن بلغت السادسة عشرة حتى كانت حديث الشباب في القرية جميعا.
لم تكن أجمل فتيات القرية، ولكنها كانت أقدر الفتيات فيها على إرضاء رجال القرية جميعا، فللشيخ المسن عندها ابتسامة تعيد إلى نفسه ما انقضى من شبابها، وللشباب المغرور ضحكة تؤكد ثقته بنفسه وللجميع، لها مشية تلتقط الأنظار التقاطا فتجعلها تتبعها إن هي أدبرت أو تستقبلها إذا هي أقبلت.
صفحه نامشخص
وحين بلغت السابعة عشرة كان رشدي عبده قد ورث عن أبيه عشرة أفدنة وجسما ناحلا، وتقدم رشدي للزواج منها ووجدت فيه آمالها التي نسجتها وهي تطالع المرآة الكسيرة، وسارعت تقبل الزواج.
وأقبل رشدي على الزواج إقبالة لهفان مشوق، وفي يوم الزفاف جلس إلى رفقة طالعوه بحديث اضطرب له بعض الحين. - ماذا أنت فاعل الليلة يا أبا الرشد؟ - ما فعله آباؤنا وأجدادنا. - ولكن البنت في صحة تأكل الحديد وأنت ... - وأنا ماذا بي؟ لا يغرك ما تراه من نحولي. - لا يا بني هذا الكلام لا ينفع؛ لا بد مما ليس منه بد. - وما هذا الذي ليس منه بد؟ - قرش أو قرشان. - بسيطة. - يتهيأ لك. - ماذا تقصد؟ - أعطني خمسين قرشا. - ألم تقل قرشا أو قرشين؟
وتعالى الضحك من الرفاق وأدرك رشدي ما يقصدون فقال: آه تقصد ال... - آه أقصد ال... - لا يا شيخ. - بل نعم يا شيخ. - أنا لم أذقه في حياتي. - فأنت بين اثنتين، إما أن تذوقه أو لا حياة لك على الإطلاق. - صحيح. - جرب.
هاك الخمسين قرشا.
وحين جرب رشدي وجد نفسه يهيم في ملكوت من الأحلام والرؤى، فهو الذي يرى نفسه ضئيلا كالوهم، نحيلا كالخيال، أصبح في رأي نفسه أسدا هصورا مزدحما بالشجاعة، فما عتريس حينئذ أمامه إلا فأر صغير هزيل وما أعماله إلا لعب أطفال لا قيمة لها، أين منه عتريس حين يخلو به مخدره؟ وتزوج رشدي وأصبح منذ هذه الليلة وهو لا يفيق، وكان يطيب له أن يدعو رفاقه إلى جلسة المخدر، وكان يخيل إليه أنه يرضي بالمخدر زوجته الإرضاء الذي لا مثيل له، وعلى هذه العقيدة كان يبيح لنفسه أن يتأخر في جلسته إلى الهزيع الأخير من الليل.
وسرعان ما استقرت العادة عند إنعام، فأصبحت على ثقة في كل ليلة أن زوجها لن يعود إلا قبيل بزوغ الفجر، فهي في خلوة مطمئنة، وهي من نفسها وضميرها في بحبوحة وهي من جمالها وجاذبيتها في غنى وافر، وطالما تزاحمت حواليها قبل الزواج الآمال الملتهبة والأيدي الممتدة والمطامع الفائزة وكانت هي بضحكة لا تخطئ الفريسة تعد ولا تعطي وتفسح للآمال أبوابها ولا تدع أحدا يلج من هذه الأبواب من الآمال إلى وادي الحقيقة الظليل الوارف، فالشباب الهائم بها على موعد منها دائم لا يعرفون مكانه ولا يعرفون موقته، وحين تزوجت وطالت بها أيام الزواج، وطال بزوجها السهر وانقض عليه المخدر وأنشب فيه أظافر تمتص البقية الباقية من صحة عليلة وشباب ضامر، نظرت إنعام إلى شبابها فوجدته يتسرب في رمال الحياة، فلا يزهر حيثما يتسرب نبتا، ونظرت إلى حياتها فوجدتها قاحلة بلا مال، ومن أين لها المال وزوجها قد أولع بالمخدر ولعا أخذ عليه مسالك تفكيره جميعا؟ لما رأت إنعام هذا أصبحت مواعيدها للشباب معينة المكان والموقت، ولم يكن المكان إلا بيتها، ولم يكن الموقت إلا حين يغيب زوجها عن المنزل في محاولته أن يغيب عن الوعي جميعا، وأرادت إنعام أن تكسب من صلاتها بشباب القرية شيئين وقد كسبتهما معا. كانت تريد أن تروي جسمها الذي أجدبه هزال زوجها، وكانت تريد أن تكسب مالا، فهي من خوف الفقر الذي عرفته في قلق دائم لا يستقر بها على حال.
وتسامع شباب القرية بهذه التجارة الجديدة التي افتتحتها إنعام في بيت زوجها رشدي، والمورد العذب كثير الزحام، فكانت تعطي الموعد للشاب من هؤلاء وهي في صحبة شاب آخر لم يبارح منزلها بعد، ولم يبق في القرية من لم يعرف أمر هذه التجارة إلا رشدي، وقد كان رفاق جلسته أنفسهم يتركون جلسته ويقصدون فرادى إلى بيته ثم يعودون إلى جلسته وهو ما يزال يضحك سعيدا أنه ابن كيف وأنه رجل وأنه قوي وأنه أسد.
وفي يوم توعك مزاج رشدي، ولم يحس النشوة التي ألف أن يحسها فقام من المجلس يريد أن يذهب إلى بيته، وكان معه رفيقان له حاولا أن يستمهلاه فلم يتمهل فأسرع أحدهما خفية يريد أن يسبقه فلم يجبه أحد فاطمأن وانصرف، وجاء الصديق الآخر مرافقا لرشدي في الطريق يريد هو الآخر أن يطمئن أن رشدي لن يرى ما لا ينبغي له أن يرى، وبلغ رشدي البيت ولم يطرقه، وإنما أولج المفتاح في الباب ودخل، الظلام دامس، ولكن نورا خافتا ينبعث من حجرة النوم، سلم على صديقه وأغلق الباب وقصد إلى غرفة النوم وفتحها وتسمر بالباب، أغمض عينيه ثم فتحهما، تغير المشهد ولكن ليؤكد الحقيقة التي رآها، إنها حق لن يغني معه إغلاق العين، تزوجها من الطريق العام وجعل لها بيتا، وصانها عن العمل وباع أرضه ليشرب لها الحشيش، ثم ها هي ذي أمام عينيه، أحبها، أحبها بكل دفقة دماء في عروقه، بكل آمال الشباب وعنفوانه ولم تنجب له ذكرا ولا أنثى، وها هي ذي أمامه، صرخ، صرخ بلا حديث، وصرخ، وصرخ، وانفتل الذي كان معها قافزا وفتح الباب الخارجي وخرج إلى الطريق وامحى في الظلمة ولم يبق من الحادثة إلا صراخ رشدي وذهول إنعام، وتجمع الجيران ولم يسأل واحد منهم ماذا حدث فقد كانوا جميعا يدركون ما حدث، ولن يجيبهم أحد إن هم سألوا فالزوجة ذاهلة والزوج يصرخ، آه عالية عريضة مرتفعة كصوت حيوان يعذب حيا فوق النيران فلا النيران تأكله، ولا هي عنه قصية، آه معذبة والهة حرى طويلة تنطلق من الأعماق وتجوب الجسم كله قبل أن تنفجر من فمه فتخرج كدفاع من الماء يخرج من عين ضيقة لا تتسع للسيل، طويلة هذه الآهة عريضة عرض العذاب الذي يحسه والمهانة التي يصطليها.
ونظرت الأعين إلى الزوجة وهي تتهرب من نظراتهم بنظرات واجفة تثبتها على زوجها، وكثر الصراخ وكثر وارتعد الجسم النحيل ثم ارتمى منتفضا، وسقط رأسه على الأرض وقد علا له ضجيج يشبه صراخه الذي كان يصرخه، وانطلق الصمت بعد الضجيج وألقى الناس عليه نظرة، ولعل فكرة راودت بعضهم كيف كان هذا الصراخ جميعه ينطلق عن هذا الجسم الضئيل؟ كيف اتسع هذا الجسم لهذا الألم؟ فكرة خطرت، ولحظة من صمت هومت عليها الحيرة، ثم ارتفع اللغط وتقدم بعضهم منه، وطلب بعضهم ماء وبسمل بعض وحوقل آخرون والجسم على الأرض ينتفض وتتقلص أطرافه وتتشنج وغاب رشدي عن الحياة، وانسكب عليه الماء فلم يجد الماء، وإنعام تشهد ولا تدري ما تفعل، الجميع يعرفون ما جرى، على ثقة مما يعرفون، ولكن لن يستطيع أحد أن يشير إليها بهذا الاتهام، فما رأوا رأي العين إلا زوجا يعتريه الصرع، وزوجة واجفة مما ترى عليه زوجها.
ولم يسأل أحد ماذا، ولكن إنعام أرادت أن تقول شيئا وقالت: دخل وأنا نائمة أحسست به وقمت أفتح باب الحجرة، ولكنه لم يدخل، وإنما وقف يصرخ حتى جئتم، عين وأصابتنا، ولم يسمع أحد ما تقول، ولكنها ظلت تقول لا يعنيها أن يسمع أحد أو لا يسمع، وإنما هي تقول، وانقضى بعض الحين، وفتح رشدي عينيه، وتهافت إليه المجتمعون، ماذا حصل؟ عينان تدوران في الناس لا تعيان من أمر الناس شيئا، ووضع يده على رأسه حيث اصطدمت بالأرض، ثم رفع يده ولم ينظر إليها وتعالى الضجيج من الناس ورشدي صامت، وحملوه إلى سريره، وانتفض مرة أخرى وهم يقتربون به إلى الفراش، ولكنه استسلم إلى السرير، وتخافت الضجيج وبدأ الناس يعودون إلى بيوتهم صامتين، وأغلقت الأبواب على أصحابها وأغلقت إنعام باب بيتها وشمل الظلام القرية جميعا.
صفحه نامشخص
بعد أيام قليلة كان رشدي في طريقه إلى مستشفى الأمراض العقلية، وكانت إنعام عند الأستاذ عليوة تطلب الطلاق، وقبل عليوة القضية في طبيعة مواتية، فالأمور في ظاهرها طبيعية، الزوجة في عنفوان الشباب والزوج في سراي العباسية والقانون يبيح لها طلب الطلاق، وما هو إلا قليل من الحين حتى كانت إنعام مطلقة تمارس تجارتها بلا خوف ولا حذر، والمورد العذب كثير الزحام.
الفصل السادس
الآمال الباسمة، والأحلام الوردية، والرؤى والجمال، وأيام الشباب المزهرة بالخيال، الرحيبة بالثقة، المفسحة للمستقبل أبوابا من الجنة وسبلا من المجد وطرقا من الرفاهية وخمائل من الهناء أيام كانت اللذة الحالمة أحلى من اللذة الماثلة، وكانت النظرة إلى الأيام المحجبة في ظلال المستقبل تحيل الحاضر القاسي المرير فردوسا أخضر الجوانب مخضل النبت مزدهر المرأى بأنواع من الأزاهير ملتهبة الألوان، تسكب في القلب الدفء والسرور المفعم باليقين، والاطمئنان المضمخ بأريج العزة والجاه.
هذه الآمال التي كنا نعلقها بالأيام القابلة من حياتنا، ونحن نعلم أن الأيام ستجعل من هذه الآمال حقيقة، علمنا بأن هذه الأيام قادمة مع المستقبل، حلوة هذه الأيام، ولم يكن فيها إلا هذه الأحلام، لكانت وحدها واحة الحياة نلجأ إلى ذكراها من الهجير الذي لقيتنا به الأزمان، هذه الأيام التي وثقنا بها فخانت، وألقينا إلى أيديها آمالنا، فإذا الآمال هشيم، وإذا الذي كان في يقيننا مستقبلا مضمخا بأريج العزة يصبح ماضيا حقيرا أقتر حسيرا تلف حواشيه أتربة الريف المتصاعدة من مشي البهائم على الطريق.
أين ممدوح؟ كان إذا دخل الفصل أقف له، وكيف لا أفعل وأنا ذلك الشيء الذي سبح كالهوام من أعماق الريف؟ من هنا، من الدهاشنة، إلى القاهرة، أم الدنيا، أي دنيا تلك التي يقولون إن القاهرة أمها؟! دنيا حقيرة لا تزيد على الدهاشنة، من هؤلاء الذين يقولون إن القاهرة أم الدنيا؟ زحفت إليها كالهوام وأدخلوني إلى فصلي بكلية الحقوق، وأقبل بعد حين ممدوح، فتى سمهري القوام فارع الطول أبيض البشرة كأنما بشرته لم تلتق بالحياة، ناعم الشعر صقيله قد مشطه صاحبه في عناية فجعله يبدو مؤدبا مطيعا لا تند منه شعرة ولا تثور، إنما هي مع رفاقها تجعل من رأس الفتى الجميل تحفة فنية رائعة، لماذا تعطي الحياة فتغدق؟ ولماذا تمنع فتغلو في البخل؟ هذا الفتى الحلو لا يملك أحد أن يراه ولا يسأل من هذا، شخصية واضح أن الحياة تحبه وتهب له في بذخ، أليس هذا الجمال موهبة كموهوب في الفن أو موهوب في العلم؟ أليس الجمال موهبة؟ سألت من هذا؟ ونظر إلي التلميذ الذي كان بجانبي، شاب مثلي زحف أبوه من الريف وأنجب أبناءه في القاهرة، فلم يغير هذا منهم شيئا، أصبحوا جميعا قطعا من الريف وإن ولدت بالقاهرة، سألته من هذا؟ قال: ممدوح بن حمدي باشا صفوت وزير الزراعة، ولكن حمدي باشا صفوت فيما أعلم فلاح، نعم، هذا الفتى ابن فلاح؟! وقمت واقفا، لم يكن الدرس قد ابتدأ وسألني جاري: لماذا تقف؟ ولم أجب عن سؤاله، أكل هذا الجمال وأبوه وزير أيضا وباشا، إنها فعلا تعطي وتغدق، كنت كلما دخل ممدوح الفصل أقوم واقفا، لم نصبح أصدقاء قط، ولكنه كان إذا لقيني خارج الكلية حياني، أما في الكلية فقد كان يشيح بوجهه كلما رآني أقف له، وفي يوم دخل فوقفت فقصد إلي ضاحكا وحدثني عن الأستاذ لماذا تأخر؟ ومتى سيبدأ الدرس؟ وسألني إن كانت مذكراتي كاملة، ودعاني أن أذهب إلى بيته، بيت حمدي باشا صفوت، أنا، اعتذرت، كيف أدخل، بماذا أدخل؟ بحذائي هذا ذي الرقبة الطويلة والقفل الذي يشبه قفل صندوق الملابس عندنا في الدهاشنة، أم أدخل بشعري هذا القافز إلى الهواء أم بوجهي هذا الترابي اللون أم بحلتي هذه التي تشبه في خطوطها الجلاليب، لا، ما لي أنا وهذا، ولكني فهمت لماذا كلمني، لم أقف بعد ذلك ولم يكملني هو من بعد، أين ممدوح الآن؟ أتراه يذكرني؟ ماذا يعرف عني؟ أنا أقرأ اسمه بين الحين والآخر في الجرائد، أما هو فماذا يعرف عني؟ كنت أحلم أن أصبح مثل حمدي باشا صفوت نفسه، ولماذا لا؟ هو فلاح وأنا فلاح، وهو خريج الحقوق وأنا خريج الحقوق، صحيح اسمه لا بأس به، له رنين فخم، واسمي له صوت كنعير الجاموسة: عليوة، جاموسة تنعر، ولكن متى كان الاسم حائلا دون الوزارة؟ أو هو على الأقل لا يكون حائلا دون الأحلام، أخبار ممدوح في الجرائد لا تفيد شيئا إلا أنه يعيش، أما أنا فهو لا يدري إن كنت أعيش أو لا أعيش، ولكني لا شك أحيا في ذاكرته، ذلك الشاب ذو الشعر القافز الأسمر اللون النحيل الجسم المخطط الملابس الذي كان يقف عند دخوله، لا يذكرني ولكنه لا يعرف عني شيئا من بعد، ظننت أنني لن أقضي في الدهاشنة إلا بضعة أعوام، فإذا الأعوام تتطاول، ثم تتوقف عن المسير، وأظل أنا بالدهاشنة، ترى لو خطبت ابنة رئيس النيابة أيرضى أن يزوجني ابنته؟ إنه يشبه حمدي باشا صفوت، يشبه صوره التي تنشر في الجرائد، والبنت تشبه ممدوح، أبينهما قرابة، لكم أحب بنت البك رئيس النيابة، سنتان الآن منذ رأيتها وهي تنتظر أباها في العربة على باب المحكمة، سنتان وأنا أفكر فيها، لماذا يرتبط تفكيري فيها دائما بممدوح؟ لا أدري؟ أتراني سأقف لها إذا تزوجتها؟ منذ رأيتها وأنا أعمل في جنون، قبلت كل القضايا، حتى قضية إنعام، وأصبحت أملك ثروة الآن، ألف وخمسمائة جنيه، أيرضى البك رئيس النيابة أن يزوجني ابنته إذا أنا طلبتها؟ ولم لا؟ إن كان مركزي الآن لا يعجبه فهو يستطيع أن يعينني في سلك القضاء؟ وأصبح مثله؟ لماذا لا أتقدم؟ أريد أن أكمل الألفين حتى أصبح مطمئنا، هذا العتريس المجرم يخيف الناس، لو أنهم كانوا يخافونه أقل مما يفعلون لحصلت على أتعاب كثيرة ممن يعدو عليهم، ولكنه يرعبهم كأنما يسحرهم، يفترسهم وهم صامتون حتى لا يقول الواحد منهم آه، ذعر هذا العتريس، لو خفت قبضته بعض الشيء لأكملت الألفين، وما لي لا أفعل؟ أنا مصاريفي الشخصية لا تزيد على أجرة المواصلات من هنا إلى المحكمة، ومكتبي إيجاره بسيط، وأصبح لي والحمد لله اسم كبير، أو أصبح لي اسم على أية حال، لماذا لا يقبلني البك رئيس النيابة لابنته؟ لعله يريد لها فتى مثل ممدوح، ولكن الشكل لا يهم، لعلي الآن أفهم في المحاماة أكثر من ممدوح، ما هي الدعوى البوليصية، دعاوى كثيرة حفظناها ولم نستخدمها، لعل ممدوح يعرف الدعوى البوليصية، ولكن لا يعرف كيف يحجر على محصول أو كيف يكتب عقد بيع، إن عقود البيع هذه تفرج علينا فرجا، باب رزق لا يقفل، أكمل الألفين وأتكلم، يكون عندي المهر والشبكة على الأقل، إذا تزوجت بنت رئيس النيابة، بنت رئيس النيابة، آمال الشباب التي أصبحت هشيما تتجسم مرة أخرى، ها أنا ذا أراها هناك على طريق المستقبل وردية كما كانت وردية، مضمخة بأريج المجد والعزة والرفاهية، أرى الأيام القابلة أزاهير من المنى ووديانا من الأحلام وخمائل من رؤى الشباب الباكر.
الفصل السابع
عجيب أن تكسر المرآة فتصبح على هذه الصورة، دائرة في الوسط تتشعب منها الشدوخ في اتجاهات شتى، فإذا هي مرايا شتى وإذا أنا فيها شتى صور وشتى آدميين، أعرفهم جميعا ولا أعرف أحدا منهم، أنا هم كلهم، ولست منهم أجمعين في شيء، هذا، هنا في هذا الجانب الأيمن البعيد، هذا عتريس الطفل، ها هو ذا يضحك في براءة ساذجة، ويحب أن يضحك ما استطاع إلى ذلك من سبيل، ويجلس إلى الشيخ في الدرس، ويحب أن يسمع القرآن ولا يحب أن يحفظه، صعب الحفظ، وهو بنفسه عتريس الذي كان يمر بمجامع القرية فيسخر ويضحك ويجري خائفا، فلا يعدو الخوف على هذه الابتسامة الساذجة المنشرحة فتظل على شفتيه، لم تقض الأيام على عتريس هذا الذي يحب الضحك الساذج، ها هو ذا في المرآة اليمنى، هناك في الجانب البعيد، إني أعرفه ولا أكاد أعرفه، إنه أنا، وأين منه أنا؟ إلى جانبه ذلك الفتى الذي كان يخرج مع جده في سهرات الليل المحفوفة بالمخاطر، وكان يخاف ولكن جده ما زال به حتى أمات الخوف في نفسه، أصبح لا يخاف، ألا أخاف؟ لا يبدو مني الخوف، ولكن ألا أخاف؟ المهم ألا يبدو مني الخوف، وأصبحت أخرج على رأس الرجال ويظل جدي في البيت، وأصبحت ذلك العتريس، هل أنا كما يصفون؟ أنا هنا في هذه المرآة ماذا أبدو؟ هل أعرف هذا الذي يبدو لي أم أنا لا أعرفه؟ أما هذا الذي يليه في الصورة فيخيل إلي أني أعرفه، أو أنا أحب أن أعرفه، ذلك الشاب الذي يحب الصوت الجميل والشكل الجميل والمرح، ذلك الشاب الذي يولع بالجمال أينما يكن هذا الجمال، أحب الصوت الحلو الذي يتغنى به المغني كأنه صلة السماء بالأرض، وما لي بهذه السماء؟ هذا الشاب يحب السماء، ويحب فؤادة؛ لأن فؤادة هي الجمال، أشبه ما تكون بعروس أرسلتها الجنة إلى الأرض؛ لتغري الناس أن يصلوا ويزكوا ويمتنعوا عن، عن ماذا؟ لا جنة لي في السماء، أكثير علي أن تكون لي جنة في الأرض؟ هذا الفتى الذي يحب، أنا أحبه، أهو أنا؟ لكم أحب أن أكونه، أما ذلك الذي بجانبه، هنا في المرآة الوسطى، كبرى المرايا جميعا، هذا الرجل أوشك أن أكون على ثقة من معرفتي به، هذا الشارب الذي يحتفي به ولا يجعله كبيرا يعدو على وجهه ولا صغيرا يعدو على هيبته، وهاتان العينان الحمراوان العميقتان الجريئتان، وهذه الجبهة الواثقة، وهذا الفم القوي وهذا الذقن البارز وهذا الأنف الذي ينبعث إلى أمام كأنه سهم القدر، هذا الرجل في هذه المرآة هو أنا، أهو حقيقة؟ أنا، أفضل هذا الذي إلى جانبه من الناحية الأخرى، الذي يدمع إن سمع دعاء طيبا، ويرف قلبه إن رأى حمامة تدف على زوجها، أو هذا الذي يليه الذي لا يزال يقبل يد والده، من أنا في هؤلاء جميعا؟ ومن هؤلاء جميعا؟ اجتمعوا وما اجتمعوا، وتنافروا وما ابتعد واحد منهم عن الآخر، أهي المرآة جمعتهم وفرقتهم؟ أم تراني أنا جمعتهم ونفرت كلا منهم عن الآخر؟ أم أن هناك قوة أقوى من المرآة ومني ومن الحياة هي وحدها التي تملك أن تجمع الناس وتنفر ما بين بعضهم وبعض؟ أهذه القوة هي التي جعلتني أحب فؤادة؟ لماذا يدوي اسمها دائما في أنحاء جسمي كأنما هو صوت من الجانب الميمون من الحياة، أي شيء جعلني لا أفكر إلا في حبها؟ ولماذا ألتذ شعوري بحبها ولا أتزوجها؟ لماذا انتظرت حتى اليوم لم أتزوجها؟ إن هي إلا إشارة، كلمة أقولها فلا يشرق صبح آخر إلا وتكون فؤادة زوجتي، ولكني لسبب أجهله أحب أن أنتظر وأن أسمع اسمها مدويا في كياني وفي حياتي، ولكن إلى متى أنتظر ؟ من أين يأتي هذا الحب؟ ولماذا يسيطر علي وأحب منه هذه السيطرة؟ أنا الذي لا أطيق أن أسمع رأيا يخالف ما أرى، كيف ألين لهذا الحب وأتركه يفرض علي فرضا بهذه القوة وهذا الجبروت؟ أي أنا في هؤلاء يحب فؤادة؟ هذا العاتي الذي يتصدر المرآة أتحبها؟ ما هذا الوميض في عينيك؟ ما له أصبح نورا وكان نارا؟ ما لملامحك قد كستها إشعاعات من الطيبة وغشتها غلالات من الأحلام؟ وأنت أيها الأنا الذي بجانبه وأنت الآخر وأنت، وكل أنا في هؤلاء، ما هذا الحنين الذي ألقى على وجوهكم جميعا؟ ليس واحدا في الذي يحبها، وإنما كل أنا في يحبها ويحن إليها، ما هذه الوجوه الجديدة التي تزحم المرآة، وجوه أعرفها وتختلط بوجوهي فلا أدري أين صوري بين صورهم، هذا الشيخ إسماعيل الصفوري أصبح ضمن عصابتي بعد أن طرده رجال الدين من بيئتهم، شيخ هو ولكن قلبه أخضر يحب النساء والحشيش، ولم يكن ذا مال، فسرق حصير الجامع الذي كان يخطب فيه وقبض عليه وخرج من السجن لينضم إلى العصابة، فما بقي له من الجانب الآخر من الحياة شيء، وهذا الذي بجانبه عبد المعطي العجل وكيل الدائرة الذي اختلس من العهدة فمر بالسجن لينضم إلي، يمسك حساباتي ولا يمسك عهدتي، وهذا الثالث عثمان شاكر وكيل المحامي زور في المحكمة توقيع أحد الموكلين وتسلم عنه المبلغ الذي حكم له به وأنفق المبلغ عنه أيضا، وخرج من السجن ليكون ضمن مجلس الشورى في مملكتي، مملكة مكتملة، ينظرون إلى المرآة، إلى صورة من ينظرون؟ إلى صورهم، أم إلى صوري؟ إنهم الفئة الممتازة في العصابة ولكن لا صوت لهم بجانب الهمس الذي أهمس به، صدى هم وأنا الصوت، فلئن تختلط صورهم بصوري فلا غرو فما هم إلا شعاع مني وما أصواتهم إلا رنين كلامي، يريدون أن يقولوا شيئا ولكنهم يخافون صمتي كما تعودوا أن يخافوا كلامي، لا يبدءون حديثا لا أبدؤه، لماذا يحلو لي أن ألتذ خوفهم هذا؟ لماذا سكت طوال هذه الفترة؟ لم يبن الضيق على وجه واحد منهم، بل لعلهم إلى السعادة أقرب، أليسوا هم وحدهم بين أفراد العصابة جميعا الذين أسمح لهم بالدخول إلي بغير حرج؟ مكانة يعتزون بها، نعم إنهم إلى السعادة أقرب. - هيه، خيرا يا رجال، أعرف ما تريدون، عملية الليلة، هل الرجال مستعدون؟ على بركة الله.
الفصل الثامن
أحبها منذ عرفت الحياة، مع الومضات الأولى للوعي، مع النبضات الباكرة من الذكرى، منذ لا أذكر متى، وجدت حبها معي منذ تبينت أن اسمي طلعت وأن اسمها فؤادة، ولم أكن في حاجة أن أقول لها أحبك، وإن كنت قد همست بها فلأستمتع بالهمس، حلوة هي الهمسة بين حبيبين، بلورة لحديث من العيون، وتجسيد شعاعات تحيط بالحبيبين لا يدريان ما مصدرها، مغلفة هي بالحب فؤادة، هي لي، وأبي لا يرفض، فهو يحب أن أتزوج فؤادة بل لعله يتوق إلى هذا الزواج، فهو دائما يتمنى أن تتوثق صلاتي بالقرية، ولم لا؟ أنا منها ولا عيش لي إلا فيها، ألم أحصل على أكبر الشهادات ومع ذلك يريدني أبي أن أعمل في القرية؟ عروقي ضاربة فيها، منها أبي ومنها جدي ومنها كل من أعرفه من جدودي، عاشوا بها وماتوا فيها فلماذا لا أمكن لهذه العروق أن تتوغل في أرضها؟ لقد قال لي أبي يوما: لكم أحب أن تتزوج من الدهاشنة، ولم تدهش أمي، بل لعلها رحبت، فأنا أستطيع إذن أن أتزوج من فؤادة، بل إنها في الواقع زوجتي بما بيننا من حب، ولكني أحب أن أسألها، لماذا لا أهمس لها وتهمس لي؟ لا، هناك أهم من هذا، هناك الشيء الأساسي في الحياة، أريدها هي أن تختارني، لا بالابتسامة ولا بالنظرة ولا بما أعلمه من أنها تحبني، ولكن يجب أن توافق على هذا الزواج موافقة صريحة لا شك فيها، بإرادة حرة لا سلطان عليها فيها إلا ما تمليه خوالج نفسها هي، ما تريده في البعيد البعيد من أعماقها، دون أن يكون لرأي أبيها أو أمها دخل في ذلك، لا أريدها أن تتزوجني لأن أباها يريدها أن تتزوجني ، إرادة خالصة بعيدة عن أي مؤثرات إلا رأيها، أريد أن أنال موافقتها نابعة من مشاعرها هي وعقلها هي، أريدها وحدها التي تقرر هذا الزواج، هكذا أريد هذا الزواج، ولن أناله إلا على هذه الصورة، ولن يكون إلا هكذا، فليس بين من عرفت من الناس أحد يقدس الحرية، مثلما تقدسها فؤادة، لماذا أشعر بحنين إليها مهما تكن قريبة مني؟ هذا الحنين هو الحب، أنا في شوق إليها دائم لا يرتوي، أحسه مشبوبا عاصفا وأحسه رقيقا كغناء النسيم أخذ يمسك بتلابيب النفس، وأحسه حرا منطلقا كملاك منطلق في الفضاء الرحب، لكم تحب فؤادة الحرية والعدل.
في الملعب والأطفال يعلبون الكرة وأنا بينهم، وهناك رجل واقف لا أذكر من، كان يحاول أن يعطيني حقا لا يتيحه لي قانون اللعب، وقبل الأطفال؛ فقد كان الملعب ملعبي، وكانت الكرة كرتي، ولكن فؤادة قالت: لا. (لا حازمة)، أنت تلعب مثلنا فيجب أن ينفذ عليك ما ينفذ على كل اللاعبين الآخرين. - ولكنك أنت من فريقي وبهذا التجاوز الطفيف نكسب نحن. - كسبا لا أرضاه لنفسي ولا أرضاه لك ولا أرضاه للحق، ليس هذا عدلا. - أنت حرة، اتركي الملعب. - أترك الملعب راضية. - ألهذا الحد؟ - نعم، إما أن نكون أحرارا في الملعب أو لا داعي للعب. - ما لهذا وللحرية؟ - الحرية هي المساواة امتيازك عن إخوانك عبودية لهم. - إذن فابقى. - ويصبح مثلك مثل سائر اللاعبين؟ - وأصبح مثلي مثل سائر اللاعبين.
صفحه نامشخص
وحين كبرت قليلا وأراد أبوها ألا تذهب إلى المدرسة، رفضت الأمر وأضربت عن الطعام، وقال أبوها: موتي إذا شئت، ولكنك لن تذهبي إلى المدرسة. - أموت لأنك تخنق حريتي، وأنا لا أطيق العيش بلا حرية. - كبرت، ولا يجوز أن تذهبي إلى المدرسة. - كبرت؛ ولهذا يجب أن أذهب إلى المدرسة. - وتخرجين وأنت قد أصبحت شابة؟ - وهل تنوي أن تحبسني إذا بقيت في البيت؟ - لا، ولكن القرية ليست مثل المدينة. - إنه أنا في القرية، وهي أنا في المدينة، أيهما أحسن أن أبقى في القرية لأصبح حكاية ضمن حكاياتها التي لا تنتهي أم أذهب إلى المدرسة وأستكمل تعليمي إلى أقصى حد ممكن؟ - لن تذهبي. - وأنا لن آكل. - وستأكلين. - أما هذا يا أبي فأنت لا تملكه، أنت حر أن تمنعني عن المدرسة لأنك أبي، أما طعامي فأنا حرة في أن اتناوله أو لا أتناوله لأنه طعامي أنا. - أنت حرة. - نعم حرة.
وأضربت عن الطعام أياما لم تطل، فقد أشفق أبوها عليها وذهبت إلى المدرسة، حرة هي، تعبد الحرية وتعيش بها، إنها هي نفسها ما هي إلا نسمة من نسمات الحرية، وشعاع من ضيائها، ونغمة عميقة من موسيقاها.
وانتظرها في يومه هذا، ووقف دونها صامتا، ونظرت إليه وابتسامة حلوة على وجهها، وما لبث أن قال: أتقبلينني زوجا؟
وصمتت لحظات فقال: لا بد أن أسمع نعم حتى أتقدم.
وضحكت وهي تقول: نعم. - بمجرد عودة أبي من السفر سنأتي إليك.
الفصل التاسع
شيخ أنت مهيب يحترمك الجميع في القرية كلها، فحيثما مررت يقف لك الجالسون ويحيك الواقفون، ملء عيونهم إجلال واحترام.
ويتوقف الأطفال عن اللعب إن مررت بهم، ويضع النسوة خمرهن على منتصف وجوههن إذا التقين بك، ويرحب بك أعيان القرية في مجالسهم، شيخ مهيب جليل، فارع القامة عريض المنكبين نضر السمات، أنت وجيه ولكن ما أنت وهذا جميعه؟ ما مكانك من نفسك؟ لماذا لم تسطع في يوم من الأيام أن تحترم نفسك في داخل نفسك؟ ساخطة هي نفسك عليك لا ترضى بك ولا ترضيك، الناس يحترمون هذه الأفدنة العشرة التي ورثتها عن أبيك، وهذه الأفدنة الخمسة التي اشتريتها وهم لا يدرون كيف اشتريتها، فلو ألقيت المقادير إليك ما اشتريت في حياتك شيئا، متى قررت شيئا وأنفذته؟ لو لم تكن زوجتك رتيبة ما اشتريت شيئا، هكذا أنت منذ وجدت في هذه الدنيا، ذهبت إلى الأزهر فلم تستطع أن تكمل علومه وتعثرت دون شهادة العالمية فيه سنوات وسنوات، وكنت كلما أزمعت أن تذاكر مالت بك نفسك عن المذاكرة، ثم أخذت تلومك وتلقي عليك ألوان التأنيب والهزء والسخرية كأنما في نفسك نفسان: إحداهما تلقي بك إلى مهاوي التردد والكسل والخنوع والضعف ، والأخرى تلقي عليك ألوان الهزء والتأنيب والسخرية حتى ما استطعت - وقد جاوزت الخامسة والخمسين - أن تعمل عملا واحدا ترضى عنه، حتى زواجك لم يكن بيدك، فلو لم يخطرك أبوك أنه قد خطب لك، وقرأ لك الفاتحة ما تزوجت حتى يومك هذا، وحين تزوجت من رتيبة تولت هي جميع شأنك فهي الآمرة الناهية في البيت والغيط وتكتفي أنت بالملبس الأنيق والمشية الوقور المتئدة واحترام الناس وإقبالهم.
أردت، نعم أردت ولكن الإرادة كانت تقف بك دائما عند الرغبة ولا تعدوها إلى التنفيذ، أردت أن تزوج ابنتك صابحة من ابن أخيك عمران، ولكن رتيبة قالت لا، فكانت لا، حاولت يومذاك أن تصر، ولكنك تعرف أن إصرارك لم يكن في يوم ما ذا قيمة، وزوجتك أيضا تعرف أن لا قيمة لإصرارك ولا لرأيك، وتزوجت صابحة من ابن عم رتيبة، وقالت إحدى نفسيك: إنه غني، وقالت النفس الأخرى: أنت ضعيف.
أولادك لا يقدمون لك من الاحترام إلا وقفة إن أقبلت عليهم أو قبلة على اليد إن هم صافحوك، ولكنك ترى في عيونهم أن الوقفة أو القبلة إنما هما إعلانات بنوة لا علامات احترام، أما سمعت مسعود وهو يقول لصابحة: أبي، وهل بيده شيء؟ الأمر كله بيد أمك.
صفحه نامشخص
وعبد المنعم يوم أراد أن يذهب إلى الأزهر هل قال لك شيئا؟ أبدا، لقد قال لأمه وجهز لسفره وقبل يدك وهو في سبيله إلى القاهرة دون أن يبادلك الحديث عن شئون مسكنه ومصروفاته في القاهرة، لقد أعد كل شيء مع أمه، وسعيد الذي يزرع الأرض هل قال لك في يوم من الأيام ماذا أنتجت الأرض من محصول، أو كم نفرا يستأجر، أو لمن باع القطن، أبدا، أبدا، كل حديثه مع أمه أما أنت فلا وجود لك ولكن الناس يقفون لك والأطفال يتوقفون عن اللعب والنسوة يلقين الخمر على منتصف وجوههن.
وأنت مدعو في كل فرح في القرية، وصاحب الفرح يحب دائما أن يشرف بأنك شاهد في العقد، شاهد في العقد، أنت شاهد في هذه الحياة جميعا ثم لا شيء آخر، أنت عند زوجتك مهم لتنجب لها أطفالا وتضع تحت يدها خمسة عشر فدانا تديرها، وأنت عند أولادك مهم ليقولوا لك يا آبا، ولينسبوا إلى أب يقف له الناس، ويتوقف الأطفال عن اللعب، وتلقي له النسوة الخمر على منتصف وجوههن، وليكون شاهدا في عقود الزواج في القرية، شاهد أنت في الحياة لو سئلت يوما ما وظيفتك؟ أتجد شيئا أكثر مناسبة بك من أن تقول: شاهد، الوظيفة شاهد، شاهد في الحياة، ولكن نفسك غير راضية عنك! لماذا لا تقف لك نفسك كما يقف الرجال؟ ولماذا لا تتوقف عن اللعب بك كما يفعل الأطفال؟ أو لماذا لا تلقي خمارا على منتصف وجهها كما تفعل النسوة، على النصف الأسفل من الوجه حيث الفم؟ ليت نفسك تلقي هذا الخمار على فمها فتسكت عنك وتتركك تنعم بهذا الاحترام الذي تلاقيك به القرية جميعا، ليت القرية جميعها لا تحترمني وأظفر بالاحترام من نفسي هذه وحدها، ما أجمل أن أرضى أنا عن نفسي! لا يهمني من بعد ذلك شيء، مجرد نفسي، داخلي، أريد داخلي هذا أن يرضى عني، أهذا كثير، ومع ذلك فهو بالنسبة لي المستحيل أو لعل المستحيل يصبح ممكنا، ولا أنال هذا الرضى من نفسي، كيف؟ كيف؟ أأستطيع بعد هذا العمر أن أقول: يا رتيبة منذ اليوم لا شأن لك بالأرض أنا الذي سأتولاها؟
فتبتسم لي ابتسامتها التي كانت تهدهد بها أطفالها حين هم صغار وتقول: وما له يا شيخ بسيوني، أنت الكل في الكل، كلنا نعيش بنفسك.
ثم تمضي في سبيلها كما كانت، وكأني لم أقل شيئا، وأسكت أنا راضيا، فإني أعلم أني لو توليت شأن الأرض لفشلت فشلا ذريعا ماحقا، ماذا أعرف أنا عن الأرض، بل ماذا أعرف عن أي شيء حتى أمشاج العلوم التي اختطفتها من الأزهر أضعها في طريق الحياة، نعم أستطيع أيضا أن أقول لسعيد: يا سعيد اجعل كلامك عن الأرض معي أنا، لا شأن لأمك به وسيقول: وما له يا آبا أمرك.
ثم لن يسألني بعدها في شيء أبدا، فهو يعلم جهلي، أأستطيع أن أعرف كم جوالا من السباخ يجب أن توضع في فدان القطن؟ أو كم نفرا يكفون لخف القطن أو تنقيته أو جمعه أو أي شيء؟ لا شيء إلا مزقا من العلوم في الأزهر وتبعثرت مني على الطريق حتى لم يبق شيء، ومع ذلك ها هم أولاء الرجال يقفون، والأطفال ينتظرون أن أمر حتى يواصلوا لعبهم، وها هي ذي فتاة جميلة تلقي الخمار على وجهها ريثما تمر بي، ثم ها هي ذي تعفي وجهها منه بعد أن بعدت عني.
الفصل العاشر
هنداوي أفندي عبد المجيد ناظر المدرسة الإلزامية في القرية، وهو يملك بها ثمانية أفدنة، وهو رجل قصير، فهو يلبس طربوشا طويلا، وهو نحيف، فهو يلبس ملابس فضفاضة، فالجاكتة ذات صفين دائما، وهي متسعة يلبسها في الصبح مع البنطلون، ويلبسها بعد الظهيرة وتحتها الجلباب، كان جالسا في غرفته بالمدرسة حين دخل إليه بخيت أفندي عبدحين دخل إليه بخيت أفندي الحفيظ: صباح الخير يا حضرة الناظر. - أهلا بخيت أفندي، تأخرت اليوم عن الحصة الأولى. - أنا أجمع القطن، وقد مررت بالغيط أرى الأنفار. - هذا كلام لا ينفع يا بخيت أفندي، يجب أن نؤدي وظيفتنا أولا، ثم نلتفت إلى الأشياء الأخرى، إنك تعرف أنني رجل دقيق. - الحقيقة يا حضرة الناظر أن الأمر الذي أخرني ليس الجمع في غيطي أنا، وإنما غيط حضرتك. - ماذا به؟ - القطن خرج عند حضرتك، ولا بد من جمعه. - أترى هذا؟ - نعم، لا بد أن تبيت على الأنفار من الليلة ليبدأ الجمع من الغد. - لقد مررت بالقطن البارحة وهو فعلا يستحق الجمع، ولكن لا أعرف ماذا أفعل؟ أترك المدرسة؟ - ولماذا تتركها؟ - وكيف أجمع القطن إذن؟ - مثل كل سنة. - أنت تعرف يا بخيت أفندي أنني رجل دقيق، وأخشى أن يقول واحد شيئا، أنا رجل دقيق كما تعرف. - الدقيق يا حضرة الناظر من يعرف مصلحته. - يعني؟ - يعني أشرف أنا على الجمع في أرضي وأرضك وتعطي حصصي لعبد الله أفندي وهو رجل طيب لن يقول شيئا. - كان يجب أن أجمع القطن قبل أن تبدأ الدراسة. - لو كنت فعلت لتركت لوزا كثيرا دون جمع ولسرقه الناس. - إذن ... - لا بد مما ليس منه بد.
وقبل أن يتم الحديث يدخل إلى حجرة الناظر عوضين العجمي. - يا عم هنداوي أفندي عملت علي غرامة؟ - طبعا وماذا كنت تنتظر؟ - الولد يجمع القطن معي. - أنا لا شأن لي، أنا أنفذ أوامر الحكومة. - يا عم هنداوي أفندي نحن ناس فقراء لا نتحمل الغرامة. - وأنا رجل دقيق لا بد أن أنفذ التعليمات. - ومن أين أدفعها؟ - هذا ليس شأني يا سي عوضين، هذا شأنك أنت. - لماذا نحن بالذات الذين تجعلنا ندفع الغرامة؟ هذا ظلم. - أنا ظالم يا سي عوضين؟! أنت تشتمني أثناء تأدية وظيفتي، أنا أودي بك في داهية. - يا رجل اتق الله. - إنني أتقي الله في كل شيء، لا بد أن أنفذ أوامر الحكومة، ماذا أقول للمفتش إذا جاء ولم يجد ابنك؟ ولم يجدني قد حررت له محضرا؟ - وماذا قلت للمفتش عن ابن عبد العال أبو السيد؟ - إنه يعمل في أرض البك. - البك غني يستطيع أن يدفع الغرامة، أما أنا فرجل فقير. - وأنا ماذا أعمل؟ - كما عملت مع ابن عبد العال. - لا، يا حبيبي أنا رجل دقيق. - ولماذا لم تكن دقيقا مع ابن عبد العال؟ - ابن عبد العال، ابن عبد العال، أنا حر. - أنت حر نعم، ولكن لا تغرمني. - لا تعطلني أنت عن عملي. - الغرامة يا عم هنداوي أنا في عرضك، كلمه يا سي بخيت أفندي. - أنت الغلطان يا عوضين. - أنا الغلطان يا بخيت أفندي؟! - حضرة الناظر أرسل أمس يشتري منك بيضا فتبيع له بسعر السوق؟ - وماذا في هذا يا سي بخيت أفندي؟ - لا حق لك يا بخيت أفندي ما دخل هذا في الغرامة؟ - طبعا يا حضرة الناظر هذا لا شأن له بالغرامة إنما كان عليه أن يراعي. - لا، أبدا والله، أنا لا أقبل، أنا لا أقبل هذا أبدا. - تقبل ماذا يا حضرة الناظر؟ - اذهب أنت يا عوضين. - والغرامة يا سي بخيت أفندي؟ - أرسل بيضتين بقية بيض البارحة . - أنا لا أقبل أبدا. - لا عليك يا حضرة الناظر، عوضين رجل طيب. - ربنا يبقيك يا سي بخيت أفندي. - أرسل البيضتين. - أنا لا أقبل. - سيأتي الولد مهدي بالبيضتين. - مرة ثانية خل عندك نظر. - أمرك يا حضرة الناظر. - مع السلامة يا عوضين. - والنبي يا سي بخيت أفندي تترك الولد يجمع معي القيراطين في هذين اليومين. - ويجمع معك القيراطين يا سي عوضين، مع السلامة، توكل على الله. - السلام عليكم.
ويخرج عوضين. - إذن فستجمع لي القطن يا بخيت أفندي. - مثل كل سنة يا حضرة الناظر. - أنت تعرف يا بخيت أفندي أنا رجل ... - دقيق يا حضرة الناظر، لن ينقص من القطن فص واحد، توكل على الله يا حضرة الناظر.
الفصل الحادي عشر
صفحه نامشخص
كان حافظ أفندي خالد جالسا في بيته في الموهن الأخير من الليل مع زوجته فاطمة، وابنته فؤادة، وكان حافظ قد فرغ من الصلاة، وكانت فاطمة تصلي ركعات لله لا توجبهن فريضة ولا سنة، وكانت فؤادة تقرأ في كتاب كبير في يدها ويسألها أبوها: ماذا تقرئين يا فؤادة؟ - حكاية عجيبة يا أبي. - عم تروي؟ - عن مقتل الحسن بن علي. - كيف قتل؟ - حكاية لا يصدقها العقل. - احكيها لي. - أنا يا أبي لا أصدقها. - قولي أولا ونبحث عن معقوليتها بعد ذلك. - أرسل معاوية إلى زوجة الحسن واتفق معها على أن يعطيها مبلغا كبيرا من المال ويزوجها ابنه يزيد إذا قتلت الحسن. - أعوذ بالله. - وسقته السم وأحس به يسري في جسده، ثم أحس به يفتك به ثم أحاط به ألم قاتل حتى لقد كان يقول: لفظت بعضا من كبدي، وكنت أقلبه بعود في يدي، وزوجته تشهد، وكأنها لم تفعل شيئا.
ومات الحسن وذهبت الزوجة إلى معاوية لتنال الجائزة التي وعدها بها زواج يزيد والمال الوفير. - وهل نفذ معاوية وعده؟ - بعض وعده. - كيف؟ - قال لها: أما المال فهو لك، وأما يزيد فإنا نخاف أن تفعلي به مثلما فعلت بزوجك. - لقد نالت جزاءها. - إن كانت الحكاية صحيحة، فهي لم تنل جزاءها أبدا؛ كان يجب أن تقتل مئات المرات؛ إنها زوجة قتلت زوجها، لقد أعطته السم بيد لا يشك في ولائها، يد زوجته، إنها روحه الثانية، حياته، أتعرف يا أبي لماذا حدثت هذه الجريمة؟ - لأن الزوجة كانت امرأة مجرمة. - هناك سبب أهم من ذلك، لم يكن زواجها بالحسن عن حب، كان أغلب الزواج في ذلك الحين يتم عن غير حب. - ومع ذلك لم تقتل كثير من النساء أزواجهن. - لأنهن لم يتعرضن لمثل إغراء معاوية، من يدري ماذا كن يفعلن إذا تعرضن لهذا الإغراء. - أكن يقتلن أزواجهن؟ - ما دام الزواج بلا حب فلا أحد يدري ماذا يحدث.
قالت فاطمة بعد أن سلمت تسليمتين: فيم تتحدثان؟ - ألم تسمعي؟ - كنت أصلي. - وأذناك، أين كانتا؟ - أنت تعرف أنني حين أصلي لا أسمع شيئا. - احكي لها الحكاية يا فؤادة. - ثانية. - كانت تصلي.
وقبل أن تبدأ فؤادة قصتها سمع ثلاثتهم ضجيجا متخافتا خارج الباب أعقبه طرق، وقال حافظ: من؟
وجاء صوت قوي ليس مرتفعا: افتح.
وقال حافظ خائفا: من؟
وجاء الصوت: عتريس.
وأعاد حافظ الاسم ذاهلا: عتريس؟!
وجاء الصوت مرة أخرى يحمل نفس النبرة: افتح.
وقال حافظ لزوجته وابنته: ادخلا أنتما.
صفحه نامشخص