الشرح: إنما ذكر هذا الفصل بعد الذي قبله لوجهين، أحدهما: إنه قد فهم من الفصل الأول أن الطبيب ينبغي أن يحذو فعل الطبيعة فيما تفعله بالذات، كاستفراغ النوع الذي ينبغي أن ينقى منه البدن، وأنه لا ينبغي أن يحذو فعلها العرضي كالاستفراغ الطوعي لا من ذلك النوع، فأراد أن يبين هاهنا أن هذا ليس مختصا بالاستفراغ بل وفي كل فعل عرضي كإفراط الخصب، فإن فرط الخصب ليس B عن فعل الطبيعة بالذات؛ لأن فعلها بالذات هو هضم الغذاء وتوزيعه، وإنما اتفق أن كان الغذاء كثير التغذية بطيء التحلل فأفرط الخصب. وفي مثل هذا الفعل الذي بالعرض يجب على الطبيب أن يخالفه، كما يجب أن ينقص هذا الخصب. والوجه الثاني: إنه قد فهم من الفصل الأول أن الاستفراغ الصناعي إذا كان من النوع الذي ينبغي أن ينقى منه البدن نفع وإن بلغ إلى أن تخلو (14) منه العروق، فأراد أن يبين هاهنا أن ما تعدى ذلك لا يجوز إلا بشرط احتمال الطبيعة، ليبين أن كل إفراط فهو مؤذ وعدو للطبيعة. واعلم أن قوله "المفرط" صفة للخصب لا للبدن، ولو جعل صفة للبدن لصح ولكن لا يكون فيه من الخطر ما إذا جعل صفة للخصب، ولا يكون أيضا باقي الكلام مستقيما. وقوله: "خصب البدن المفرط لأصحاب الرياضة خطر" يفهم على وجهين، أحدهما أن يكون تقدير الكلام: "خصب البدن المفرط خطر A لأصحاب" على أن يجعل قوله "لأصحاب الرياضة" من بقية المحمول، فتكون الرياضة هى سبب الخطر فيهم. والوجه الثاني أن يكون تقدير الكلام: "خصب البدن المفرط الذي لأصحاب الرياضة خطر" فيكون المحمول قوله "خطر" وقوله "لأصحاب الرياضة" من الموضوع. وهذا الثاني هو المشهور. قالوا: إنما خصص ذلك بأصحاب الرياضة لأن معنى الخصب المفرط أن لا تبقى معه الأعضاء قابلة للتمدد، ومثل هذا لا يوجد إلا لأصحاب الرياضة أي الذين اتخذوا الرياضة حرفة، كالمصارعين فإنهم يتباهون بزيادة العظم. وأما الرياضة المقصود منها المعيشة كالنجارة والحرث فلا يبلغ بأصحابها الخصب المفرط، ثم بعض من فهم هذا علل أن ذلك خطر بأن الطبيعة دائما توزع الغذاء على البدن، وأعضاء هؤلاء لا تقبل التمدد، فليس يمكن أن يثبتوا على حالتهم تلك ولا أن يزدادوا صلاحا. وأقول: إن صح هذا المفهوم فيكون المراد بالصلاح زيادة B الخصب، كأنه صلاح في اعتقادهم لأن هؤلاء يرون أن زيادة الخصب صلاحا، وإذ لا يمكن أن يثبتوا على حالتهم تلك لأجل زيادة هذا الغذاء الوارد ولا يمكن أن يزدادوا خصبا، إذ الفرض أن أعضاءهم لا تقبل الامتداد، فبقى أن يميلوا إلى حال هى أردأ، وهى: إما أن ينشق عرق، أو يسيل دمهم إلى تجويف القلب أو الدماغ فيقتل. فإن قيل: الخصب المفرط إما أن يمكن وجوده لغير أصحاب الرياضة فلا يكون لتخصيصه بهم وجها، لأن ما ذكرتموه من السبب قائم في غير أصحاب الرياضة. أو لا يمكن حصوله لغير أصحاب الرياضة، فلا حاجة إلى التخصيص بهم، ولهم أن يجيبوا عنه بأنه يحتمل أن يكون ذلك لا للتخصيص بهم بل كالتعريف للخصب الذي هو خطر، كأنه يقول: الخصب المفرط الذي من شأنه أن يعتري أصحاب الرياضة خطر. ونحن نقول: إن حمل الفصل على هذا المعنى لا يصح، أما أولا: فلأن الخصب المفرط لم نجده يعتري أصحاب الرياضة A بل أكثر ما يعتري المتدعين، كأن الرياضة لتحليلها، لا يجتمع من المادة ما يوجب ذلك الخصب. وأما ثانيا: فلأن الدم والأخلاط إذا بلغ من كثرتها أن الأعضاء لا يمكن أن تتمدد لأكثر منها، وجب أن يكون منعها للزيادة أسهل من الهرب أمام النافذ إلى أن تشق عرقا أو تنصب إلى تجويف القلب أو الدماغ وتقهر قوتهما الدافعة، وكيف يبلغ النافذ، إن صح مع قلته أن يوجب لهذه الأخلاط الزائدة جدا هذه الحركة العظيمة. ثم العجب أن نفوذ الغذاء لا يتم إلا بقوة دافعة من العضو النافذ عنه وقوة جاذبة من العضو النافذ إليه، وهذه الأعضاء قد امتلأت جدا بحيث لا تسع الزيادة، فلا تكون قوتها دافعة للوارد أولى من أن تكون جاذبة له، وخصوصا وجالينوس يعترف أن في كل عضو قوة تدفع ما يفضل عن غذائه وإن كان صالح الجوهر، فالعجب كيف تجذب الأعضاء هذا الوارد مع عدم حاجتها إليه وقلة استعداده لتغذيتها وتدفع ما عندها مما هو أتم نضجا واستعدادا B للتعدي وخصوصا دفعا يلزمه شق عرق أو انصباب إلى فضاء قتال. والعجب أن في فحوى الفصل ما يبطل كلامهم، وذلك قوله "كيما يعود البدن فيبتدئ في قبول الغذاء" فدل على أنه إذا لم يستفرغ لم يكن فيه قبول للغذاء، فيثبت ما قلناه ويبطل كلامهم. وأما الوجه الأول فالعلة في كون الخصب المفرط خطر لأصحاب الرياضة، أن الرياضة تسخن الأخلاط، والسخونة توجب التخلخل، فيلزمه زيادة حجمها، لكن الأعضاء لا تقبل التمددفيجيء ما قلناه من انشقاق بعض العروق أو انصباب الدم إلى فضاء؛ وهذا الوجه هو الحق ولو صح الوجه الآخر لكان هذا أولى لأن المعنى لا يحوج إلى زيادة في اللفظ والآخر يحوج إلى زيادة . وأيضا فهذا أكثر فائدة من وجهين: أحدهما: إن على هذا يكون الخطر ثابتا، سواء استعملوا الغذاء أو تركوه، وعلى ما ذكروه لا يتحقق الخطر إلا إذا استعملوا الغذاء، وإلا لم يكن A عند الطبيعة ما توزعه. والوجه الثاني: إن حمل الكلام على ما قلناه يخرج لنا من فحوى الفصل برهانين على وجوب الاستفراغ، أحدهما: لنأمن هذا الخطر. وثانيهما: كيما يعود البدن فيبتديء في قبول الغذاء، أي ليخلو (15) البدن من فرط الامتلاء فيمكنه استعمال الغذاء. وعلى ما ذكروه لا يكون لهم دليل على ذلك إلا هذا الثاني. فإن قيل ما ذكرتموه يدل على وجوب الضرر، فلا يحسن أن يقال أن ذلك خطر لأن الخطر لا يكون إلا فيما يتوقع منه الضرر، مع جواز أن لا يكون. قلنا: الجواب عنه من وجهين: أحدهما: إن هذا السؤال غير مختص بما ذكرناه، فإن ما قالوه إذا صح كان الضرر واجبا أيضا. وثانيهما: إن ما ذكرناه لا يدل على وجوب الضرر بل على وجوب زيادة حجم الأخلاط، فيلزمه أحد أمرين: إما شق عرق، أو انصباب الأخلاط إلى أحد التجاويف. ولا شك أن هذه الحالة أردأ ولكن قد لا تكون ضارة لجواز أن يكون الانشقاق B يسيرا من عضو لا يضر ذلك فيه، كالأنف، فيحصل رعاف ثم ينقطع بسرعة، فلايكون في ذلك ضرر، ويجوز أن يكون غير ذلك، فحسن أن يقال أن ذلك خطر. قوله: "ولا يبلغ في استفراغه الغاية القصوى فإن ذلك خطر، لكن بمقدار احتمال طبيعة البدن الذي يقصد إلى استفراغه". الاستفراغ الذي في الغاية القصوى هو الذي يجاوز استفراغ ما في العروق حتى وصل إلى استفراغ ما في اللحم؛ وذلك لأن الاستفراغ ما دام يخرج ما في العروق مما ينبغي أن ينقى منه البدن نفع وسهل احتماله بما تقدم؛ وأما إذا تجاوز ذلك فأخذ يستفرغ ما في اللحم حتى ينقص له جرم البدن فهو رديء. وإن كان من النوع الذي ينبغي أن ينقى منه البدن فليس الواجب في الاستفراغ أن يكون بمقدار الامتلاء، بل لابد مع ذلك من مراعاة القوة. ومثل هذا الاستفراغ، أعني الذي يبلغ فيه الغاية القصوى، لا تحتمله القوة، ثم هؤلاء الامتلاء فيهم كثير وقوتهم تامة فإذا A لم يجز أن يبلغ بهم الاستفراغ الغاية القصوى فبأن لا يجوز في غيرهم أولى. ولما كانت القوة تختلف في الناس في مقدار الاحتمال قدر ذلك تقديرا عاما، فقال: لكن بمقدار احتمال طبيعة البدن الذي يقصد إلى استفراغه، ثم ربما ظن ظان أن ذلك مختص بالامتلاء الذي بحسب الأوعية، لأن الأخلاط تكون صحيحة فلا يجوز أن يخرج منها المقدار المفرط، وأما إذا كان الامتلاء بحسب القوة فإنه يجوز المبالغة في استفراغه إلى الغاية لأنه مؤذ، وإخراج المؤذي مما ينفع، فأعقب ذلك بقوله: وكل استفراغ يبلغ فيه الغاية القصوى فهو خطر؛ وذلك لأن المستفرغ سواء كان صالحا أو فاسدا فإنه لا محالة يتبعه أرواح كثيرة، فإذا أفرط في الاستفراغ فقد أفرط في إخراج الأرواح، ولا شك أن ذلك مما يسقط القوة ويوجب الغشي. قوله: "وكل تغذية أيضا هى عند الغاية القصوى فهى خطر" إنما ذكر هاهنا أمر التغذية لوجهين: أحدهما: إن غرضه في هذه المقالة B الكلام في قوانين التغذية، وأما الكلام في الاستفراغ فوقع بطريق العرض فاكتفى فيه بما ذكر ومرج هذا القانون بقانون في التغذية ليكون ذلك مدرجا إلى الكلام في التغذية. والوجه الثاني: ليتم له إثبات القاعدة التي قصدها، وهى أن كل كثير فهو خطر؛ لأن الكثير إما أن يكون إيرادا على البدن كالغذاء المفرط وهو خطر، أو إخراجا من البدن وهو الاستفراغ المفرط وهو خطر؛ فكل كثير خطر. ثم كون التغذية في الغاية القصوى لا يختص ذلك بالكثرة أو القلة أو الغلظ أو اللطافة، بل ما يعم ذلك.
[aphorism]
قال أبقراط: التدبير البالغ في اللطافة، عسر، مذموم في جميع الأمراض المزمنة لا محالة. والتدبير الذي يبلغ فيه الغاية القصوى من اللطافة في الأمراض الحادة، إذا لم تحتمله قوة المريض، عسر، مذموم.
[commentary]
صفحه ۱۶