وجلست إلى كاهن الشوف فأمر لي بكأس من النبيذ المعتق، نبيذ عتيق يرجع عهده إلى زمن ماض سحيق، يوم كنا في الشوف دروزا وكنا نصارى. وبدأنا الحديث عن الملاحم، وأنهيناه عن الملاحم. هكذا غرقت السياسة بخمسمائة متر ماء، وتبخر الماء قبل أن ينهمر، وخرجت متطوعا لطبع ملحمة «المهابهاراتا.»
ثم كان اجتماع عاليه في بيت الدكتور جورج حنا، حضره أحد مجانين هذا البلد عزمي البحيري؛ صاحب «دار الأحد». أسميه بالمجنون؛ لأنه يفهم مهنته فنا ورسالة فقط لا غير.
وأقبل فؤاد بستاني - ابن عمي وديع، ابن عمنا - حاملا من «الدبية» جرابا يخنقه حبل وخيطان. وفك الجراب وأفرغه في زاوية البيت، فتهاوت من الجراب ثلاث عشرة مخطوطة شعرية؛ ترجمات لكنوز الهند، حنطها «النفتلين» وانتشرت من النفتلين في الغرفة غيمة بيضاء أحرق فوحها أنوفنا، وتأجج في نفوسنا نقمة وثورة.
من ظلمة الجراب المخنوق تدحرجت مجهودات أربعين سنة. أين سيد هذا المجهود؟ أسير جريح الروح في «إسرائيل» ما صان حريته الناطقون باللغة التي أغناها، وما حرر مواطنوه أسر الحروف التي انحبست في مخطوطاته.
وتجسدت النقمة والثورة في إيجابية مشروع «المهابهاراتا»، وجاء ذلك العمل بعض واجبات جمعية متخرجي الجامعة الأميركية التي تزهو بأن وديع بستاني أحد أعضائها.
جمعية المتخرجين التي نشرت هذا الكتاب يترأسها اليوم أميل بستاني - ابن أخ عمي - وقد ظفر بالرئاسة لأسباب عديدة، أهمها أنني قاومت انتخابه بشدة، ولكنه أعلن فور فوزه أنه خلف خير سلف. وقلت يومئذ: ومعاذ الله أن أكون (صرحت): سأحتفظ بالجواب على هذا المديح حتى أرى أعمال الخلف. أما اليوم وقد ظهرت الأعمال - وإنجاز طبع «المهابهاراتا» أحدها - فإنني أعلن، لا أصرح، أن رئيس جمعية المتخرجين اليوم هو خير خلف لمن سلف، وأنه قد نال مني ثقتي بالإجماع، ومن غير خبط على الطاولات.
ذكرت فضيلة «عمنا» ولم أذكر مواهبه، مع أن ترجمته لرباعيات عمر الخيام هي رائعة عالمية، كما أن ترجمة سامي جريديني ل «يوليوس قيصر» عن شكسبير هي رائعة عالمية نثرية.
ما تغنيت بالمواهب لأن النبوغ شيء تغرسه الحياة وتتعهده، ولكن الفضيلة تنظمه إنتاجا صادقا نافعا.
قال رجل الساعة في الهند البانديت نهرو: «في الهند كل شيء مليح، وكل شيء قبيح، فاختر لنفسك ما يحلو.» في الهند المهاتما غاندي «أراد أن يمسح كل دمعة عن كل عين.» وفي الهند اليوم كبير تلامذة غاندي Bavay يبارز نفسه ويخاصمها ويلاكمها، ففيما هو يبشر بعقيدة معلمه غنديجي داعيا إلى
Ahimsa ؛ أي اللاعنف، إذا به يقول: «إن ولادة حضارة جديدة يصحبها أبدا اغتسال بدم.» في الهند مئات اللهجات والأديان واللغات والعلوم والخرافات والأوهام والحقائق، غير أن وديع بستاني نفذ عن قصد أو غير قصد نظرية هندية اسمها
صفحه نامشخص