كتب مفتقدة
بين الكتب وبعض أصحابها صلة الملك، وبينها وبين أصحاب آخرين صحبة، ولها أصحاب غير هؤلاء هم أصدقاؤها وخلانها وخلطاؤها وإخوانها وجلساؤها وندماؤها.
أعرف كتبي، موضوعاتها ومنازلها من هذه الموضوعات، وأعرف تاريخها منذ صحبتها، وأعرف أشكالها وألوانها وشياتها وحلياتها، وأعرف مواطنها من خزانتها. فإذا التمست واحدا منها، ذهبت إليه في مكانه ومددت يدي إليه غير مرتاب فيه. ويخيل إلي حين أدخل إلى الكتب أنها تنظر إلي وتهش لي وتكاد تكلمني، فأهم أحيانا بأن أحييها وأسألها ما حالها.
وأحيانا أذكر صديقا من هؤلاء الأصدقاء البررة الأوفياء الأسخياء فلا أجده مكانه، فأسأل عنه أشباهه وجيرانه فلا أجده، فألتمسه في مظانه فلا ألقاه. ماذا أصاب الكتاب؟ عهدي به هنا في صفه بين جماعته، فليت شعري ما خطبه؟ ليت شعري كيف عقني وخالف أمري؟
طفيلي متلصص أخذه، مترخصا في أخذ الكتب بغير إذن ولا يعد نفسه سارقا، أو مستعير أعرته إياه كارها، والذنب علي، ونسيه أو استهان به، أو رجا أن أنسى أنا وتحقق رجاؤه. ليت شعري ضلة أين هذا الصديق؟ ينبغي أن يحتاط الإنسان لكتبه فيحفظها غائبا ولا يعيرها حاضرا إلا لصديق كلف بالتزود من العلم، يقدر الكتب قدرها، ويشفق عليها إشفاق صاحبها. فهذا لا يضيع عنده الكتاب ولا يغترب ولا يعطل ولا يذال، ومثل هذا الصديق في عصرنا قليل.
الإثنين 20 ذي الحجة/2 أكتوبر
القراءة بالخيال
قلت يوما للصديق الشاعر محمد عاكف رحمه الله، ونحن في قطار حلوان: إن ناسا يقرءون الصحف بصوت عال كأنهم لا يستطيعون أن يقرءوا دون الجهر. قال: بل بعض الناس يفكر بصوت مرتفع، يعني يتحدث بما يفكر فيه حديثا مسموعا. فضحكت وقلت: إن الإنكليز يقولون: فكر فيه جهرا
think it aloud . وفكرت فيما بين الفكر والكلام من صلة وقول بعض الفلاسفة: إن الإنسان لا يستطيع التفكير بغير لغة، يعني أن الإنسان حين يفكر تمر بفكره الألفاظ الدالة على المعاني التي يفكر فيها. وتلكم مسألة عويصة لا أعرض لها هنا؛ ولكن أعرض ما جربته في نفسي، أني أتلو آيات من القرآن وأنشد أبياتا من الشعر سرا فأتخيل الصوت وأتتبع مخارج حروفه، يكاد ينبض به اللسان وأعضاء النطق، ولكنها لا تنبض. وأساير الألفاظ في مدها وغنتها كالذي يقرأ جهرا. وألبث في هذه المسايرة الزمن الذي ألبثه لو تلوت هذه الآيات أو أنشدت هذه الأبيات أو سمعتها من تال أو منشد.
فهذه درجة بين الفكر الذي تصحبه ألفاظه، وبين الإبانة عن الكلام بالصوت، يسوغ لنا أن نسميها تخيل الكلام، فهل قصد إلى هذا من قال:
صفحه نامشخص