الشرح: من هاهنا ابتدأ أبقراط بقوانين أغذية المرضى، لأن الكلام فيها أهم من الكلام في أغذية الأصحاء، لأن شهوة الأصحاء تدعوهم إلى A استعمال الواجب، وشبعهم يمنعهم الزيادة؛ ولا كذلك المرضى، فكثير منهم يفتقر إلى الغذاء ولا شهوة له وكثير منهم مستغن عنه وشهوته مفرطة. وخصص هذا الفصل بالابتداء لأنه في معنى الأول في تقدير كل إفراط فهو خطر، وكان قد ذكر ذلك في الفصل المتقدم مطلقا، فخصص في هذا الإفراط في لطافة الغذاء لأن الخطر في ذلك أشد. ونريد أن نقدم قبل الخوض في تفسير هذا الفصل مقدمة، فنقول: التدبير في اللغة هو التصرف، وفي اصطلاح الأطباء هو التصرف في الأسباب الضرورية. وأبقراط يريد به هاهنا التصرف في الغذاء، وليس في الغذاء مطلقا، بل من جهة ما يقل ويكثر، ويغلظ ويلطف، والغذاء يقال بحسب الطب على معنيين: أحدهما: يقال غذاء للجسم الذي استحال حتى فسدت صورته وحدثت له صورة عضو من الأعضاء الإنسانية فصار جزءا منه وشبيها به لسد بدل ما تحلل منه أو وليفضل أيضا للنمو ويسمى B هذا غذاء بالفعل. وثانيهما: يقال غذاء للجسم الذي هو بالقوة كذلك، وهذه القوة على قسمين: إما قريبة، وإما بعيدة. والذي هو بالقوة البعيدة (16) فهو الجسم الذي من شأنه إذا ورد على البدن الإنساني أن يستحيل إلى أن يصير غذاء بالفعل، والذي بالقوة القريبة فهو الجسم الذي في بدن الإنسان معدا لأن يكون غذاء بالفعل كالأخلاط. فمراد أبقراط بالتدبير التصرف في الغذاء، بمعنى الذي بالقوة البعيدة، كالخبز وغيره. والغذاء بهذا المعنى ينقسم إلى غليظ، ولطيف، ومتوسط. والغذاء الغليظ هو الذي يكون الخلط المتولد عنه غليظا، والغذاء اللطيف هو الذي يكون الخلط المتولد عنه رقيقا. وكل واحد من الغذاء الغليظ واللطيف والمتوسط فقد يكون كذلك بحسب الأصحاء، وقد يكون كذلك بحسب المرضى. وللغليظ واللطيف مراتب: فاللطيف منه لطيف مطلق، وهو بحسب الأصحاء كالأجدية والأكارع؛ وأما بحسب المرضى فكالمزاوير A وأطراف الفراريج. ومنه لطيف جدا وهو بحسب الأصحاء كالدجاج وأطراف الأجدية، وبحسب المرضى كأمراق الفراريج والثخين من ماء الشعير. ومنه لطيف في الغاية، وهو بحسب الأصحاء كالفراريج ومرقة اللحم، وبحسب المرضى كالسويق وماء الشعير المتوسط. ومنه لطيف في الغاية القصوى، وهو في الأصحاء كأمراق الدجاج وأطراف الفراريج والمزاوير، وبحسب المرضى كالحلاب ورقيق ماء الشعير؛ وقد يفسر بعضهم ذلك بعدم الغذاء البتة . وأما الغذاء المتوسط فهو بحسب الأصحاء كلحم الحولي من الضأن والعجول، وبحسب المرضى كالفراريج. وأما الغذاء الغليظ فهو بحسب الأصحاء كالهريسة ولحم البقر، وبحسب المرضى كالأجدية والأكارع. وأقول أيضا: المرض ينقسم إلى حاد، ومزمن. فالمزمن كل مرض يطول مدته أكثر من أربعين يوما، سواء كان مشتملا على خطر أو لا يكون، وسواء أعقب الصحة أو العطب. وأما الحاد فمنه حاد بقول مطلق وهو الذي ينقضي في اليوم الرابع عشر، ومنه ما هو أقل حدة وهو الذي ينقضي فيما بعد ذلك إلى السابع B والعشرين، ومنه حاد المزمنات وهو ما ينقضي فيما بعد ذلك إلى الأربعين، ومنه حاد جدا وهو ما ينقضي فيما بين الحادي عشر والتاسع. وأما ما ينقضي في السابع فما دونه، فإما أن يكون مشتملا على خطر أو لايكون، والأول إن كان ينقضي فيما بين الرابع والسابع فهو الحاد في الغاية، وما كان في الرابع فما دونه فهو الحاد في الغاية القصوى، وأما ما لا يكون مشتملا على خطر كحمى يوم فلا يقال له حاد ولا مزمن ومع ذلك فقد يطول ستة أيام أو أكثر كما في الاستحصافية والسددية. وأقول أيضا: الغذاء صديق الطبيعة لأنه يقويها، وعدوها لأنه يقوي عدوها الذي هو المرض، فيجب أن يراعى في ذلك الأهم وهو القوة إن كانت ضعيفة، أو المرض إن كان عظيما. والغذاء يستعمل في الأصحاء ليخلف بدل ما يتحلل منهم وللنمو إن كانوا في سنه، ويلزم ذلك تقوية قواهم أو حفظها على حالها. ويستعمل في المرضى ليحفظ قوتهم A إلى حين يمكنها دفع المرض، أو ليقويها إذا طرأ ضعف زائد. ويمنع الغذاء في المرض لئلا تشتغل الطبيعة بالتصرف فيه عن دفع المرض ولأغراض أخر نذكرها في مواضعها فإن كان لنا مع ذلك غرض حفظ القوة قللنا في كميته أو في تغديته أو فيهما معا، فبما نغذوا نراعي جنبه القوة لئلا تخور قبل المنتهى، وبما نقلل نراعي جنبه المادة لئلا تزيد فيزيد المرض؛ ويجب أن نراعي في ذلك أهمهما. واعتبار الأهم يكون من وجهين: أحدهما: باعتبار المرض. وثانيهما: باعتبار القوة. أما باعتبار المرض فيختلف (17) ذلك باختلاف مرتبته، فإن عنايتنا بالقوة في الأمراض المزمنة أكثر لأنا نعلم أن منتهاها بعيد وتحتاج فيها الطبيعة إلى مجاهدة كثيرة، بسبب غلظ المادة وكذلك أزمن المرض، فإذا لم تقو (18) القوة لم يؤمن عليها أن لا تبقى بالثبات إلى المنتهى ولم تف بنضج ما تطول مدة إنضاجه؛ فلذلك يكون B استعمالنا الغذاء فيها أكثر، ويكون في ابتدائها أكثر، وكلما قرب المنتهى نقصناه ثقة بما سلف وتخفيفا على القوة وقت جهادها. وأما الأمراض الحادة فإن بحرانها قريب، فنرجوا أن لا تخور القوة قبل انتهائها، فإن خفنا ذلك لم نبالغ في تقليل الغذاء. وإذا تحققت هذه المقدمة فنقول: الواجب في الأمراض المزمنة أن يكون الغذاء في أولها غليظا بحسب المرضى، ثم متوسطا، ثم لطيفا؛ وقد يستعمل فيها اللطيف جدا عند المنتهى. وأما الغذاء البالغ في اللطافة فلا شك أنه فيها عسر مذموم . قوله: "التدبير البالغ في اللطافة" يريد التدبير بالأغذية البالغة في اللطافة، ووصف التدبير بذلك على سبيل المجاز. فإن قيل: لما خصص ذلك بالتدبير البالغ في اللطافة، مع أنه لو قال: "التدبير اللطيف في الأمراض المزمنة عسر مذموم" لصح وشمل جميع أصناف ما هو لطيف لأن الأمراض المزمنة لا تدبر بالتدبير اللطيف. قلنا: خصص بذلك لوجهين: أحدهما: A إن بعض الأمراض المزمنة تدبر بالتدبير اللطيف، وهى التي في أول درجات الأمراض المزمنة. وأما البالغ في اللطافة فإنه عسر مذموم في جميعها لا محالة . وثانيهما: إن التدبير اللطيف قد يستعمل في بعض أوقات الأمراض المزمنة كالمنتهى. فإن قيل: ولما خصص ذلك بالأمراض المزمنة وهو في الصحة عسر مذموم أيضا؟ قلنا: ذلك لوجهين: أحدهما: إن كلامه هو في تدبير أغذية المرضى. وثانيهما: إن التدبير اللطيف، فضلا عن اللطيف جدا، فضلا عن البالغ في اللطافة لا يستعمل في حال الصحة إلا لغرض غير تدبير الصحة، وعند ذلك الغرض لا يلتفت إلى كونه مذموما في تدبير الصحة. فإن قيل: لما قال في الأمراض المزمنة التدبير البالغ في اللطافة، وقال في الحادة التدبير الذي يبلغ فيه الغاية القصوى من اللطافة؟ وأيضا لما قال في الأمراض المزمنة في جميع الأمراض المزمنة ولم يقل ذلك في الحادة؟ وأيضا لما شرط في الأمراض الحادة إذا لم تحتمله القوة ولم يشترط ذلك في المزمنة؟ B الجواب: أما الأول فلأن التدبير الذي لا يبلغ في الغاية من اللطافة أقصاها، قد لا يكون مذموما في بعض الأمراض الحادة ولا في بعض أوقاتها؛ وبه يخرج الجواب عن الثاني. وأما الثالث فلأن بعض الأمراض الحادة، وهى التي في الغاية القصوى من الحدة تحتمل القوة فيها ذلك، فلا يكون فيها مذموما، ولا كذلك الأمراض المزمنة.
[aphorism]
قال أبقراط: في التدبير اللطيف قد تخطيء المرضى على أنفسهم خطأ يعظم ضرره عليهم، وذلك أن جميع ما يكون منه من الخطأ أعظم مما يكون منه في الغذاء الذي له غلظ يسير، ومن قبل هذا صار التدبير البالغ في اللطافة في الأصحاء أيضا خطر لأن احتمالهم لما يعرض من خطئهم (19) أقل؛ فلذلك صار التدبيرالبالغ في اللطافة في أكثر الحالات أعظم خطرا من التدبير الذي هو أغلظ قليلا.
[commentary]
صفحه ۲۰