194

شرح طلعة الشمس على الألفية

شرح طلعة الشمس على الألفية

ژانرها

وأجيب عن هذا الاستشكال: بأن الخاص من حيث هو خاص مقيد، ومعناه الحقيقي مطلق، ولا امتناع في سلب المطلق عن المقيد بمعنى أنه ليس عين المقيد، ومن أحكام المجاز أيضا أنه يجوز التمسك به، ويصح الأخذ بمدلوله، بل يجب ذلك إذا قامت على إرادته، وإن كانت الحقيقة في اللفظ ممكنة أي إذا دلت القرينة على أن المراد من هذا اللفظ معناه المجازي، وجب التمسك به في ذلك المعنى، وإن كان المعنى الحقيقي ممكنا في ذلك اللفظ؛ لأن القرينة هي التي صرفت اللفظ عن معناه الحقيقي إلى المعنى المجازي، وأيضا فإن المجاز أحد طريقي أدلة المعنى كالحقيقة، وهو طريق مسلوك، والتعبير به كثير، فإذا قام الدليل على أنه المراد من اللفظ فلا معنى للعدول عنه إلى غيره، وإن كان غيره هو الأصل، ولا خلا في هذا المعنى بين الأصوليين، كما أنه لا خلاف بينهم في رد اللفظ إلى معناه الحقيقي عند عدم الدليل الصارف له عن ذلك، لكن الخلاف فيما إذا دار اللفظ بين الحقيقة المرجوحة والمجاز الراجح فذهب أبو حنيفة إلى أنه يحمل على الحقيقة؛ لأنها الأصل، والأصل لا يترك إلا لضرورة أي لضرورة تلجىء السامع إلى تركه بحيث لم يجد سبيلا إلى الأخذ به، قلنا يكفي في العدول عن الأصل دليل يترجح معه الظن بأن المراد غيره كما كان ذلك في كثير من الأدلة الظنية، وذهب أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، إلى أنه يحمل على المجاز؛ لأن المرجوح في مقابلة الراجح ساقط بمنزلة الحقيقة المهجورة، وقال البدر الشماخي -رحمه الله تعالى- أنه لا يحمل على أحدهما إلا بقرينة لأن كل واحد منهما له مرجح، ومراده بالقرينة ههنا القرينة التي تتعذر معها إرادة الحقيقة رأسا، فأما إذا لم تكن تلك القرينة مانعة لإرادة الحقيقة أصلا، وإنما كانت مرجحة للمجاز فقط، فمذهبه التوقف عن ترجيح واحد منهما على الآخر، فأقول إن رجحانية المجاز بالقرينة الدالة على إرادته ولو لم تكن مانعة من إرادة الحقيقة ظاهر، فإنه وإن كانت الحقيقة هي الأصل، فقد يترك الأصل بدليل والله أعلم، ومن أحكام المجاز أيضا أنه يرجح على الإضمار، وعلى النقل في مقام التعارض. اعلم أنه إذا احتمل اللفظ الواحد أن يكون مجازا، وأن يكون فيه إضمار؛ أي: تقدير محذوف، فحمله على المجاز أولى؛ لأن المجاز أكثر استعمالا لا يصح الكلام معه إلا بتقدير، وكذا إذا احتمل اللفظ الواحد أن يكون مجازا، وأن يكون منقولا، فحمله على المجاز أولى؛ لأن النقل على استعمال ذلك اللفظ في معنى آخر، وهذا عسير، ومن ههنا منع النقل من منع كما تقدم ذكره، أما المجاز فإن القرينة كافية فيه، وحصول العلاقة مصحة لاستعماله هذا، وقيل الإضمار أولى من المجاز؛ لأن قرينته متصلة، وصحح البدر الشماخي، وغيره، تساوي المجاز والإضمار، أي فلا يرجح أحدهما على الآخر لاحتياج كل واحد منهما للقرينة، وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا قال السيد لعبده: يا ولدي، فمن حمله على المجاز أوجب العتق حيث أطلق اسم الملزوم الذي هو الولد على اللازم الذي هو الحرفان الحرية لازمة لبنوة المالك، فكأنما قال له يا حر، ومن حمله على الإضمار لم يوجب العتق؛ لأن المعنى معه يا من هو كولدي، وإذا احتمل اللفظ أن يكون من باب الإضمار، وأن يكون منقولا فحمله على الإضمار أولى؛ لأنه أكثر استعمالا من النقل، وأيسر وجودا، ولأنه سالم من نسخ المعنى الأصلي بخلاف النقل، وقيل إن حمله على النقل أولى؛ لأنه لا يحتاج إلى قرينة بخلاف الإضمار، والأول أكثر، وأصح، وإذا احتمل اللفظ أن يكون منقولا، وأن يكون مشتركا، فحمله على النقل أولى؛ لأنه لا يحتاج إلى قرينة لتعيين معناه بخلاف الاشتراك فإنه لا يتعين المعنى المراد منه إلا بقرينة تدفع مزاحمة الغير، فالنقل أولى من النقل، والمجاز أولى من الإضمار، وقد تقدم بيان رجحانية المجاز على الاشتراك عند الكلام على حكم الحقيقة، وهذه الأربعة أعني: المجاز، والإضمار، والنقل، والاشتراك، هي التي يقع باحتمالها في اللفظ التعارض بين

معانيه، وقد بينت لك وجه الترجيح فيها، قيل وقد يحتمل اللفظ مع هذه الاحتمالات الأربعة احتمالا خامسا وهو: التخصيص أولى، والصحيح أنه نوع من المجاز؛ لأنه قصر اللفظ عن جميع مدلولاته إلى بعض أفراده، وهو خلاف الوضع الأصلي كما تقدم والله أعلم.

ثم إنه أخذ في بيان الحكمة في استعمال المجاز فقال:

والداعي لاستعماله بلاغته ... ونوعه البديع واستقامته

تلفظ زيادة البيان ... وحسن الاختراع للمعاني

من ذلك التعظيم والتحقير ... وإن نشا الترغيب والتنفير

اعلم أنه لما كانت الحقيقة هي الأصل، والمجاز خلفا عنها كانت أولى بالاستعمال من المجاز، ولم يصح العدول عنها إلا لداع يرجح التعبير بالمجاز، وذلك الداعي هو الحكمة التي لأجلها وقع التجوز، وهي أمور كثيرة منها أن المجاز أبلغ من الحقيقة؛ أي أكثر بلاغة في الوصف وأوجز لفظا في العبارة، فإن قولك رأيت أسدا يرمي أبلغ وصفا من قولك رأيت رجلا يرمي، وأوجز لفظا من قولك رأيت رجلا بالغا في الشجاعة مبلغ الأسد، ومنها أن المجاز يتوصل به إلى المحسنات البديعية من نحو السجع والمطابقة، والمجانسة، أما السجع فنحو لقيت أسدا شاكي السلاح، فتعاطينا الرماح، وأما المطابقة وهي الجمع بين شيئين متضادين، نحو: فليضحكوا قليلا، وليبكوا كثيرا وأما المجانسة، وهي تشابه الكلمتين في اللفظ مع اختلاف المعنى فكقول الشاعر:

صفحه ۲۱۶