كلمة العريف
أفعل الأساليب في مكافحة المحاضرات وقطع دابر المحاضرين
كل مواطن خفير
يا عمر
خطاب يبحث عن موضوع
أنا لبناني ... فأنا عربي
القرميدة المكسورة
حدثني الكاهن الذي عرفه
برنيطة من كفر شيما
أمين تقي الدين ... موته اغتراب
صفحه نامشخص
علمتني الحياة
على أعتاب هيكل
قافلة جمال
الأعمدة السوداء
لنصغ إلى همسة الضياء
جبهة الحياة
بنو بكر وبنو شيبان
كلمة العريف
أفعل الأساليب في مكافحة المحاضرات وقطع دابر المحاضرين
كل مواطن خفير
صفحه نامشخص
يا عمر
خطاب يبحث عن موضوع
أنا لبناني ... فأنا عربي
القرميدة المكسورة
حدثني الكاهن الذي عرفه
برنيطة من كفر شيما
أمين تقي الدين ... موته اغتراب
علمتني الحياة
على أعتاب هيكل
قافلة جمال
صفحه نامشخص
الأعمدة السوداء
لنصغ إلى همسة الضياء
جبهة الحياة
بنو بكر وبنو شيبان
سيداتي سادتي
سيداتي سادتي
تأليف
سعيد تقي الدين
كلمة العريف
لم أستطع أن أنطق مع أن فمي كان غير مطبق، وراح يقصف أذني بمحاضرة ختمها بقوله: «نعم، إن هذا ضروري، ولكن من الواضح أن ليس في قدرتك دفع ثلاثمائة دولار.» ثم عاد فمزق بعينيه أثوابي العتيقة من جديد.
صفحه نامشخص
ولقد كنت في حياتي مرارا كثيرة هدفا للؤم في الكلام والنظرات، غير أن كلماته هذه ونظراته سجلت في مضمار الخسة رقما قياسيا جديدا.
كان ذلك شهر نيسان من سنة 1945 في «مانيلا» عاصمة الفلبين. وكان المحاضر الدكتور «كروس» يطوف بين أسناني فيما أنا فاتح بوابة فمي. ونحن كنا قد نجونا من جهنم حرب احتجنا خلالها إلى كل شيء: إلى المال، إلى الطعام، إلى معجون ينظف الأسنان وفرشاة، فأصبح عاج أسناني بما انبث فيه من تفتت وفساد كأنه النظام السائد في لبنان.
فلما زرت الدكتور «كروس» أراد أن يتصيد الثلاثمائة دولار، فتحدى كبريائي بكلامه، مشيرا إلى أن أسناني كلها يجب أن تغادر فمي.
وما كنت لأعترض لولا حنين للعودة إلى بلادي، وعزم على أن أقتلع نفسي من مغتربي من غير أن تقتلع أسناني من فمي؛ فلقد كنت أتحرق على أن أرجع لأقوم بأعمال كبيرة أحدها الخطابة.
وليست الأسنان كل الخطابة ، ولكنها بعض العتاد؛ لذلك عصيت الطبيب - وكان غير صادق - ورجعت إلى وطني متوهما أن في فمي وقلبي معدات المنابر مستكملة، فكان كتاب «سيداتي سادتي».
ولكن ما الخطابة؟
في رأيي إنها إقناع أو اقتلاع.
فالخطيب الناجح هو الذي يمحو من أفكار مستمعيه ما يود أن يقتلع، أو هو الذي يعزز في أذهانهم ما يرغب أن يبشر به. وما هو بالناجح من سرى له صيت أنه «خطيب مفوه» عظيم من غير أن يفوز منهم بغير الإعجاب.
وإن الناس متى أجمعوا تتدنى نفسيتهم فتدنو إلى الغريزة الحيوانية؛ فلا يعود بالصعب على من تخدر ضميره أن يطلق من رئتيه أرياحا تلولب فراشة لسانه بسرعة تثير عواصف التصفيق. ومن كان هذا همه سهلت مهمته فنشر أمام النظارة قوس قزح يبهر، أو وضع في أيديهم مسابح للتسلية، أو بث في القاعة مخدرات من دخان الأفيون.
وما هو بالعسير على من يريد أن يبحث الخطابة أن يأتي بمختلف الوصفات والتعاليل، وقد تكون كلها صادقة أو كلها كاذبة؛ لذلك أقتصر الكلام على اختباراتي الشخصية، وما علمتني التجارب على المنابر، وما درست على الجماهير.
صفحه نامشخص
فإني قبل أن ألقي الخطاب أتحرى أبدا أن أزور المكان أو القاعة حيث دعيت إلى الكلام، فما أبقى غريبا ترعشني الرهبة في يوم الحفلة. وللمكان علاقة بالخطاب خفية لا أقدر أن أصفها، ولكنها موجودة.
وأجهد ألا أجلس على المنبر مواجها الجمهور قبل إلقاء الخطاب. هكذا يبقى في النظارة تشوق للمفاجأة الجسدية التي تمحى إذا ما استعرضوا الخطباء على المنبر قبل أن يتناوبوا الكلام.
وينبغي أن يحترم الفن المسرحي؛ فأنا بدين طويل، إذن فإني أبدا أحرص على أن يكون أمامي طاولة تحجب ضخامة جسدي حتى لا يشرف على الجمهور إلا الرأس والصدر، ولو أني قصير لرقيت ما يجعلني أطل على الجمهور فارعا.
وإن أكثر حفلاتنا تزدحم بالخطباء؛ فزملاؤك على المنبر يخلقون جوا يلائمك أو يزعجك. فإني قبل أن أقبل دعوة أبدا أتثبت من رفقائي من هم. وليس من رفيق أشد خطرا على الخطيب من الخطيب الشاعر ، فموسيقاه أبدا تطمس نثر الكلام، فاجهد ألا تعتلي منبرا عليه شاعر.
أما الموضوع الذي يجب أن تطرقه، فهنالك آفاق لا تحد. إنها تجارب الحياة، وصفو الدراسات، وخلجات القلب، ونداءات المجتمع، وكياسة المناسبات؛ كلها تفرض وتوحي.
وأما صياغة الكلام فيجب أن تتوافق مع المعاني وتتموسق مع الأنفاس. أنا قصير النفس، فعباراتي بحكم الطبع قصيرة. هذا ما لا ينتبه إليه الكثيرون؛ إذ هم يدبجون خطبهم، لا فرق بين تركيبها وبين صياغة مكتوب تعزية أو مقال في جريدة.
وأهم ما في صياغة الخطاب وضوحه وتبلور معانيه في كلمات نافذة؛ حتى ليفهمه كشاش الحمام، ويستهوي أساتذة الجامعة. ويجب أن يكون وحدة ليمسي رسالة. ومن المباح، بل من المستحب أن تلجأ إلى صناعة التجميل وحيل البيان، فلا بأس من سجعة بعد سجعة. ومن المحتم أن تشرئب اللغة بنهوض الفكرة، وتعصف الكلمات حين استثارة العاطفة. والترجيع - سر أكثر فنون الأدب - يجب استعماله في الخطابة، فإنما الخطابة هي أحد فروع المسرحية.
والإلقاء كيف يجب أن يكون؟ قراءة، أم بعد حفظ؟
يقول لي الأستاذ إنعام رعد - وهو، في رأيي، اليوم قيدوم الخطباء في لبنان: إنه إن دون خطابه أعياه إلقاؤه. فهو يرتجل أفصح مما يقرأ؛ لذلك أعتقد أنه من الصعب أن نطلق قاعدة تنطبق على كل الخطباء. وبعد، فالخطابة فن لا قدرة لنا على أن نقيده أو نقوننه. للنابغ - إنعام رعد مثلا - أن يقف على قدميه ويطلق لسانه بالفصيح والمقنع والطريف، ولكن سائرنا ما أعطوا هذه المواهب. والمعترف به أن أفعل أنواع الإلقاء هو ورقة تقرأ منها ولا تقرؤها. وأنت تقرأ منها إذا استظهرت بعضها لا كلها، فلا مفر من التمرن على الإلقاء طويلا قبل الصعود إلى المنبر. ولكن أن يتملك الخطيب كلماته ويسيطر عليها بحيث يبغبغها، فلا إجادة حينئذ في الإلقاء؛ إذ يصعب على الكلمات إن لم تفعل في نفس القائل أن تفعل في نفس السامع.
والنكتة؟
صفحه نامشخص
هذه لا يصح أن تأتي إلا في البداية، ولا بأس أن ينتهي بها الخطاب. أما ما بينهما فمن الخطر أن يتفكه بنكتة أو يتزين بطرافة. والنكتة على المنبر هي أكبر مغامرة، خصوصا وأن مكانها صدر الخطاب. وليس من منظر أدعى للإشفاق من رجل فاه بين جمع بما توهمه فكاهة وعجز عن استثارة ضحكة أو ابتسامة. خل عنك إن حسبوا «النكتة» سماجة.
ويكاد يكون من المستحيل التنبؤ بتجاوب الجماهير؛ فلقد سمعتهم يقهقهون بعبارة حسبت أنها توحي كل شيء إلا الضحك، ورأيتهم يستقبلون بالصمت ما توهمت أنه فكاهة، غير أن على الموهوبين ألا يطغى إضحاكهم الجماهير على سائر عناصر الخطاب؛ مخافة أن يصبحوا ندامى ومرفهين لا خطباء مرشدين.
وفي الخطب التي ستقرؤها لا تجد أكثر النكات التي أفتتح بها خطاباتي؛ ذلك أنني أتناول الموضوع من المكان الذي أنا فيه ومن الحالة الراهنة؛ ففي إحدى الحفلات مثلا وقد أجلسونا على منبر؛ نواجه فيه النظارة، ورحت على عادتي أدخن السيكارة تلو السيكارة مما استلفت النظر، وقفت وقلت: «سيكون خطابي قصيرا، لا لأنني أكره الكلام، بل لأن الكلام يمنعني عن التدخين.»
وفي موقف آخر، قدمني عريف اشتهر عنه أنه صديق لي حميم، وقبل أن ينتهي من الكلمة التي قدمني بها شرب من الكأس التي توضع عادة على المنابر، فافتتحت خطابي بقولي: «إن العريف شرب من الكأس حتى يؤكد لي أنها غير مسمومة.» وملأت الكأس وشربت منها. وفي الموقفين كانت النكتة ناجحة.
أما الجمهور، فهو على أشد جموده متى احتشد ب «علية القوم»؛ فهؤلاء في غالب الأحيان يذيعون تفوقهم وعلية قومهم بوقار لا يغوص في الأرض ثقلا؛ لأنه مرتفع إلى السماء السابعة ببالون رأس نفخته غازات التفكير. وهم يجلسون وكأن الخطيب ماثل بين أيديهم يدافع عن نفسه بتهمة الخيانة العظمى.
وفي هذه البلاد مناطق حيوية لعل أشدها فورانا مدينة طرابلس، ومناطق جمود لعل أشدها صقيعا رأس بيروت.
وعلى الخطيب أن يحترم سامعيه، ويكسب ودهم، بأن يخاطبهم جميعا، فلا يركز نظره على فئة واحدة منهم، بل يجول بنظره فيهم جميعا، فيشعر كل واحد أن الكلام موجه إليه. يساعد الخطيب أن يكون له في القاعة أصدقاء وأنصار، على ألا يتكلف هؤلاء التحبيذ والتصفيق.
وأسرع الطرق إلى الانتحار أن يكثر الخطيب من وقفاته، أو يعتاد الناس إلى دعوته «إلى كلمة تليق بالمقام» في كل مناسبة، وبعد كل وليمة، وفي كل عرس، وعلى رأس كل ميت.
هذه هي بعض نواحي الخطابة الإيجابية على ما علمتني إياه التجارب، وقد أغفلت الناحية السلبية، فمن البديهي أن الانفعال الذي يسيطر على المدرسة القديمة يجب أن نقلع عنه. كذلك ما اعتاد الكثيرون أن يغنوا خطاباتهم أو يزولفوها أو يزمروها أو يصفروها أو يطبلوها.
وكذلك يجب أن ننقطع عن الرياء في تملق القرية أو المدينة التي نخطب فيها، وأن نقلع عن عادة التغني بأشخاص محليين أو رسميين.
صفحه نامشخص
ومن المستحيل أن نصف كتابة كيف يجب أن يكون الإيماء. وكالعادة، فأساطين الفن يخلقون القواعد أكثر مما يطبقونها.
ولعل أنفع ما اصطحب الخطيب إلى المنبر اسم كبير وشهرة تتقدمه ...
سعيد تقي الدين
أفعل الأساليب في مكافحة المحاضرات وقطع دابر المحاضرين
القاعة صغيرة، ولكنها ملأى. نحن في طرابلس بدعوة نادي المرشدات. وقد جاءت المديرة تطلب محاضرة. إنها لا تريد خطابا، ولا حديثا، ولا كلمة، ولا نقاشا، ولا حورا، إنها تريد محاضرة.
وطرابلس مدينة تطيب فيها الخطابة؛ فجماهيرها لا تتثاءب ولا ترقد في عصمة الوقار، وهي تتعشق الكلمة فتحفظها وترددها.
28420 مرة دعيت إلى الاستماع لمحاضرة.
و28420 مرة لم أستمع لمحاضرة.
28421 دعيت لإلقاء محاضرة.
28421 مرة اعتذرت عن إلقاء محاضرة.
صفحه نامشخص
المحاضرة، ما المحاضرة؟
إنها خطاب يتثاءب ويتمطى.
إنها عبارة فتحت فمها ثم نسيت أن تطبقه.
دجاجة تمروح ذيل طاووس. إنها خطبة تلبس ردنكوت. هي ألفاظ لها لحية ولها كرش. هي حبات «غاردينال» كلامية تقتل الأرق وتجلب النعاس. إنها لغة كاوتشوكية. إنها بالون ينفخ فيه أستاذ.
وعلى الصعيد الفردي ليس لي على «المحاضرة» إلا شرطان؛ الأول: ألا أسمعها، والثاني: ألا ألقيها.
ومن الواضح أن في كلامنا هذا - وأستعمل نون الجمع لأننا محاضر - شيئا من الغلو، ففي الأبحاث ما لا يشرح إلا بمحاضرة، وفي الناس اختصاصيون يستطيعون مناقشة الأمور وإيضاحها خلال ساعة أو أكثر ، ولكن هذا الطوفان من المحاضرات من بعض أسبابه حب الظهور، وزيف الثقافة، والتدجيل الكتبي.
نعترف لجورج حكيم مثلا أنه يحاضر في القطيعة بين لبنان والشام، ويشوقنا أن نصغي لبلطجي يقص علينا تاريخ مرفأ بيروت وحركة السفن فيه. ومن النافع أن يلقي فينا محاضرة إبراهيم عبد العال عن مشروع الليطاني.
أما أن يتصدى كل واحد منا - كما شاع أخيرا - لمعالجة الأبحاث الاجتماعية على أنه فيها مرجع وثقة؛ حاشدا في معرض كلامه أسماء مفكرين عالميين، ففي هذا جناية على الحقيقة. وهذا التزييف يا طالما أنزل ببلادنا الويلات!
أقول هذا بعد أن ظهر أن إلقاء المحاضرات صار أداة للتبرج والتضخم، ولتشويه العلوم؛ فليست الشهادة الجامعية (باسبورا) يدخل كل من حمله إلى جنة المعرفة؛ فكل موضوع تعرف إليه أحدنا ليس له من أهمية إلا بعد أن يتفاعل في نفسه، ويعجن بالتجارب الشخصية، والملاحظات الشخصية، ثم يتجوهر بالتفكير الأصيل، ويصقل على وجه الاختبار.
ولقد تبين أن الكثيرين من محاضرينا يبدءون أولا برش العطور على المكان الذي يحاضرون فيه، ونثر الأزاهير على جبين من دعاهم إلى الكلام، ثم يعترفون بتواضع مصطنع أن هذا الميدان الذي نزلوا إليه أوسع من أن يجولوا فيه خلال ساعة أو ساعتين، ثم يستعرضون أسماء عالمية، وكتبا يقولون إنهم طالعوها، ثم يسردون بتيه ودلال حوادث شخصية، فإن كان أحدهم اقترب من «تشرشل» 34 كيلومترا ذكر: «في السنة الماضية، حين قابلني تشرشل.» وإن كان قد درس في جامعة «كيلوتسكي»؛ من أعمال دولة «صفرانيا»، راح يقص أمر مناقشة جرت بينه وبين الدكتور «جهيروز»؛ الأستاذ الاختصاصي في «علوم شروق الشمس عند المغيب وعلاقتها باستئناف الحرب في كوريا». هكذا يضفي محاضرنا جوا علميا مزيفا على الفلسفة، فيلقم سامعيه حقائق بديهية، ويستعرض ما فتح الله ورزق من عبارات انتشلها من هنا وهناك على أنها من صوغ دماغه.
صفحه نامشخص
وإنها كلمة جد: إن أكثر المحاضرات التي غمرت «بازار» الثقافة في بيروت كانت لها أضرارها؛ لأنها ضخمت شأن بعض الناس الذين ليس لهم تفكير أصيل، ونشرت الفوضى الفكرية، وأشبعت الأثرة في بعض حملة الشهادات والسياسيين، والمشتغلين بذلك الفن المبهم الذي يدعى «أدبا»، وشلت إمكانية بعض فتياننا الذين لو لم يفسح لهم سبيل المجد الموهوم على المنابر، لطلبوه عملا فعالا بين مواطنيهم، أو ثقافة صحيحة ينبتها التفكير الهادئ، وتفولذها التجارب، وتعتقها وتغذيها الأصالة.
وتنطبق هذه الملاحظات بشكل أدق على الأبحاث الاجتماعية والسياسية. كثيرا ما نسمع مثلا: «والمعلوم أن القبائل إن فعلت كذا وكذا صار كذا وكذا» أو «من المعترف به أن الحكم الجمهوري إذا نزل به كذا وكذا وصار الملك كيت وكيت لنشأت عن ذلك الحالة الفلانية.»
والحقيقة أن السياسة والاجتماع والتاريخ ما هي بمعلوم بالمعنى الدقيق؛ إذن فليس لأحد أن يقول: «إن المعترف به» أو «المعلوم» أو «المسلم به.» إن الاجتماع ما هو بمعادلات جبر، وأربعة أربعة في السياسة والاجتماع ما كانت ولن تكون ثمانية. هناك كميات مجهولة، هناك كثير من ال
X . هناك عامل الإنسان بعاطفته وجشعه،
ال
X .
وليس غرضي اليوم أن أهدم بالتهكم محاولات بعض محاضرينا. قد تكون هذه المحاضرات محاولة صادقة لاستعراض مواطن الضعف فينا ووصف علاجها، ولكن هذا الأسلوب - لأنه في غالب الأحيان يتوخى الأهداف الضخمة - قد يكون صدى لأحلام الضعف النفسي المتوطن في كثرتنا؛ فنحن نرقب مستعجلين حصول العجيبة التي تنقذنا، بل في كثير من الأحيان نطلب هذا العون من مصادر غريبة عن نفوسنا نحن. وهذه الأحلام الأفيونية هي تلازم الضعف، فلا عجب أن تأتي المواضيع التي يعالجها أكثر كتابنا وخطبائنا ومحاضرينا من النوع الضخم. من أجل هذا، يظهر من يدعون النبؤات. وفي حالات هذا الضعف تروج الرقى، وتزدهر تجارة «البصارة براجه». وبعض من شاع عنهم أنهم مفكرون هم في حقيقة الأمر منجمون. وبعض محاضراتنا هي رقى تصفها «البصارة براجه»، والفرق بين عقلية «البصارة براجه» وبين العقلية الواقعية العملية يتضح لمن يكثر الاختلاط بالأجانب، فيتسنى له المقابلة بين ما يعالجون من المواضيع وما يعالجه مواطنونا.
تسمع الأجنبي - وهو عادة مواطن دولة تركزت واستقرت - يتحدث عن قنينة حبر ، عن برغي، عن كرسي، عن صندوق خشب، أو كتاب. وتسمع الكثيرين من مواطنينا يعالجون 23 موضوعا في أربع دقائق، فيختصرون الحالة الدولية، ويقابلون بين قوى المعسكرين الغربي والشرقي، ويشرحون أفعل السبل لتحسين زراعة البطيخ، وكيف يجب أن يحدد الاستيراد، ثم يصفون طريق استرجاع فلسطين. ما سبب البون الشاسع بين التفكير الأجنبي - أو لنسمه الغربي - بحوادث معينة ومواضيع هي في نظر الكثيرين منا تافهة، وبين تفكير أكثرنا في الشئون الضخمة من عالمية ومحلية؟
ما السبب؟
كأكثر الأمور، هذه المشكلة ليس لها سبب واحد، بل عدة أسباب نقتصر منها على ذكر سببين؛ الأول: أن مواطن الدول الأجنبية لا تواجهه الصعاب التي تواجهنا؛ ففي ميدان السياسة الخارجي له حكومة هو انتخبها، وهو يثق بها، تكفيه عناء التفكير فيما قد يواجه دولته من مخاطر، وفي الميدان الداخلي يجد أن نظامه قد حل مشاكله الأساسية من حقوق متساوية أمام القضاء، وضمان اجتماعي هو متوفر في أكثر الدول المتمدنة على درجات متفاوتة بالطبع. ولعل السبب الثاني والأهم هو أنه مواطن دولة قوية، ومجتمع مستقر ثابت صحيح، فليس هو من الضعف بحيث يحلم بالعجائب وينادي على كل «بصارة براجه».
صفحه نامشخص
في الدقائق الباقية سآتي على ذكر بعض هذه التوافه التي هي في نظري هي هي الهامة.
حين ينتسب مواطن إلى جيش دولته، يعلمونه أولا كيف يجب أن يربط شريطة «صباطه»، وكيف يجب أن يلقي التحية، ويدققون في أهمية تنظيف حذائه؛ ذلك لأن الخبير العسكري يعرف أن هنالك علاقة مباشرة بين ربح المعركة، بل وربح الحرب، وبين معرفة ربط شريطة «الصباط».
أما عندنا فبعض ملوك الكلام، وبطاركة الأفكار، وفرسان المحاضرات، يقتحمون المعارك، ويربحون الحروب من غير جنود، أو بجنود لا يحسنون ربط شريطة «الصباط».
هذه الملاحظات ما هي بتخطيط عام، بل الغاية من ذكرها هو إثارة التفكير لإعادة النظر بكثير من عاداتنا، والتأمل في كيف أن هذه التقاليد التي مشينا عليها تؤذينا، وكيف أنه لا بد عند التعبئة العامة من التشديد على تمحيص ما لا نأبه له عادة، أو ما افترضنا أنه صحيح بسبب أننا درجنا على ممارسته.
هو ذا بعض هذه الملاحظات: (1)
فلان بيته مفتوح: بيته مفتوح؟ ما معنى هذه العبارة؟ أفندم! نعم، بيته مفتوح؛ يعني أن صاحب البيت يستقبلك في بيته. ما أهمية هذا؟ يعني أنه يقدم لك قهوة وحبة شوكولاته، ويلح عليك بالدعوة للطعام. ما أهمية كل هذا؟ لماذا هي فضيلة أن يكون بيته مفتوحا؟ أنا أفضل أن يبقى بيتي مقفلا. من له شغل معي فليتفضل إلى مكتبي، وإن شرف البيت فلتكن إقامته قصيرة، ولا ينتظر فنجان قهوة إلا إذا جاء بدعوة. الحياة ثمينة، وأغلى من أن تهدر بأشياء لا معنى لها، وقيم الحياة هي أثمن من أن تخمن بهذا الذي لا معنى له، ويذاع على أنه فضيلة؛ فضيلة البيت المفتوح. (2)
الإشاعة: كم جندلت الأقوال الكاذبة من ضحايا! وكم رفعت شأن رجل لا يستحق أن نتطلع إليه حتى بمنظار! يسود بيننا اعتقادات خاطئة تحرمنا من احترام من يستحقون الاحترام، وتحفزنا إلى الابتعاد عن مبادئ من أقل واجباتنا أن نفحصها قبل أن نعتنقها أو نرفضها. كم مرة نسمع «فلان آدمي؟!» «شو آدميته؟ ما حدا بيعرف.» فلان زلمة الإنكليز. ما هو البرهان؟ «هيك! كيف هيك؟ هيك!» إني أتكلم عن اختبار شخصي حين آتي على ذكر شارل مالك. لقد ساد الاعتقاد فيما مضى أن هذا الرجل هو عميل أميركي «ليش؟ هيك!» هل فحص أحد متهميه مواقفه وأقواله فانتهى إلى ما يثبت هذا الاتهام؟ لا، شارل مالك ضد العروبة، هو صنيعة الأميركان. لو أنه أضعف شخصية، أو لو أن له مكانة محلية بدلا من منزلة عالمية لكانت الإشاعات قتلته. ولما كنا اليوم ننتفع به كناطق مؤتمن باسم الدول العربية. وعلى الصعيد الإيجابي، نجد أننا نسمع بفلان مثلا أنه محسن كبير وأبو الفقير. أي إحسان؟ أين المستشفى الذي شاده؟ أو التلامذة الذين علمهم على حسابه؟ لا أحد يعرفهم، إنما يعرفون أن فلانا أبو الفقير ومحسن كبير. (3)
نحن والأجانب: بيننا طبقة حقيرة النفوس يتملقون الأجانب بذم مواطنيهم. لا أعرف بلدا في الدنيا يجرئ الأجنبي أن يتنقص علنا من ساكنيه مثلما يفعل الأجانب عندنا في لبنان. إنني بعد اختبار ست سنوات في هذه الجمهورية، أجد - عن معرفة - أن اللصوصية موجودة بيننا وبين القليلين من مواطنينا، ولكن اللصوص الضخام وأسياد الصفقات الكبرى من الناهبين والسالبين هم أجانب لا وطنيون. مع كل هذا، نسمح للأجانب أن يتنقصوا منا علنا. وقليلون بيننا من لهم الكرامة الوطنية والجرأة أن يوقفوا الأغراب عند حدهم، بل نحن نجد أننا في كل جلسة نجتمع بها إلى الأجانب تسابقا إلى التزلف لهم بالقدح من بلادنا ومواطنينا. وهذا ما يشجع الأجانب على احتقارنا، والإمعان بسلب حقوقنا. هذه الخيانة التي يقترفها أكثرنا من امتهان بني قومهم كلفتنا وتكلفنا الكثير من المال ومن الكرامة. (4)
الأديب: في معتقدنا السائد شيء خاطئ، إعجاب لا مبرر له بالأديب من كاتب أو شاعر. نتوهم أن الأديب مؤهل لأن يصبح وزيرا أو مدير كمارك، أو أي شيء. الحقيقة أن الأديب في أكثر الأحيان هو رجل يحسن الكتابة، كما أن الحلاق هو رجل يحسن الحلاقة. وهذه الهالة من الإعجاب والتكبير التي انتشرت حول الأديب كأديب يجب أن تمحى كي تستقيم موازيننا. (5)
الكلمة المطبوعة: كذلك في نفوسنا عبودية للكلمة المطبوعة وللكتاب. إن الذي يعرف كيف تحرر الصحف والمجلات، وكيف تؤلف أكثر الكتب يزول من نفسه التقديس للكلمة المطبوعة. وهذه الحقيقة تنطبق بشكل أصدق على ما يظهر في بلادنا من كتب وصحف ومجلات. (6)
صفحه نامشخص
بعض تفكيرنا الحقير: لماذا نعتقد أن غناء جارنا هو تحد لنا؟ لماذا نتوهم إن أطلق فلان سهما ناريا فإنما يفعل ذلك نكاية فينا؟ لماذا التفكير الحقير؟ أسمع البعض يصيحون أن مكبرات الصوت تركب في الجوامع نكاية بالمسيحيين، وأن الصلبان المنتشرة على الطرقات إنما قامت هناك لوزوزة عيون المحمديين. إن القرآن الكريم في إيمان الملايين هو رسالة منزلة من الله. وهو في إجماع البشر كتاب عظيم يحتوي على التبشير الإنساني الرفيع. إني أشتهي أن أسمع التجويد لا خمس مرات في النهار، بل خمسين مرة، وأصغي إلى التجويد بخشوع ورفعة.
والصليب ؛ إنه رمز الإيمان والفداء، والشعار المقدس لمئات الملايين من البشر؛ فرؤية الصلبان توحي في النفس المحبة، ولا توقظ البغضاء. إذن لماذا أثور أنا المسيحي لسماع الآذان في مكبرات الصوت، وأغضب أنا المحمدي لرؤية الصلبان على الطرقات؟ إن كان بيننا من يلوح بالشعائر الدينية لإيقاظ الأحقاد الراسبة؛ فالسبيل لمقاومة ذلك هو أن تقبل هذه الشعائر كما وجدت، كما يجب أن تكون مصدرا للود والإخاء والتأمل. (7)
الوقار وفروعه: ومن الفضائل التي لا قيمة حقيقية لها هو ما يسمى الوقار؛ كأن الفكر أو الشخصية أو القيم السامية لا تثبت إلا إذا تردت العبوس، وتهادت في كلمات موزونة كأنها
Quota
النقد النادر، ويتفرع من الوقار نقائص كثيرة حتى اختلط علينا الأمر، فصرنا نحسب أن الشراسة شجاعة، وصار تقطيب الحاجبين والنظرات النارية مقياسا للبطولة. والحقيقة التي أثبتتها تجارب الحروب أن الشرس هو في أكثر الأحيان جبان في المعركة، وقد يكون بطاشا في «المشاكل»، وأن اللطيف المتواضع هو الجندي الأمثل. (8)
الأدب القديم: آداب العربية التي درسناها والتي لا تزال تدرس وتسري أمثالا على ألسنة الناس يجب إعادة النظر فيها، ويجب على الأمهات والآباء والمدارس في بلادنا أن يقوموا بحملة في هذا السبيل. وإن كان نظام التربية عندنا خاطئا، فيجب علينا أن نصلحه نحن في البيت والمعهد، وبتوضيح الأمور لناشئتنا. يجب أن يفهم أولادنا حين يقرءون أشعار الأخطل والفرزدق والخطيئة أن الهجاء قذارة عقلية، وأن إنشاد الشعراء في حضرات الملوك والخلفاء والأمراء هو تسول وذل، وأن هؤلاء حين كانوا يأمرون بالهدايا والأموال إنما كانوا ينهبون أموال الشعب لإرضاء أثرتهم وغرورهم، وأن التفاخر بالأجداد وبالأعمال هو قلة ذوق، وأن كل هذه النقائص لا تزال متفشية في مجتمعنا لأسباب كثيرة، من أهمها أن كتب الآداب عندنا لا تزال تعمر بهذه النقائص مرتدية أثواب دور النشر في طبعات جديدة. (9)
شرفونا على سهرة: في بلادنا مؤسسة يجب هدمها. هذه المؤسسة اسمها السهرة. سيران في صالون. ساعات ساعات نهدرها حلقة مفرغة نطوف بها على أصدقائنا، ويطوف خلالها أصدقاؤنا علينا. وكما أن الأرض ومواردها هي ثروة الأمة لا يحق لأحد أن يهدرها أو يتلفها، كذلك يجب أن نعلم أن وقت المواطن منا هو أيضا ملك الأمة لا يحق لأحد منا أن يضيعه. وإنه لهادر للإنتاج من يسحق وقته حديثا حديثا وكلاما كلاما في سهرات لا تنتهي مع أصدقائه وجيرانه. نحن لا نستطيع التغلب على اليهود حتى ولا مقاومتهم إن كان أثمن ما نملك - هذا الوقت - نرميه كأنه شيء لا قيمة له.
سيداتي سادتي:
ما هي مصادفة أننا ضعفاء. هذه البلاد أثبتت كبرها وقوتها خلال ألوف السنين. وحالتنا من الضعف اليوم والاستخذاء لها أسبابها، وإني لم أحاول اليوم شرحها ولا علاجها. ولقد أعطيت أمثلة قليلة على أن بعض الطريق لنجاتنا، وتحقيق مصيرنا، وتجسيد أمانينا هو موقف فكر ثوري يعيد النظر في عاداتنا الاجتماعية. هذا الموقف يحتم علينا أن ننظر إلى كل ما نحن فيه من أنظمة نظرة موضوعية جديدة. ونحن لا نستطيع أن نتطلع إلى مشكلاتنا ولا أن نحلها إلا إذا أقبلنا بجرأة وتعر على تفقد قوانا، والتخلص بحزم وانتفاضة من كل ما يكبلنا، وإلا فما نحن بمخلصين. نقطة الانطلاق ليست النظر إلى جزئيات الأمور ولا توقع العجائب. كل واحد منا يجب أن يحيا في جبهة قتال. وليس من المعقول أن نربح الحرب الكبرى إن كنا نخسر في كل جبهة من جبهاتنا الصغرى.
لا أعتذر عن قصر هذا الحديث. مهمة الثقافة - ومنها إلقاء المحاضرات - هي ألا نسلم الناس الفكر رزما مضبوبة، ولا أن نقدم الفكر برشانة يبتلعها السامع. مهمة الثقافة - ومنها إلقاء المحاضرات - أن نستثير الفكر، فيفعل كل عقل، وينطلق موجات مغرقا كل خرافة، متحديا كل افتراض، منضبطا في نظام المنطق، مستهدفا الغاية الكبرى: تقوية المجتمع.
صفحه نامشخص
أيها المواطنون:
قبل أن أتوقف، يتوجب علي أن أجيب على السؤال الذي هو موضوع هذا الحديث: ما هي أفعل الأساليب في مكافحة المحاضرات وقطع دابر المحاضرين؟
هل نقتلهم جميعا؟ لعلهم يستحقون أكثر من الإعدام!
هل نستصدر قانونا يمنع إلقاء المحاضرات؟ إن القوانين تشترع حتى تخرق. هل نرميهم في البحر ؟ قد لا يسعهم البحر. إذن كيف السبيل إلى القضاء عليهم؟ لعل أفضل الأساليب هي اقتباس قاعدة اقتصادية: تنزل قيمة النقد وتتلاشى حين يباح طبع الأوراق المالية. سبيل التخلص من المحاضرات والمحاضرين هي الإكثار منها ومنهم.
لهذا كانت هذه المحاضرة.
كل مواطن خفير
افتتح مؤتمر خريجي الجامعة الأمريكية في قاعة الأونسكو. وتصدر القاعة فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية، وخلفه صفوف الكراسي الفارغة؛ حيث كان من المفترض أن يجلس الساسة و«الوجهاء». كذلك تخلف عن المقصورات في أجنحة القاعة ممثلو السفارات والهيئات، إلا رجل يعتمر كوفية وعقالا، فهمنا بعد ثلاثة أشهر أنه جاء ممثلا لسماحة المفتي الحاج أمين الحسيني. أما المؤتمرون فلم يبلغ عددهم المائة والخمسين. وكنا خطباء ستة، أحدهم رئيس الجمهورية. وقد سبق انعقاد المؤتمر شائعة تهمس أن يدا أجنبية تسيره، وساد في مفهوم الناس أنه سيكون مظاهرة كلامية جديدة؛ لذلك جاءت كلمتي متواضعة مختصرة تحدد أهدافا صغيرة.
فخامة رئيس الجمهورية.
سيداتي وسادتي، أيها المؤتمرون.
سيكون نجاح هذا المؤتمر كبيرا إن استطاع أن ينفذ أعمالا صغيرة.
صفحه نامشخص
غاية هذا المؤتمر كما أذيعت وكما بحثت وكما خططت «قضايا العالم العربي».
وقضايا العالم العربي كيف عالجتها، وكيف استعرضتها، وكيف تهجأتها، وجدتها لفظة واحدة: فلسطين.
لقد احتل جنوب بلادنا ويحتلها عدو له حلفاء وله أعوان.
ومن حلفائه: تخاذلنا، وأحقادنا، وغرورنا، وتهربنا من مسئولياتنا.
وأكبر أعوانه أن الصراع فينا أصبح مهمة نكلها إلى سوانا. قال هذا المؤتمر لنفسه: «أبدأ بنفسي.»
ولقد اجتمعنا لنطمس خلافاتنا فنوحد جهودنا لعمل شيء، لا لنستعرض انشقاقنا، فنتصايح في عرس فصاحة ومهرجان انفعالات لعمل لا شيء.
ونحن مواطنون قبل أن نكون خريجين، فإن اجتمعنا اليوم كمتخرجين، فليس لنسور نفوسنا في برج عاجي جديد؛ بل لأن جمعية المتخرجين هدمت بعض الحيطان التي سورتنا فئات وأحزابا وشيعا. فهذا المؤتمر هو نقطة التقاء، وهو كذلك نقطة انطلاق نحو سائر الفئات والأحزاب والمنظمات.
قد نخرج بقرار ندعو به الجامعة العربية لنقل مقرها إلى القدس أو قبية أو نحالين، ولكن بعد أن نعقد مؤتمرنا في القدس أو قبية أو نحالين.
ويبتسم الهازئون: ماذا في وسعكم أن تفعلوا؟
نقول: إنه صفر من رسم حول نفسه دائرة الصفر.
صفحه نامشخص
لا أصدق أن في هذه الأمة فئة أو فردا تعجز أو يعجز عن المساهمة ولو بقدر قليل في دفع الخطر عن البلاد.
لقد اتخذت الجامعة العربية قرارات مقاطعة بعضها لا ينفذ.
هنا، الآن، نحن نراقب تنفيذها وننظم الفرق لها.
بعض أقطارنا ملأى بنشاط الجواسيس والمهربين. هنا ونحن والآن يجب أن نعاون السلطات على مكافحتها، وإن أعياها ذلك تولينا نحن بأيدينا مكافحة الجواسيس والمهربين والخونة. هكذا نوقظ روح الصراع فينا وفي مواطنينا حتى ليصبح شعارنا: «كل مواطن خفير.»
فالضمان الجماعي ينجح متى سانده ضمير حي فاعل جماعي.
يجب أن نثق من النجاح لأننا نثق بأنفسنا وببعضنا. وإن الجهد القليل القصير الذي بذل في التمهيد للمؤتمر أثبت أن في كل وسط ودائرة وبيت من يشعرون بالمسئولية ويتجندون لها. هذا المؤتمر يستفزهم وينظمهم.
سمعنا الكثير عن الخيانات في فلسطين، ولكننا أغفلنا أمر البطولات. من شعبنا من قاتل وناضل واستشهد.
ومن شعبنا من يقاتل اليوم في القرى الأمامية. هؤلاء لا يعوزهم الإيمان، ولا تعوزهم البطولة، بل تعوزهم الأسلحة. يجب أن نساهم في توفير الأسلحة لهم، فهم لا يدافعون عن بيوتهم في القرى الأمامية، بل هم يدافعون عن كل بيت من بيوتنا؛ أكان هذا البيت في الكويت، أو بغداد، أو دمشق، أو بيروت، ويدافعون عن القاهرة والرياض إذ يدفعون العدوان الصهيوني.
وتتلوى حية إسرائيل تفح أغنية المحبة في الشرق الأوسط على أنها هديل حمامة السلام. من هذه القاعة يجب أن نفهم الدنيا أنه فحيح الأفعى لا هديل الحمام ما يسمعون.
من هذه القاعة يجب أن نفهم أصدقاءنا الكثيرين في أنحاء الدنيا أننا نؤمن بصداقاتهم، وأن نفوسنا مشبعة بالمحبة لا تعادي ولا تستعدي.
صفحه نامشخص
هذا المؤتمر ما هو بصفر؛ لأنه لن يرسم حول نفسه دائرة الصفر.
كل مواطن خفير. سيكون نجاحنا كبيرا إن استطعنا أن ننفذ أعمالا صغيرة.
يا عمر
ألقيت هذا الخطاب في حفلة توزيع الشهادات في مدرسة الشويفات 1948. كان الجمع كبيرا جدا، وكانت كلمتي أولى كلماتي التي ألقيتها بعد عودتي من المهجر، ولم أكن واثقا حينئذ من مقدرتي على الخطابة. الجمع طغت عليه الصفة الدرزية؛ لأن «الشويفات» درزية. أعترف خجلا نادما أني أردت تملق الجمهور بمثل «بذلوها باعوها.» وهو تعبير درزي. كذلك دغدغته بالإشارة إلى ذكر بطل مجاهد اسمه حمد صعب. وقد تلقيت جزاء هذا النفاق؛ إذ اكتشفت بعد إلقاء الخطاب أن عائلة صعب كثيرة العدد في الشويفات، ولكن حمد صعب ما هو أحد العائلة، وليس هو من الشويفات، بل من «الكحلونية»، ثم اقترفت خطأ ثانيا، وهو أنني افترضت أن المتخرجين سيجلسون قبالتنا وجلسوا وراءنا. ولكن الخطاب كان ناجحا جدا بدليل ما تناقل الناس ورددوا من آرائه. والظاهر أن الخطب كانت قبل هذا عبارة عن هوائيات. نجاح هذا الخطاب بعث بي ثقة في النفس بعد انقطاع ثلاث وعشرين سنة عن الخطابة بالعربية، حتى - ولحد ما - التحدث بها.
أدير نظري بين هذه الوجوه النظرة فيؤلمني ألا أرى وجها حبيبا إلي هو وجه الفتى عمر.
إن عمر فتى لم تعرف هذه المدرسة له شبيها: عثليتي الجسد، وقاد الخاطر، جريء القلب، فصيح اللسان، ورع يعبد الله ويمشي على وصاياه ... إن عمر فاز بكل الجوائز المدرسية، وهو قافز إلى الحياة تواكبه قلوب عائلته ورفاقه التلامذة وأساتذته وكل عارفيه.
عمر هو ولدي، وهو ليس بينكم اليوم لأنه بقي حلما في خاطري، وبريقا في عيني، فلم يمن الله علي بغلام ذكر حلمت بتسميته عمر.
لو أن عمر ولد ابنا لي، وكان هذه الليلة بينكم، فما الذي كنت أود أن يسمعه؟ لعل أجدر بي أن أقول أولا ما الذي أريد ألا يسمعه؟
أود لعمر ألا يسمع خطابا داويا كل ما يترك في نفوس سامعيه صدى جميلا لكلام مبهم فخم.
إن من يتوخى التصفيق في الحفلات يفوز بالتصفيق. قليل من المديح، وشيء من الإشادة بالماضي، وبخمسة قروش عواطف. هذه روشتة الخطب الناجحة.
صفحه نامشخص
أريده أن يسمع نصائح صاغتها الحياة من دماء العيش ودموعه. كلاما صقله غبار الحياة ، وفيه بريق وحرارة ولدها احتكاك آلام الخيبة بأفراح الانتصارات.
فيا عمر ويا رفقاء عمر:
كلماتي التالية ستنقصها البلاغة ولن ينقصها الاختبار. لن تكون فخمة ولا جزلة، ولكنها مخلصة. كم مرة في سني الغربة قعدت فاشلا منهكا، ورفعت إلى الله عينين جريحتين أبتهل ولا أعاتب، بل ضارعا: «ربي يسر لغيري ما حرمتنيه ... رب أرسل لفتياننا من يرسم لهم خارطة الطريق فلا يتيهونها.»
فيا عمر ويا رفقاءه:
نصيحتي الأولى هي أن تقتنعوا أنه ليس عن الوقت من بديل ... طريق النجاح في معظم الأحيان طريقة موحشة صعبة طويلة، فلا تحاولوا اختصارها بدروب القادوميات غير المشروعة ... بدون ريب أن سوق الكميونات هو أقل ربحا من تهريب الحشيش. ولكن من يقترف منكم التهريب يتغلغل في خلايا نفسه سم من القلق الروحي لم يجدوا له بعد ترياقا.
بعد عودتي من غربة السنوات الكثيرة رحت أتطلع إلى وجوه رفاق الصبا؛ فأما من سرق وكذب وارتشى وداجى، فحول أحداقه وعلى جانبي فمه خشونة بصقتها نفسه شبه سم الأفعى، يطفو على أنيابها؛ إذ هي تحاول الدفاع عن السم الذي يجسدها بالسم الذي تنفثه، وأما من طهرت نفسه وعاش في أمن وسلام مع خالقه وضميره وجيرانه، فلقد طغت على وجهه موجة من الهدوء والثقة والصراحة.
كذب من قال لكم أنه فاز بالسعادة من فاز بالمال عن طرقه غير المشروعة.
عاشرت الأغنياء والأقوياء الذين سلكوا القادوميات، فإذا هم في معظم الأحيان يركضون هنا وهناك يحاولون ابتياع ما لا يشترى بمال: ذلك الهدوء الروحي الذي رأيتموه هنا في هذه البلدة على وجوه الكثيرين الذين لم يخافوا الدروب الوعرة.
الأمثولة الثانية التي أريد أن يحذفها عمر هي الاقتصاد: الاقتصاد في بدء الحياة. لقد سمعتم ولا ريب أن أصعب مراحل الثراء هو الحصول على أول مليون ليرة.
أسرفوا وبذروا ما تشاءون، إنما بعد أن تحصلوا على المليون الأول ... فرص كثيرة في الحياة فاتتني لأنه لم تكن لي الحكمة ولا قوة ضبط النفس على توفير ألف أو خمسمائة ريال. لتكن لكم جرأة مجابهة الناس بكف مقبوضة ... ليسمكم الناس بخلاء. البخل في معظم الأحيان هو تقريظ لازم ... لتكن لكم الجرأة أن تظهروا بثياب عتيقة، وكرافاتات لم تصل من باريس في فجر هذا النهار، ولتكن لكم الشجاعة أن تشبعوا ضيوفكم ولا تتخموهم.
صفحه نامشخص
أقول لكم كونوا بخلاء في بدء العمر، فتضحكون بعدئذ ممن كان يضحك منكم. أقول كونوا بخلاء ولا تكونوا لؤماء. التقتير والروية في الإنفاق أمر محمود، ولكن البخل في موقف النبل هو لؤم. أقول لكم: لا تهدروا الشمبانيا، ولكني لم أقل لكم أن تحبسوا الرغيف عن لاجئي فلسطين.
كذلك أقول لكم وللحبيب عمر أن تعطوا الحياة شيئا أسميه «زودة البياع». أذكر حانوتيا جاور بيتنا دكانه فيما مضى، وكنا نحن صغار الأولاد نذهب إليه بالمتليك، فيزين لنا القضامي ويصرها في ورقة، وحين يهم بتسليمها إلينا يحفن من طبقه قبضة من القضامي ويرميها في الصرة، مخاطبا إيانا مودعا قائلا: هذه «زودة البياع.» وكنا نحب ذلك الحانوتي ونحترمه؛ لأنه كان يسخو علينا بما لا يطلب منه. كانت محتويات الصرة من القضامي دسمة، ولكن أدسمها كانت تلك الحبات التي يجود بها جارنا الحانوتي.
كل أمر نبيل في هذه الحياة هو «زودة البياع»: الشوفير الذي يفتح باب الأوتوموبيل لركابه بعد أن يقبض الكراء، والطبيب الذي يداعب مريضه ويلاطفه بعد أن يصف الدواء، والمرأة التي تساعد جارتها بتقريص العجين، كلهم يعطون أكثر مما هو مفروض عليهم.
أعرف أن من الشويفات كثيرين ممن أعطوا من طبق الحياة حفنات من القضامي. أسمع بحمد صعب الذي ترك ضيعته وحمل بارودته، ورقد رقدته الأخيرة في بقعة لم يسمع بها يوم كان فتيا؛ لأنه من قوم تعودوا أن يجودوا في الحياة «بزودة البياع»، وما هي بأول مرة بذلوها، وما هي بأول مرة باعوها.
كذلك تسنى لي طيب الأخوة مع المرحوم بشارة الجريديني من الشويفات، وأذكر فيما أذكر عنه أنه ما سمع بأن خلافا نشب بين اثنين إلا وتطوع لتسويته، أو عرف شخصا نكب بأمر إلا وأسرع بالترفيه عنه بالنصيحة والمؤاساة.
أيها الفتيان:
من شروط النجاح والسعادة في هذه الحياة أن تهبوها غير المنتظر منكم، وفوق المفروض عليكم. وأريد لكم أن تطلبوا القوة والمال فاطلبوهما. ليس في الجهاد في سبيل المال من عار. لقد سعيت وراء الدولار 23 سنة من حياتي وما أنا بخجول. الثقافة التي فزتم بها كلفت أهلكم مالا ... لولا المال لما شريت البنزين الذي سير الأوتوموبيل الذي نقلني إليكم. هذه الورقة التي منها أقرأ شريت بمال. الدواء الذي يشفي المريض لا يحصل عليه إلا بالمال ... حاولوا الحصول على المال بكل وسائطه المشروعة.
المال قوة، ولكنه ليس بالقوة الوحيدة. الصوت الجميل هو قوة. الصوت الانتخابي هو قوة كما تعلمون. من يجيد تصليح السيارات فهو قوي. من يحذق صنع الأحذية فهو قوي.
نصيحتي هي امتلاك القوة بتشغيل مواهبكم واستغلالها إلى الدرجة القصوى. وإني أتمنى لعمر، ولرفاق عمر، أن يكونوا فتيانا تكهربهم حمية الفتوة ... إني أرى الخوف قد ملك على شبابنا قلوبهم. هم يرتعبون من ميدان القتال في الحياة فيجنحون إلى دفء وظيفة في التابلاين أو ال
I.P.C
صفحه نامشخص
أريد من عمر ومنكم أن تتنافسوا فتيانا تملؤهم روح الغمار، فلا يخافون الفشل ولا الجوع ولا الفاقة. لكل مصيبة عزاء، وعزاؤكم عن الجوع أنه يجوهر الجسد، وعن الفاقة أنها تقوي الروح، وعن الفشل أنه طريق النجاح.
هذه بعض الفضائل الإيجابية التي أرغب إليكم في أن تعتنقوها. أما الفضائل السلبية فكثيرة. أنتقي منها اثنتين:
الأولى: لا تكونوا اعتذاريين. إنني كلما حدثت أحدا من الناس عن فلسطين مثلا: لماذا لا يفعل كذا وكذا؟ تمطى وحرك موتور لسانه فزغرد خطابا فخما يدوي بالأعذار التي تنتهي عادة بأن الحكومة مقصرة. من يمنع الواحد منا أن يجاهد في فلسطين، أو أن يجود عليها بكل ماله، أو أن يؤاسي لاجئيها. لا تسأل الناس هذا السؤال؛ لأنك تنتهي بأن تغرق في طوف من الكلام الفصيح والأعذار اللبقة. متى اتخذ الواحد منكم موقفا اعتذاريا ينتهي بأن يقنع نفسه بأن فعل أي شيء مستحيل! حذار حذار من الموقف السلبي من العيش! فكروا بما تقدرون على فعله؛ واطرحوا الأعذار التي تبرر لكم في عيونكم عجزكم عن القيام بأي عمل مثمر مفيد.
وأخيرا، فليبتعد عمر ورفاق عمر عن الفصاحة والزركشة الكلامية التي ملكت ألسنة الناس هذه الأيام. إنني كلما سمعت كلاما أنيقا مثل: فظيع، فظاعة، التوجيهات، التكتل، العناصر الحيوية، أعلم أن قائلها كسول التفكير. خل عنك موهن الكلام، واستوح عاطفتك وعقلك، وأفصح عن قلبك وإدراكك باللغة التي تملكها أنت؛ فإنك متى أخذت عن الناس مألوف كلامهم، فقد قتلت في قلبك فورانه، وفي دماغك حدة تفكيره.
يعز علي أن عمر ليس بينكم، ولكني تعزيت عن غيابه بلذة التحدث والتعرف إليكم. وأعلم أن كلا منكم هو للبنان عمر. وإن لبنان ينتظر منكم رجالا أحرارا شجعانا مغامرين، تخافون الله، وتتعاونون مع جيرانكم ومواطنيكم.
خطاب يبحث عن موضوع
دعتني منظمة الكتائب اللبنانية إلى إلقاء خطاب في حفلتها السنوية التي اعتادت أن تحييها في أواخر نوفمبر. كان ذلك قبل دخولي الحزب السوري القومي الاجتماعي. ولعل بعض المغريات لدعوتي أني غير مسيحي، ورحت أستشير الأصدقاء عن موضوع، فكان كل منهم يجيب «الطائفية».
وقد حدث أنني حين كنت ألقي الخطاب ووصلت إلى «سفينة النجاة لن تبحر في أوقيانوس من زبد الأشداق، ورغوة الأفكار، ولن تسير شراعاتها أرياح الهتافات.» حين نطقت بهذه العبارة رأيت في الصف الرابع شبانا ثلاثة ينصرفون متأففين.
حضرة رئيس حزب الاتحاد اللبناني.
إخواني الكتائبيين.
صفحه نامشخص
سيداتي وسادتي.
ليس في يدي خيزرانة، ولا على جنبي مسدسان، ولا مسدس واحد.
ولكني أريد أن أدعي وأن أعلن وأن أتبجح أنني أكبر قبضاي.
وما أنا بمفتخر بشجاعة جسدية، فلئن خضت معركة ولم أهرب فقد لا يكون البأس والإقدام والجرأة أسباب ثبوتي في المعمعة، بل لعلي أبقى في ساحة القتال ولا أهرب لسبب واضح جلي ظاهر؛ وهو أنني لا أستطيع أن أركض.
منذ أيام أراني صديق صحافي بشيء من المباهاة مقالا أعده للنشر، وفيه يهاجم الحكومة. قلت للصديق الصحافي: «مهاجمة الحكومة أمر هين. إن كنت «قبضاي» دافع عن الحكومة.»
ولست أدعي بأني «قبضاي» لأني جئت أدافع عن الحكومة، أو لأبشر في هذا المحفل بالعروبة.
بل إني لا أدري عمن أدافع، ومن أهاجم، وبماذا أبشر.
الذي أعرفه أني سأفصح عما يجول بخاطري، ويوحيه ما أتوهمه حكمة وصدقا واختبارا. يا لعار مثالية هؤلاء توحي كلاما ينطق به ذو عينين: إحداهما ترنو إلى مقعد نيابي، والثانية ترمق مصلحة شخصية.
ما أنا بالغريب عن «الكتائب اللبنانية»، وإن كنت لست من أعضائها، وعلى رغم أن اتصالاتي بها اقتصرت على زيارة واحدة ومقابلتين.
لقد قصدت إلى بيت الكتائب اللبنانية منذ سنتين عن غير معرفة، وسألت رئيسها وأعضاء مجلس إدارتها المساهمة في عمل يعود لخير اللاجئين الفلسطينيين، فلقيت منهم الكياسة والاندفاع، وقاموا بخدمة اللاجئين كما طلبت، ودفعوا النفقات من صندوقهم.
صفحه نامشخص